-الحوار الاجتماعي- بعد المسيرة العمالية الملغاة: تلاعب في الساحة العمالية في غياب الشغيلة


مصطفى البحري
2009 / 5 / 1 - 08:15     

يشهد هجوم أرباب العمل و دولتهم على العمال بالقطاع الخاص درجة أشد من التصعيد مع بروز تبعات أزمة الرأسمالية بالمراكز الامبريالية. فالتسريحات بفروع الإنتاج المصدرة على قدم وساق، يساعد عليها استشراء ظاهرة عقود العمل محددة المدة، والإلغاء الفعلي لدور جهاز تفتيش الشغل. ولتوفير مزيد من الغطاء الشرعي لموجة التسريحات جاءت دورية وزارة التشغيل إلى مندوبياتها [ انظر بيان الاتحاد المغربي للشغل بالرباط بتاريخ 21 مارس 2009 ]، التي تتيح لأرباب العمل تسريح 5 بالمائة من العمال وصرف أجور تصل إلى 60 بالمائة من الحد الأدنى القانوني.




هذا فيما لم يتحسن أداء النقابات العمالية إزاء هذا المعطى الجديد. فقياداتها تواصل رفع الراية البيضاء، لا بل تسهم بوعي في تمرير مخططات العدو [مواصلة المشاركة في لجنة "إصلاح" أنظمة التقاعد وفق وصفات البنك العالمي، صمت إزاء الميز الصارخ المتمثل فيما يسمى "المساعدة الطبية للمعوزين"، مباركة خصخصة مصحات الضمان الاجتماعي، المصادقة على قرار رفع الأجر المشترط للحصول على التعويضات العائلية ، الخ]. وبعد إضرابات مايو 2008 التي خيضت بصفوف مشتتة، أبانت الحكومة عن رفض قوي لتلبية المطالب العمالية، بينما تصم منظمة أرباب العمل [الكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب] آذانها عن أي كلام عن زيادة الأجور، وتقدمت في عنتريتها بالانسحاب من لجنتين من لجان "الحوار الاجتماعي": لجنة الحرية النقابية والتشريع المنطلقة في أكتوبر 2008 بمبرر رفض النقابات مناقشة تعديلات قانون الشغل، و لجنة تحسين الأجور بمبرر انه ملف مغلق منذ زيادات الشوط الأول من الحوار الاجتماعي.

وفي إطار التردي العام للحالة النقابية، وركض القيادات المخزي إلى "الحوار الاجتماعي" مع تجنب أي حوار بين مكوناتها، يقتصر الفعل النقابي على مناوشات وجيزة ومتباعدة، ومجزأة المطالب،وموجهة على نحو بيروقراطي، ببعض قطاعات الوظيفة العمومية. مناوشات بلغت من الضعف درجة تجرأ مجلس الحكومة على اتخاذ قرار اقتطاع أجور الموظفين المضربين. وقد مثل هذا القرار زعزعة قوية للقيادات التي تعودت، وكرست عن وعي، دعوات الإضراب من فوق الموجهة إلى قواعد جرت تربيتها على السلبية والإضرابات المحولة إلى عطل مؤدى عنها. فطيلة عقود جرى تعويد الأجراء على دعوات الإضراب بالفاكس من الرباط: لا لجان تعبئة، ولا جموع عامة للشغيلة تناقش القرار ولا مطالب الإضراب، ولا سبل تنفيذه بنجاح، و لا سعي لتوسيع الحركة الاضرابية إلى قطاعات أخرى . فكان خصم أجور الإضراب سيؤدي فعلا إلى تراجع نسب المشاركة في إضرابات الوظيفة العمومية، وحتى انهيارها ببعض قطاعاتها. وهذا ما سيجرد البروقراطيات من وسيلة ضغطها على الحكومة : الإضرابات الموجهة فوقيا بمنطق تحكمي يتفادي أي دينامية نضالية جدية مهددة للسلم الاجتماعي. باتت إذن القيادات إزاء خطر غير مسبوق، فوجب عليها إتيان رد فعل في مستوى الخطر. فكانت الدعوة إلى مسيرة عمالية وطنية بالعاصمة.

هذا شكل نضالي غير مسبوق، رغم حاجة الساحة النضالية إليه منذ زمان بالنظر إلى هول ما تعرضت له طبقة الأجراء من تعديات في العقود الثلاث الأخيرة. و لكن السياق العام للدعوة إلى المسيرة العمالية الوطنية لم يكن ليسمح بأية أوهام حول مرامي القيادات ومدى ما يمكن ان تصله تهديداتها للحكومة. فالتراجع كامن في المقدمات، حيث لم يكن قصد القيادات غير استعمال التهديد بالمسيرة العمالية لإجبار الحكومة على التراجع عن اقتطاع أجور أيام الإضراب. فلا تعبئة حقيقية للمسيرة، بل تهيئ المناخ للتراجع عن القرار لا سيما بواسطة صحافة الاتحاد الاشتراكي الوصي السياسي على الفيدرالية الديمقراطية للشغل، أقوى الأطراف الداعية للمسيرة.

و من جهته أدرك الوزير الأول أن تشديد الخناق على القيادات لن يترك لها غير خيار تصعيد قد يفتح ثغرة ينفذ منها الاحتجاج العمالي والشعبي المحتقن. فكان وعد الوزير الأول بالتراجع عن قرار اقتطاع أجور أيام الإضراب، وبالمقابل نزل قرار إلغاء المسيرة العمالية الوطنية بالعاصمة من سدة القيادات المتلاعبة بالدعوة إليها [الفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد النقابي للموظفين التابع للاتحاد المغربي للشغل، والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب) بيان 16 مارس 2009].

يقتضي منطق النضال، منطق الدفاع عن مصالح العمال وعموم الكادحين، تنظيم مسيرة وطنية بالعاصمة، مسيرة عمالية وشعبية، تؤلف قوة كل ضحايا السياسة البرجوازية بقصد إجبار الحكومة على تلبية حد أدنى من المطالب الاجتماعية، وفرض ممارسة فعلية للحق النقابي، بما يعزز القدرة النضالية للعمال ولباقي الكادحين. هذا المنطق منعدم لدى القيادات النقابية، لأنها مساندة عمليا للسياسات الإجرامية المطبقة بإيعاز من البنك العالمي والاتحاد الأوربي، وللاستبداد المحلي الضامن لتطبيقها.

هذا المنطق غائب كليا لدى البيروقراطيات النقابية المتلاعبة بالمسيرة العمالية الوطنية ، كما يغيب عند بيروقراطية الكونفدرالية التي وقفت متفرجة بدل الانضمام إلى الدعوة إلى المسيرة و تنظيم تعبئة وحدوية حقيقية لإنجاحها. و يجد هذا الموقف تفسيره طبعا في التزام الخط السائد داخل هذا الاتحاد النقابي بالسلم الاجتماعي، و أيضا في الحسابات الخاصة بكل بيروقراطية، لا بل حتى في ضرب من المماحكة الصبيانية. فجوابا عن سؤال حول أسباب تخلف ك.د.ش عن التنسيق النقابي الداعي إلى المسيرة العمالية الوطنية، رد الكاتب العام قائلا :" دعونا إلى إضراب عام السنة الماضية ولم ينخرط معنا أحد ... ولم نلمس أي تضامن " . انه نفس منطق البيروقراطيات الأخرى إزاء دعوة ك.د.ش إلى الإضراب العام الوطني في مايو 2008 [ منطق "لن ننجح للأموي إضرابه العام" الذي فتك حتى بوعي قسم من المحسوبين على اليسار الجذري]. وجلي أن تهافت هذا الجواب هو ما حدا بالأموي إلى التهرب مرتين من الجواب عن سؤال التنسيق بين النقابات، مرة بعد أن ذكره الصحافي بأن "مصالح الشغيلة فوق جميع الاعتبارات"، و ثانية لما سأله عن إمكان انخراط ك.د. ش في التنسيق مستقبلا. [ انظر نص الاستجواب بجريدة أخبار اليوم عدد 16 مارس 2009 وبموقع ك.د.ش بانترنت].

وبوجه الإجمال تتواصل أزمة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، سواء من جانب التضعضع التنظيمي، او من جهة ضلال التوجه السائد داخلها. يتجلى هذا الأمر الأخير في ترويج الأوهام، بل الأضاليل، حول ما ستقدم عليه الحكومة. إذ اعتبر الأموي في الاستجواب آنف الذكر أن لا خيار لدى الحكومة سوى التعامل الايجابي مع قضايا الشغيلة. لأنها "مسجونة"، على حد قوله، بتعليمات ملكية هامة وبالتزامات سياسية. وأضاف أنه " جرى الاتفاق على نهج الحوار والتفاوض لمعالجة كل الملفات والقضايا الاجتماعية والنقابية"، أي بلغة الواقع مواصلة مسلسل جولات التفاوض البارد الذي يأتي بنتائج عكس ما يلمح به للقاعدة العمالية. ولعل أخطر ما في كلام الأموي قوله إن قيادة ك.د.ش طرحت في لقائها مع الوزير الأول "ضرورة قانون تنظيمي للإضراب ما زالت الساحة العمالية تنتظره منذ أول دستور للبلاد". يا لمصيبة طبقة عاملة ابتليت بقادة يتوقون منذ زهاء 50 سنة والعمال إلى نزع سلاح الإضراب أو إبطال مفعوله.

إلى أين نسير؟

عمليا نجحت الحكومة في جرجرة القيادات النقابية وصولا الى فاتح مايو الذي تكرس اعتباره منتهى التفاوض الاجتماعي. وفي الآن ذاته يقترب موعد الانتخابات المهنية [ مندوبو العمال بالقطاع الخاص، و اللجان الثنائية بالوظيفة العمومية] لتنشغل البيروقراطيات بالتنافس الانتخابي. يستبعد إذن إقدام القيادات النقابية على خطوات في اتجاه التعبئة والنضال حتى في النطاق المحدود المعتاد من جانبها. و سواء قبلت فتات مائدة "الحوار الاجتماعي" الحكومية او رفضته، فإنها ستلتزم بالسلم الاجتماعي، أي الامتناع عن الأدوار التي شكلت علة وجود النقابات العمالية، ومواصلة حرف استعدادات العمال للنضال الى مآزق التحركات المحدودة والمجزأة والمطبوعة بالفئوية . إنها عقبة الطبيعة السياسية للقيادات النقابية، العقبة التي لا يمكن تخطيها الا بتطوير النضال والوعي العماليين. وهذه مهمة المناضلين العماليين الكفاحيين الأوفياء لمصلحة العمال، الآنية والتاريخية. فعليهم يقع واجب التدخل في النضالات، مهما بدت صغيرة ومحلية وقطاعية، بمنطق التضامن الطبقي والتعبئة الوحدوية ، في أشكال التحرك ومضمون المطالب، و توسيع دائرة المعارك، وربطها بنضالات القطاعات الشعبية الأخرى. هذا كله تحت راية الاستقلال التام عن خط القيادات الإصلاحية المستسلمة بنقده والتقدم بالبديل، مع بالتزام تكتيكات العمل التي يقتضيها الاحتماء من عسف البيروقراطية. مصطفى البحري