الحركة النقابية التونسية وإمكانيات النضال من أجل بديل نقابي


بشير الحامدي
2009 / 4 / 29 - 10:12     

ارتبطت الحركة النقابية التونسية بالإتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه سنة 1946 وعرف العمل النقابي من داخل هذه المنظمة وفي فترات عديدة تطورا كبيرا كما عاش أيضا وفي فترات أخرى أزمات وانتكاسات كانت عموما ظرفية سرعان ما يقع تجاوزها. كان هذا حال المنظمة قبل 1987.
بعد 1987 قبل الإتحاد العام التونسي للشغل أن يكون شريكا للحكومة وحارسا على العمال لصالح الدولة والأعراف الرأسماليين وهيمنت على سلط القرار داخله بيروقراطية فاسدة اندمجت بالدولة ينحدر رموزها في أغلبهم من قطاع الوظيفة العمومية ففقد الإتحاد العام التونسي للشغل في ظل هيمنة هذه الشريحة إشعاعه وإبتعد عن مشاغل منخرطيه وأصبح منظمة فاقدة لأي مصداقية في نظر عموم الشغالين ولأي استقلالية في القرار ولأي ديمقراطية في التسيير وبعيدة كل البعد عن لعب أي دور فعّال في حماية مصالح منخرطيها وتبني نضالاتهم في مجابهة التفقير والبطالة والتسريح وغلاء الأسعار وتدهور أوضاعهم على كل المستويات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية المنجرّة عن إندماج بلادنا في الاقتصاد المعولم.

إن الفراغ النقابي الحاصل اليوم في الإتحاد العام التونسي للشغل وهيمنة البيروقراطية النقابية على كل مجريات الشأن النقابي وتحكمها بكل سلط القرار وارتباط هذه المنظمة بالدولة وتكريسها لاختياراتها وفرضها على الأجراء إضافة إلى الانتهاكات في حق الديمقراطية والحريات النقابية كلها عوامل أفقدت هذه المنظمة صفتها كممثل نقابي للأجراء وجعلتها تكفّ عن أن تكون إطارا لعمل نقابي مستقل وديمقراطي ومناضل.

إن الوضع الذي انتهى إليه العمل النقابي من داخل الإتحاد العام التونسي للشغل مكننا من الوقوف على الاستنتاجات التالية.

1 ـ الإتحاد العام التونسي للشغل تحول اليوم إلى منظمة للتعاون الطبقي مساهمة ومشاركة للرأسمال والسلطة والأعراف ـ منظمة متهرئة وفاقدة لكل مصداقية في تمثيل منخرطيها والدفاع عن مصالحهم . إن واقع المنظمة اليوم هو نتيجة مسار المشاركة الذي انخرطت فيه منذ شرعت السلطة في تطبيق برنامج التعديل الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي. لقد إلتزم الإتحاد بهذه السياسة وتبنى برنامج السلطة منذ بدء تنفيذها ولم يعمل على مواجهتها ومعارضتها لا بل بالعكس لقد عارض بالمقابل النضالات العمالية التي وقعت هنا وهناك وتصدت للتسريح ولمرونة التشغيل ولمصادرة الحق النقابي. إن هذا التوجه المستمر منذ عشريتين أفقد هذه المنظمة النقابية دورها باعتبارها في الأصل منظمة منحازة للعمال وممثلة لهم ومدافعة عن مصالحهم.

2 ـ اندماج بيروقراطية الإتحاد بالدولة والتحالفات التي انخرطت فيها مع الحزب الحاكم وفرضتها على الحركة العمالية وكرستها عمليا على أرض الواقع في سياسات لم يجن منها الشعب والعمال غير المزيد من البطالة والتفقير والقمع ومصادرة الحريات أفقدت هذه المنظمة النقابية مصداقيتها في صفوف العمال والنقابيين والرأي العام الديمقراطي وأبقت مسالة الديمقراطية والاستقلالية والنضالية مجرد شعارات لا يمكن تكريسها.

3 ـ تعامل القيادة النقابية مع الأطراف النقابية المدافعة عن استقلالية وديمقراطية العمل النقابي والمعارضة لتوجه المشاركة بالإقصاء والتجريد والتعاطي سلبا مع القوى السياسية أو مع التحركات الشعبية المنادية بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية أدى بهذه المنظمة إلى التخلي عن دورها كطرف اجتماعي منحاز لقضايا الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومدافع عنهما.

4 ـ الإتحاد العام التونسي للشغل وكمنظمة نقابية العلاقة بين هياكلها علاقة عمودية تقوم على هرمية متعارضة مع أي ديمقراطية قاعدية أو استقلالية قطاعية. كذلك قوانين هذه المنظمة [ القانون الأساسي والنظام الداخلي] هما نظامان بيروقراطيان يختزلان المنظمة في مكتبها التنفيذي المركزي وفي أمينها العام ويمنحانهما كل السلطات. فالمكتب التنفيذي متحكم مطلق في كل القرارات وله كل الصلاحيات لمصادرة كل موقف أو قرار قاعدي أو قطاعي محلي أو جهوي لا يتفق معه وهو وضع جعل مسألة الديمقراطية داخل هذه المنظمة تتحول إلى مأزق تاريخي لا مخرج منه.

5 ـ تمكن البيروقراطية النقابية وعبر أداتها التنفيذية مكتبها المركزي على امتداد العشريتين الأخيرتين من تمرير قوانين ومناشير ألجمت بها الهياكل الوسطى والهياكل القطاعية بحيث عجزت هذه الهياكل عن لعب أي دور فعّال في مقاومة النهج البيروقراطي وسياسة المشاركة. ولأسباب متعددة ركنت هذه الهياكل إلى التسليم بالأمر الواقع والمسايرة وهو ما مكن البيروقراطية وعن طريق جهازها التنفيذي المركزي والهيئات القريبة منه [ لجنة النظام وغيرها ] من التصرف في الشأن النقابي بحرية ودون رقيب وبلا محاسبة.

6 ـ المعارضات النقابية التي تشكلت من داخل الإتحاد العام التونسي للشغل وعلى رأسها المعارضة اليسارية بقيت مجرد معارضات إنتخابوية ركزت طيلة العشريتين الماضيتين على الصراع على المواقع في هياكل المنظمة وأغفلت كل ما له مساس بالسياسات النقابية ولم تتمكن ـ هذه المعارضات ـ وخصوصا اليسار النقابي من التطور والإنغراس في الإتحاد كاتجاه مستقل عن البيروقراطية ولم يرق إلى التشكل كمعارضة من الداخل ولم يبرز أثناء عديد المحطات كتوجه مستقل ولم يقدم خصوصا أثناء مؤتمرات الإتحاد أي مشاريع مستقلة بديلة من أجل نقابة مستقلة وديمقراطية ومناضلة لا بل العكس هو الذي حصل حيث تحول قطاع عريض من هذا اليسار النقابي إلى حليف معلن للبيروقراطية وحارسا من حراسها. ولعل مواقف هذا اليسار النقابي من البيروقراطية النقابية أثناء حملة التجريد وأثناء انتفاضة البلدات المنجمية وأثناء إصدارها المنشور 83 وفي مفاوضات الزيادة في الأجور وفي محطات أخرى كثيرة تثبت أكثر من أي وقت مضى أنه أصبح ورقة في يد البيروقراطية النقابية وأنه عاجز عن لعب أي دور مستقل ناهيك عن تغيير المنظمة من الداخل.

7 ـ أثبتت تجارب المعارضات النقابية التي ظهرت من داخل الإتحاد وتحديدا تجربة اليسار النقابي أن لا إمكانية لتغييره من الداخل فقد انحصرت كل هذه المعارضات وانصهر أغلبها في الجهاز البيروقراطي. لذلك نقول واعتمادا على التجربة والتاريخ والوقائع أن المراهنة اليوم على تغيير الإتحاد من الداخل هي مراهنة خاسرة ولا طائل من ورائها وحالة لا تستفيد منها غير السلطة والبيروقراطية النقابية.

من أجل بديل نقابي

إذا اعتبرنا كل ما سبق يمكننا القول أن بديلا نقابيا للأجراء في تونس أصبح ضرورة ملحة يفرضها الواقع وعلى النقابيين والمناضلين طرحها والعمل على إنجازها باعتبارها مهمة عليها يتوقف مجمل تطور الحركة العمالية والنضال النقابي. إن بديلا نقابيا لهو اليوم ضرورة ملحة للحركة العمالية من أجل:

ـ القطع مع النقابة المساهمة والمشاركة واعتبار النقابة إطارا للمقاومة والنضال لا إطارا للتعاون الطبقي والتنظم في نقابات كفاحية مستقلة وديمقراطية.
ـ القطع مع الأطر النقابية المؤسسة على نظم هرمية بيروقراطية كابحة للديمقراطية.
ـ إعادة الوعي بأهمية النقابة والعمل النقابي لدى الشغالين الذين تضرروا في العشريتين الماضيتين بفعل سياسة رأس المال ومناورات البيروقراطية النقابية ومشاركتها وسياستها التي أفرغت الإتحاد من منخرطيه.
ـ توسيع جبهة العمل النقابي ليشمل البطاليين والمتقاعدين وكل أصناف المهن المهمشة .
ـ إعادة الوعي لدي الأجراء بالوحدة والتضامن العماليين محليا وأمميّا بما يعزز ويوسع القدرات النضالية للحركة النقابية والعمالية عموما على المقاومة والانخراط في أشكال من النضال والتضامن تمكّن من توسيع جبهة النضال ضد رأس المال.
ـ تجاوز النقابوية الضيقة بعدم الفصل بين النضال النقابي والنضال السياسي وإعادة تفعيل الحركة النقابية بوصفها موضوعيا أحد ركائز الحركة الديمقراطية التقدمية المناضلة وفي طليعة النضال من أجل العدالة الاجتماعية.

استقلالية القطاعات الخطوة الأولى في اتجاه إنجاز هذا البديل

إن استحالة تغيير الإتحاد من الداخل وفشل البدائل النقابية التي تأسست فوقيا [تجربة الكنفدرالية وغيرها] في معالجة أزمة العمل النقابي لا يعني أنه لا إمكانية بقيت قائمة في الواقع للنضال من أجل نقابة مناضلة وكفاحية.
الأفق ليس مسدودا كما يعتقد البعض بتعلة واقع القمع وغياب الحريات أو بتعلة قوة البيروقراطية واختلال ميزان القوى لصالح تحالف البيروقراطية والسلطة ضد الأجراء والطبقات الفقيرة .هذا واقع موضوعي من المفروض أن لا نتعامل معه باستكانة بل يجب علينا العمل على تغييره. فالواقع لن يتغير من تلقاء نفسه والتاريخ وجميع التجارب تعلمنا أن البدائل الحقيقية لا تمنح بل تفتك وتفرض نفسها. لذلك نقول إلى متى سنبقى نتعلل بصعوبة تغيير الواقع في حين أننا لم نفعل شيئا لتغييره.

رد فعل قطاع التعليم العالي أخيرا على تجاوزات بيروقراطية الإتحاد وعزم جزء من هياكل هذا القطاع على التنظم نقابيا خارج الإتحاد العام التونسي للشغل وحالة الإرباك التي حصلت للشق الراضخ لنفوذ الجهاز البيروقراطي في قيادة هذا القطاع وللجهاز نفسه تثبت بالملموس أن الأفق ليس مسدودا وأن مهمة تحقيق استقلالية القطاعات مهمة يمكن أن تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو البديل المنشود.
لذلك أقول أن النضال من أجل استقلالية القطاعات هو أفق من الممكن اليوم النضال على قاعدته ومهمة قابلة للإنجاز إذا ما وعى النقابيون أنه لا إمكانية لنضال نقابي حقيقي و لا إمكانية لإشاعة الديمقراطية النقابية وتوسيع المشاركة في كل مراكز القرار وفسخ كل الاتفاقيات المهينة والقوانين المقيدة للديمقراطية النقابية وحق الإضراب بدون تحقيق هذه الاستقلالية القطاعية.

إن النضال على قاعدة استقلالية القطاعات كخطوة أولى نحو بعث تنظيم نقابي كنفدرالي لهو اليوم برأيي المرحلة التي يجب أن نركز عليها نضالنا ففي تحقيق هذه الخطوة نكون قد هدمنا أول جدار سميك في هذا البيت المتهاوي الصدإ [الإتحاد العام التونسي للشغل] الذي اتخذته البيروقراطية وكرا لانتهاك الحقوق النقابية وللفساد المالي وحارسا على الحركة العمالية وهو حل أقرب للإنجاز من هجر العمل النقابي أو من التعويل على صراع المواقع وتغيير الإتحاد من الداخل هذا المسار الذي استحالت أي إمكانية لتحقيقه.