أي آفاق لصعود النضالات بأوربا؟


المناضل-ة
2010 / 10 / 6 - 08:49     

اتولفو رييرا

نشهد في هذا الدخول الاجتماعي و السياسي صعودا بطيئا، لكنه أكيد، للتعبئات ضد خطط التقشف التي انطلقت بأوربا برمتها منذ الربيع الفائت. لكن رد الفعل هذا لا يزال مشتتا و غير أكيد فيما يخص وتيراته وأهدافه. و يعاني نقصا شديدا في التنسيق على الصعيد الأوربي، طالما تبدو الحركة العمالية الأوربية تائهة، بلا قيادة وبلا بديل بوجه دكاك هجوم رأسمالي غير مسبوق. و لهذا الوضع عواقب على بلجيكا حيث تبدو الحركة النقابية على حالها من الشلل.

النضال من اجل تقشف "متوازن" أو من أجل وقف التراجع الاجتماعي؟

انطلاقا من "خطة إنقاذ اليونان" التي حبكها الاتحاد الأوربي والبنك المركزي الأوربي في شهر مايو الأخير، بدأت خطط تقشف تتكاثر بباقي أوربا، معبرة عن سعي الطبقات السائدة الأوربية إلى استعمال الأزمة والعجز العمومي الناتج عن إنقاذ البنوك ذريعة لشن هجوم مباشر على الحقوق الاجتماعية و المكاسب التاريخية للحركة العمالية.

أقل ما يمكن قوله إن ردود الفعل الأولى من جانب المنظمات النقابية لم تكن حقا في مستوى هذا الهجوم وهدفه الذي ليس اقل ولا أكثر من تسريع تدمير "دولة الرعاية" التي شُرع في تفكيكها في مطلع سنوات 1980 مع صعود النيوليبرالية. كان التصدي في كل مكان تقريبا مشتتا بين القطاعين العام والخاص، وبعزم واهن و تعبئات متباعدة زمنيا. لا بل الأسوأ من ذلك أن بلدانا مثل ألمانيا لا توجد بها أي تعبئة جدية بتاتا، فيما استسلمت في ميدان فارغ نقابات أخرى مثل الكونفدرالية العالمية للنقابات الحرة و اتحاد العمل الايطالي ، أو نقابات القطاع العام بايرلندا التي وقعت على "السلم الاجتماعي" لأربع سنوات مقابل وعد مريب بعدم خفض الأجور "ما عدا في حال تدهور غير مرتقب للوضع الاقتصادي"!

هذا التدهور ناتج بشكل أساسي عن موقف قمم المنظمات النقابية الرئيسية بوجه النيوليبرالية و البناء الأوربي، حيث يعوزها بديل حقيقي لمعارضتهما. إن نقابات أوربية عديدة، وليست من اقلها شأنا، سواء نظمت تعبئات ضد خطط التقشف أو لم تنظمها، لا تطالب بسحب هذه الأخيرة، بل فقط بـ"تعديلها" لتغدو "أكثر إنصافا". وجلي أن هذا قبول لتحميل العمال كل التضحيات بشرط إسهام الرأسمال ولو على نحو رمزي.

موجة نضالات أوربية

بعد الموجة الأولى، الخجولة، من ردود الفعل خلال الربيع الأخير، يبدو الدخول الاجتماعي الحالي مطبوعا بجملة تعبئات أعظم. فقد شهد شهر سبتمبر في رومانيا عدة مظاهرات لشغيلة الصحة، و يُرتقب إضراب عام بالقطاع العام يوم 27 سبتمبر. وبجمهورية التشيك سيقوم عمال الصحة والضمان الاجتماعي بإضراب يوم 15 أكتوبر المقبل، فيما نظمت مظاهرة لرجال المطافئ والشرطة يوم 21 سبتمبر الأخير. و ستجري بايطاليا مظاهرة وطنية كبيرة ضد التقشف و من أجل التشغيل و الحقوق الاجتماعية دعت إليها الاتحاد العام الايطالي للعمل يوم 16 أكتوبر بروما.

وفي اليونان تظاهر يوم 12 سبتمبر 20 ألف شخص في تيسالونيك، ثاني مدن البلد، ضد تدابير تقشف حكومة حزب البازوك [اشتراكي ديمقراطي] المصرة على رفض أي تنازل. وأعاد الوزير الأول باباندريو تأكيد ذلك يوم التعبئة ذاته قائلا:" إننا نحارب من اجل بقاء اليونان: إما أن نظفر جميعا أو نغرق جميعا" داعيا حتى "القوى المنتجة" بالبلد إلى " دعم هذا التغيير الكبير" [كذا].

وشهدت دوقية لوكسمبورغ الكبرى، المبتلية هي أيضا بخطة تقشف بمبلغ 500 مليون يورو حتى العام 2014، مظاهرة هامة يوم 16 سبتمبر. إذ تظاهر زهاء 5000 عامل-ة (فيما توقعت النقابات 3000 مشارك) في لوكسمبورغ المدينة بدعوة من جبهة نقابية OGBL-LCGB ضد إلغاء التعويضات العائلية وإعانات الدراسة لأبناء العاملين خارج الدوقية ( يمثلون 44 % من اليد العاملة الأجيرة بالقطاعين العام والخاص). و ُترتقب تعبئات أخرى في الخريف بوجه ما تبدى الحكومة من عزم على إقرار مؤشر صحة على الطريقة البلجيكية، أي استثناء أسعار البترول والكحول والتبغ من عملية الربط الآلي للأجور بالأسعار.

وفي بريطانيا، فيما خطة التقشف المقررة في شهر يونيو من قبل الحكومة المحافظة-الليبرالية هي الأشد قسوة منذ عهد تاتشر، لم يقرر الاتحاد النقابي (TUC) القيام بحملة تعبئة وإضرابات إلا يوم 13 سبتمبر، لكن دون تحديد برنامج زمني دقيق. مهما يكن من أمر، ُوجه الإنذار الأول يوم 6 سبتمبر بإضراب عمال ميترو أنفاق لندن – الكفاحيين عادة- حيث نفد زهاء 10 ألاف عامل ميترو إضرابا 24 ساعة بدعوة من نقابات RMT و TSSF ضد خطة إعادة هيكلة ترمي إلى إلغاء 800 فرصة عمل بالمحطات وخدمات الانتباه للركاب و في قطاعات أخرى أساسية تهم أمان الركاب. وستخاض إضرابات 24 ساعة أخرى خلال شهر أكتوبر و نوفمبر.

معركة التقاعد بفرنسا، رهان بحمولة رمزية كبيرة

لحد الآن، و بانتظار نتيجة الإضراب العام في الدولة الاسبانية، فرنسا هي التي شهدت أهم اندفاع نضالي ببلد من الاتحاد الأوربي: 700 ألف متظاهر يوم 23 مارس الأخير، و مليون متظاهر يوم 27 مايو، و 1.4 مليون متظاهر يوم 24 يونيو، وأكثر من 2.5 مليون متظاهر يوم 7 سبتمبر، و زهاء 3 مليون متظاهر في اليوم الخامس للإضراب والتظاهر يوم 23 سبتمبر. على هذا النحو يتخذ النضال ضد الهجمة الرأسمالية بعدا بالغ الأهمية و رمزيا بهذا البلد: سيمثل إحباط إصلاح أنظمة التقاعد الذي صادقت عليه حكومة ساركوزي حدثا لتطور مجمل النضالات بأوربا برمتها. فرفع سن التقاعد قائم بالفعل في خطط تقشف أوربية عديدة، ولكل المسائل المرتبطة بالتقاعد حمولة رمزية قوية بالنسبة للحركة العمالية بمجملها و تمس مسألة توزيع الثروات ذات الأهمية الجوهرية.

لأسباب داخلية وأخرى خارجية يدرك ساركوزي ذلك تماما، مثل البرجوازيات الأوربية، و يبدي تصميما قويا على عدم التنازل و على السير حتى النهاية في امتحان القوة. بيد أن هذه الحكومة تواجه وضعا صعبا و تعاني من انقسامات داخلية و فضائح مالية. و هجماتها العنصرية و القمعية، لا سيما ضد الغجر، أمارة على نظام رجعي في مأزق يتمسك بأي وسيلة أكثر مما تدل على حكومة واثقة بنفسها.

بالمقابل، تحققت وحدة العمل بين مجموع اليسار السياسي و بين المنظمات النقابية (CGT-CFDT-CFTC-CFE-CGC-UNSA-FSU-Solidaires), ، مانحة بذلك حجما كبيرا للتعبئات، لكن ما من وحدة حول جوهر المسائل، حتى رفض الإصلاح الحكومة رفضا كليا. وقد يحول غياب منظور مشترك واضح دون تحريك قطاعات غير متعبئة بعد من جهة ، و يخنق تلك المتعبئة منذ عدة شهور من جهة أخرى، وهذا في سياق يعارض فيه 70 % من الفرنسيين رفع سن التقاعد.

29 سبتمبر يوم التحرك والتعبئات

دعت كونفدرالية النقابات الأوربية إلى يوم تحركات في 29 سبتمبر ضد خطط التقشف، و إلى مظاهرة أوربية في بروكسيل حيث ينتظر 100 ألف متظاهر. وُترتقب مظاهرات أيضا في لشبونة و بورتو بالبرتغال و لتونيا و ليتوانيا و بولونيا و جمهورية التشيك و ايرلندا و رومانيا وصربيا و قبرص وإيطاليا.

لكن التعبئة الرئيسية ستكون في اسبانيا، حيث تنظم النقابتان الرئيسيتان الاتحاد العام للعمل CGT واللجان العمالية CCOO إضرابا عاما لمختلف المهن 24 ساعة ضد حكومة ثاباتيرو وهو الأول منذ العام 2002. لم يكن للقيادات النقابية، بوجه خطة تقشف قاسية و إصلاح مرفوض لقانون العمل( سيسهل تسريح العمال و يحد مدى الاتفاقات الجماعية) و تشدد الحكومة، و ضغط القاعدة العمالية، من خيار غير حفز إضراب عام سيكون نجاحه حاسما لما بعده.

إن نظرة عامة على المشهد الاجتماعي الراهن بأوربا تدل على وجود جاهزية للنضال بين الإجراء الأوربيين، وعلى أنه لا غنى، بوجه الهجمة الرأسمالية المنسقة على صعيد أوربي، عن تنسيق التصدي على هذا الصعيد أيضا و بلا تأخير. مع الأسف ليس للحركة العمالية الأوربية أداة موثوقة للاضطلاع بهده المهمة. فكونفدرالية النقابات الأوربية، بحكم طبيعتها وتوجهها، ليست منظمة نقابية "فوق وطنية"، او قبة للمنظمات النقابية لتنسيق نضالاتها، بل إنها جماعة ضغط – لوبي- عميق الاندماج بمؤسسات الاتحاد الأوربي. إنها بالعكس دعامة نشيطة للبناء الأوربي الراهن و تقتصر بالأكثر على بث موجات نقد حول غياب" أوربا اجتماعية" وتنظيم تعبئات معزولة لا غد لها.

تجدر الإشارة من جانب آخر إلى المسؤولية الخاصة الواقعة على كاهل كونفدرالية النقابات الأوربية في غياب تحضير للحركة العمالية بوجه هجمة التقشف الراهنة و في حجم تلك الخطط. فعندما ضربت أولى إجراءات التقشف بلدان البلطيق و ايرلندا وأوربا الشرقية منذ 2008-2009، لم تحرك كونفدرالية النقابات الأوربية ساكنا لتحذير منظماتها ولا لتنظيم رد متضامن فعلي. وخلال الأزمة اليونانية المديدة، كان موقفها مطبوعا بنفس غياب ردة الفعل. و جلي أن هكذا سلبية شجعت و لا شك الرأسماليين الأوربيين على إطلاق نفس الإجراءات المطبقة دون معارضة دولية ببلدان البلطيق و ايرلندا في بلدان أوربا الشرقية و اليونان.

رغم طبيعة كونفدرالية النقابات الأوربية، و رغم الطابع المتأخر لتعبئة 29 سبتمبر، المعلنة دون أفق ملموس، يجب أن تشكل هذه المظاهرة نجاحا جماهيريا لأجل الدعوة إلى أخرى على أسس أفضل. يجب على عمال-ة بلجيكا، وغيرها، أن يستجيبوا بكثافة للتعبئات الأوربية ضد التقشف، أيا كانت أوجه ضعفها، من أجل البدء في تغيير ميزان القوى بوجه الطبقات السائدة و أيضا من أجل الضغط على القيادات النقابية.

إن السبيل الوحيد المتاح والواقعي للحركة العمالية الأوربية، لوقف الهجمات البرجوازية ضد المكاسب الاجتماعية و للانتقال إلى ما يلزم من هجوم مضاد على الصعيد الأوربي، هو خطة مفعمة بالعزم ومتنامية حول مطلب واضح: السحب التام لكل إجراء تقشف على ظهر العمال و التعويضات الاجتماعية. ان كانت كونفدرالية النقابات الأوربية عاجزة على السير وفق هذا التوجه، يجب إزاحتها واستبدالها بتنسيق نقابي أوربي قادر على تطبيقه.

بلجيكا : في انتظار غودو ؟

إن في التجمع، المنظم من قبل الجبهة المشتركة في بروكسيل يوم 15 سبتمبر دفاعا عن معاشات التقاعد، ما يبعث على التخوف و طرح تساؤلات حول إرادة القمم النقابية الانخراط في مواجهة فعلية من اجل الدفاع عن منخرطيها. كان منتظرا مشاركة 4000 نقابي، لكنهم لم يتجاوزا 2500 و في مناخ غير كفاحي.

كما أن تصريحات القادة النقابيين للصحافة غير باعثة على الاطمئنان. تقول نقابة الفيدرالية العامة لعمال بلجيكا "لا للتقشف" لكن هذه المعارضة المبدئية لا تصرف في تعبئات ميدانية. أما كونفدرالية النقابات المسيحية فيبدو أنها باتت منخرطة في طريق الخضوع. فهي ترفض مثلا المطالبة بإلغاء الفوائد notionnels (نوع من إعفاء ضريبي لصالح المقاولات). وتطالب، في إطار المفاوضات القادمة من اجل اتفاق مهني جديد، بـ "دورات تكوين" للعمال بدل رفع الأجور و هذا بوجه أرباب عمل لا يترددون في المطالبة بزيادة الأجور والتعويضات. الأسوأ أن الكاتب العام للنقابة المسيحية يدعو إلى جعل التقشف "متوازنا" و " غير متسرع".

تسعى الجبهة النقابية المشتركة إلى تعبئة 50 ألف عامل-ة يوم 29 سبتمبر، ما سيشكل نجاحا. لكن ماذا بعد؟ مبرر غياب أي حكومة الذي يتخذه البعض لإنكار وجود خطة تقشف لم يعد ممكنا إثارته إلى ما لانهاية لتبرير السلبية الحالية. علاوة على أن التخوف من "زعزعة استقرار" بلد يمر بأزمة مؤسسية خطيرة في حال شن نضال اجتماعي يعني في الواقع تقييد العمال بالأيدي والأرجل فيما هم تحت الدكاك مباشرة، من خلال إصلاح للدولة يدل كل شيء بجلاء أنهم سيتحملون كلفته و هجمة تقشفية من أرباب العمل والحكومة بمبلغ 25 مليار .

إن وحدة نقابتي الفدرالية العامة لعمال بلجيكا و كونفدرالية العمال المسيحيين لا غنى عنها لمواجهة هاذين التحديين. لكن بشرط بناء هذه الوحدة ليس على الخضوع و أصغر قاسم مشترك، بل على برنامج وخطة عمل محددين. برنامج مركز على توزيع جذري لوقت العمل و للثروات بأخذ الأموال حيث توجد. خطة عمل لحفز تعبئة شاملة، وصولا إلى الإضراب العام بقصد رفض أداء العمال و باقي الكادحين أدنى سنتيم من 25 مليار خطة التقشف و إصلاح الدولة الرامي إلى نسف الطابع الفيدرالي للضمان الاجتماعي.

في السياق الراهن، لم يعد ممكنا الاستمرار بروتين التشاور الاجتماعي القاضي بانتظار صبور للجلوس إلى طاولة المفاوضات وعدم دعوة القاعدة سوى في آخر لحظة. إن وقف هجوم التقشف و إصلاح الدولة المحطم للمكاسب الاجتماعية يستوجب أن نفرض منذ الآن ميزان قوى لن يسقط من السماء بتعبئات روتينية "بالضغط على الزر". يجب بالعكس تحضيره بتعبئات متنامية و بحملة كثيفة من التفسير الشعبي في صلب المقاولات و ضمن بقية الكادحين. " عملية حقيقة" تندد بمسؤوليات الأزمة من اجل الإقناع والتعبئة حول هكذا برنامج و خطة عمل محددين.

تعريب المناضل-ة