الفلاحون المصريون والبحث عن ميلاد جديد


بشير صقر
2011 / 6 / 15 - 20:19     

تمهيد :
جدل الطبيعة هو ما يؤسس قوانين الحياة، ومهما كانت تدخلات الإنسان فى نظامها لا تتذكر الطبيعة منها سوى ما يتناغم معها .. فتحتفظ به وتدمجه فى مسارها ، وتنحى ما يتعارض معها وتستبعده.
والتنوع والتوازن آليتان تحكمان الطبيعة منذ بداياتها الأولى .. حيث لا مجال فيها للون واحد أو لميل واحد.. تماما كألوان الطيف تتنوع وتتباين لكنها تتوازن وتتحد وتعطى الضوء الأبيض .
الألوان المبهجة تخلق للنفس متعتها .. وللعين وظيفتها ، وعندما تتوحد وتضئ تنير للعقل آفاقا بعيدة .. وتثير مراكز التفكير والحس فيه ليدرك حقيقة هذه الطبيعة وقوانين الحياة .. وينعم بها.
ورغم ما يكتنفها من تناقض يبدو للبعض غريبا إلا أننا سرعان ما ندرك أنه مفتاح نشاطها وسر استمرارها.
ولأنها ابتدعت لكل كائن فيها – حيا أوجمادا –وظيفة ودورا يتجلى فيه تنوعها وتكاملها واتزانها – بدءا من الحشرات والنباتات والأنهار والبحار وحتى الجبال والهواء- إلا أنها منحت الإنسان –دورا مميزا حتى صار بإعمال عقله وفهم قوانينها سيدا لها ومتحكما نسبيا فيها.
فمن ناحية حين تزمجر الجبال والبحار والزلازل والبراكين والعواصف .. يسرع العلم لنجدة الأحياء ويعيد التوازن ويرمم آثار التمرد الذى أحدثته مفرداتها الصامتة.
ومن ناحية أخرى حين تمنح الطبيعة للبشر – بدعم العلم وإعمال العقل- موارد غذائية تكفى إطعام ضعف أعدادهم الحالية، يسعى البعض لاحتكار تلك الموارد ويحرمون ثلث البشر من حياة مشبعة آمنة ومستقرة وهو ما يدفع الأخيرين للثورة - إن عاجلا أو آجلا – لإعادة توزيع الموارد وتحقيق التوازن للمجتمع البشرى.
ولذلك يكره بعض البشر إعمال العقل والاحتكام للعلم لأنهما يصطدمان برغباتهم الجامحة التى تستبد برغبات بقية البشر وتجنح بعيدا عنها وتعارض قوانين الطبيعة.. وهؤلاء لا يستخدمون العلم إلا فى تدمير الطبيعة والبشر والخصوم .. وربما أنفسهم ، ولا يعملون العقل إلا بما يخدم تلك الأهداف ويسعون لمنعه من بسط سلطانه على العالم ؛ ورغم نجاحاتهم النسبية وهيمنتهم على مساحات ليست قليلة من البشر والطبيعة وإحساسهم المتصاعد بأنهم باتوا أقرب لانتصار نهائى على قوانينها وعلى خصومهم إلا أنهم يفاجأون – فى لحظة لا يتوقعونها – بضربة قاصمة يدركون بعدها أنهم كانوا فى حلم استفاقوا منه الآن.
وهذا ماحدث فى عام 2008 إبان الأزمة المالية العالمية وهو ما يحدث حاليا فى المنطقة العربية بدءا من تونس ومصر مرورا بالبحرين وليبيا وسوريا .. وحتى اليمن.

مصر ومقدمات الميلاد:
وفى مصر تولى الجيش حكمها منذ ستين عاما وحرمها من أبسط الحقوق الديمقراطية ؛ وأبقى على أهلها مفتتين مشتتين دون تنظيمات نقابية أو أحزاب سياسية حقيقية طيلة هذه المدة ، فتبددت موارد المجتمع الطبيعية والبشرية وثرواته وصناعته التى بناها منذ عام 1952 وسقط 40 % من مواطنيه تحت خط الفقر.
- ففى الصناعة وجهت ضربات قاصمة لكثير من الصناعات الرئيسية كالحديد والصلب والألومنيوم والغزل والنسيج والمواد الغذائية ؛ فبيعت شركات صناعية كثيرة للقطاع الخاص المحلى والأجنبى بعشر ثمنها ، وتم تسريح مئات الألوف من العمال ( بالمعاش المبكر وإغلاق المصانع أو تغيير نشاطها.)
- علاوة على عدم تعيين الخريجين فانتشرت البطالة وفاقم من آثارها تعويم الجنيه المصرى الذى انخفضت قيمته إلى النصف وساهم ذلك فى ارتفاع تكاليف المعيشة .
- من جانب آخر تقلصت مخصصات التعليم والصحة والثقافة والبحث العلمى فانهارت المنظومة التعليمية وتدهورت الثقافة وسادت القيم الاستهلاكية والرجعية التى عمقها تواطؤ نظام الحكم على نشاط جماعات الإسلام السياسى ، وانتشرت أوبئة الكلى والكبد والسرطان بشكل واسع.
- أما فى الزراعة فقد جرى تقويض المكاسب الفلاحية المحدودة التى تحققت فى الحقبة الناصرية ( 1952 – 1970 ) كما تم تدمير زراعة القطن وفقد أسواقه والصناعات المرتبطة به ؛ وأعيدت هيكلة الزراعة:
1- برفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج الزراعى ( أسمدة ، بذور، مبيدات.. إلخ )
2- ورفع أسعار إيجارات الأراضى الزراعية إلى أكثر من خمسة أمثالها ( بوضع قانون جديد لها ).
3- وكذلك رفع أسعار فوائد القروض الزراعية ، وضرائب الأطيان .
مما أدى لارتفاعات هائلة فى تكلفة الزراعة وتدنى بشدة دخل الفلاحين الصغار والفقراء خصوصا بعد احتكار القطاع الخاص والدولة لتجارة الحاصلات الزراعية ؛ فترك المستأجرون أراضيهم وبدأ الملاك الصغار فى بيع ما يمتلكونه منها.
- ليس هذا فحسب بل وقادت الدولة طرد الفلاحين من أراضى الإصلاح الزراعى وأراضى الأوقاف و الأراضى التى كانت موضوعة تحت الحراسة منذ الحقبة الناصرية لصالح ورثة الإقطاعيين السابقين وعصابات السطو المنظمة على الأراضى والحكام المحليين وأصحاب النفوذ ، واستخدمت فى ذلك أجهزة الشرطة وأحكام القضاء الاستثنائى ( محاكم القيم ) وغيره، ومن قاوم من الفلاحين تم قتله أو التنكيل به وبأهله ؛ فغادرت الريف أعداد هائلة من الفلاحين إلى المناطق العشوائية بالمدن الكبرى.. وبذلك تحولت قطاعات واسعة من الشعب من منتجين للسلع الصناعية والحاصلات الزراعية والخدمات الحيوية إلى عاطلين ومشردين وباعة جائلين أو مروجى سلع استهلاكية تافهة أو مستوردة وإلى خدم وحراس منشآت قيد البناء وأفراد أمن فى شركات الحراسة.. إلخ.
- وفى عام 2007 تم تعديل الدستور – تمهيدا لتوريث الحكم – بإضافة شروط تقطع الطريق على ترشح آخرين لمنصب رئاسة الجمهورية.
- من جانب آخر تهاوت سمعة مصر السياسية إلى أدنى مستوياتها إقليميا ودوليا واشتهرت فى المنطقة العربية بدعمها للكيان الصهيونى وعدائها لحركات التحرر خصوصا الفلسطسينية والعراقية واللبنانية ؛ وانحيازها للولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها التى أغمضت العين عن كل دعاوى الديموقراطية التى ترفعها لصالح استقرار أهم حلفائها العرب فى المنطقة.
- هذا وقد شهدت السنوات الست الأخيرة تمرد واحتجاج قطاعات واسعة من الشعب ؛ ونظرا لضعف المعارضة السياسية .. وبعد أن كانت الاحتجاجات قاصرة على النخب السياسية والأحدث السياسية تغير الوضع وانخرط الفقراء والبسطاء فى احتجاجات اقتصادية مهنية الطابع؛ واتسمت تلك الاحتجاجات بالعفوية وضعف التنظيم.. ويمكن القول بأنها لم تكن حركة احتجاجية متصلة ومتصاعدة ومستمرة بالمعنى المعروف بقدر ما كانت تفجرات متناثرة هنا وهناك تركزت فى المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية ولم ترق لمستوى المطالب السياسية سواء فى أوساط عمال الصناعة والخدمات أو المهنيين .. بينما كانت أدنى مستوى فى صفوف الفلاحين نظرا لضعف الوعى والافتقاد للتنظيم النقابى الذى يجمعهم ويوحد كلمتهم.. إلا أن ذلك السياق قد تخللته ثلاث حالات مختلفة:
الأولى : توصلت احتجاجات العاملين فى الضرائب العقارية إلى انتزاع نقابة عامة مستقلة هى الأولى من نوعها فى مصر خارج النقابات الحكومية علاوة على إحرازها عددا من المكاسب النقابية الهامة التى يمكن اعتبارها انتصارات قيمة.. ومن ثم مثلت أملا لكثير من قطاعات المجتمع.
والثانية : ظهور لجنة الحق فى الصحة التى ضمت عددا من الأطباء المخضرمين ذوى الخبرة المهنية والسياسية تمكنت هى الأخرى من شن حملات واسعة ومؤثرة ضد محاولات النظام الحاكم سن قانون جديد لخصخصة العلاج الصحى وحرمان قطاعات واسعة من الشعب فى التمتع بخدمات هيئة التأمين الصحى الحكومية.. وخلقت رأيا عاما مناوئا للقانون الذى أصدر القضاء حكما بوقف العمل به.
والثالثة: تشكيل اتحاد لأصحاب المعاشات نشط فى أوساط موظفي أجهزة الدولة السابقين كانت أبرز مطالبه إيداع أموال التأمين والمعاشات فى أوعية ادخارية مأمونة كماهو العرف فى كل بلاد العالم ووقف وصاية الدولة عليها أو تحرشها بها.
- وهكذا كانت الاحتجاجات الشعبية المطالبة برفع مستوى المعيشة وزيادة الأجور فى مختلف قطاعات العاملين بأجر تتسع أفقيا .. وليس رأسيا باستثناء حالتى الضرائب العقارية والحق فى الصحة .. وهو ما يعنى أن عوامل السخط والتمرد والشعور بالقهر والمهانة قد تجاورت – جنبا إلى جنب – مع عوامل ضعف الوعى والتنظيم فى صفوف الشعب فى الوقت الذى كانت فيه أحزاب المعارضة الرسمية " كالتجمع والوفد والناصرى " فى حالة يرثى لها من الضعف والتفكك والتخاذل بل والتواطؤ .. بينما تعاملت جماعة الإخوان المسلمين مع هذه المعطيات بطريقة انتهازية ميكيافيللية ومفتقرة للهمة والمبادرة، وتجلى ذلك فى امتناعها عن المشاركة فى كثير من الاحتجاجات الهامة ( كإضراب 6 إبريل 2008 ) وإعلانها ذلك فضلا عن عقد الصفقات الانتخابية مع النظام الحاكم ( كما حدث فى انتخابات برلمان 2005 ) كما أكد مرشدها العام السابق؛ ورغم صوتها العالى فقد اختارت فتحى سرور عضو الحزب الحاكم رئيسا للبرلمان – استكمالا لبنود الصفقة- ولم تعترض عليه أو حتى تمتنع عن التصويت .. فضلا عن هزال أدائها البرلمانى الذى كان مخزيا وهابطا طيلة خمس سنوات.
- ولأن فجاجة النظام الحاكم وتبجحه كانا طافحين واستبداده كان طاغيا فقد أسفرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة- عام 2010 - عن تفصيل برلمان كامل العدد من أعضاء الحزب الحاكم " مرصعا " بعدد محدود من " المعارضين " المبرمجين الذين لا يختلفون كثيرا عن بقية أعضائه .. وهكذا صار الوضع مهيأ لتوريث الحكم بتنصيب جمال مبارك رئيسا قادما لمصر.

الشباب مفجر الثورة :

وحيث كان الشباب بين الثامنة عشرة والثلاثين من العمر فى حالة بالغة اليأس والإحباط بسبب البطالة وغلاء المعيشة وضبابية المستقبل وانعدام الرؤية وضعف الوعى ولأن هذه الشريحة من الشعب لم تتمكن من العثور على مخرج لأزمتها أو حتى ثغرة للتعبير عن غضبها .. فقد ضاعف ذلك من حالة السخط والشعور بالاختناق .. التى سرعان ما تفجرت فى مسار الثورة عندما رأى عدد من هؤلاء الشباب ممن يستخدمون شبكة المعلومات الدولية – ويتمتعون بدرجة أعلى من أقرانهم من المعرفة - الاستجابة لانتفاضة الشعب التونسى واستثمار الرياح الساخنة الآتية من ناحية الغرب.. فبادروا بالاعتصام فى ميدان التحرير بقلب القاهرة فى محاولة لانتزاع بعض الحقوق والحريات التى حُرموا منها.
لقد أمسك هؤلاء الشباب بأول الخيط الذى سرعان ما امتد واستطال كلمت تدحرجت البكرة التى يلتف عليها بفعل تزايد المشاركين فى الاعتصام وتنوعهم حيث تكاثرت أعدادهم وتدعمت بمشاركة قطاعات أخرى من الشعب ؛ وتكفل غباء وعجرفة النظام واستعلاء ودموية أجهزة أمنه برفع سقف الشعارات المنادى بها ودرجة سخونتها.. ومن ثم تصاعدت المطالب حتى أصبح مطلب " الشعب يرد إسقاط النظام " هو الشعار الأعلى صوتا والأكثر جاذبية للالتفاف حوله.. وهكذا دارت عجلة الثورة .. حتى توصلت لتنحية رأس النظام الحاكم بعد ثمانبة عشر يوما من حرب الشوارع فى عدد من محافظات مصر وعلى رأسها القاهرة والسويس والإسكندرية .
الثورة فجرها الشباب وأصروا على أن يكونوا وقودها ؛ وانضم لها وأججها العديد من قطاعات الشعب، وأعلن حزب التجمع وجماعة الإخوان مقاطعتها منذ البداية .. ثم انضم لها الإخوان بعد يومين تأكدوا خلالهما بأن شيئا جديدا يحدث فى مصر .. وعندما التقوا مع نائب رئيس الجمهورية للتفاوض انسحب نصفهم خارج ميدان التحرير؛ ثم تضاعفت أعدادهم بعد تنحى رأس النظام.
ومن ناحية أخرى شاهدها الفلاحون على شاشات الفضائيات .. وحج إليها المئات من اليساريين المبعثرين ، وحاول الكثيرون ركوبها خصوصا جماعة الإخوان ، وتحدث الجميع باسمها أو ادعوا الانتساب إليها.

الفلاحون والثورة :

يمكن القطع بأن الفلاحين هم أكثر المصريين تضررا ومعاناة من استبداد وفساد أنظمة الحكم التى تعاقبت عليهم طوال تاريخهم وبالذات خلال الأربعين سنة الأخيرة:
• فقد تحالف عليهم نظام الحكم فى عهدى مبارك والسادات مع الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات العاملة فى مجال إنتاج وتسويق مستلزمات الزراعة ( بذور ، أسمدة ..إلخ )؛ حيث أدار مكاتب تلك الشركات فى مصر كثير من أبناء رجال الأعمال والمتنفذين وشخصيات وثيقة الصلة بكبار المسئولين فى الدولة، وكان القضاء على نمط الإنتاج الفلاحى الصغير هو هدف تلك الشركات للسيطرة المطلقة على أسواقها المحلية.
• وشارك فى التحالف كبار الزراع الذين سقطت وتسقط فى أيديهم كثير من الأراضى التى تغتصب من الفلاحين أو يتركها ملاكها الصغار لانخفاض جدواها الاقتصادية ؛ وكان الهدف هو تأسيس المزارع الواسعة المستخدمة للبذور المهندسة وراثيا والهرمونات فيما يعرف بنمط الزراعة الكثيفة.
• فضلا عن كبار المستثمرين فى مجال التصنيع الزراعى .
وقد استخدمت الدولة مع الفلاحين كل الأساليب العنيفة ؛ وغير العنيفة لتحاصرهم وتشعرهم بانعدام الجدوى الاقتصادية لحرفة الزراعة لتجريدهم من الأرض ، بل ولم تخجل من مخالفة القوانين السارية لإزاحة 75 % من الفلاحين ( ملاك أقل من 3 أفدنة ) بعيدا عن الجمعيات التعاونية الزراعية إلى نقابة عمال الزراعة بتغيير صفتهم القانونية من فلاحين إلى عمال مستهدفة حرمانهم من الخدمات التى تقدمها التعاونيات إمعانا فى إبعادهم عن الأرض والزراعة [ القانون المصرى يعرّف الفلاح بأنه : من يعمل بيديه فى حرفة الزراعة ولا يزيد ما يملكه هو وأسرته عن عشرة أفدنة ].
لم تكن تلك المعاناة قاصرة على فلاحى أراضى الإصلاح الزراعى بل شملت كذلك فلاحى أراضى الأوقاف؛ والأراضى المستصلحة القديمة والحديثة ؛ وأراضى الائتمان ( العادية ) ؛ وأراضى وضع اليد ؛ وأراضى البدو .. وكان وعى الفلاحين المتدنى وافتقارهم لتنظيمات نقابية تدافع عنهم ( فالقانون يجرّم تأسيسها ) هو العقبة التى منعتهم من المشاركة فى ثورة 25 يناير 2011 بل وأثرت – فيما سبق - على قدرتهم على صد الهجمات التى يتعرضون لها يوميا لتجريدهم من الأرض وحرمانهم من الزراعة.
لكن واعتبارا من يوم إسقاط رأس النظام السابق بدأ كثير منهم فى السير فى طريق مختلف :
- فشرع بعضهم فى استرداد ما اغتصب منه من أراض .
- وثار آخرون واحتجوا على تعنت الدولة معهم بشأن نقص المياة ومستلزمات الزراعة.
- بينما قام بعض ثالث بالتظاهر ضد هيئات رسمية بعينها أو أشخاص اغتصبوا أراضيهم أوهدموا منازلهم.
هذا وقد فجر بعض المواطنين ( بمنطقة طوسون ) بحى المنتزة / شرق الإسكندرية أولى هذه الأعمال صباح الجمعة 28 يناير 2011 وبعدها تتالت حركات الفلاحين واحدة تلو أخرى:
- كانت الدولة فى مايو 2008 قد قامت بهدم المنازل - التى بناها وسكنها منذ عشر سنوات أهالى منطقة طوسون- فوق رؤوسهم وأزالتها حتى سطح الأرض؛ كانت مساحة الأرض 160 ألف متر مربع يملكها الأهالى بعقود شراء قانونية ، وبرغم حصولهم على حكم قضائى يدين الدولة ويطالبها بإزالة الآثار الناجمة عن هدم بيوتهم و تشريدهم ؛ بل وتعويضهم.. إلا أنهم - ورغم قيامهم بثلاثة وخمسين احتجاجا - لم يتمكنوا من تنفيذ الحكم بسبب مماطلة محافظ الإسكندرية ووزير الزراعة السابقين.
وفى صباح 28 يناير 2011 توجه عدد منهم للمنطقة التى كانوا يسكنونها وأنذروا الحراس بمغادرتها فورا فانصاعوا لهم ، وفى اليوم التالى شرعوا فى تخطيط المنطقة وإعادة بناء منازلهم واقترضوا من بعضهم البعض وسهل لهم تجار مواد البناء شراء ما يلزمهم منها بالأجل.. حيث أتم بعضهم البناء فى 3 أسابيع واستقر فى مسكنه الجديد .. بينما يستكمل الآخرون البناء واستعادة الأمل الذى بدا فى لحظات سابقة بعيد المنال.
- أما فى غرب النيل وفى قرية العمرية بمحافظة البحيرة فقد تصدى الفلاحون مساء 14 فبراير 2011 لهجوم مسلح ببنادق الكلاشنكوف لمجموعة تابعة لرئيس مباحث أمن الدولة بالمحافظة كان قد اغتصب منهم 21 فدانا على ثلاث مرات خلال 5 سنوات؛ وبينما أصابت طلقات الرصاص بعضا من فلاحى القرية فقد استدعت - فى نفس اللحظة - آلاف الفلاحين من القرى المجاورة هبوا لنجدة جيرانهم.. وتفرق المعتدون كالفئران المذعورة- بعد أن أشعلوا النار فى قصر بناه ضابط الشرطة السياسية على الأرض المغتصبة- ليتمكنوا من الهرب خلف ساتر دخانه ، وعلى التو شرع الفلاحون فى استرداد الأرض التى اغتصبها الضابط الكبير وقاموا بزراعتها.
- بعدها مباشرة وعلى بعد 5 كيلومترات من العمرية قام فلاحو قرية البرنوجى باسترداد خمسين فدانا كانت قد اغتصبتها منهم الأسرة الإقطاعية فى أواسط ثمانينات القرن الماضى ، وهو نفس ماحدث فى قرية عزبة عاكف على مسافة كيلومتر واحد من العمرية.
لقد كانت هذه الأيام فى تلك القرى أشبه بأيام الأعراس الحقيقية التى لم يشهدها الريف منذ سنوات طويلة .. وكنت تقابل الفلاحين فى الشوارع مبتسمين والفرحة تعلو وجوههم.
- أما فى منطقة المعمورة بشرق الإسكندرية فقد قام الفلاحون باسترداد سبعة وثلاثين فدانا كانت هيئة الأوقاف ( إحدى مؤسسات الدولة ) قد باعتها – رغم أنها لا تملكها – لجمعيات إسكان ضباط أمن الدولة ؛ وشرطة الإسكندرية وشرطة كفر الشيخ ، وقضاة وزارة العدل ومحكمة النقض وهيئات أخرى.
وكان أحد قادة الفلاحين ( حسن شندى ) قد تعرض للإغتيال فى وقت سابق ( سبتمبر 2009 بسبب مقاومته لاغتصاب الأرض ورفضه التنازل عنها وفضحه لبطلان عمليات بيع الأرض مستندا على وثائق رسمية قدمها للقضاء.
- كما قام بعض فلاحى قرية البقلية بمحافظة الدقهلية- شرق دلتا النيل – باسترداد أجزاء (40فدانا ) من الأرض التى اغتصبت منهم فى منتصف ثمانيات القرن الماضى وقاموا بزراعتها.
- وفى نفس المنطقة قام فلاحو سبعة قرى بمظاهرتين حاشدتين فى مدينة المنصورة عاصمة الدقهلية ضد هيئة الأوقاف التى ترفع إيجار الأرض- التى يستأجرونها ويزرعونها منذ عقود - بشكل متواصل وبمستوى يتجاوز قدراتهم المالية ؛ كما أنها تتعسف فى بيع أرض الكتلة السكنية لهم بأثمان مبالغ فيها مخالفة بذلك القوانين والقرارات الرسمية الصادرة فى هذا الشأن.. رغم أن مساكنهم بنيت عليها منذ عشرات السنين.
هذا وقد تراوحت أعداد المشاركين فى المظاهرات بين 3- 9 آلاف فلاح حاصروا مبنى الأوقاف بالمدينة الذى هرب موظفوه.. بعدها تحول الحصار إلى ديوان المحافظة ، وقد احتك بهم الجيش لكن سرعان ما انتهى ذلك بعد دقائق قليلة.
- وفى محافظتى الشرقية والاسماعيلية تكرر نفس الاحتجاج مرتين فى كل منهما وقد تجاوزت أعداد المشاركين الثلاثة آلاف متظاهر.
- كما نظم فلاحو أراضى الأوقاف مظاهرة أخرى بالقاهرة أمام مبنى مجلس الوزراء ضمت مشاركين من محافظات الدقهلية والغربية والإسكندرية حيث أخطروا رئيس الوزراء وممثل القوات المسلحة بمطالبهم كاملة.
عموما كان أداء الفلاحين فى معظم هذه الاحتجاجات أداء قويا وواثقا وينم عن بأس شديد وعزيمة وحكمة واضحة.
- لقد بدأ الفلاحون فى التحرك بعد 11 فبراير 2011 وبطريقتهم الخاصة فمن كانت لهم أرض مغتصبة استردوها أو استعادوا المتاح منها؛ ومن هوجموا بالسلاح فى أراضيهم ردوا بعنف ، ومن عوملوا بخشونة أثناء احتجاجهم أوقفوا الخشونة بندية واضحة ؛ ومن أرادوا إخطار الجميع بعدالة قضيتهم كان زئيرهم مرعبا يخلع القلوب؛ وفى كل الحالات أعلنوا مطالبهم بجسارة .
- لقد ظل منحنى الاحتجاجات صاعدا وقويا حتى أوقفه المجلس العسكرى ووزارة شرف الحالية بقرار يجرم الاحتجاجات الفئوية.
- كذلك فقد داهم الجيش قريتين فى الثلث الأخير من مارس 2011 واحدة فى محافظة البحيرة ( العمرية ) والأخرى فى شرق الإسكندرية ( حوض 13 بالمعمورة ) وقبض بشكل عشوائى على 9 مواطنين وقدمهم لمحاكمات عسكرية عاجلة انتهت بمعاقبة ثمانية منهم بالسجن 5 سنوات وتذمر الفلاحون لأنهم المعتدى عليهم أصلا بل و دائما ، ولم يتح لمحامييهم مهمة الدفاع أو حتى دخول قاعة المحاكمة التى كانت تعقد فى سجن الحضرة بالإسكندرية ؛ باختصار لم يخضعوا لمحاكمة طبيعية عادلة يقدمون فيها دفوعهم ؛ لقد كان بعضهم قادما لتوه من عمله ولم يشارك فى أية مواجهات أو احتجاجات ، وكان البعض خارج مصر كلها فى توقيت الواقعة ، والثالث فى دوام عمل ، والرابع يعمل خفيرا نظاميا ولا يخضع قانونا لمثل هذا النوع من المحاكمات، وقد حوسب الجميع على مخالفات لم يرتكبوها ووقائع لم يكونوا موجودين فيها بل ولا يوجد شاهد واحد يمكنه التأكيد على وجودهم خصوصا وأن الآلاف من الفلاحين هرعوا من كل القرى المجاورة إلى مكان الواقعة التى حدثت وقت مغيب الشمس.
- خلاصة القول أن هذه المداهمات تركت شعورا مغايرا لدى الفلاحين عن القوات المسلحة غير ما تراكم لديهم عنها طيلة أيام الثورة وأصبحوا فى حيرة من أمرهم .. كيف يستردون حقوقهم من ناحية ؟ وكيف يردون العدوان عن أبنائهم من ناحية أخرى؟!
ما العمل؟!
- الفلاحون يترقبون بريبة وحذر.. فالآمال عريضة والمطالب شتى والشكوك التى تمور فى الصدور كثيرة.. ورغم أن يقينا غيبيا يساورهم بأن الغلبة فى النهاية ستكون للحق ..أى لهم ؛ ويسعى البعض لأن يصير هذا اليقين الغيبى شيئا ملموسا ومرئيا تجرى صناعته بأيديهم شيئا فشيئا.. إلا أنهم - فى نفس الوقت - يعتقدون أن الطريق إليه لم يمهد بالشكل الكافى.
- ولذا يعكف بعض النشطاء على مساندتهم فى تمهيد هذا الطريق؛ ويرون أن تأسيس الروابط والنقابات فى القرى والعزب والنجوع تشكل بداية مناسبة لذلك - بعيدا عن رموز الأحزاب الرسمية التى فقدت مصداقيتها ؛ وبقايا النظام القديم الذى لا زالت لأفكاره السيادة فى المجتمع ؛ وجماعات الإسلام السياسى التى لاترى فى الجماهير هدفا للنشاط السياسى بل أداة يقتصر استخدامها على صندوق الانتخابات ؛ وأساليب النخب السياسية التى منيت بالفشل مرات عديدة- فالفلاحون هم الفئة الوحيدة فى المجتمع التى لا تنتظم فى نقابة ؛ والقانون يجرم إنشاءها ومخاوف الحكام من وجودها هائلة ..
- لقد دلف إلى ميدان النشاط كثيرون واختلطوا.. اختلط من يرون فيه وسيلة للتواجد الإعلامى أو الحزبى الشكلى .. بمن يرونه وسيلة لاستعادة تاريخ ضائع أومجد انطفأ .. بمن يحاولون إلحاقه بالدولة ..بمن يبذلون الجهود الصادقة لبث الوعى وبناء نقابات حقيقية.. لكن القطع بنتيجة محددة سلفا للوضع الراهن يعد ضربا من التنجيم .. الأسهل منه القطع بأن الأوضاع فى مصر تحتاج لانتفاضة أخرى وربما انتفاضتين.

الجمعة 14 إبريل 2011 بشير صقر
عضو لجنة التضامن مع فلاحى الإصلاح الزراعى - مصر