أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد السخيري - *الفكر الوحيد اللابس شكل الخطاب الحداثوي















المزيد.....


*الفكر الوحيد اللابس شكل الخطاب الحداثوي


عبد المجيد السخيري

الحوار المتمدن-العدد: 4253 - 2013 / 10 / 22 - 01:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يميز سمير أمين،(في نقد أجواء العصر)(1)، الفكر الوحيد الذي يسود المرحلة الراهنة من تطور الرأسمالية كتيار من الفكر البرجوازي استطاع أن يتكيف مع مقتضيات المرحلة تكيفا فعالا ، بحيث صار الفكر الوحيد السائد عالميا؛ تماما كما كانت الصورة من بدايات القرن التاسع عشر إلى غاية الحرب العالمية الأولى من القرن الماضي . وقد أثبت هذا الفكر فاعليته وقدرته الخاصة على التطور والتكيف مع ظروف التوسع الرأسمالي ، وذلك بقدر ما نجح في توليد أشكال خاصة بكل مرحلة من مراحل التطور العام للنظام الرأسمالي . فهو مثلا، تلبّس شكل خطاب طوباوي متعال عن الواقع الرأسمالي الفعلي في فترات الازدهار، فراح يطلق العنان لخياله الجامح بشأن السير التلقائي للسوق الخالص وتبني العدة المفاهيمية للفوضوية اليمينية، وأساسا تصورها للحرية الفردية المنعقد على شكل متطرف من عبادة السوق، في حين أنه اضطر تحت طائل الأزمة والصراع إلى التخلي عن خطاب الليبرالية الطوباوية وتوسل مخارج آمنة من أزمته المستفحلة في أشكال متنوعة من التكيُّف الاديولوجي( الكينزية- الفاشية- الليبرالية القومية…)أو باللجوء إلى أنواع من التغدية الثقافوية المفبركة حينا، والمشتقة من التراث المحافظ حينا آخرا، وكذلك باستخدام الاحتياط الاديولوجي الخاص بثقافات القاع والهامش، بإعادة تأويلها في أشكال مستجدة واستهلاكية من مثل الأفكار المحلية الممجدة للعصر الليبرالي الأمريكي والخصوصيات الذاتية والاثنية والدينية وغيرها.
وككل فكر وحيد آخر،يجد الفكر الوحيد السائد اليوم مرجعيته في نظم الحكم القائمة ، متخذا شكل " ليبرالية جديدة معولمة" في مراكز النظام الرأسمالي ، وأشكال متنوعة ومميزة منها في أطرافه وملحقاته التابعة. ولئن كانت الأشكال التي يلبسها الفكر الوحيد في عصر الرأسمالية المعولمة الجديد تتعدد بحسب مستوى التطور الخاص بكل بلد ودرجة اندماجه في منظومة التطور العام للرأسمالية القائمة فعليا، علاوة إلى تنوع الموارد الثقافية المحلية التي يجري تنشيطها أو التلاعب بها، فإن ثمة نواة صلبة من المفاهيم والمقولات والمناهج تصب جميعها في تمجيدالاديولوجيا الاقتصادوية المزهوة بانتصارها وثقتها المفرطة في نشاط السوق الخالص، المعبود المطلق لليبرالية الجديدة المظفرة والمتوجة لنهاية تاريخ مزعومة؛ وهي الاديولوجيا التي ترتد إليها كل أشكال الفكر الوحيد المتلونة بالتربة المحلية، ولا تبرحها إلا تحت ضغط التحولات الاجتماعية ونضالات الطبقات الشعبية والشعوب المضطهدة حسب السياق، بصرف النظر إن حصل ذلك بالمناورة أو التخلي المؤقت عن بعض المعتقدات الخالصة الراسخة.
يصادر الفكر الوحيد للرأسمالية المعولمة ، في شكله الليبرالي الجديد،على وجود ما تصوره نظرية الاقتصاد المجرد المزعومة، بنظام اجتماعي تتحكم فيه قوانين اقتصادية صرفة موطنها السوق ، من شأن تركها تعمل بحرية ومن تلقاء نفسها أن يقود إلى التوازن العام الأفضل. وبذلك يقدم هذا الفكر الرأسمالية كنظام رديف للعقلانية المكتملة، جاعلا من النموذج الليبرالي ، الذي يطابق بين الديمقراطية والسوق، الخيار الوحيد أمام الشعوب للنجاة، فإما تمتثل لفروضه وتسلم بقدره أو تجد نفسها خارج التاريخ؟
لقد أفلح هدا الفكربفضل جهود خارقة من الترويج ، وعبر التجنيد الذكي للآلة الجهمنية لوسائل الاعلام الطيعة، في تهيئة أجواء عامة يسرت تقبل "مسلماته" وفرض مفاهيمه ولغته ورؤيته للعالم والحياة، تارة تحت عباءة الموضوعية العلمية، وتارة أخرى بتصوير فلسفته على أنها تحمل الخيارات الأقل ضررا وشرا، حتى أن الفئات الأكثر تضررا من الاستغلال الرأسمالي انخدعت بها ووقعت في شركها.
وقد كان للزواج المعلن بين اديولوجيا الليبرالية الجديدة ،المتأمركة منها على الخصوص، والتيار الرئيسي لما بعد الحداثة، والذي يتقاسم معها الإيمان الأعمى بسيادة السوق، دوركبير في تقوية حظوظ الفكر الوحيد اللابس شكل النزعة الحداثوية الجديدة في الهيمنة ؛ وهي النزعة التي دأبت على تبجيل السوق والدعوة للإذعان لقوانينه، وتشكل اليوم الخلفية الفلسفية المخادعة لهجوم الفوضوية اليمينية المعادية للدولة مبدئيا، والمغدية لأوهام المجتمع القائم على الوفاق العام والتعايش مع السوق المتحكمة في وجوده. وإذا كان صحيحا أن المناخ الدي انتعشت فيه التيارات الأولى لما بعد الحداثة قد فتح مجالات جديدة للبحث لم تبلغها تلك الخطابات الكلية، التي تحملها كل الأخطاء والفظاعات المرتكبة في الماضي ، وأوجد مناهج جديدة حققت تقدما ايجابيا على مستوى ارتياد مناطق مغمورة من البحث الاجتماعي والفلسفي ، فإن ما يعاب عليها هو فشلها في توليد نظريات متماسكة قادرة على تجسير فروع المعرفة والبحث، بسبب خوفها المرضي من الوقوع فيما تراه شرور الخطاب"الكلي". ولذلك ظلت معظم أعمالها خجولة ومترددة أمام نقد مقولات ومفاهيم الاقتصاد السياسي المهيمن، وعاجزة عن مواجهة السلط والقوى المتحكمة فعليا بالمجتمع الرأسمالي ، وفي أحسن الأحوال اكتفت بالدعوة إلى التكيف مع مقتضيات الاقتصاد السياسي الليبرالي والبحث عن أفق إنساني فيما هو قائم.
ونتيجة حالة التشوش الفكري التي أشاعتها هذه الفلسفة، ستجد الاديولوجيا الاقتصادوية من جديد طريقها إلى استعادة موقع السيطرة في متن الفكر الوحيد السائد، وفي شكل متطرف عمد إلى إشاعة الخلط بين الديمقراطية والسوق، بذلك المعنى الذي يجعل من الاختيارات السياسية مجرد صدى للاختيارات الاقتصادية التي يحددها السوق، والمتوافقة مع مصالح الرأسماليين. فالديمقراطية ستصبح حقا مقصورا على الذين يملكون، وبالتالي خاضعة "منطقيا" للسوق في شكل " تداول للسلطة"، ليس بالتأكيد للتصويت الانتخابي فيه أي تأثير على السياسات، ولا لتناوب الأشخاص على المواقع الحكومية( وليس بالطبع السلطة)أي تأثير حقيقي على مستوى جوهر السياسات الخاصة بالسوق.
ثمة قاموس موحد يسعى(ويفعل) الفكر الوحيد إلى فرضه على الجميع، من رجل الشارع إلى العالم، يضم بين دفتيه مصطلحات وشبكة مفاهيمية مترابطة( التنافسية- المرونة – النجاعة-الحكامة الرشيدة.. ) يراد لها أن تكون في متناول أي كان عند الحديث عن الأوضاع التي تفرزها السيرورات الاقتصادية الرأسمالية الزاحفة، وتتولى فيه الليبرالية الجديدة دور العراب في صورة جهاز أخذ شكل أممية جديدة هي "أممية الفكر الوحيد" كما أحسن وصفها إغناسيو رامونيه.
إن الخطاب الاديولوجي للفكر الوحيد(الليبرالية الجديدة) ليس خطابا كباقي الخطابات الأخرى. إنه- يؤكد بيير بورديو-خطاب قوي، وذلك ليس بالمعنى الذي يجعله يتقدم كمنظور لا بديل له فحسب، بل وبالأساس لأن ثمة مجهود كبير من الغرس والترسيخ الرمزيين يساهم فيهما بفعالية وتواطئ أيضا، حشد من وسائل الاعلام ومجمعات البحوث المدعومة من قبل الشركات ، وبشكل خاص عدد مهم من المثقفين المرتشين. وهؤلاء غالبا ما يعمدون، حسب بورديو دائما،إلى إلباس هذا الخطاب شكل رؤية بديهية يكون بموجبها النموذج الليبرالي الجديد مفتاح المعجزات الاقتصادية، والقدر الذي لا يمكن تحاشيه(2). ولعل هذا المجهود المتواصل لا يخفي حقيقة أن ما تحقق في سيرورة الرأسمالية الجامحة حتى الآن يكرس العودة إلى نوع من الرأسمالية الراديكالية المندفعة إلى أقصى فعاليتها الاقتصادية، والتي لا تعترف لا بحدود ولا بفرامل ولا قانون غير الربح الأقصى.
وأن الشكل الحداثوي المتطرف والمتنأنق معا الذي يلبسه الفكر الوحيد لا يمنع بالمقابل من العودة إلى التراث المحافظ لإحياء الأفكار البالية للرأسمالية الغابرة والمتوحشة، بعد أن تحرر من رهاب المقاومة اللذوذة والاعتراض النقدي، وصار يمارس بأريحية اليوم امبراليته الرمزية دون قناع. وبالاضافة إلى ما سبق، فإن قوة الخطاب الاديولوجي لهذا الفكر،كما أوضح ببراعة ذلك بورديو- تكمن في كونه يستفيد من دعم "عالم موازين القوى"بما يجعله قويا، خصوصا بتوجيه الاختيارات الاقتصادية لأولئك الذين يسيطرون على العلاقات الانتاجية، مع إضافة قوته الرمزية الخاصة إلى موازين القوى تلك، والكامنة بالتحديد في تصويره العالم الاقتصادي كنظام خالص ومكتمل،أي كيوتوبيا، وبقدرته الخارقة على تحويل اليوتوبيا إلى برنامج سياسي يرقى إلى مستوى الوصف العلمي للواقعي؟. وهذا التحول طبعا لا يكتمل إلا من خلال العمل التخريبي الممنهج الذي يستهدف إزاحة كل الهياكل الجماعية( الدولة- الأمة – النقابات- قوانين الشغل..) القادرة على إعاقة اشتغال منطق السوق الخالص المزعوم، وإزالة كل الاحوجز الادارية والسياسية التي تضايق نشاط وحركة الرأسمال الدولية في البحث عن تعظيم الأرباح ونشر الرسالة الكونية الجديدة( تسليع العالم) وترويج القيم التجارية بديلا لكل القيم المتعالية، ومعهم الفلسفة الأخلاقية الجديدة،الداروينية النزعة، ونظيرتها الكلبية( الكل ضد الكل).(3)
وبعد، ما الشكل الخاص الذي يتخذه الفكر الوحيد السائد في الوقت الحاضر بالمغرب، كما يتجلى عبرالقنوات الاعلامية الرسمية والأجهزة الثقافية والأكاديمية والخطاب الاديولوجي المهيمن داخل ما يسمى بالمجتمع المدني والأحزاب السياسية ...الخ؟
لن نخطئ ربما إذا قلنا إنه الشكل الحداثوي الذي يفصح عنه الاستهلاك المبتذل لشعار "المجتمع الحداثي الديمقراطي" من قبل جوقة واسعة من الأفراد والهيئات المتحلقة حول "قيادة أركان" ما سمي بالعهد الجديد، والتي لا تمل من إعلان ولائها الشكلاني للحداثة على صفحات الجرائد أو من خلال البيانات الحزبية المدبجة على عجل لأحزاب مترهلة، أو حتى من خلال محاولات تأصيل فلسفي متحايل يلبس السياسة الأتو- ثيوقراطية زي الحداثة المكذوب عليها في وقاحة يعز لها نظيرا، كتأويل الفصل التاسع عشر من الدستور المغربي ، الذي يكرس السلطات المطلقة في يد الملك، حداثيا من قبل تيارات من الفكر والسياسة تزعم الانتماء للمرجعية الحداثية الكونية وتقتسم العداء للأصولية الدينية، دون الشعور بالحرج من التضحية بأهم أركان المشروع الحداثي: فصل السلطات،العلمانية والعقلانية السياسية(4). والحال أن هكذا تأويل انتهازي يفرغ الحداثة من رهاناتها الاستراتيجية ليكتفي بالمظاهر الشكلية الذي يذهب بالحداثة إلى ما يرادف المجتمع الاستهلاكي، وهو بذلك يسير في ركاب وخطى التخبط الذي يعيشه الفكر البرجوازي العالمي اللابس شكل الخطاب ما بعد الحداثي، في هذا العصر الليبرالي الجديد، بانصياع أعمى لدعواته للتكيف مع واقع الرأسمالية الجذرية المعولمة، والتي حولت"الحداثة" إلى مجرد عقلانية تقنوية للبحث الفردي عن الربح، ورديف "لقدرية"السوق، مفرغة إياها من روحها الانسانوي والثوري. ولعل قراءة سريعة للمرافعات الحماسية – المطبوعة دوما بالاستعجال لحاجات الصراع اليومي- التي أنتجها هذا النوع من الفكر في المغرب المعاصر، تبين أن التأويل الذي يعتمده للحداثة لا تنقصه الحيلة لتكييف المفهوم مع مزاعم الخصوصية ومفرداتها المثيلة في فلسفة ما بعد الحداثة، مع قلب انتهازي لغاياتها ورهاناتها. فهكذا يمكننا أن نشهد على مفارقة عجيبة يسكن إليها في طمأنينة عقل يحترف التلاعب: فالشكل الحداثوي للفكر الوحيد السائد يراوح عند تنزيل مشروع الحداثة في الواقع المغربي بين آلية دفاعية تعزف على وتر"الخصوصية الحضارية والثقافية" ، ذات النبرة المحافظة التي يشهرها كورقة حمراء في وجه منتقدي النظام السياسي من راديكاليي اليسار من جهة، وآلية هجومية تضرب على حتمية الانخراط في تيار العصر وتبني قيم الحداثة السياسية والفلسفية، عندما يتعلق الأمر بمواجهة انكفاء القوى الأصولية المحافظة إلى ذات منطق الخصوصية ومقولاته. لا بل إن هذا الفكر يعيد استخدام مقولة الخصوصية بلا حرج ليجعل منها سلاحا ذو حدين: فهي من جهة ترتدي عنده شكلا محافظا وحتى رجعيا صريحا في حقل السياسة للرد على مطالب راديكالية لإصلاح النظام السياسي ،سواء جاءت هذه المطالب من قوى يسارية أو أصولية دينية أو حتى ليبرالية أصيلة، ومن جهة ثانية تأخذ شكل هروب مؤقت إلى سرديات ما بعد الحداثة من خلال إعادة تشغيل بعض المقولات الذائعة في النقد مابعد الحداثي لما يعرف بالمشاريع الكليانية من قبيل الخصوصية الذاتية، النزعة الثقافية، الأفكار المحلية...الخ.
ومع أن هذا الفكر ،الذي هو في الواقع خلطة غريبة من الأفكار المحلية الشديدة الانغلاق والشعارات السياسية المستهلكة وبعض مقولات الاديولوجيا الليبرالية الجديدة- وبالتالي ليس له من الفكر سوى الاسم- لا يبدو أنه يتجاهل تذكيرنا بمعاداته للنزعات الشمولية عند مهاجمة أطروحات خصومه داخل اليسار واليمين الديني ، فإنه سرعان ما يكشف عن نزعته الواحدية عندما يصر على اعتبار المشروع الحداثي الديمقراطي في نسخته المخزنية البديل الأوحد في الساحة(5)، منصرفا لتمجيد قشور الحداثة وإفرازات المجتمع الاستهلاكي وقيمه التجارية، بدلا من تجذير النقد السياسي الجدي للبنيات التقليدية على مستوى السلطة والمجتمع معا ، والتي تزداد ترسخا اليوم نكاية بحداثة مبتورة وتجارية مشيدة على الخواء، ومحروسة من قبل نظام سياسي وثقافي يزداد عزلة وانكماشا بالرغم من كل مظاهر الاحتفاء التي تغزو الشارع بانتصار"الحداثة"المدعى عليها(6).
ولا شك أن حداثوية الفكر الوحيد هنا تتقاطع مع الاتجاه العام للفكر الوحيد السائد في المركز الرأسمالي المهيمن عالميا، وتتغذى من مناخ وأجواء عصر النيوليبرالية التي ينتصر لها ويقدمها كأفق وحيد وبديل أوحد لما كان ولما سيكون. لكنها مع ذلك تظل حداثوية بائسة بالرغم من كل الشعارات التي تتزين بها( مجتمع التضامن- التوافق...) والولع الزائد بالمفردات الجديدة لإديولوجيا العولمة الليبرالية( الحكامة الجيدة، النجاعة، الفعالية..).
ألا إن قسطا من بؤس حداثوية الفكر الوحيد ببلدنا يرجع إلى العجز الواضح على بلورة إجابات صحيحة وتقدمية في مواجهة التحديات التي يطرحها القطب المحافظ الرجعي داخل الدولة والمجتمع، دون الانزلاق إلى مواقع متاهات النزعة اليمينية الفوضوية المتيمة بحب السوق الحرة والمعادية لما أسماه ب. بورديو بحضارة الخدمات العامة,هذا فيما يظل القسم الأساسي من بؤس هذا الفكر صورة محلية لبؤس "فكر" وحيد عالمي يكابر على إخفاء ممارساته المخادعة ونهجه التضليلي بمزيد من المقامرة بمصير البشرية، من خلال تنظير متحايل لرأسمالية شرسة تعري جرائمها، الاقتصادية والايكولوجية والثقافية يوما بعد يوم، أسطورة الحرية التي يقيم لها هذا الفكر القداس في وسائل الإعلام المملوكة للشركات العابرة للقارات والثقافات والأذواق والأديان وما شئت من الحواجز...؟


هوامش:
- الخطوط العريضة لهذا النص هي في الأصل من مداخلة قدمناها في ندوة محلية حول" العولمة"*
تحت عنوان "الخطاب الاديولوجي للعولمة"،بتاريخ 09-11-2003، تنظيم الاتحاد المغربي للشغل-المركز الثقافي- الحسيمة.
1/ Samir Amin: Critique de L’air du temps .Le cent cinquantième anniversaire du manifeste communiste. Forum du Tiers monde.L’Harmattan, Paris, Mai 2000.
2/ Pierre Bourdieu: Contre-Feux, Liber-Raisons d’agir, 1998.
3- عبد المجيد السخيري: الدرس السياسي للفلسفة. مجلة نوافذ، العدد19، ماي 2003. ص-ص: 25-42. وأنظر الدراسة نفسها بمجلة فكر ونقد، العدد 39، ماي 2001. ص-ص: 49-58.
4- وبقدر ما يحرص" حراس" النظام على ادعاء إشاعة القيم الحديثة في مجالات بعيدة عن الحكم، بقدر ما لا يتساهلون في المقابل مع أي إضعاف لحضور القيم والعلاقات التقليدية في المؤسسات السياسية. وهم يفعلون كل ما في وسعهم على جعل الأمر يبدو من صميم العبقرية المغربية والخصوصية الحضارية لبلد متوسطي عريق ومنفتح ومضياف( عندما طبعا ينبغي أن يقال تابع بصراحة)، دون الشعور بالحرج من التناقض بين الدعوة إلى اعتماد الحداثة في مجالات التسيير والإدارة وإشاعة استعمال التقنية الحديثة في نطاق الحياة العامة والشخصية وقيم الرأسمالية واقتصاد السوق، مع ما يرافقها من شيوع لمنطق التسليع والقيم التبادلية والنزعات الأداتية والتشييئية ،وبين التشبت بمعايير موغلة في التقليد الرجعي وطقوس عريقة وقوالب قروسطوية فيما يرجع لأسلوب الحكم ونمط العلاقات السياسية والطقوسية المرتبطة به.
5- ما يميز الحالة المغربية في هذا الباب هو أن هناك سباق محموم بين قوى سياسية عديدة من اليمين المحافظ والإداري واليسار الاصلاحي والليبرالي لنيل رضى النظام والاستماتة في الدفاع عنه بتعصب لا نظيرله، يفوق أحيانا حتى المستوى المعهود لرموزه المعروفة والمقربة من دوائر القرار ،ليس فقط كنظام حكم مطلق بل وعتيق وتقليداني ، ومع ذلك لا يكفون عن مديح الحداثة أينما حلوا وارتحلوا.
6- بين تجليات حداثة شكلانية( مهرجانات صاخبة بألوان من الفنون الحديثة،وانفتاح على تيارات الفكر والفن المعاصرين،وانتشار متزايد لقيم الاستهلاك والموضة وأنماط السلوك الجسدي المتحرر)، وتوجه مضاد يتجلى في انتشار النزعات المحافظة والأصولية في اللباس والتصرف والعلاقات اليومية، يقف المغرب في دوامة المفارقات. فهناك من يرى في هذه المفارقات الدليل الواضح على تردد الدولة والنخب النافذة في حسم اختياراتها القيمية وبالتالي السياسية، فيما يرى آخرون أن الأمر لا يعدو تجليا طبيعيا لمرحلة الانتقال التي يعيشها المغرب، حيث الجديد يتحضر للولادة العسيرة في مخاض قد يطول ويتهيأ للترسخ، والقديم يقاوم ويتكرس في مناطق وزوايا لاتزال بمنأى عن التغيير.على أن المفارقات لا تنحصر في مستوى القيم والسلوكات الفردية بل تتجلى كذلك في سريان المفارقة بين تحديث المؤسسات وعقلنةأدائها وتدبيرها، في مقابل تقوقع العلاقات في المرجعيات التقليدية والمحافظة. كما تظهر في تبني تشريعات حديثة في التنظيم الأسري وحقوق الانسان والقوانين العامة، لكن في مقابل ذلك يحرص النظام السياسي على تشغيل منظومة تقليدية من القيم والعلاقات السياسية القائمة على "العار والقسم والذبيحة"(ادريس بنسعيد،أاخبار اليوم،ع.78،30-31 ماي 2009)،لتثبيت مشروعيته،متجاهلا "المظهر الحداثي" الذي يحرص على ارتدائه في المناسبات الخاصة، لأنه يدرك الفعالية الرمزية للقيم التقليدية والطقوس المرعية للحكم وقوتها في تأبيد النظام وحراسة أركانه... المفارقة نفسها نلفيها في المجال الاقتصادي بين تبني اقتصاد السوق وحرية المبادرة الليبرالية،وبين واقع لا يمنع ولا يحد من هيمنة وقوة نظام الامتيازات واقتصاد الريع،القائمين علىإرشاء النخب السياسية والمالية لاستمالتها وكسب ولائها.

*نشرت المقالة بمجلة "وجهة نظر"(فصلية مغربية)،العدد 48 ربيع 2011،السنة الرابعة عشرة،الرباط -(يرجى الإحالة على المصدر الأصلي).



#عبد_المجيد_السخيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب الجارية… و الحرب القادمة التحولات الاقتصادية و الجيو- ...
- العلم والاتيقا: رهانات السوق
- الدرس السياسي للفلسفة كاستورياديس نموذجا.
- في الخلفية السياسية للفلسفة :نقدالنزعة الإنسانية عند لوي ألت ...
- التخلص من الاتحاد الاشتراكي
- الثورة المغدورة: انحطاط اليمين وبؤس البديل
- مهرجان موازين: هل انتصر القصر على الشارع؟
- -موازين-: مهرجان السلطة وإيقاعات المعارضة
- مهدي عامل: الفكر في موقع سياسي مكشوف


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد السخيري - *الفكر الوحيد اللابس شكل الخطاب الحداثوي