أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - خالد صبيح - تلك هي شقائق النعمان إذن!2















المزيد.....

تلك هي شقائق النعمان إذن!2


خالد صبيح

الحوار المتمدن-العدد: 5247 - 2016 / 8 / 7 - 19:26
المحور: سيرة ذاتية
    



عن رحلة اليوم الأول(2)



....أشار الرجل بيده اشارة فهمنا منها أن لاخطر. لم تكن تلك عجلة عسكرية، كانوا مهربين آخرين مع بغالهم وحمولتها. مخاوفي وشحوب الغروب ووحشة المكان صوّرت لي ظلالهم وكأنها عجلة عسكرية.

انطلقنا بعد قليل، كانت الأرض وعرة والطريق مظلمة وملابسنا ليست جبلية، بناطيل وأقمصة، بدأ الجو يبرد، كان الرجلُ الكهلُ يُركِبنا البغلَ بالدور، واحدا بعد الآخر ، كنا نتناوب الركوب كل نصف ساعة، لم يكن يحمل بيده ساعة لكنه لم يخطئ ولا مرة، وكان يقوم بتناوبنا على الركوب بالدقيقة، وأثار اعجابنا أيضا وتعجُبنا أن الطريق ليست بها معالم واضحة، وحين تتداخل المسالك الضيقة والمتناثرة تحت ضوء القمر كان يختار واحدا من بينها مع أنها كلها متشابهة ومتقاربة. ورغم أن ركوب البغل غير مريح ويؤلم الظهر إلا أنه كان أرحم من ارهاق المشي لساعات طويلة صعودا ونزولا. كنا شبابا، هذا صحيح، واحتملنا لهذا السبب مشقة السير في الأرض الجبلية الوعرة، ولكننا لم نكن متمرسين، والمسافة طويلة جدا، ومشاعر القلق التي تعمل خفية في دواخلنا (أنا على الأقل) بالتأكيد قد تركت أثرها على قدرتنا على احتمال ثقل المسيرة.

سرنا طوال الليل، بعد ساعات طويلة مضنية توقفنا للأستراحة. كان الظلام مايزال يخيم على المكان، جمع الرجل بخفة وسرعة حطبا وأشعل نارا توزعنا حولها، هو استطاع النوم، ملابسه وخبرته وطمئنينته جميعها أعانته على النوم بهدوء. لم أستطع النوم، البرد، برد الفجر الجبلي القاسي حرمني ألنوم، النار لاتدفئ سوى جانبي الأمامي إن رقدت باتجاهها، وإن أدرت ظهري لها سيبرد جانبي الآخر. كان النوم مستحيلا، عذاب ومشقة. بعيد عنا بمسافة قصيرة كانت مجموعة أخرى، ربما عشرة اشخاص، يعسكرون حول شعلة نار كبيرة حلوة المنظر ومغوية، وقد رسمت النار بضوئها النحاسي على سحناتهم ملامح كهفية. كانوا كأنهم يتحركون من على شاشة سينما. المشهد كله، بما فيه نحن، كان يبدو لي كأنه قادم من عالم آخر، كان وكأنه يجري على شاشة أمامي، كنت أنظر لنفسي ولا أستطيع استيعاب فكرة خوضي لتلك المغامرة، كانت تجربة نفسية قوية وفيها قدر من اللذة لكني لم أكن أشعر بها أو أكتشفها أثناء ماكنت منغمرا فيها، لاحقا، حين استل تلك الساعات من وهاد الذاكرة، عندها كنت أشعر بعمق لذة تلك المغامرة.

بعد عناء طويل بزغ فجر نقي، ناصع وبهواء مليء بروائح منعشة، نهضنا من نعاس وإرهاق واستانفنا المسير، بدا المشي عسيرا في تلك الساعة،خدر في جسدي الذي هده التعب وقلة النوم، وتصلّب في مفاصلي التي ترجمت قسوة الرحلة الطويلة. بعد مسير لم يتجاوز النصف ساعة، وبعد أن مررنا بحقول غابية واسعة حاذينا فيها وادٍ واسع وعميق من على يسارنا، وجدارا جبليا عن يميننا وإذا نحن، فجأة، أمام فسحة خضراء واسعة يحدها من زاوية الجبل الصغير أمامنا مبنى صغير مدغوم بحافة الجبل. وكان هناك أكثر من شخص يقف أمام المبنى ويتحرك حوله، كان الصباح قد حل بكامل ضيائه، عرفت أننا قد وصلنا، وأن المبنى الصغير هو مقر للأنصار، رحب بنا الواقف عند الباب وأدخلنا الى المبنى الحجري، وكنت أنا أول الداخلين، ولا أدري لماذا أبادر وأتعجل دون تريث. كان المكان قاعة صغيرة معتمة وضيقة وواطئة السقف، جلس في صفين متقابلين فيها مجموعة من الرفاق، حييتهم، وبينما نهضوا هم جميعا مرحبين بي جلست أنا فور دخولي، حماقة أخرى تضاف لسجل حماقاتي الطويل، كانت قدمي تؤلمني من الرحلة، هذا صحيح، لكن ليس للحد الذي يمنعني من مصافحة الرفاق الذين وقفوا جميعا للترحيب بنا، غير أني اتخذتها ذريعة أُداري بها خجلي بعدما دخل ورائي مباشرة رفيقّي وتصافحا بمودة مع الجميع.

أي عار وخجل شعرت بهما في تلك اللحظة؛ الجميع واقفون يتبادلون التحية وأنا الجالس الوحيد بينهم!.

ألم أقل لكم بأني شخص يجهل شؤون المواضعات الأجتماعية.

قال لي أحد الرفاق إذا كانت قدمك تؤلمك لدينا طبيب سيفحصك. ابتسم لي دكتور سلام، طالب طب من أهل بغداد، هونت الأمر أن لاشيء. قدموا لنا فطور الصباح، لم أذكر ماذا كان ولكن على الأغلب، وبحسب الخبرة اللاحقة، كان لبنا رائبا وخبزا.

سَأَلنا رفيق بلهجة لم أحببها. كيف أتيتم. وحينما أجبناه قال ضاحكا:

ـ هم زين مالزموكم الجحوش.

كانت تلك المرة الأول التي اسمع بها بمفردة الجحوش، لم أفهمها حينها ولم أستفهم عنها.

كانت أسنان محدثنا بيضاء لامعة حين ضحك، رغم ذلك فان ضحكته لم ترق لي، عددتها ضحكة بلهاء، هذا النصير سيلحق بنا فيما بعد الى فصيل أربيل وسيُعامل هناك، لأسباب أجهلها، بطريقة خاصة، فيها حذر وتحفظ وشيء من الازدراء الخفي، وسينزوي هو مكتئبا أوقاتا طويلة ليكتب مازعم أنها رواية، قهره الحنين فأخذ يستحضر طفولته في الريف على الورق، عرفت هذا بعدما أطلعني على بضع صفحات من ما كتب، لم ترق له آرائي وملاحظاتي ألنقدية عما كتبه، عدّني صغيرا لايصلح للنقد. بعد مدة سيغرم مهدي، وكان هذا أسمه، بشخصية الخميني وينسحب من حركة الأنصار ليذهب الى إيران وتنقطع أخباره عنا تماما.

كنت متضايقا ومرتبكا، بين الخجل والتعب وأشياء اخرى. جاءنا عبدالرحمن، (سوف يستشهد هذا النصير بعد سنوات قليلة)، بمودة ووجه باسم شف عن طيبة قلب بينة، وسألنا إن كان معنا نقودا لنعطيها للرجل الذي جاء بنا، عرفنا حينها أن الرجل الذي أوصلنا كان مهربا يعمل للحزب وليس رفيقا كما ظنناه وناديناه طوال الطريق بمفردة رفيق. سألنا عن المبلغ المطلوب، قال خمسة عشر دينارا، تحرجت، لم أكن أملك غير عشرة دنانير، تصورت أن علي أن أدفع النقود بأي شكل كان وإلا فستكون هناك مشكلة، بدأت أهمس لماجد أن يسلفني ( دائما كانت هناك نقود كافية عند ماجد، ودائما كان يسد حاجاتي المفاجئة حينما كنا متخفيين في بغداد، فانا لا أجيد التخطيط في المصروفات الذي يجيده هو).

حين أخذنا نخرج نقودنا ونحاول أن نجمعها بادر أحد الرفاق، بعدما لاحظ كما يبدو تحرجنا، بالقول:

ـ رفاق! إذا ماعدكم ترى الحزب يدفع.

كانت تلك هي المرة الاولى التي شعرت فيها بثقل وجود الحزب في حياتي.

دفع ألحزب، أو إداري الفصيل، وأنتهى الامر. ذهب الرجل. قال أحد الرفاق لرفيق وسيم قصير القامة بملابس كردية أنيقة كان مشغولا بقراءة منشورات حزبية:

ـ لقد أخذ نقودا كثيرة هذه المرة.

سأله بعربية فيها لكنّة:

ـ كم؟

أجابه:

ـ 15 دينار عن الواحد.

ـ أووووه، هذا كثير.

وعاد الى أوراقه.

كان هذا النصير هو "محمد خضر"، أحد شباب سرية بشدر وكوادرها المستقبليين. شخص هادئ وجاد، سيكون المسؤول السياسي لأول مفرزة سأنزل فيها بعد شهور قليلة.

بعد مضي بعض الوقت قال لنا أحد الرفاق:

ـ هناك رفاق يريدون أن يرونكم.

كالعادة كنت أنا من بادر بالذهاب أولا، وهذا كان خطأ كما سأعرف بعد ساعة.

كان بانتظاري رفيقان يجلسان عند مرتفع ترابي صغير تحت الشمس الدافئة، أحدهما كان نحيفا أسمر، مبتسما وودودا، سأعرف أنه الرفيق "أبو سربست أو ستار"، والآخر ممتلئ الجسد أبيض البشرة جاد ومتجهم، سأعرف أنه الرفيق الفقيد "أبو علي" "عادل سفر".
( رغم معايشتي له، وشهرته في المقر إلا أني لم أعرف أنه مسيحي إلا قبل فترة قصيرة جدًا)، صافحاني وأجلساني أمامهما وابتدأت سلسلة أسئلة طويلة. لم أكن أفقه أي شيء عن شيء اسمه تحقيق. كان الرفيقان يحققان معي. كانت أسئلة تفصيلية؛ كيف كانت صلتي بالحزب؟ ماهي سيرتي الحزبية؟ كيف ومتى انتميت؟ كيف كنت أتدبر أمري في بغداد في فترة ألإختفاء الخ. لم أكن أدرك حينها أن بعض من أسئلة "أبو علي" كانت للإيقاع بي ولكشف تناقضاتي في الكلام، التي لم تكن موجودة بطبيعة الحال، لأن كل ماقلته هو حقيقي مائة بالمائة. ذكرت لهم من بين ماذكرت أني قد كتبت مرة رسالة إلى الحزب في بغداد أثناء الإختفاء. سألني أبو علي:

ـ بأي اسم وقعتها.

قلت باسمي الحقيقي.

قال، كيف هذا، وماذا اذا وقعت الرسالة بيد العدو؟

وانتظر مني جوابا. صفنت كما كنت أصفن مرتبكا بلا جواب أمام معلمي في الابتدائية حينما كنت أتغيب عن المدرسة ويسألني: لماذا كنت غائبا يوم أمس؟

لم أرتح لأبي علي. بينما كان "أبو سربست" طوال الوقت يكلمني بلطف وابتسامة طيبة لا تفارق محياه، ويحاول أن يخفف من حرجي وتبلبلي. انتهى التحقيق وعدت متضايقا. ذهب بعدي ماجد. انحلت الأمور كلها لأن ماجد كان يحمل ترحيلنا الحزبي ولهذا كان من غير الصحيح أن أذهب أنا الأول للتحقيق. لكني ذهبت وتحملت ثقل الشكوك وفنون التحقيق مع شاب خطير مثلي.

بعد ذلك تركونا وحدنا في القاعة لننام قليلا، نمنا.

صحوت على صوت يحمل نبرة مزاح:


ـ گوم رفيق، عبالك بعدك ابغداد.

كنت أحلم فعلا ببغداد، فتحت عيني كاتما ضيقي لتذكيري ببعدي عن بغداد، كان يضحك في وجهي "رحيم"، وهو شاب بشدري. قال:

ـ بعد قليل سيجهز الغداء.

كان يلفني في تلك اللحظة حنين عذب ومضنى لبغداد، ومع أن بغداد ليست مدينتي، لكني سافقتدها كثيرا، أكثر من مدينتي الأولى البصرة، طوال مدة مكوثي في الجبل.

بعد سنوات سأعرف أن "رحيم"، وهو شاب ذكي واسع الاطلاع ويكتب الشعر، قد انتحر بعد تغييرات 2003. ولم أعرف خلفية قراره المحزن هذا.

خرجت، جلست في الباحة أمام البناية، الأرض خضراء والسماء زرقاء والهواء منعش لكن كل هذا لم يستطع ان يبدد وحشة اليوم الأول في مكان غريب، خرج "عبدالرحمن" من ملحق صغير للمبنى وبيده خبزا كثيرا، سألته من أين تأتون بالخبز، قال ضاحكا:

ـ نشتريه من قلعة دزه.

صدقته طبعا.

وأضاف:

ـ كل يوم تأتينا سيارة بالخبز والغداء.


ثم أردف ضاحكا:

ـ لا رفيق، أتشاقى وياك، نخبزه هنا بالتنور.

بالمناسبة كان "عبدالرحمن" يعمل خبازا في حياته المدنية.

على الغداء، وكنت جائعا جدا، تناولنا رزا ومرقا نحن الثلاثة في صحن مشترك، والجميع توزعوا مثلنا ثلاثة ثلاثة. وسابقى طوال سنواتي القادمة في كردستان أأكل ثلاثة ثلاثة أو " سه سه" كما بالكردية.

في المساء شحب الجو كثيرا وأشاعت الجبال المرتفعة حول المكان في نفسي احساسا مزدوجا متناقضا، هو مزيج من طمئنينة ووحشة، شعرت وكأن هذا النأي عن العالم وسط شواهق الطبيعة وبصحبة مجموعة الرجال المسلحين هؤلاء قد منحني الأمان، لكن بُعد المسافات التي شعرت بثقلها وأكدتها لي الحياض الكثيرة والوديان والتقعرات في الأرض وأسيجة الصخر التي يسّور فيها الجبل مكاننا ،أشعرتني بنوع من القوة والضآلة في آن واحد، يشعر الإنسان، وهذه مفارقة، وسط هيبة الجبال أنه قوي وضئيل في نفس الوقت. الجبل موحش ومخيف لكنه يبعث الثقة بالنفس.

تجمعنا أمام المبنى بعد طعام العشاء الفقير جدا، بطاطا جافة وخبز بارد لم يلطفهما سوى كأس الشاي الذي تلا العشاء، تحدث الرفاق بأحاديث متنوعة، كان "أحمد عرب" حليق الرأس لأن القمل قد تسرب الى رأسه، هكذا شرح لنا الأمر. وقف "سمير" بملامحه الوسيمة وعينيه الملونتين ووجهه الابيض مرتديا قمصلة عسكرية فاتحة اللون، وقال في سياق جملة من حديثه:

ـ بعد الإنتصار....

وأكمل عبارته بشيء ما لا أتذكره الآن، لكني أتذكر بوضوح تلك العبارة وماتركته في نفسي من إحساس بالأهمية وأن هناك شيئا كبيرا ما ينتظرنا، وأن مانقوم به، رغم غموضه وعدم فهمه بشكل واضح بالنسبة لي، فهو كبير وواعد، لكن شيئا ما في أعماقي، سري وغامض، يلازمني منذ الطفولة يشككني في كل واقع أعيشه قد أربك فرحي الخفي بأهمية ما أنا فيه في تلك أللحظة، كنت فقط لا أعتقد أن الاشياء يمكنها ان تتخطى عالم الطفولة الذي لايحتمل نهايات جادة كالانتصار الذي تحدث عنه سمير للتو، لهذا شككت بما قاله. هذه النظرة الطفولية التي كثيرا ما أرى فيها أشياء حياتي ستتحول مع الزمن الى نزعة عدمية تتوج تلك النظرة وتصير امتدادا لها ولا تدعني أرى أشياء الحياة، أو اهنأ بها، كما هي، بل ستلونها دائما بصبغتها العبثية المستحيلة.

سمير سينسحب من حركة الأنصار بعد فترة وجيزة ليعيش في إيران ويموت غرقا في إحدى بحيراتها.

لقد مات شابا مفعما بالآمال والأحلام. لكن لا غرابة في الأمر، فقد كان عقد الثمانينات في العراق كله عقد الموت قتلا لكثير من الشباب الحالمين. ماتوا جميعا موتا مجانيا ووئدت أحلامهم. وأظن أنهم بموتهم العبثي هذا قد مهدوا الطريق للأجيال اللاحقة من الشباب الذين سيعيشون حياتهم بلا أحلام ولا توقعات كي يجعلوها قابلة للعيش.

نمت في آخر تلك الليلة، هذا أكيد، كيف؟ لا أتذكر ولكن أكيد بأحلام ثقيلة. لم يكن يوما عاديا فقد ابتدأت فيه ومنه تحولا جذريا ونوعيا في حياتي.

كان ذلك اليوم الحافل هو السبت 17/5/1980.

في اليوم التالي بعد الفطور بوقت قصير مر ثلاثة رفاق من أمام المقر وهتف أحدهم من مكانه البعيد متحدثا بالكردية بصوت مرتفع مع أحد الواقفين قربي، وواصل مسيره. قال لي الذي قربي:

تهيأوا، سياخذونكم معهم عند عودتهم بعد قليل.

بعد وقت قصير جاء الثلاثة، صافحونا بترحيب ومودة وأخذونا معهم، قالوا لنا أننا سنلتحق في فصيل آخر. سرنا معا، هم ثلاثة ونحن ثلاثة، أحدهم كان الشهيد سالم ( عبدالصمد...)، الذي كان آمرا لفصيل اربيل بالنيابة لغياب الفقيد "كانبي گه وره" (الكبير) آمر الفصيل في مفرزة قتالية. وقدم لنا رجلا نحيلا مديد القامة بلباس كردي أنيق لايحمل سلاحا قائلا:

ـ الرفيق أحمد دلزار، شاعر ومثقف معروف.

تعرفت على الأسم فورا. كان "أحمد دلزار" يضع على رأسه غطاء راس كردي (جمداني) مضموما بالطريقة الهوليرية (الأربيلية)، حيث طرف الكوفية ينسرح بانسيابية على جانب وجهه الذي ارتسمت على محياه طوال الوقت ابتسامة طيبة عذبة.

( سيكون الزي الأربيلي لباسي الكردي المفضل دائما وأبدا).

كنت قد قرأت لدلزار أشعارا مترجمة في مجلة الدكتور صلاح خالص (الثقافة) أو في الثقافة ألجديدة، لا أتذكر بالضبط. فرحت للقائه، كان الشخص الثالث هو "ملا جلال"، إداري فصيل كركوك أو شوان. توزعنا على مرافقينا بتلقائية بحسب الأهواء والميول، سار "ماجد" مع الشهيد "سالم" يسأله عن المكان والأحزاب وغيرها، فيما رحت أنا اصغي بفرح لحديث "دلزار" عن الطبيعة وجمال المكان وأسماء الأوراد، قال لي حينما مررنا بحقل عريض مليء بأوراد حمراء جميلة الشكل والتنسيق:

ـ هذه شقائق النعمان واسمها بالكردي (گولاله سوره).

كنت قد سمعت وقرأت عن شقائق النعمان، لكن على أوراق الكتب فقط، لم أكن قد رأيتها على الطبيعة، حتى أني كنت أجهل شكلها. فرحت لجمال المنظر ولمعرفتي الجديدة، ورددت مع نفسي:

(تلك هي شقائق النعمان إذن!)

(ما أجملها وما أجمل المكان الذي يثمرها)

سرنا في طريق ضيقة تحفها الأزهار والحشائش، من على يميننا كان يحجبنا عن "قلعة دزة"، مكان السلطة، جبل مامند الشاهق. وكان ما أراه في تلك اللحظة جبلا حقيقيا وليس صورة من خيال أو في كتاب جغرافيا. بعد مسافة استأذن "ملا جلال" ونزل هابطا باتجاه فصيله في الوادي على يسارنا، فيما واصلنا نحن مسيرنا، وبعد مسافة أخرى افترقنا مع "أحمد دلزار".

كان الربيع في اوجّه، الشمس مشرقة ودافئة، وحولنا طبيعة صافية جذابة وكل شيء يرفل باللمعان، وحيوية الشباب تصبغ كل شيء بالجاذبية والانسجام. انحدرنا باتجاه وادى ضيق نحو اليسار بانت من حافاته أبنية حجرية ملتصقة بالسفح. كان ذلك فصيل أربيل الذي سيكون فصيلي للفترة القادمة. ومن هناك ستبتدئ رحلة طويلة مليئة بصنوف كثيرة ومثيرة: معاناة، فرح، برد، جوع، خوف، غضب، وحشة، حزن، قلق، قهر، وقبل كل شيء كانت مليئة بالتعلم. هناك تعلمت عن نفسي وعن الإنسان مالم اتعلمه في أي مكان آخر.

كانت تلك هي رحلة العمر الفريدة التي عرفت فيها نفسي وشؤون الحياة الاخرى الكثيرة ورأيت صنوفا من الناس كما تعرفت على اشياء كثيرة جديدة وحقيقية وأولها بالطبع كانت:

شقائق النعمان.

***


هامش

ماجد: هو فيما بعد ملازم ماجد وبعدها أبو يوسف، رفيق رحلتي وصديق مرحلة التفتح والخروج الى العالم، في سني الشباب الأول، من أفق الطفولة الواسع الى عالم الرجولة الضيق.

باسم هو الشهيد "صادق عبدالزهرة"، من أهالي البصرة، قُتِلَ بالخطأ (اطلاقة طائشة أثناء مزاح) على يد أحد الرفاق الأنصار من أقرب أصدقائه وأصدقائي. وهو ايضا الشقيق الأكبر للشهيد "أبو كويظم" الذي استشهد في معركة يشتاشان الثانية ضمن قوات بهدينان التي جاءت للمشاركة في المعركة. ربطتني بالشهيد باسم علاقة طيبة طوال فترة وجودنا المشترك في فصيل أربيل، وافتقدته وحزنت كثيرا عند استشهاده.



#خالد_صبيح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تلك هي شقائق النعمان إذن!
- نظرة إحادية
- مشروع مؤجل
- محنة العجز
- محنة عراقية
- (المناضل) عزيز السيد جاسم
- أول آيار، بعيد، حزين ومنسي
- الحشد الشعبي: الدور والمهمة
- وداعا ايها الورق وداعا
- تركة ثقيلة
- عقدة المظلومية
- في فضائل الانتحار/ كلام في السياسة
- حرب التقسيم
- ألأمهات مستودع الحكمة
- تكفيريو اليسار
- بوابات الماضي
- هوى التقسيم
- بارزان 1984
- البعث (العديوي)
- من يقرر صواب المواقف؟


المزيد.....




- -انتهاك صارخ للعمل الإنساني-.. تشييع 7 مُسعفين لبنانيين قضوا ...
- لماذا كان تسوس الأسنان -نادرا- بين البشر قبل آلاف السنوات؟
- ملك بريطانيا يغيب عن قداس خميس العهد، ويدعو لمد -يد الصداقة- ...
- أجريت لمدة 85 عاما - دراسة لهارفارد تكشف أهم أسباب الحياة ال ...
- سائحة إنجليزية تعود إلى مصر تقديرا لسائق حنطور أثار إعجابها ...
- مصر.. 5 حرائق ضخمة في مارس فهل ثمة رابط بينها؟.. جدل في مو ...
- مليار وجبة تُهدر يوميا في أنحاء العالم فأي الدول تكافح هذه ا ...
- علاء مبارك يهاجم كوشنر:- فاكر مصر أرض أبوه-
- إصابات في اقتحام قوات الاحتلال بلدات بالضفة الغربية
- مصافي عدن.. تعطيل متعمد لصالح مافيا المشتقات النفطية


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - خالد صبيح - تلك هي شقائق النعمان إذن!2