الصراع الطبقي ومفاهيم الحداثة


أحمد الناصري
2005 / 5 / 6 - 11:01     

يبدو إن العنوان متناقض ظاهرياً وشكلياً، في صعوبة الجمع بين المفهومين ، كما يبدوللوهلة السريعة العابرة ، إن مقولة الصراع الطبقي الناتجة من الإستغلال والتباين الطبقيين قد إنتهت وتلاشت ، وأصبحت كلاسيكية ومن الماضي .
الذي حفزني على كتابة هذه المادة ، هو سعة المشاركة الشعبية في تظاهرات الأول من آيار لهذا العام في كل المدن العالمية الرئيسية تقريباً ، في دول الشمال والجنوب والدول الغنية والفقيرة أو المفقرة ، والمادة الجميلة التي ترجمها ونشرها سعدي يوسف للمناضلة العمالية رزوا لوكسنبورغ ، ولإن تظاهرة مدينة لايبزك الألمانية الحاشدة التي حضرت جزء منها، جرت في شارع روزا .
إن المشاركة الجماهيرية الواسعة ، رغم موسميتها فإنها تؤكد الحاجة الحقيقية لحركة يسارية عالمية جديدة تتبنى مطالب وحقوق الكادحين في كل بلد وحول العالم ، وهذا ماتجسد في الشعارات والمطالب ، التي حددت مشاكل البطالة والأجور وإرتفاع الأسعار ، وتدهور الحياة المعيشية في دول الجنوب، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية .
إن مفهوم الصراع الطبقي ، الناتج عن التباين الطبقي ، هو قانون إجتماعي موضوعي ، أي إنه لم يخلقه العقل البشري ، إنما أحس به واكتشفه ، لوجوده المتعين والمؤثر في الحياة الإجتماعية ، وقد تلمسة الإنسان منذ بداية التقسيم الطبقي البسيط للعمل، والذي تطور الى فقر وجوع وعوز وإستغلال ، وبدرجات متفاوتة ، كل ذلك نشأ مع التباين في إمتلاك وإستغلال أدوات الأنتاج ، وتوزيع العمل والتخصص ، وإنقسام الناس الى مالكين لأدوات الأنتاج وعبيد لايملكون غير قوة عملهم أو لايملكون شيئأ على الإطلاق . كما ساهمت الظروف الطبيعية في خلق هذا التقسيم وهذا التباين ، من خلال الوفرة والشح ، وتقدم التجارب هنا ، وتأخرها هناك لعوامل كثيرة مختلفة ، منذ مراحل اللقط والصيد ، وتكرس أكثر مع الثورة الحياتية المتقدمة في مرحلة الزراعة .
وكانت هناك محاولات دائمة من قبل الإنسان لمقاومة الإستغلال والظلم ومقاومة التجويع والإستغلال ، وكانت هناك أفكار هامة ومتطورة في هذا الميدان على مر التاريخ .
بعدها جاءت الأفكار الإشتراكية الحديثة ، لتكشف وبعمق كبير أسباب وأشكال التباين الطبقي وما ينشأ عنه من صراع طبقي عنيف ، تلجا فية الرأسمالية عادة الى العنف الرجعي لحماية مصالحها ، لقد جاء هذا الإكتشاف الإجتماعي الكبيرمع صعود الرأسمالية وترسخها ، ونشوء وتكون البروليتاريا وإستغلالها وسحقها بأبشع الأساليب البدائية المنحطة ، عندها لم يدافع عنها أحد ، من جميع المدارس الفكرية والإجتماعية والدينية السابقة ، وربما أصطف البعض مع الرأسمالية المستغلة .
لقد كانت الأفكار الإشتراكية الأولى ، بدائية وفوضوية وطوباوية وعائمة ، لكنها وضعت بعض الأسس الهامة لتطورها اللآحق ، وهو ما إستفادت منه الماركسية الى أبعد الحدود ، لكنها قلبت هذه الأفكار وعمقتها وطورتها ، وعملت على ربطهابالعلوم الإجتماعية والطبيعية ، والثورة العلمية المتصاعدة ، ومحاولة تفسير وتحليل الواقع الطبقي الجديد ، وتحديد الموقف الطبقي من الإستغلال وتجذيره ، والعمل على طرح البديل الماركسي الخاص والجديد ، والذي لم تصل له أية مدرسة فكرية أو إجتماعية من قبل . وأرادت حل هذه المشكلة الرئيسية في وجود وحياة الإنسان ، بواسطة ديمقراطية الفقراء والمنتجين وعموم الكادحين ، وتحويل الملكية الخاصة لوسائل الأنتاج الى ملكية عامة جماعية ، والقضاء على أصل التباين والإستغلال الطبقيين ، وحددت الأفكار والأساليب العامة ، والخطوط العريضة لهذا المشروع الكوني ، وقد حصلت بعض التجارب والمحاولات التي نجحت مؤقتاً في طرح وتطبيق هذه الحلول ، لكن رافقتها أخطاء ونواقص ومشاكل كبيرة ، نظرية وتطبيقية ، شوهت وأوقفت هذا المشروع مؤقتاً .
هناك أسئلة مركزية ملحة يمكن لها تحديد ماهية هذا الموضوع ، وهي هل توقف الصراع الطبقي ؟؟ أوهل يمكن لأحد أن يوقف الصراع الطبقي ؟؟ كيف يعمل قانون الصراع الطبقي، هل يعمل موضوعياً ؟؟ مالذي تغير في جوهر الصراع الطبقي ، وماهي أشكاله الجديدة ؟؟ وكيف يمكن التصدي لهذ العملية من جديد ؟؟ وهل تجاوزت الحياة حقاً هذا المفهوم العضوي الموجود في صميمها موضوعياً ؟؟ وماهي البدائل الجديدة عن إيجاد حل لهذه المشكلة الكونية ، وتحقيق الحلم الإنساني المشروع ؟؟ هل يمكن مواصلة المشروع بعد هذا الإنقطاع الخطير والتغيرات الكبيرة الجارية في العالم ؟؟ وبأية طرق وأساليب جديدة يمكن تحقيقة من جديد ؟؟ هذه الأسئلة وغيرها يمكن لها أن تلخص أسس وأهمية تجديد المشروع الماركسي .
لقد حصلت تغيرات كبيرة وحاسمة في تركيب الطبقات الإجتماعية ، وكذلك في عمل وآليات الرأسمالية الحديثة ، كما تقادمت أجزاء كثيرة من الماركسية ، وفق منطق الحياة في التطور ، ومنطق الماركسية الجدلي نفسه ، لذلك من الضروري إستيعاب كل هذه التغيرات والتبدلات وفق المنهج الماركسي ، والمنهاهج الإجتماعية الأخرى والتي تساعد في تحليل وفهم الواقع ، وحيث إن الحياة لم تطرح حتى اللحظة بديل آخريتجاوز الماركسية تماماً .
الآن ما علاقة هذه المقدمة عن الصراع الطبقي بمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة ؟؟ فلقد كانت مفاهيم الحداثة ضرورة إجتماعية كبيرة ، أرتبطت وتطورت مع عصر النهضة والثورة العلمية الحديثة ، وكانت الماركسية ، وكل الأفكار الإشتراكية والثورية جزء هام من أفكار الحداثة والتحديث . لكن الحداثة وكل الأفكار في الحياة والتاريخ ، منذ الإنقسام الإجتماعي ، لها طابع ومحتوى طبقي ، أو نهاية طبقية ، خاصة إذا أستخدمت من قبل فئات ودوائر معينة ، وهي تخدم مجموعة بشرية محددة ، لقد إرتبطت مفاهيم الحداثة ، في بداياتها عموماً ، بمحتوى إنساني عام ، وحاولت أن تدافع عن التقدم التاريخي للبشرية ، لكنها في أوقات أخرى أنقلبت على هذا المحتوى الخاص عندما جرى إخطتافها وإستخدامها من قبل المؤسسة الرأسمالية السياسية والفكرية ، كما فعلت مع العلوم والفكر والثقافة ، لإغراض تكرس الإستغلال وتدافع عنه بواسطة ماكنة الدولة ، رغم الإستقلالية النسبية لبعض المفاهيم خاصة في العلوم والفكر والثقافة . واليوم نرى رغم أهمية مفاهيم الديمقراطية ، وحقوق الإنسان والعدالة ، وحقوق المرأة ، لكنها في الحالة الرأسمالية الراهنة ، وعولمتها ، والنظام العالمي الجديد ، فإنها تستخدم لإغراض زيادة السيطرة والهيمنة والإستغلال ، وهي بلا أفق إنساني واضح . وهنا لابد من التمييز بين منظمات المجتمع المدني المستقلة ، وحركات اليسار خصوصاً ، وبين المفاهيم والنشاطات التي تصدر عن المؤسسات والإدارات الرأسمالية ، التي تشرف عليها الشركات الإحتكارية الكبرى ، وتقودها المنظمات المتغولة ، كصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية ، وحلف الناتو ، هذه المؤسسات التي تمسك بعصب الإقتصاد العالمي ، وتحمية بالبوارج المنتشرة حول العالم ، وتسّوقة بمفاهيم حداثوية ملفقة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ، بينما تشن الحروب العدوانية العسكرية والإقتصادية والثقافية المباشرة لفرض هيمنتها على الشعوب !!
إذن نحن أمام خلط تاريخي للمفاهيم ، تحاول من خلالة الرأسمالية العالمية ، أن تدعي بأن الحياة قد تغيرت ، أو أننا نعيش ( نهاية التاريخ ) والمقصود هنا نهاية الصراع الطبقي ، وبداية مرحلة خلود الرأسمالية التي إنتصرت بالحرب الباردة . بينما الحال الحقيقي ما يؤكدة الواقع في عالمنا الراهن ، حيث يتأكد من جديد ويتعمق التباين الطبقي الصارخ في جميع بلدان العالم ، وتزداد الهوة بين المالكين والفقراء، وتزداد البطالة والجوع والعوز والحرمان ، ويتكاثر المشردون والمهمشون ، وتزاد الأمية والأمراض المستعصية حول العالم ، وتزدهر تجارة الجنس والدعارة ، وتتسلع المرأة بمقاييس تسلبها آدميتها وتحولها الى مادة تجارية رخيصة ، وتتهدد البيئة والموارد الطبيعية ، وتنتشر الحروب والصراعات المحلية والقومية والطائفية ، ويشتد الصراع العالمي على الطاقة ، خاصة في منطقتنا العربية ، ويبتعد العالم عن المنطق والحق ، على الصعيدين الفردي والدولتي الجماعي ، ويزداد الإعتماد على حق القوة ، بدل الشرعية الإنسانية . وتتسع الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير ، ولايوجد من يمد الجسور بينهما ، بينما تلهث الشركات الكونية نحو الربح المنفلت على حساب الشعوب المسحوقة ، بواسطة فرض مفاهيم العولمة الرأسمالية والنظام الرأسمالي العالمي الجديد ، وتنحدر دول الجنوب الى هاوية لا قرار لهاحيث المجاعات الدورية ، والنقص في كل شيء تقريباً ، وتردي الخدمات الإنسانية البسيطة ، وإنهيار الصناعات المحلية والزراعة لعدم قدرتهما على المنافسة الداخلية والخارجية ، وإنحطاط التعليم ، والبقاء خارج قافلة التقدم العلمي وعصر المعلوماتية والأنترنيت . أذن أين الحداثة في عالم الجنوب ؟؟ الحداثة في هذه الحالة ( وأنا أعني هنا المؤسسات المرتبطة بعمليات النهب والإستغلال الكوني حصراً ) هي صفة طبقية لدول الشمال الغني ، وهي وسيلة من وسائل الهيمنة والإستغلال الكوني تستخدمة الدول الغنية ضد الدول الفقيرة ، وهل يمكن للرأسمالية والنيوليبرالية أن تستخدم بعض مقولات الحداثة لخلق بديل معاد للماركسية وإطروحتها الإجتماعية ؟؟ .
إذن هناك تباين طبقي في كل بلد من بلدان العالم ، وتباين طبقي بين دول الشمال والجنوب ، ينتج عنه صراع طبقي في كل هذه البلدان منفردة وصراع طبقي عالمي بين الدول الفقيرة والدول الغنية .
ماهو دور الحركات العمالية واليسارية في هذا الصراع ؟؟ هذا سؤال مركزي آخر ، يحتاج من جميع اليساريين الحرص في الإجابة عليه . وماهو الموقف من الحركات اليسارية التقليدية التي تنازلت عن هذه المفاهيم ؟؟ وهل كانت الحركات التقليدية قدإستوعبت الموقف الماركسي حقاً ؟؟ أم كانت علاقتها شكلية ولفظية بها ؟؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من خلال دراسة تجربة الحركة العمالية واليسارية ومشاكلها وأزماتها.
تحية الى كل من قدم حياته ، او قدم موقفاً ثابتاً ، على درب الفقراء والكادحين ، درب الصراع الطبقي المفتوح ، تحية الى معلمي الكادحين في العالم والى شهداء الحركة الشيوعية والعمالية واليسارية العراقية والعربية والعالمية ، بمناسبة الأول من آيار، عيد الكادحين في العالم ، ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وروزا لكسمبورغ وكارل ليبخنت وفهد وسلام عادل وخسرو روزبه وباتريس لومومبا وجيفارا وشهدي عطية الشافعي وفرج الله الحلو وعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وغسان كنفاني وأبو علي مصطفى وسعيد العويناتي وخالد أحمد زكي ومعين النهر وظافر النهروسامي حركات ومنتصر . تحية الى كل من لم يهادن العدو الطبقي في موقفه من الفقر والفقراء .