أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - هشام غصيب - أفول الكون البلوري















المزيد.....

أفول الكون البلوري


هشام غصيب

الحوار المتمدن-العدد: 3378 - 2011 / 5 / 27 - 08:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كرة محدودة مركبة من عدد محدود من الكرات البلورية الناصعة، الصافية، الشفيفة، الخالدة، التي لا يطالها التغيير ولا الموت ولا الفناء. كرة محدودة كاملة وتامة تتلألأ ببهائها الإلهي وجمالها المطلق. وتحوي في باطنها قلباً مادياً هابطاً يسوده الفساد والتغيير والموت واللاكمال.
إن هذه الصورة ليست مجرد لوحة أو قصيدة أو حلم أو كابوس. إنها صورة الكون المعتمدة، والتي ظلت سائدة وطاغية لمدة ألفي عام في عدة حضارات قديمة. إنها صورة أفلاطونية أرسطية للكون اعتمدت على أنها معرفة علمية يقينية منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن السابع عشر الميلادي. نجدها تتبلّر بتفصيلاتها المركبة في أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد. ونجدها تتكرر في أساطين العلم القديم قرنا إثر قرن من دون تغيير يذكر عليها: في بطلميوس، وفرفوربوس، والإسكندر الأفروديسي، ثم في الكندي وإخوان الصفا والحسن بن الهيثم والفارابي وابن سينا والبيروني وابن باجه وابن رشد والبطروجي والعرضي والطوسي والشيرازي وابن الشاطر،وأيضا في توما الأكويني وبويرباخ. ما الخطب؟ ألفا عام من التفكير في الأرض والسماء على أساس يقينية هذه الصورة الشاعرية الجميلة جداً، لكن الخيالية جداً. ألفا عام كاملة لم تجد من يتحدى هذه الصورة بالجدية اللازمة فبقيت نبراساً يقينياً يرشد عمالقة العلم القديم في بحثهم عن المعرفة الكونية. أليس الأمر غريباً، أن تصمد هذه الصورة الخيالية الأخاذة لمدة ألفي عام، لا في ثنايا جحيم دانتي فقط ، وإنما في أمهات الكتب العلمية والفلسفية؟
إنه حقا لأمر غريب يستدعي أن نسخره مفتاحاً لفهم طبيعة الحضارات القديمة.
وأساس هذه الصورة أن الكون في جوهره هو مجموعة من الكرات البلورية الخالدة وغير المتغيرة تغلف الأرض ومحيطها وتدور حول الأرض حركة دائرية منتظمة دائمة وأبدية، حاملة معها الشمس والقمر والكواكب الخمسة (عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل). ومعنى ذلك كله أن السماوات (الكرات البلورية، الأفلاك الكروية) صلبة لا تخترق، وأنها لا تتغير البتة، ولا يطالها التغيير عبر الزمن البتة.
لقد اعتبرت هذه الأفكار الخيالية حقائق لا يرقى إليها شك لمدة ألفي عام تقريباً. بل حتى كوبرنيكوس تمسك بها برغم ما أوحى به أنموذجه من أفكار مضادة. ولكن، كيف ومتى أطيح بهذه المعتقدات الغريبة؟ صحيح أن أنموذج كوبرنيكوس أثار الشكوك حولها. فلئن كانت الأرض كوكبا مثل غيرها من الكواكب، فكيف نميز بين الأرض والسماوات؟ وأين الكرات البلورية التي تقع عليها الأرض وتستمد حركاتها منها؟ ولماذا يطال التغيير الأرض، التي تنتمي أيضا إلى السماء، ولا يطال غيرها من الأجرام السماوية؟ لكن نظرية كوبرنيكوس ظلت مهمشة ردحاً من الزمن، ولم تؤخذ على محمل الجد بوصفها نظرية كونية فيزيائية من جانب الغالبية الساحقة من المثقفين إلا لاحقاً.
والحق أن التحدي الحقيقي لهذه الأفكار الخيالية جاء لا من التنظير المجرد، وإنما من الرصد الدقيق، وبالتحديد من راصدين أوروبيين كبيرين: الدنماركي تايكو براهه (1546-1601) والإيطالي غاليليو غاليلي (1564-1642).
ومع أن تايكو اعتمد على الرصد المباشر بالعين المجردة، شأن الأقدمين من بابليين وإغريق وعرب وفرس وترك، إلا أنه استطاع أن يحرز دقة في الرصد(بالعين المجردة) غير مسبوقة في التاريخ. كما إنه حول الرصد الفلكي إلى مهنة دائمة وحرفة دائمة، فاستطاع أن يرصد بعض الظاهرات الفلكية على أساس يومي. لذلك، فقد شكلت رصداته لاحقاً قاعدة لعلم فلك جديد(كبلر) وثورة عارمة في علم الفلك.
وفي عام 1574، لاحظ تايكو ظهور نجم لامع جداً وجديد في السماء. وقد سبق أن رصد فلكيون إغريق وعرب وصينيون مثل هذه الظاهرة. لكنهم أولوها على أنها ظاهرة قريبة جداً، بل وأنها تنتمي إلى محيط الأرض، بمعنى أولوها على أنها ظاهرة مناخية تنتجها عوامل مناخية في الغلاف الجوي للأرض. بذلك حافظوا على فكرة أن السماوات لا يطالها التغيير، وان الأخير لا يطال سوى الأرض ومحيطها.
أما تايكو، فقد سلط عليها طرائق رصده غير المسبوقة في دقتها، فوجد أن هذا النجم “الزائر” لا يظهر أي إزاحة إذا رصد من مواقع مختلفة وفي أزمان مختلفة. وبهذه الكيفية وبكيفيات أخرى، أيقن أن هذا النجم لا يقع في محيط الأرض، وإنما يقع في السماوات، أي ما بعد فلك القمر، بل وفي فلك النجوم الثابتة (الثابتة وفق كوبرنيكوس). وشكل ذلك دليلاً قويا على بطلان فكرة أرسطو أن السماوات لا يطالها التغيير البتة، وإيذاناً بأفول شمس أرسطو والعلم القديم.
بعد ذلك اكتشف تايكو برصداته أن المذنبات تقع خارج فلك القمر، أي أنها لا تنتمي إلى محيط الأرض، كما كان يعتقد سابقاً. وتتبع تايكو مساراتها لكي يكتشف أنها تقطع عدداً من كرات أرسطو البلورية المزعومة وتمر عبرها، الأمر الذي أكد له أنها بالفعل مزعومة لأنها غير موجودة. بذلك حطم تايكو بضربة واحدة ركيزتين أساسيتين من ركائز كون أرسطو، كون حضارات العصور الوسيطة: فكرة كمال السماوات وسكونها وخلودها وفكرة وجود أفلاك كونية كروية بلورية أثيرية خالدة تدور حول الأرض حاملة معها الأجرام السماوية.
وعلى هذا الأساس، برز سؤال مصيري لأول مرة في التاريخ: لئن كانت الأجرام السماوية غير محمولة على ظهر كرات بلورية، كيف ولماذا تتحرك بهذه الكيفية المعقدة؟ ما الذي يحركها؟ ولماذا تحافظ على حركاتها الدورية عبر الدهور؟ وقد فتحت هذه الأسئلة الباب على مصراعيه أمام نمط جديد من الفيزياء، فيزياء المجال، كما فتحت الباب أمام نمط جديد من القوى، القوى عن بعد، وبخاصة الجاذبية، كما سنبين لاحقاً. بل وفتحت الباب على مصراعيه أمام إدخال السماوات في نطاق المادية وفيزياء المادة.
أما الراصد الكبير الثاني، الإيطالي غاليليو غاليلي، فقد كان أول من وجه التلسكوب، ذلك الابتكار الذي كان جديدا في عصره، صوب السماء لدراستها ورصدها بدقة فاقت سابقتها بمئات المرات. وقد كان غاليليو في العقد الأول من القرن السابع عشر منهمكاً في دراسة حركة الأجسام على سطح الأرض من أجل اكتشاف قوانينها الفعلية وتسخيره في دعم أنموذج كوبرنيكوس الفلكي. وفيما هو منهمك في ذلك، إذا بأحد معارفه يخبره بالصدفة عن ابتكار أداة جديدة في هولندا قادرة على تكبير الأشياء وتقريبها (التلسكوب). فدفعه ذلك إلى بناء تلسكوب خاص به فاق جميع تلسكوبات عصره قدرة على التكبير والتقريب. وفي عام 1609، ذلك العام الحاسم الذي نشر فيه كبلر كتابه ” علم الفلك الجديد” مدشناً علما جديداً على أنقاض العلم القديم، وجه غاليليو تلسكوبه العتيد صوب السماء من أجل رصدها ودراستها. ولا نبالغ إن قلنا إن هذه اللفتة البسيطة شكلت واحدة من أكثر الإيماءات ثورية في تاريخ المعرفة. إذ أطل غاليليو بها على عالم جديد لم يتح لإنسان قبله أن يراه منذ نشأ الإنسان على سطح الأرض؛ عالم يزخر يفيض من النجوم يفوق ما نراه بالعين المجردة بمئات المرات؛ عالم تنقلب فيه درب التبانة من غمامة ممتدة إلى حشد هائل من النجوم؛ عالم يظهر فيه كوكب الزهرة أطواراً كأطوار القمر وتتحلق حول كوكب المشتري أربعة أقمار لم ترها عين من قبل. وإذا بقمرنا يظهر صخرة تكسوها الجبال والوديان والفوهات البركانية وكأنه ارض قاحلة، بعكس ما كان يقوله العلم القديم من أن القمر كرة بلورية تامة الملوسة ولا تمت بصلة إلى الأرض ومحيطها المعذب الفاسد. فلئن كانت هذه الصخرة القاحلة الشبيهة بالأرض تدور وتتحرك بثقلها وكتلتها الكبيرة حول الأرض، فلماذا لا تدور الأرض وتتحرك حول الشمس؟ أين هي كرات أرسطو البلورية؟ وأين هي السماوات التامة الكمال والتي لا يطالها التغيير؟ فلئن كان القمر شبيها بالأرض، فلماذا لا تكون الكواكب كذلك؟
لكن غاليليو لم يكتف بذلك في عملية تحطيمه كون أرسطو البلوري الأثيري، وإنما أضاف إلى رصداته الثاقبة ظاهرة البقع الشمسية. إذ لاحظ ظهور بقع داكنة هنا وهناك وبين الفينة والأخرى على سطح الشمس. من قال إذاًً إن السماوات لا يطالها التغيير البتة؟ ألا تنتمي الشمس إلى ميدان السماوات؟ وأليس ظهور هذه البقع واختفاؤها بين الفينة والأخرى دليلاً قاطعاً على بطلان هذه الفكرة التي دامت لألفي عام على الأقل؟ لربما! لربما! لربما كان ذلك كله خداع بصر أفرزته هذه الأداة اللعينة.بل، هذا ما ادعاه بالفعل كثير من رجال الدين والجامعات آنذاك. إذ يبدو أن لا حدود لافتئات الآيدولوجيا وتغولها على الواقع المجرّب!
وفي الوقت الذي كان فيه غاليليو يبني علماً جديداً في الحركة ويتأهب لغزو الفضاء بتلسكوبه العتيد، أي في العقد الأول من القرن السابع عشر، أقدم الفلكي الألماني، يوهانس كبلر، على خطوة نظرية غير مسبوقة تتمثل في اعتبار الأجرام السماوية اجساماً مادية كالأرض وتتفاعل معاً بقوى مجالية كالمغناطيسية. وكان ينظر إليها قبل ذلك على أنها أجرام مثالية أثيرية تتحرك بفعل محرك غير متحرك يقع”خارج” الكون وتحكمها قوانين هندسية (لا فيزيائية) خالصة. وكان مفهوم التفاعل المادي غائباً تماماً عن هذا الأنموذج المثالي. أما كبلر فقد أدخل هذا المفهوم في علم الفلك. ولذلك انصب اهتمامه على القوى التي تؤثر بها الأجرام السماوية على بعضها بعضاً، ومن ثم على حركة هذه الأجرام بالنسبة إلى بعضها بعضاً، وليس بالنسبة إلى محرك غير متحرك يقع خارج الكون، وليس بصورة هندسية بحتة معزولة عن أسسها الفيزيائية. وقاده هذا النمط الجديد الثوري في التفكير في الظاهرات الفلكية إلى قوانين حركة الكواكب حول الشمس، والتي أخذت تعرف باسمه وشكلت نمطاً جديداً غير مسبوق من القوانين الطبيعية. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر، أكمل الفيزيائي الإنجليزي، إسحق نيوتن، هذه المسيرة المظفرة ببيان أن القوى ذاتها المسؤولة عن الحركات الأرضية هي أيضا المسؤولة عن الحركات السماوية،وأن هناك قوانين كونية تحكم الأرض والسماوات بالكيفية ذاتها. فالقوة المسؤولة عن سقوط الأجسام على سطح الأرض هي نفسها المسؤولة عن دوران القمر حول الأرض. وشكل ذلك المسمار الأخير في نعش كون أرسطو.
كيف تم ذلك؟ وما هي الصورة الكونية الجديدة التي قامت على أنقاض كون أرسطو؟ هذا ما سنجيب عنه في مقالات لاحقة.



#هشام_غصيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شبح اللانهاية
- الماركسية هي نقيض الصهيونية
- دفاعاً عن الماركسية
- لغز الكتلة
- محنة المادية اليوم
- فجر العقل الجدلي
- من فلسفة الثورة إلى علم الثورة
- نحن وعقيدة التنوير
- المكان بوصفه مادة
- تميز العقلانية المادية
- مشروعنا الفلسفي
- هندسة ريمان
- المعزى التاريخي للحضارة العربية الإسلامية
- من الفلسفة إلى علم الإنسان
- فلسفة ماركس
- سمير أمين مستغرباً
- هشام غصيب في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: من الثورة ا ...
- جدل العلم والثورة
- الفلسفة والجماهير
- الشيوعية وفخ الوجودية


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - هشام غصيب - أفول الكون البلوري