التحول الاجتماعي للطب ومسؤولية نقابة الأطباء الأردنيين


غالب زوايدة
2010 / 7 / 18 - 00:13     

الطبيب ذلك الإنسان الذي تمتع بأحسن الألقاب والمواقع الاجتماعية ذو الهالة الكبيرة التي تحيط به والذي رفعه المواطن إلى أعلى المراتب، وكان إلى جانب المعلم يلقى كل الاحترام والتقدير، حيث كانت هذه المهن قائمة على التضحية والعطاء. وكان للطبيب وضعه المميز لدوره في المحافظة على الحياة الإنسانية وتضحيته الكبيرة في جميع الأوقات لمساعدته الناس في مرضهم وأوقاتهم الصعبة ومحاولة التخفيف عنهم جسميا ونفسيا ومساعدة فقرائهم بالكشف المجاني وتوعيتهم. ومن هنا كان الطبيب مؤهلا لقيادة مجتمعه. ولنا في الأسماء الكبيرة التي برزت في الماضي دليل ساطع على ذلك.

هل تغير الأطباء؟ نعم لقد تغيروا بتغير مجتمعهم الذي أصبح مجتمعا استهلاكيا وفرديا، وأصبح الفرد يخضع لسلطة رأس المال. وانفرطت تدريجيا تلك العلاقات الاجتماعية السابقة التي تحكم المجتمع.

نعم لقد تطور المجتمع لكنة أصبح يخضع لسلطة رأس المال هذا الصنم الرئيسي في المجتمع الرأسمالي والذي أمامه تتراجع جميع الفوارق الأخرى بين الناس إلى المؤخرة. من المسؤول عن هذا التحول الاجتماعي في القطاع الصحي ؟ هل هم الأطباء الذين قادوا السياسة الصحية خلال العقود الماضية؟ أو أولئك الذين رفعوا شعار الصحة للجميع عام 2000 وناضلوا لتطبيق إعلان آلما-آتا الصادر عن منظمه الصحة العالمية عام 1978، وناضلوا من أجل حق المواطن في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة. وهل هم مسؤولون عما يحدث من ظواهر سلبية في القطاع الخاص، أم أن قوانين السوق هي التي تحكم. ولذلك فيجب عليهم التقيد بهذه القوانين، وإلا الخروج من السوق ليصبحوا أطباء فاشلين لا يستطيعوا إطعام أطفالهم وإرضاء زوجاتهم...

لقد أصبح الطب في القطاع الخاص نموذجا لعصر الفتوحات الاقتصادية الكبرى، تقوده الشركات الكبرى (شركات التقنية الطبية وشركات التامين،وبعض الجامعات وشركات الأدوية...) وأصبح الإعلام الطبي استثمارا ضخما في هذا السياق. وأصبح المواطن يركض بدون وعي وراء هذه المظاهرالبراقة الخادعة، في ظل غياب نظام صحي وطني يقولب هذا الإعلام لمصلحة الوطن والمواطن.وأدى غسيل الدماغ الإعلامي الذي تقوده الشركات الكبرى، إلى استثمارات هائلة في القطاع الصحي، تقودها قوى السوق ورأس المال بدون ضوابط وطنية تراعي المصلحة العامة. وفي ظل تنافس "علمي ومهني" خرج عن سياقه العلمي والمهني، وأصبح يركز على السبق الإعلامي وجذب الزبائن بطريقة البزنس، وتحقيق الانجازات المهنية الفردية التي لا تحقق تراكما علميا طبيا اجتماعيا، بل تهدف إلى تحقيق الأرباح المالية وتعظيم المشاريع، مما أدى إلى تضخم شديد في الاستثمارات الطبية.

لقد أضحت السياسة الصحية الوطنية تتأثر بمراكز القوى في القطاع الخاص وتستجيب لرغباتها. وتراجعت الاعتبارات الأخرى الاجتماعية والمهنية إلى مستويات اقل بكثير من السابق. إن العملية العلاجية أصبحت بحاجة ماسة إلى تقييم حقيقي يعيدها إلى أصولها الحقيقية المعتمدة على نظام صحي هرمي ضمن الأولويات الصحية الوطنية. وهدا يتطلب إعادة النظر في السياسة الصحية على أساس إعادة الاعتبار لدور القطاع العام وضرورة تحسين الخدمات العلاجية والتدريبية بصورة جذرية ووقف الهدر وازدواجية الخدمات وتوحيد نظم الإدارة ومعايير الجودة والحوافز.

كما أن النقابات الصحية وخاصة نقابه الأطباء مطالبة بإعادة النظر في سياستها المتبعة حاليا وممارسة دورها الوطني في مراقبة الإعلام الصحي وضبطه، وفي تفعيل دورها المهم في المجلس الصحي العالي، وتأثيرها على الرأي العام للضغط باتجاه إقرار سياسة صحية وطنيه تعزز دور القطاع العام وتضبط الممارسة في القطاع الخاص الذي سقطت فيه الهالة الاجتماعية الأخلاقية التي تحكم علاقة الأطباء بمرضاهم، والتي كانت كافية في دلك الوقت لاستمرار وضبط المهنة.

أما الآن فإن بروز الهالة المعرفية اليقينية التكنولوجية الإعلامية الاحتكارية، وما يترتب على ذلك من تفصيل وسائل التشخيص والعلاج للمريض، بدون أن يكون هنالك جهة مختصة قادرة على رقابة الطبيب وتجاوزه لأصول الممارسة الطبية، في عصر أصبح المريض نفسه (في ظل عملية غسيل الدماغ الإعلامية التي تقودها الشركات وبعض الأطباء) يلهث وراء هذه المظاهر الاستهلاكية البراقة للطب، ومتجاوزا التسلسل الطبي للرعاية الصحية، وأصبح المرضى يمارسون التسوق الطبي.

وحيث أن العلاقة بين المريض والطبيب هي علاقة "استسلام طوعي" من المريض لطبيبه. وفي ظل هذه المتغيرات وسقوط العلاقات الاجتماعية السابقة وتحكم قوى السوق، وغياب النظم الصحية السليمة لضبط القطاع الخاص، أصبح المريض القادر يتباهى بالخدمة المقدمة له، والمريض الفقير يحاول الوصول لهذه الخدمات بشتى الوسائل والسبل.وأصبح القطاع الصحي الخاص يعمل ضمن آليات السوق ولكن بقوانين عفا عنها الزمن، وما يترتب عليها من مشاكل.

إن مبادرة الأطباء لتشكيل شركات مساهمة، وبناء المستشفيات والمجمعات الطبية هو تحصيل حاصل للواقع ولفوضى القطاع الخاص الصحي والمشاكل الهائلة الموجودة فيه. إن الليبرالية الاقتصادية وقوى السوق تحكم القطاع الصحي الخاص كما تحكم القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى. ويحاول الأطباء في ظل هذه الليبرالية تنظيم صفوفهم كل حسب مصلحته ووضعه المادي ومعتقداته ومبادئه. وتشكيل الشركات الطبية هي محاولة تنظيم لواقع موجود، بسلبياته وايجابياته وعلى العكس فان تشكيل الشركات يكشف للعيان الأشياء على حقيقتها ويسقط المظاهر التي يحاول بعض أطباء القطاع الخاص الاحتماء خلفها.

إن الدستور الطبي والنظام الصحي، يجب أن يكونا قادرين على حماية الطبيب والمريض في آن واحد وعلى نقابه الأطباء أن تمارس دورها. والمطلوب منها الآن أن توجد جهاز رقابي ميداني يرئسه الأمين العام للنقابة ويتعاون مع الأجهزة الحكومية لوقف التجاوزات وفرض رقابة صارمة على جميع الجهات التي تقدم الخدمات الصحية وضبط الإعلام الصحي وتنظيف القطاع من المشعوذين ومدعي الطب وغيرهم من المتلاعبين بصحة المواطن. إن الآليات الرقابية الموجودة حاليا والقوانين الاقتصادية والمهنية في ظل قوى السوق والانفتاح غير قادرة على تحقيق كرامة الطبيب والمريض في آن معا.

إن الكثير من الأطباء الجيدين يطمحون أن يكون للمهنة طابعها الإنساني، وأن يحصل المواطن على الخدمة الجيدة، بدون النظر للاعتبارات المالية. ولكنها قوى السوق تفعل فعلها حتى في الأطباء ومرضاهم، ولا تزال القوانين والجهات المسؤولة عن تطبيقها عاجزة عن وقف التدهور وإصلاح الأوضاع. وعلى نقابه الأطباء تقع المسؤولية الكبرى.