|
تعذيب العقل
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1947 - 2007 / 6 / 15 - 13:45
المحور:
حقوق الانسان
منذ فترة بسيطة قرأت عن تعذيب المواطن التونسي وليد العوني تعذيبا أدى به إلي فقدان عقله أو حسب التعبير الرسمي فقدان مداركه ! وهو نوع من الحوادث يتكرر وقوعه على امتداد الخريطة العربية.هكذا ثمة شخص اسمه وليد أو عبد الله أو رشدي، طويل القامة ، أو قصير ، متزوج أو أعزب ، فقد عقله بالتعذيب إلي درجة أنه لم يعد قادرا على استيعاب أو قراءة أو فهم كل ما يكتب الآن دفاعا عنه . وليس فينا من لم يسمع عن التعذيب بشتى الطرق ، لكن معظم وسائل الجلادين تستهدف في العادة بدن الإنسان ، يديه ، صدره ، ذراعه . أما الوقائع التي تعذب العقل فإنها أقل شيوعا، لأنها تستلزم أحيانا قليلا من الخيال ، والحرفية ، التي لا وقت لها . وتعذيب العقل عمل شيطاني قديم ، تعرض لأحد فنونه الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي في سيبيريا خلال اعتقاله ، حين كانوا يجبرونه على تقطيع كميات ضخمة من الشجر طيلة النهار ليلقي بها عند الغروب في مياه النهر. التعذيب هنا لا يتعلق بالجهد البدني الشاق المبذول ، التعذيب هنا يتجه إلي العقل مباشرة ، إلي تدمير الدعامة التي يقوم عليها وهي المنطق القائل بأن لكل عمل غاية ، وأن لحياتنا هدفا ، وأن لوجودنا وكدنا معنى . العقل يقول إنك إذا قطعت أشجارا طيلة النهار فذلك لأنك ستبني منها كوخا أو بيتا ، أما أن تعرق على قطع الأشجار لتلقي بأخشابها إلي النهر فهذا يعني أن العالم لا يحتاج إلي العقل ، دمره إذن ، وارمه بعيدا ، لأن الوجود بلا منطق . وحينما يكون جهدك كله عبثا ، يغدو وجود العقل والمنطق مدعاة للسخرية ، والاستهزاء ، وتدوي في أذنيك أقوى فأقوى رسالة الجلادين : امسح عقلك ، لأنك لست بحاجة إليه ، لأنه لن ينفعك لا في تفسير العالم ولا في التحكم به . وقد اكتشف العلم الحديث أن القلب الذي نتغنى به في الشعر والروايات ليس أكثر من مضخة للدماء ، وأن العقل هو حصن التفكير والمشاعر والطموح . وحينما تعذب العقل أو تدمره ، فإنك تعذب وتحطم التكوين الإنساني المميز والبلورة الخاصة المشعة بكل أعماق وأبعاد الشخصية . واكتشف العلم الحديث أيضا أن الموت هو موت العقل ، إذ يمكن استبدال الساق أو الكلى بأخرى ، ووضع شريحة زجاجية في العين المعتمة لترى من جديد ، وتغيير صمامات القلب أو القلب بأكمله ، وزرع كبد ، ورئة ، لكن كل تلك المعجزات لا ترقي إلي المساس بالعقل الذي يجري مليارات من العمليات في أقل من ثانية والذي مازلنا لا نستخدم سوى جزء ضئيل من قدراته . في هذا السياق أتذكر كتابا للدكتور عبد المحسن صالح اسمه " ما هو الموت ؟ " . يقص فيه تجربة أجراها العلماء على كلب لمعرفة " ما هو الموت " ، فيقول إن العلماء فصلوا كل أعضاء الكلب عن جسمه واحتفظوا خلال ذلك برأسه فقط حيا منزوعا من البدن ، ثم قاموا عبر الأنابيب بضخ المحاليل والدماء إلي الرأس المنزوع ، ففتح الكلب عينيه ، وتعرف إلي صوت صاحبه وأخذ يلعق يديه. العقل إذن هو الذي يصون الحياة والوعي والذكريات والإرادة بل وقلق الحب وهواجسه الرقيقة. وقد تم تدمير عقل وليد العوني المواطن تونسي ، في ظروف ، تشبه الظروف التي يتم فيها تدمير عقل الكثيرين على امتداد الخريطة العربية وبقدر سجونها . يختلف الاسم ، والسن ، وسمك أبواب الزنازين ، واللهجات ، وبدانة الزوجة ، أو هزال الحبيبة ، ولكن ثمة دائما إنسانا يفقد عقله وحده خلف أبواب موصدة . لكن تعذيب العقل ونفي دوره لا يجري في السجون وحدها ، بل إنه يجري على نطاق المجتمع بأكمله أكثر بملايين المرات مما يتم وراء قضبان . وحينما تصبح الفوارق بين الدخول ضخمة إلي هذا الحد الذي نراه ، يعجز العقل عن تفسير ذلك ، وحينما يصبح من يحتكرون الحديد والأسمنت وغيره سادة المجتمع من دون عرق أو سبب ، بينما لا يساوى كدح الشرفاء شيئا ، وحينما يبنى البعض قصورا خيالية في طريق الإسماعيلية والبعض مازال ينام على الأرصفة، وحينما يبرز كل شخص عديم الكفاءة ليتحكم في شئون الثقافة، وحينما يصمت الأدباء ويتكلم أشباه الكتاب ، وحينما يحل بالرشوة والعلاقات كل ما لا يحل بالطرق الشريفة ، وحينما تربح الراقصة بهزة وسط واحدة أضعاف ما يربحه عالم على مدى حياته كلها ، وحينما ، وحينما، وحينما ، فإن ذلك الواقع يصبح نوعا من التعذيب المستمر للعقل الذي لا يستطيع لا فهم ولا تفسير كل تلك المفارقات والفوارق ، وهو تعذيب ينقل لٌٌلإنسان رسالة واحدة : امسح عقلك ، لست بحاجة إليه ، لأنه غير نافع لا في فهم العالم ولا في تفسير أحواله ولا في التحكم به .
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أين أنت أيها التنوير ؟
-
أهمية أن تكون من كندا
-
لينين والقضية الفلسطينية
-
عندنا ما فيش قتل .. فيه منع بس
-
حماس لتحرير الحكومة أم فلسطين ؟
-
الحركة الثقافية وحياة خليل كلفت
-
رسالة بهاء طاهر إلي المعارضة المصرية
-
عن أي حجاب يدور الحديث في مصر؟
-
الناس يصعدون إلي السماء
-
بلاغ ضد الشعب
-
الإمبراطورية الأمريكية تحكم الرقابة على العالم
-
د. رشاد الشامي .. رحيل عالم كبير
-
المسلسلات المصرية
-
غزة تفطر على مدافع الاحتلال
-
قوات الديمقراطية الأمريكية والصحافة العراقية
-
إسرائيل عدو الثقافة الأول
-
نجيب محفوظ لحظة وداع
-
حجر وورد .. وجوه لبنانية
-
تحرير الانتصار اللبناني من الكذب القادم
-
المقاومة اللبنانية وتفكيك الشخصية الصهيونية
المزيد.....
-
كيف تستعد إسرائيل لاحتمال إصدار مذكرة اعتقال دولية لنتنياهو؟
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بش
...
-
الأمم المتحدة: الطريق البري لإيصال المساعدات لغزة ضرورة
-
الداخلية التركية تعلن اعتقال 23 مشتبها بانتمائهم لـ-داعش- بع
...
-
تقرير كولونا... هل تستعيد الأونروا ثقة الجهات المانحة؟
-
قطر تؤكد اهتمامها بمبادرة استخدام حق الفيتو لأهميتها في تجسي
...
-
الكويت ترحب بنتائج تقرير أداء الأونروا في دعم جهود الإغاثة ل
...
-
كيان الاحتلال يستعد لسيناريو صدور مذكرات اعتقال بحق قادته
-
سويسرا تؤجّل اتّخاذ قرار حول تمويل الأونروا
-
السودان: خلاف ضريبي يُبقي مواد إغاثة أممية ضرورية عالقة في م
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|