أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)















المزيد.....

بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 00:12
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
    


حالة الأحزاب الشيوعية عشية التحوّل
لا أظن أن يختلف كثيرون حول حقيقة، أن واقع حزب لينين أثناء ثورة إكتوبر العظمى 1917 غير واقعه عشية طروحات ميخائيل غورباتشوف الأمين العام الأخير للحزب الشيوعي السوفيتي، التي عُرفت بـ"البيريسترويكا" بين عامي 1985 و1991، خاصة في طورها الأخير.

كان الواقع مختلفاً تماماً بين الفترتين، مختلف على صعيد بناء الحزب الداخلي، وطبيعة وعمق علاقاته الداخلية والوطنية والأممية. وكذلك الحال بالنسبة للأحزاب الشيوعية الأخرى المعنية. وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بقدرة تلك الأحزاب على إستيعاب التطورات والتفاعلات الإجتماعية العميقة في مجتمعاتها، وعلى النطاق العالمي أيضاً.

يشمل الإختلاف طريقة هضم وإحتواء ومعالجة مصاعب عمليات الإنتقال والمواجهات الملزمة والعاجلة التي يتعرض لها الحزب، سواءً على صعيد الإجراءات أو الفكر، وتلك العمليات التي تفرضها حالات ملموسة ضاغطة تواجهها الأحزاب الشيوعية، وإن الفرق كبير بين حزب شيوعي يعتمد العقلية البروليتارية وآخر تهيمن على قيادته عقلية وتدابير الرؤية البرجوازية الصغيرة.

يتطلب التحوّل من حالة الى أخرى ومن موقف الى آخر وتحت تأثير تلك العوامل الضاغطة سرعة وحيوية ضروريتين وملزمتين. كما إن إستيعاب الأحداث المفاجئة التي تقع أحياناً دون مقدمات، تستدعي التصرف آزاءها بذات القوة والحيوية التي كانت تتمتع بها تلك الأحزاب نفسها في عقود سابقة. وتظل مهمات العمل على خلق مقدمات التطور اللاحق، وإستمرار عمليات التجديد والتطوير والإرتقاء قائمة ومطروحة بإلحاح، كما لا ينبغي أن يغيب عن البال والنظر والحساب عند التحليل، أن الثقة الشعبية الممنوحة لتلك الأحزاب من شعوبها وعضويتها مختلفة عما سبق، ولكن بإتجاه المزيد من الضعف.

طرح غورباتشوف ما عُرف بالتفكير الجديد، دون تهيئة حزبية واسعة، تتطلبها ظروف الحزب الذي مارس الحكم لعقود طويلة منفرداً، وتحمل مسؤوليات كبرى عالمية، وفي داخل المنظومة الإشتراكية العالمية. قادت إندفاعة غورباتشوف دون توفر الوقت الضروري لإطلاق دعوة الإنتقال من البيروقراطية الحزبية الرتيبة الى العلاقات المنفتحة والعلنية، أي الى ما عُرف بحرية الكلمة "العلانية" ـ "الغلاسنوست" الى إنهيار البناء كله دفعة واحدة، وليس الى خلق أو فرض الإصلاحات الجذرية، وذلك بسبب عدم الإهتمام بالسعي لإيجاد مستلزمات التغيير. هذا إذا ما تجاهلنا الإفتراضات الأخرى المطروحة هنا وهناك.

ولم تغيب عن التقديرات بصدد خطوات غورباتشوف، أن وفاة سلفه الأسبق يوري اندروبوف المفاجئة في عام 1984، كانت قد دفعت الإصلاحات المنسوبة الى غورباتشوف بإتجاه آخر غير الإتجاه الذي وضع أسسه وخطواته الأولى اندروبوف، وصب جل إهتمامه على إصلاح الحياة الداخلية للحزب الشيوعي السوفيتي أولاً، كخطوة لا غنى عنها بإتجاه الإصلاحات الحاسمة على صعيد السياسة والإقتصاد والحزب وكل جوانب الحياة الأساسية، وفي العلاقات الدولية والأممية أيضاً. يُذكر أن اندروبوف تولى القيادة (أمين عام الحزب الشيوعي السوفيتي) بين عام 1982 حتى وفاته عام 1984، وكان قبل ذلك رئيس لجنة أمن الدولة، أي جهاز المخابرات السوفييتية المعروف إختصاراً بالـ (كي جي بي) بين العامين 1967-1982. وبعد وفاة اندروبوف حل محله في القيادة قسطنطين تشيرنينكو، لكنه الأخير توفي سريعاً في آذار/ مارس 1985، وبدت فترة قيادته القصيرة خالية من أية ملامح مميزة، وكأنها مرحلة إنتقالية بين حالتين أو طريقتين للمعالجة (اندروبوف ـ غورباتشوف).

نالت سيرة غورباتشوف ونجمه الصاعد إهتماماً عالمياً بطريقة لم تألفها القيادات السوفيتية السابقة، فقبل توليه منصب الأمين العام في عام 1985، كان يُذكر إسمه في الصحف ووسائل الإعلام الغربية بين فترة والأخرى، بصخب وتحبيذ واضحين وليس مبطنين، على إنه القائد القادم للحزب الشيوعي السوفيتي، وإنه رجل من جيل جديد، أصغر سناً لتقلد مثل ذلك المستوى القيادي في الحزب الشيوعي السوفيتي، وإنه منفتح وطموح يريد إنقاذ بلاده من حالة الفقر والتراجع. ومما لا يخف على النابه وغير النابه أن طريقة التحبيذ والصوت المرتفع تنطوي على إتهام لكل تاريخ المرحلة السوفيتية، بما فيها منجزاتها قبل أخطائها ونواقصها، التي لا تسلم منها أيه تحولات عميقة وكبيرة، كتلك التي إجترحها الحزب الشيوعي السوفيتي.

حتى تلك الطفرة أو النقلة في مسيرة البيريسترويكا السوفيتية كان من الممكن تجاوزها، أو على الأقل إفتراض ذلك، لو لم يكن الحزب الشيوعي السوفيتي وبقية الأحزاب الشيوعية في دول شرق أوروبا تعاني من أزمة حزبية وإجتماعية عميقة، تتمثل بكون نهج قيادة غورباتشوف وأغلب قيادات أحزاب المنطقة يقوم على أساس برجوازي ديمقراطي صغير، وليس بروليتاري على أي حال، ويعتمد على الآمرية الحزبية والإرادوية المشبعة بالأنا المفخمة والغرور وضعف تقدير المواقف وتبعاتها. كما إن الأجنحة الحزبية التي طالبت بفرض توجه بروليتاري لم تدرك حجم المخاطر والمسافة التي قطعتها إصلاحات غورباتشوف في الوقت المناسب، حيث تجاوز حجم الأزمة التي ضربت تلك الأحزاب الشيوعية الحاكمة بعداً خطيراً، ووصلت الى مستوى أزمة حزبية وإجتماعية مزدوجة وعامة وغير مسيطر عليها.

كما إن عمليات إعادة صياغة العلاقات بين الشرق والغرب جرت بين طرفين غير متكافئين من حيث طبيعة الموقف. شرق يريد أن يغيّر قيم علاقاته الدولية، وهو في موقع المتراجع، وغرب يؤكد إنتصار قيمه. في ظل عاصفة إعلامية تلقى قبولاً، لأنها في موقع البث من طرف واحد وفي إتجاه واحد.

إن "التفكير الجديد" شجع أمالاً مكبوتة تقوم على وهم أن الغرب الغني موضوعياً سوف يفتح خزائنه وأبوابه للأموال وفرص العمل والرواتب العالية والتعددية وغيرها على شرق منهك. ولكن سرعان ما ظهر على أرض الواقع حقائق أخرى كانت أقرب الى الصدمة، وفتحت مشاكل عمقية على عجل.

في كل الأحوال لعب إقتصاد الظل الفاسد في العديد من الدول الإشتراكية السابقة العامل المساعد الخطير، إذ لم تكن سياسة الموقف من الملكية الخاصة محكمة الى درجة لا تتيح إمكانية للتطلع نحو الردة صوب الرأسمالية. وفي ذات الوقت كان في "دول العمال" أسوء نظام للرواتب والإجور، خاصة في الأعوام الأخيرة، ففي الإتحاد السوفيتي على سبيل المثال كان معدل أجور العامل نحو 150 روبل، يقابل ذلك رواتب موظفي أجهزة الحزب والمسؤولين الحكوميين وأضرابهم التي تصل الى 1500 روبل. والأنكى من ذلك هناك من يفاخر بأن الفروق في الرواتب تقاس بعشر مرات فقط في الإتحاد السوفيتي، في حين تصل في الأنظمة الرأسمالية، ربما الى مئات المرات. إن هذه الدروس لا ينبغي أن تغيب في المستقبل من أمام تفكير أي مناضل من أجل بناء الإشتراكية العادلة والعلمية والأكثر تقدماً. ينبغي القلق على التجارب الإشتراكية القائمة والحالية من مخاطر إقتصاد الظل، فعلى سبيل المثال يوجد حالياً في الصين نحو مليون مليونير منتشرين في كل حويصلات الإقتصاد الصيني الصاعد بجدارة ملفتة للنظر والإعجاب.

هناك إجماع عند متابعي أحداث إنهيار المنظومة الإشتراكية العالمية يفيد بأن عمليات الإنتقال من الإشتراكية الى الرأسمالية قادتها الأحزابُ الشيوعية نفسها في الغالب، أو سهلت أحياناً مرورها الى نهاياتها القائمة حالياً، طبعاً هذا في شهورها وسنواتها الأولى من عصر التحولات في شرق أوروبا، ولاحقاً في الإتحاد السوفيتي نفسه. مع وجود بعض حالات الإعتراض في البدايات حصلت في كل من ألمانيا الديمقراطية ورومانيا. وكانت التحولات العاصفة سلمية في الغالب، ولكن لم تغب الحالات الدموية أيضاً، على سبيل المثال في رومانيا ويوغسلافيا.

وعلى صعيد طبيعة القوى السياسية والإجتماعية الجديدة التي تولت السلطات في شرق أوروبا بعد إنهيار التجربة "الإشتراكية"، كانت في الغالب من المثقفين: كتاب وأصحاب مهارات فنية وأساتذة جامعات وأمثالهم، ومن العاملين في النشاطات الإقتصادية لما يُعرف بإقتصاد الظل، ولم تغب عن اللوحة فئات الكادحين أيضاً، كما لم تخلو التحولات من مفارقات أخرى مثيرة للإهتمام حيث تكون في الواجهة الأكثر سطوعاً قوى عمالية، والمثل الأبرز على هذه الحالة، هو نقابة التضامن العمالية في بولندا.

وقعت عمليات الإنتقال التاريخية العكسية، أي التحول من الإشتراكية الى الرسمالية في فترة قصيرة جداً، وتحديداً بين 6/شباط ـ فبراير/1988 في بولندا مروراً بدول وسط أوروبا وإنتهت فعلياً بإنهيار الإتحاد السوفيتي في 26/كانون الأول ـ ديسمبر/1991.

وصلت الى ذات النتائج كل بلدان شرق أوروبا، هذا على الرغم من إختلاف شكل مواجه التطورات الجديدة في كل بلد على حدة، وأمر طبيعي أن تظهر في كل بلد بعض الملامح الخاصة نسبياً، تأسيساً على مدى قوة الحزب الحاكم ومدى ثقته بنفسه وعضويته وتجربته وطريقة وصوله الى السلطة.

ومن بين التصرفات الملموسة، كان حزب العمال البولندي الموحد "الشيوعي" يرى من جانبه، أنه بإدخال نقابة التضامن بمسؤولية إدارة البلاد كشريك سياسي، سوف يساعد ذلك الإسلوب بتحميلها جزء من المسؤولية، ويضعف نفوذها المتنامي، ويعمق عزلتها في نهاية المطاف. ولكن نقابة التضامن تصرفت بوعي كجماعة ضغط خلال مشاركتها، فيما عُرف بالطاولة المستديرة. كانت نقابة التضامن ببساطة تعرف ماذا تريد. وأخيراً، تلك الخطة لحزب البولندي الموحد لم تزكيها الحياة والتجربة نفسها. وبعد ذلك إنتزعت القوى الجديدة وواجهتها "التضامن" السلطة بكاملها.

وتوقع حزب العمال الإشتراكي المجري، بأنه بعد رفع كلمة العمال من إسم الحزب سيضمن له البقاء في السلطة. وكان في أواخر أيام سلطته من أشد القوى تحمساً لدخول بيت الطاعة الأمريكي.

وفي تشيكوسلوفاكيا لم تكن القوى الجديدة تملك القوة الداخلية الكافية لتولي السلطة. ساعدهم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي في تلك المهمة، وذلك من خلال منحهم الوقت الضروري للملمة صفوفهم لمواجهة مهمات إستلام السلطة سلمياً وضمان إنتقالها السلس. نهض الحزب الشيوعي بمسؤولية الإنسحاب التدريجي من السلطة، ولكنه عمل على أن يكون الإنسحاب متسارعاً نسبياً من جانبه، وكأن الحزب الشيوعي ينوء من حمل أثقال على كاهله. ومن أهم المؤشرات إقدام الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي على سحب بعض نوابه من البرلمان، ليضمن للمعارضة الناشئة إمكانية تحقيق الأغلبية فيه. يُذكر أن ذلك الحزب حافظ على نفوذ مقبول له، لأنه من الأحزاب التي وصلت السلطة عبر الإنتخابات العامة، وبجهود ونفوذ مناضليه في أول عهدهم. وحالياً لا يبدو أنه يريد توسيع إمكاناته ونفوذه، ويسعى للبقاء حزب برلماني، يتراوح نفوذه الإنتخابي حول 15% من أعضاء البرلمان في معظم الدورات الإنتخابية، التي عُقدت بعد إنتزاع سلطته.

ليس إعتباطاً حين نعتبر وضع وموقف الحزب الشيوعي، أي حزب شيوعي، عاملاً حاسماً في إنهيار التجربة الإشتراكية في شرق أوروبا و روسيا. هذا دون الإستهانة بالأسباب الأخرى لإنهيار التجربة التي أشرنا إليها بإيجاز سابقاً. فالحزب الشيوعي الذي قاد مسيرة البناء التاريخية، ومن ثم التحولات الأخيرة، أي الإنتقال الى الرأسمالية، هو السبب الرئيسي في كل تلك التحولات عبر تاريخه إيجاباً أو سلباً وفق ما تبين.

لم تدرك تلك الأحزاب المعنية، أن الحزب في فترات النضال القاسية يستقطب أفضل المضحين، ولكن بعد الإنتصار أو حتى زوال المخاطر الجدية يحيط به المتزلفون، وهؤلاء جلدهم ناعم ينزلق بسهولة من خلال أية فجوة في البناء التنظيمي، ويحولون الحزب الى مطية لأهدافهم الخاصة، وليس كالعضوية الأولى. وهذا الواقع دفع البعض الى الإعتقاد بأن على الحزب العمالي أن يصوغ علاقات جديدة تضمن بقاءه كمراقب ومعارض إيجابي، وربما تفتح الحياة أمامه وسائل أخرى جديدة.

ينبغي البحث عن الأسباب التي قتلت روح المبادرة والإبداع في العمل والإنتاج، وعن العوامل التي حوّلت حزب خاض كفاحاً مريراً من أجل فرض سلطة الطبقة العاملة الى أن يسلم ذات الحزب السلطة طوعاً، للذين كان يسميهم بالعدو الطبقي، ودون أن ينبس ببنت شفة، كما يقال، ما هي أنماط التنظيم التي رفعت شخصاً مثل بوريس يلتسين الى قمة حزب البلاشفة، وما هي العوامل التي حوّلت مداخيل العاملين والموظفين في ألمانيا الديمقراطية السابقة قبل وبعد إنهيار جدار برلين الى نصف مداخيل نظرائهم في القسم الغربي من ألمانيا وإنتاجية عملهم الى ما يساوي الثلث. وما هي العوامل التي دفعت شعوباً الى القفز في الهواء دون تحسب للمخاطر، وإجراء التحولات وخوض تجربة لا سابقة لها.

لقد بيننا الكثير من الأسباب التي نعتقد بجديتها وخطرها الفعال، ولكن لا ندعي أن ذلك كافياً، فالأمر يحتاج الى مزيد من البحث والتحري والصدق مع النفس ومع الناس. ولأن ما حصل على فداحته لن يكون نهاية المطاف، وستظل الإشتراكية طريق الشعوب نحو حياة أفضل وأكثر أمناً. فمن الواجب اليوم تسجيل كل تجاربها، خاصة تلك التي أدت الى الإنهيار الكبير لتجربة عظيمة، قُدِّمَت تضحياتٌ غالية من أجلها. إن العمل مع الإنسان ـ الفرد، ومع الجماعة ـ الحزب، عملية في غاية التعقيد ومرهفة الحساسية وسريعة العطب. وإن الأخطاء الصغيرة خلال العمل قد تولد نتائج كبيرة، في خطرها على الروح الإنسانية نفسها. حين فقد الناس الثقة لحدود كبيرة بالطليعة بدأت عناصر التربية تخلق ما هو عكسها. راقب الناس مؤخراً تصرفات الدول التي كانت "إشتراكية" إتجاه اللاجئين، وكانت غاية في الرعونة وضعف الحس الإنساني والمبالغة في طرح المخاطر. صحيح أن تلك السياسة من مسؤولية الحكومات الحالية غير الشيوعية، أو في حالات معينة معادية لها، ولكن ذلك لم يمنع العديد من الناس العاديين من التساؤل: أين تأثيرات عشرات السنين من التربية الأممية.

وعلى الصعيد الإقتصادي توهمت الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا والإتحاد السوفيتي، أو خففت من وقع الإنتقال من الإقتصاد الموجه الى إقتصاد السوق الحر، وهي التسمية المهذبة في حينها للرأسمالية، سواء كان ذلك عن قصد أو من دونه. وكم هو الفارق كبيراً بين التحولات الأخيرة بعد إنهيار جدار برلين، وبين ما عرف في بدايات حكم البلاشفة بسياسة (نيب). أرى أن العامل الحاسم الذي خلق الفوارق الجوهرية بين الحالتين، هو أن لينين قاد تلك الإجراءات لحماية حكم الطبقة العاملة بوعي وإصرار وعزيمة واثقة، وكان تراجعاً منظماً تحت قيادة حزب قوي يعرف فعلاً ماذا يريد، وعضوية حزبية كان من أكبر طموحاتها التضحية في سبيل البناء الإشتراكي الناجح والسليم. إن التأكيدات على أن التحولات ستتحقق دون أن تنشأ أزمات عميقة، سرعان ما ذهبت أدراج الرياح، من النواحي الإجتماعية والإقتصادية وعلى صعيد التفاهم بين القوميات، والحالة الأخيرة سارت بأكثر من إتجاه، فالإتجاه الدموي وجد تعبيره الصعب والمؤلم في الإتحاد اليوغسلافي السابق، وبعد تفكك الإتحاد السوفيتي بين أذربيجان وأرمينيا وجورجيا والأزمة المتواصلة في شرق أوكرانيا وغيرها. ولكن الإنفصال في تشيكوسلوفاكيا أخذ مساراً آخر وصف بالمخملي، لأنه حقاً حصل بأعلى درجات التراضي بين تشيكيا وسلوفاكيا، وربما إنتسابهما المبكر الى الإتحاد الأوروبي معاً، لم يعمق الإحساس بالإنفصال بين البلدين اللذين واصلا العلاقات الودية بينهما.

كانت مسيرة التحولات في الواقع صعبة، سواءً تلك التي وصفت بالمرنة، أو التي سارت على طريق ما عُرف بإسلوب العلاج بالصدمة، أو الطريق الثالث الدموي. وبرزت المشاكل الإقتصادية بعد التحولات، وتمثلت بـ: إرتفاع معدلات العجز في الميزانيات العامة، البطالة، عدم القدرة في الحفاظ على النظام التقاعدي لفترة طويلة، وتمويل النظام الصحي، خفض الدعم لأسعار الفحم والغاز والتدفئة وغيرها من الإمتيازات ذات البعد الإجتماعي.

إن إستيعاب كل الدروس المرة يمثل خطوة أولى في طريق إعادة البناء على أسس جديدة وسليمة، ودون أوهام أو آمال غير واقعية. وعلى الرغم من الخسارة الفادحة التي تمثلت بقطع مسيرة ثورة إكتوبر، عادت الحياة من جديد تعيد الإعتبار للنضال العمالي، وتحققت إنعطافة بين الشباب في كل القارات لإعادة القراءة للفكر الماركسي ـ اللينيني، وللبحث عن حلول للأزمات المتفاقمة التي تهدد الحياة نفسها.

قد يُطرح سؤال حول طبيعة "القوى الجديدة" التي أعادت حركة التاريخ الى الوراء في روسيا ومجموعة دول شرق أوروبا من منظور مبادئ الإشتراكية نفسها. لقد بَيَّنَّا فيما سبق دور الأحزاب الشيوعية الحاكمة في تلك التحولات، وتَمثل ذلك الدور في طرح مواقف لم تستعد لها تلك الأحزاب وشعوبها، بما فيهم الطبقة العاملة نفسها، إو إنها لعبت دور العامل المساعد في تقدم "القوى الجديدة" صوب الإستيلاء على كل السلطات، أو إنها وقفت مشلولة أمام حركة الحياة السياسية في بلدانهم، وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، وربما لعبت دوراً مهماً في هذا المجال الوعود بتولي عناصرها الأساسية أو المقربة مواقع ممتازة في عمليات تخصيص ممتلكات الدولة الإنتاجية منها وغير الإنتاجية. ومن خارج الأحزاب الشيوعية لعب المثقفون دوراً رئيسياً في عمليات التحولات، وقد تميزت بولندا بدور بارز للحركة النقابية العمالية.

ومن المعلوم أكثر من أي وقت مضى، أنه مادام هناك إستغلال وفقر تبقى للإشتراكية جدوى حياتية، بعد تخلصها من كل ما لحق بها من تطبقات بعيدة عن روحها ومضمونها الحقيقيين، وكما جاء في برنامج قائد الثورة الروسية الكبرى لينين: "نحن على العكس، مقتنعون تماماً بأنها (نظرية كارل ماركس) قد وضعت فقط الأساس للعلم، الذي يجب على الإشتراكية تطويره في كل الإتجاهات إن هم أرادوا حقاً ألا يتخلفوا عن الحياة".

يتبع: التأثير على الأحزاب الشيوعية غير الحاكمة



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (3)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (2)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (1)
- هل هناك شيوعية بدون الماركسية اللينينية؟
- شخصية الفرد العراقي
- خواطر حول أيام دامية
- تحررت مدينة هيت ولكن متى تدور نواعيرها؟
- عملية سياسية مندحرة ولكنها مستمرة
- موجعة ذكرى الشهداء
- ثورة 14 تموز
- الفقراء يتضامون ... ويتبرعون أيضاً
- 31 آذار يوم مجيد لكل كادحي العراق
- وداعاً أبا نصير؛ المناضل عبد السلام الناصري ...
- ألف مبروك لكل من يهمه الأمر!
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (5)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (4)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (3)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (2)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)
- حملة التضامن مع إبراهيم البهرزي


المزيد.....




- الرئيس الإيراني: -لن يتبقى شيء- من إسرائيل إذا تعرضت بلادنا ...
- الجيش الإسرائيلي: الصواريخ التي أطلقت نحو سديروت وعسقلان كان ...
- مركبة -فوياجر 1- تستأنف الاتصال بالأرض بعد 5 أشهر من -الفوضى ...
- الكشف عن أكبر قضية غسل أموال بمصر بعد القبض على 8 عناصر إجرا ...
- أبوعبيدة يتعهد بمواصلة القتال ضد إسرائيل والجيش الإسرائيلي ي ...
- شاهد: المئات يشاركون في تشييع فلسطيني قتل برصاص إسرائيلي خلا ...
- روسيا تتوعد بتكثيف هجماتها على مستودعات الأسلحة الغربية في أ ...
- بعد زيارة الصين.. بلينكن مجددا في السعودية للتمهيد لصفقة تطب ...
- ضجة واسعة في محافظة قنا المصرية بعد إعلان عن تعليم الرقص للر ...
- العراق.. اللجنة المكلفة بالتحقيق في حادثة انفجار معسكر -كالس ...


المزيد.....

- الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي / أنطونيو جرامشي
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ... / عبد الرحمان النوضة
- بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا / مرتضى العبيدي
- الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / عبد السلام أديب
- سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية / سفيان البالي
- اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية / سامح سعيد عبود
- أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول) / علاء سند بريك هنيدي
- شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز ... / ابراهيم العثماني
- نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال ... / وسام سعادة
- النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب / سنثيا كريشاتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)