أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - فاضل سوداني - العراق والسياسة والمنفى والغرب ومسرح الصورة















المزيد.....



العراق والسياسة والمنفى والغرب ومسرح الصورة


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 1946 - 2007 / 6 / 14 - 13:11
المحور: مقابلات و حوارات
    


تاريخ مأساة تجربة الثقافة العراقية
حوار مع الدكتور فاضل سوداني
أجراه الدكتور عبد الرحمن بن زيدان
س :كثيرون هم المسرحيون العراقيون الذين بصموا تجربتك وتفكيرك بثقافتهم الخاصة، ومن بين هؤلاء نجد تجربة الأستاذ إبراهيم جلال ذو التميز الرائد في المسرح العراقي لأنه سند مسرحه بالفلسفة البريختية لتطور مفاهيم وخطابات المسرح الشعبي العراقي جماليا وفنيا بتجريب التزم فيه بإبراز التناقضات الاجتماعية ، وإظهار الفهم السديد للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد، وتوليد الجديد لجعله مسايرا لمتطلبات التطور في العصر وفي المكان وفي العراق خاصة ، إضافة إلى الأبعاد الأساسية في تكوين مشروعه المسرحي ، منها الأسئلة التي رصدتها أنت في كتاباتك عنه، مثل ما الفن؟ما المشكلة؟ ومن هو المتلقي؟، وهي الأسئلة التي استخرجت منها أن أسس هذا المشروع الهادف إلى اكتشاف العالم الإبداعي المسرحي العراقي وهو يخاطب عقل وفكر الإنسان؟.كيف تعيد إحياء هذه العلاقة في رؤيتك وتجاربك المسرحية؟ وهل هي الأسئلة نفسها التي تستأنس بها في مشروعك المسرحي؟

حساسية الجديد والقديم في المشروع المسرحي عند إبراهيم جلال
الدكتور فاضل سوداني بالرغم من أن هذه الأسئلة هي الأساسية لفهم دور وتأثير الجمال في العالم و الحياة إلا أن كل فنان يفهم خصوصية مهمته وهدف فنه،ويطرح من خلاله الأسئلة الذاتية وتلك الأسئلة المصيرية ، بقراءة من وجهة نظر مختلفة جذريا عن الآخر وذلك نتيجة لتنوع هذه الأسئلة واختلاف الجذور الحقيقية لثقافة الفنان ذاته ، فإذا امتلكت هذه الأسئلة شموليتها ـ سواء كانت اجتماعية وقتية أو مصيرية أبدية ـ يمكن إذن أن تؤشر على عصر ما ولفترة زمنية قد تطول و تشمل آفاق مستقبلية ،فتتكرر في زمن آخر ،ولكن بتغيير مئات من سمات العصر ، إضافة إلى طبيعة وحساسية الفنان الذي يقرأها .
وبما أن عصرنا الحالي امتلك سمات ومميزات مختلفة عن الماضي، نتيجة لتسارع وعظمة انتصار العقل الإنساني خيالا و إبداعا وتكنولوجيا إلى درجة تمكن من خلالها أن يضع الكون والطبيعة والحياة على راحة يده ليبصرها من أجل سبر أسرارها الغامضة بعد أن أصبح العالم بيتا صغيرا .
إن حساسية إبراهيم جلال كفنان تؤثر وتتأثر بزمنها ،والزمن الذي عاشه جلال، ومازلنا نعيش فيه ،قد تميز بالثورات السياسية والاجتماعية، وأهمية نهوض الطبقات المسحوقة مما جعل صراع الطبقات يأخذ الأولوية في أية فعالية بشرية سياسية و إبداعية . وهذا ما يبرر اهتمامه وتسخير مشروعه المسرحي لمثل هذا المفهوم السياسي. ولذات السبب فإنه جعل من بريشت و مسرحه الملحمي مرشده في هذا المجال ، إضافة إلى اهتمامه بجماليات ستانسلافسكي وبعض المعاصرين .
وبالرغم من استمرار الصراع الطبقي في الوقت الحاضر أيضا ، فإن عصرنا تميز بميزتين واضحتين أضفت سمات جديدة على مهمة الفن ودور الفنان، وهما : صراع الفنان الداخلي مع ذاته وماضيه وتاريخه ، وصراعه مع الآخر ( الذات الأخرى ) والعالم الموضوعي ، فالفنان عموما مسؤول ضميريا أمام ما يراه ،ويكون محتما أن يستخلص الأسئلة الأكثر تأثيرا والتي تقلقه كذات واعية وتقلق الجماعة أيضا .
إن إبراز التناقضات الاجتماعية والعلاقة الجدلية بين القديم والجديد التي شخصتها في مشروع إبراهيم جلال المسرحي عند الكتابة عنه ، وبالرغم من كونها أسئلة مهمة لفنان واع ، إلا أنها في الوقت الحاضر ستبقى أسئلة مجردة ، وغير مؤثرة،ولا تتكامل إلا بإبراز المتناقضات الذاتية الأخرى التي تقلق الذات البشرية، وخصوصا ما في ذات الفنان من قلق مصيري ،وأسئلة قد تتناقض مع الواقع الموضوعي. ولهذا تصبح العلاقة بين الذات الواعية وقلقها الداخلي،وكذلك بينها وبين العالم الآخر،أكثر حيوية ومصداقية في عصر العنف والقلق والتكنولوجيا ما دام فننا يبحث عن العلاقة والهموم المصيرية بين البشر في هذا العالم ،وهذه إحدى السمات الأساسية لديمومته .
والسؤال المهم الآخر، هو علاقة الإنسان بالتاريخ ، وبماضيه الشخصي، وبتراثه كانسان في عالم ديناميكي، بحيث يتطلب الأمر قراءتهما من جديد قراءة ديناميكية نابعة من روح العصر واحتياجات زمننا ، وبهذا نستطيع أن نزيل قدسية الثوابت والتابوهات والمتحجرات التراثية والتاريخية ،وندخلها في الحداثة والعصر والزمان المعاصر،وهذه مهمة أساسية للفنان في علاقته بالآخر، وعلاقته بالمسرح والفن عموما .
من هذا المنطلق فإن مشروعي المسرحي عموما (تأليفا وإخراجا وبحثا أكاديميا) ينطلق من الأسئلة التي أقلقتني منذ التطورات التي حدثت في العالم العربي، والعالم عموما، في ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، سواء سياسيا أو فنيا. وبالتأكيد أن أسئلتي وقلقي الإبداعي ستختلف عن أسئلة المبدعين من الأجيال السابقة وذلك لاختلاف الزمن .
ولهذا فإنني أؤمن بأن هدف الفن والمسرح خصوصا هو إمكانية البحث في تلك البؤر الغامضة من وجود الإنسان والأسئلة التي تساعده في محنته المصيرية، إضافة إلى البحث في خلق الجمال لجعل عالمنا أقل عنفا وأكثر تقبلا. وهذا يدفعني إلى أن أضع الإنسان الآخر ( خارجي ) وذاتي الأخرى ( داخلي ) في معادلة جديدة هي علاقة الإنسان بالآخر وعلاقته بذاته ، وبمعنى انعكاس قلق الفنان المبدع من أجل فهم عالمه وغموض الكون المحيط به، ومن ثم انعكاسها على الآخر الأكثر غموضا لأنه يهمني أيضا. وبما أننا نعاني من وحشية الآلة ومن عزلة خانقة تشكل حساسية جوهرية للفنان في زمن العولمة جراء التطور التكنولوجي،مما يؤدي بالفنان المعاصر إلى المعاناة من اغترابه الذي تخلقه الآلة و الثورة التكنولوجية .وعزلته المضاعفة جراء عدم تمثل إبداعه من قبل الآخر الذي لايفهمه، مما يؤدي إلى عدم تكاملية منجزه الفني ،و يؤدي ـ أيضا ـ إلى عدم تكامل مفردات لغته الفنية لعدم امتلاكه قدرة التعبير المطلقة عن أسرار الحياة والوجود .
وبالتأكيد فإن هذا يعمق الهوة بين الفنان والعالم الآخر،وينسحب هذا الاغتراب،أيضا، على مجالات ثقافية أخرى ، مما يضع المثقف والعالم في زمن العولمة ، أمام أزمة فكرية و معرفية تثير الكثير من الالتباس والغموض . ومما يعمق هذا الاغتراب والعزلة وهستيريا الروح المعاصرة هو: وجود الفوضى الكونية المنظمة التي تبدو حضارتنا من خلالها وكأنها تنحدر نحو هاوية النهاية وليس غريبا أن يفنى كل شئ ويعود الإنسان إلى الغابة .
وبالرغم من أن العولمة منحتنا حق الشك في كل اليقينيات من جديد، بما فيها الطواطم المقدسة ،إلا أن ما يزيد عمق الأزمة المعاصرة هو العمل ،وبقصدية ،على استلاب الإنسان الثقافي، ومحاولة محو أي اختلاف فكري عن طريق سلطة العنف والقمع ،
إذن ما هي الحصانة الداخلية في مواجهة هذه الخطورة؟
وبالتأكيد فان مثل هذه الأسئلة، وغيرها، وهي التي تقلقني الآن، وتقلق معاصري ، تختلف جوهريا عن أسئلة جيل إبراهيم جلال ،والإجابة عنها من خلال المسرح،يحتاج إلى نص جديد أدعوه "بالنص البصري" مبني على أساس مفهومي حول البعد الرابع للزمن والفضاء والذي يخلق الرؤيا الإخراجية البصرية ،ويحتاج إلى متلق جديد أدعوه بالمتفاعل، وليس بالمشاهد أو المتفرج .

س: هل حقق إبراهيم جلال مشروعه المسرحي من خلال تقريبه بين ما هو نظري بريختي وبين البيئة العراقية؟

توظيف الجدل لفهم التاريخ الإنساني عند إبراهيم جلال

الدكتور فاضل سوداني: فرض المخرج إبراهيم جلال ملكة الجدل على المسرح العراقي والعربي، بمعنى التحاور والجدل مع النص والممثل والجمهور والواقع، لأنه يفهم التاريخ الإنساني على أنه حلقات مترابطة لا يمكن الفصل بينهما، فيعطي أهمية ومكانة للفلسفة في العرض المسرحي. ولقد ساعده فهمه لنظرية بريشت على التوصل إلى أسلوب المسرح الشعبي بغناه الفكري والسياسي والاجتماعي ، وبهذا فان الفنان جلال حاول أن يوضح فهمه للجدلية في الإبداع الفني ، وأن تكون وظيفة المسرح التي يتبناها المخرج مرتبطة بوعيه الاجتماعي والفكري .
ولهذا كان إبراهيم جلال يحاول الوصول وامتلاك الأسلوب الإخراجي المتميز من خلال المزاوجة بين نظرية بريشت الملحمية وبين واقعية ستانسلافسكي العاطفية.وقد أخذ إبراهيم جلال من بريشت الجدل العقلي وأسلوب الإخراج الملحمي،ومن ستانسلافسكي الأسلوب الواقعي والحس الشعبي من أجل الوصول إلى عرض شعبي عراقي وعربي.
فهو لم يفهم بريشت على أنه قاموس لمقولات فلسفية وعقلية جامدة ، ولم يفهمها على أنها ثرثرة أيدلوجية.إنه كان يطمح دائما إلى المزاوجة بين الفكر، والعقل وجذوة الروح.
غير أن الفهم المنهجي الذي عمل من خلاله إبراهيم جلال في إخراجه لمسرحيات بريشت يعتبر أسلوبا متفردا في إرساء قواعد خطاب العرض الملحمي الشعبي في المسرح العراقي والعربي ، فكانت عروضا إخراجية جادة في فهم امثولات بريشت وخلق المسرح الذي يتوجه للإنسان الشعبي .إن هذه العروض حاولت تطبيق منهج بريشت ،وخلق شخصيات حية مع الالتزام بمبدأ التغريب من منطلق سرد الأحداث واستعراض الشخصية وعدم الاندماج بها.
وفي عروضه الأخيرة، وخاصة مسرحيات بريشت ومسرحيات المؤلف العراقي الأكثر إبداعا الأستاذ عادل كاظم ، استغنى جلال عن كل شئ تقريبا، معتمدا على نحت الفضاء كخلفية للحدث والممثل، ومستغلا جسد الممثل كجزء من سينوغرافيا وفضاء العرض المسرحي، مما خلق عروضا مسرحية تعتبر أساس إبداع متميز للمسرح العراقي .
وبالرغم من أنه كان يسمع موسيقى جسد الممثل، ويحاول أن يعبر عنها بصورة فنية متكاملة، إلا أنه حاول دائما، وبعناد، إلغاء عناصر الإيهام في عروضه المسرحية لأنها لاتتناسب مع عقله المسرحي الجدلي وتأكيد أن هذا كان بتأثير بريشت .
وبمسؤولية تاريخية ،يمكن القول إن إبراهيم جلال يعد من بين الذين ساهموا في تحرير المسرح العراقي والعربي من الكثير من أوهام الواقع وثرثرة الفضاء المسرحي ، و يعد ، أيضا، من بين المخرجين العرب القلائل الذين حاولوا أن يكيفوا المفاهيم البريشتية لمتطلبات العرض و ربطها بحياة ومشاكل الجمهور العربي المعاصر . انطلاقا من فهم بريشت على أنه حرية التجريب، والتجديد، وعدم السقوط في المـألوفية، وماهو جاهز قياسا إلى المسرح الارسطوطاليسي .
إن الميزة الأساسية لعروض إبراهيم جلال كان هدفها تطبيق منهج بريشت في مجادلة عقل وروح الجمهور الشعبي .
ففي مسرحية ( البيك والسائق )مثلا من إعداد الشاعر صادق الصائغ عن مسرحية بريشت (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) ، تحولت لديه إلى عرض شعبي عراقي فيه الكثير من الشاعرية ، خاضعا النص للبيئة العراقية أو العربية ،والراوية أو الجوقة البريشتية تحولت إلى قصخون عراقي ( حكواتي ) يروي لمستمعيه، غناء وشعرا، ماحدث من غرائب الدنيا في قلعة( البيك )بونتيلا الذي تحول لدى عرض إخراج إبراهيم جلال وفي نص المعد،إلى شبيه بإقطاعي عراقي،كذلك فان مشكلة البطل الآخر (ماتي)،أصبحت مشكلة أي عامل عراقي فقير . وحاول المخرج استغلال الأغنية الشعبية العراقية للربط بين المشاهد والتعليق على الأحداث، مما قام بتقريب مسرح بريشت من وعي وتقاليد الإنسان والبيئة العراقية.
لكن إبراهيم جلال لم يستطع إكمال مشروعه المسرحي، لان النظام العراقي السابق كان يمتلك سياسة ثقافية ومسرحية تختلف عن فهم متقدم لفنان مثل جلال. فأسلوب العمل الذي اعتمده عند إخراجه لمسرحية "دائرة الطباشير القوقازية "،والتي أعدها للمسرح الكاتب عادل كاظم بعنوان : ( دائرة الفحم البغدادية ) ينهج الأسلوب ذاته .كان هذا العرض متفردا ،حقا، من خلال تمكن مخرجها من مجادلة عقل وعواطف الجمهور ، اعتمادا على الحس الشعبي للإنسان العراقي، وكذلك استخدام الجو والأساليب الفنية في التراث الشعبي، وإدخاله ،واستخدامه للأغنية الشعبية كوسائل فنية ساهمت في إغناء الإخراج .
كان يمكن لهذه العرض (لو لم يمنع من قبل السلطة السابقة )أن يشكل علامة بارزة في تطوير المسرح العراقي، أو العربي، لو قدر للجمهور مشاهدته، حيث عرضت المسرحية مرة واحدة فقط (أمام لجنة المراقبة على المسرح من قبل وزارة الثقافة) وبعدها،منعت بقرار من وزير الثقافة العراقي طارق عزيز آنذاك بحجج غير مقنعة حتى للممثلين أنفسهم . لأن سلوك بطل المسرحية "أزدك "،
( أداه الفنان القدير منذر حلمي ) ذلك الصعلوك والسكير والمبتذل والسطحي والمستغل الذي أصبح حاكما وقاضيا على المدينة نتيجة لظروف استثنائية هي ظروف الحرب ، كان هو السبب الذي أدى إلى منع العرض،أي أن الخوف من أن يربط الجمهور ،بين وصول"أزدك" هذا لمنصبه مع الكيفية التي استولى بها صدام حسين على السلطة في العراق.
نعم مات إبراهيم جلال منفيا في وطنه، ولكن عندما رقد في إحدى مستشفيات الكويت ، لم يملك المال لدفع الفاتورة ، وقام بهذا أحد تلامذته ، وبالرغم من أنه كان يسير على كرسي المعوقين، بعد أن قطعوا قدميه، بتأثير مرض السكر ، استطاع أن يستمر في إبداعه المسرحي، لأنه كان يردد دائما بأن الأطباء قطعوا قدميه، لكن فكره بقى متوهجا لم يمسوه . وفي فترة ما، اضطر أن يبيع بيته، وسكن غرفة بائسة ،وحيدا على كرسيه ومرة (أحسست بمأساوية وضعه ووحدته، من خلال صوته الحزين الذي جاءني صدفة وهو يتكلم في إحدى المقابلات معه، في محطة راديو بغداد في نهاية الثمانينات ، وكنت آنذاك في بلد عربي يدعي التقدمية والعروبة ويتبجح بانه وطن كل العرب ، وكانت غرفتي تفتش كل يوم بعد خروجي،وحتى هذه اللحظة لاا اعرف السبب )،ودل صوت جلال على مأساوية وضع الفنان والمسرح عموما.إنها نهاية مأساوية ،حقا، لفنان مبدع سرق زمنه . و قبل أن يغادرنا، ترك معطفه الموشى بالحرير، في ظلمة المسرح العراقي كأمانة في رقابنا جميعا، وبالتأكيد لعن إبراهيم جلال، كما هي عادته، تلك الهوة بين طموح الفنان وفقر عصره.لقد غبن الفنان العراقي كما غبن المسرح العراقي لان النظام كان مشغولا بحروبه عن آلام العراقيين جميعا.


س :هل هنالك روافد أخرى لتكوينك الثقافي والفني في العراق؟

الطفولة في العمارة .. مدينة الطوائف والأديان والاحتفالات ورائحة الهور

الدكتور فاضل سوداني : نعم بالتأكيد، هنالك روافد مختلفة لها تأثيرها على منذ الطفولة، وتعمقت بعد ذلك في مرحلة الشباب، لتبدأ لعنة الوعي، وسأبدأ منذ البداية بمدينتي الجنوبية ( العمارة ـ التي تعتبر مركز محافظة ميسان، تقع في الجنوب الشرقي من بغداد، وتبعد عنها 400 كم )، انها طفلتي المدللة ولدت وعشت فيها زمنا طويلا، فهي بكل المقاييس ،مدينة ريفية ذات طبيعة خاصة، محاطة بالماء والأنهر من جميع جوانبها .وعندما يصلها نهر دجلة يتفرع إلى أربعة انهار مهمة أيضا، فتتحول وكأنها البندقية وأنهارها تصب في مساحات هائلة من الاهوار التي تعتبر بحيرة مائية متصلة تمتد أكثر من مائة وثمانين كيلومترا " و يعيش فيها فلاحون فقراء في أكواخ بدائية من القصب تشبه في تصميمها وهندستها الأكواخ السومرية . وطبيعة الحياة في هذه المنطقة مشابهة لطبيعة حياة الأقوام التي سكنتها قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ففي هذه المنطقة الجنوبية من العراق بالذات،نشأت الحضارة السومرية . وبعد ذلك سكنتها أقوام أخرى مما جعلت (مدينة العمارة ) تكون"إحدى دويلات العهد الفرثي التي أقيمت في عام 170 قبل الميلاد، وتم حكمها من قبل (17) ملكا" ،وفي الوقت الحاضر يمكننا أن نعثر على 360 موقعاً أثرياً لم تنقب و تنقسم إلى قسمين.. القسم المحاذي لإيران يمكن العثور على آثار تراث الساسانين لسيطرتهم على هذه المنطقة في العصور القديمة ، والقسم الآخر تشكل آثار الإمارات الإسلامية التي شيدت في نهاية العصر العباسي.
وبالرغم من فشل الحجاج بن يوسف الثقفي لتجفيف هذه الاهوار ، إلا أن النظام السابق نجح في ذلك، فتحولت هذه المنطقة التي كانت مغطاة بالمياه، والقصب، والبردي، وغنية بمختلف الطيور، والنباتات، والحياة، وجمال الطبيعة وسحرها منذ القدم ، تحولت إلى مكان ميت . في هذه المدينة تشكل وعيي، وتشبع خيالي بجمال الطبيعة والفن ، جمال الطبيعة الريفية، بالرغم من كونها مدينة جنوبية، مهملة، ومكروهة ،دائما ،من السلطات التي تناوشت الحكم في العراق ، وبالرغم من غناها ( حيث يشكل مخزونها النفطي مع مدينة البصرة ثلث نفط العراق ) إذ اكتشف فيها واحد من أكبر حقول النفط الهائلة و المعروفة بحقول" مجنون " ويقال إن آخر بئر نفطي في العالم سيكون فيها ، إلا أنها كانت ومازالت مدينة فقيرة، وبدون خدمات حقيقية، و منهوبة في كل الأوقات، وبيوت المدينة ينطبق عليها قول السياب ( بيوت أرفع الأبواب عنها تغدو أطلالا ) ،و ما نقل محافظ أو مسؤول منها بعد أن تزكم عفونة عمله أنوف أهاليها إلا وسأل (كم عمّرت في هذه لمدينة الشيعية و الحمراء)(والمعنى هو تعمير الجيب).
لكن عالم الأهوار الساحر والذي يتيه الإنسان في قنواته المائية، يجعلك تصغي لإيقاع السكون والصمت مما يشعرك بالرهبة من هذه الألوان الطبيعة الزاهية والمختلفة،ولابد أن يعيدك إلى عالم السحر هذا، فتشعر بأنك مسكون بعالم غريب مملوء بغرائبية غير مكررة ،وما يزيد الأمر غموضا، هو تلك الأساطير والحكايات والأغاني الخاصة لهذه المنقطة، والقصائد الشعرية التي تعكس سحر هذه المنطقة . وأنا شخصيا، غرفت من هذا كله، ففي ليالي الصيف التي لا يضيئها سوى قمر مبتهج، وأحيانا منزوي ، وأنت تستمع إلى هذه الحكايات وإلى أساطير الهور من صدر حنون ، وخاصة الاساطير التي تنسج عن (هور حويفظ ) وعن ذلك اللمعان الذي يتراى كلمعان اللؤلؤ والذهب الصافي في اليالي القمرية وسط هور مظلم تحرسه الملائكة او الشياكين او المردة او مخلوقات مقدسة تنهض منتصف الليل ، اما في النهار فلا احد يستطيع الوصول الى هناك لان كل الذين حاولوا لم يعودوا ، حيث تسحبهم قوة مبهمة الى تلك الظلمات والمتاهات التي لا يراها احد ما ، ولكن اصواتهم مازال تتكرر كاغان حزينة من خلال القصب والبردي الذي يأن مع الريح الشرقية . ان تستمع لكل هذا قبل ان تغفوا ، بالتأكيد سيكون خيالك شعريا وشاعريا في اليوم التالي .
وإذا انتقلت إلى مركز المدينة العمارة ( التي تعتبر ريفا كبيرا )، فهنالك سحر آخر ، تحسه في أسواقها الشعبية التي تشم فيها تلك الروائح العبقة المختلفة للحاجيات والأشياء ،وأيضا روائح الماضي غير المكرورة التي تشعرك بأبدية الزمن .
ويمكنك أن تسمع الأصوات التي تذكرك، وأن ترى الألوان الغريبة المختلفة التي تشكل فرحا للروح. ومحلات قماش تجار الموسلين الحريري وكأنه يُغزل مع أحلام الفتيات اللواتي يرفلن بكبريائهن ورائحة الصباح ودفاترهن المدرسية هي شفيعهن ،لكي يسمح لهن أن يتهادين في سوق هو ملك الرجال ـ التجار ـ المزيفين . وحالما يصبح الوعي وجودا لمستقبلك، تضطر أن تودع طفولتك والكثير من الأحلام، و التعاويذ المزيفة التي أصبحت لا تعينك على امتلاك الماضي، لتبدأ بالتنبؤ بحرائق مستقبلية بكل إباء. فتغلق بيت أحلام الماضي على عجل، كشجرة ستذرف أوراقها الصفراء وقد استبدت بها الريح. كل شئ في مدينتي أصبح يدهشني في شبابي حتى العمل في البناء أو وخياطة الملابس التي مارستها في فترة ما .
دفعني سحر هذه الغرائبية إلى التعرف والتعاطف مع منبوذي المدينة، إما لكونهم متمردين، أو لكونهم فقراء تائهين ، وكانت عوالمهم تزيد من غرائب الأمر، فيثير في داخلي مشاعر خاصة ،فيها الكثير من الغرابة ، وبعد سنوات، ليست قليلة، وعندما عدت إلى مدينتي بعد أن أنهيت دراسة المسرح في بغداد، وعند إخراجي "حفار القبور" لبدر شاكر السياب، قدمت دعوة خاصة لأحد هؤلاء المتمردين والمنبوذين لمشاهدة المسرحية، وكان معروفا بآسم ( صاحب أبو الموتى )، لأنه كان لديه سجل سري خاص للموتى في المدينة، فيه يدون كل شئ عنهم ، وبعضهم يلجأ إليه عندما يريد أن يعرف من الذي مات . وفي يوم العرض انتظرت صاحب "أبو الموتى" في باب المسرح، وعندما وصل، استقبلته بحرارة، وأجلسته في مقعد خلف المحافظ، أمام اندهاش الجمهور، وغرابة الأمر، لان الجميع يعرفونه. و بعد ذلك عرفت بأنه من القلائل الذين فهموا فكرة المسرحية وإخراجها.
والعمارة مدينة متنوعة الطوائف والأديان، وكانت طقوسهم تثير لدي الحس الشعري والدرامي، لأنها مملوءة بالغرائبية، ومنها الطقوس للطائفة المندائية التي تملأ المدينة،والتي تمارس في أعيادهم، ومناسباتهم وتتم دائما وسط النهر ، فالماء جزء من طقوس التعميد الدينية، فنرى صولجان الشيخ، وغصن الشجر الطري في عمامته،وتمتماته التي هي جزء من أسطورية كتاب "الكنـزربا" المقدس للصابئة ،فنسمعه يتمتم بخشوع ( بكلمتك خلق كل شئ ) وكأنه يبحث عن نور الشمس، فيضع الغصن كأنه نجمة ، بل قمرا تائها على رأس المندائي الذي يحلم بالغفران ،فيغطسه بالماء الذي يلتقي مع الشمس ،وكأنه يغطسه بماء الأبدية،فتشتعل تعاويذه بالنور، ويتوحد الحالم مع روحه ليمشي على النجوم ( الأبدية )، فيتطهر طوال العام في زمن المسرة.
كانت الأضرحة المقدسة التي تكثر في مدينتي تسحرني بصمتها وتمتمات الزوار المتدينين، وبعد ذلك الإحساس بالخشوع، والرهبة في الأضرحة الحسينية ،والأولياء الصالحين في النجف وكربلاء والتي فيها تمتلئ روحي بذلك الانبهار والجو الغريب (القريب من صمت المسرح ) الذي كنت أفضل أن اختلي فيه ساعات طويلة متسربلا بالخشوع وبخور العافية.
ومنذ طفولتي كنت منذورا للمساهمة في ممارسة جميع طقوس التعازي التي كانت تقام بذكرى الحسين(ع)، فالهوادج المضيئة بالمشاعل، ورائحة البخور و الردات الحسينية الحزينة التي تتكرر كل عام في شهر عاشوراء،حيث، ومنذ اليوم الأول، تتهيأ المدينة بكاملها لإعداد المسيرات والمواكب،ويهيئ سكان المدينة الرايات والملابس السوداء التي سيرتدونها طوال الشهر الحسين للمشاركة بمأساة الحسين وعائلته،وكذلك الإكسسوارات والأدوات الأخرى التي ستستخدم في الاحتفالات،ويلف الحزن جميع مرافق المدينة الموشاة بالأسود والذي سيخلق جوا خاصا . وعادة، تقام المسيرات والتظاهرات والمواكب أثناء الليل، ماعدا اليوم الأخير والذي يقدم فيه عرض التعزية منذ الصباح الباكر.
وبالتأكيد، فإن انجذابي للطقوس الدينية التي كانت تقيمها مختلف الطوائف الدينية، لا يمكن أن أبرره إلا لكون هذه الطقوس هي قريبة من المسرح،و بالتأكيد فإنها تستثير مخيلتك عندما ترى في ليل المشاعل كورس الرجال يسيرون حفاة ،والجميع يمسك الشموع وأغصان الآس ، ويلطم الصدور على إيقاع الردات الدينية الحزينة المناسبة مما يضفي على هذا المشهد المأساوي رهبة وجلالا . وفي شارع آخر من المدينة ،هنالك موكب الضرب بالزنجيل الذي يتغير إيقاعه في كل ليلة للمساهمة بجلال المصاب. وفي البيوت والشوارع الخلفية يمارس كورس من النساء طقوس هذه المناسبة . وتبدأ النساء بالندب على إيقاع الدفوف ، و يردحن بإيقاع الحزن ، وهن يقفزن في الهواء منثورات الشعور، فيمتزج الرقص بالندب ونواح الجسد وتوهجه الصوفي . ومما يضفي على التوهج الجسدي غرابة هو أن النادبات لطخن رؤوسهن ووجوههن بالطين الذي يشكل قناعا غريبا على ضوء الشموع،فتشيع في الجو رائحة غريبة ممزوجة برائحة الأجساد المنهكة المنفعلة المباركة والسابحة بعرق الوجد الذي يجعلهن وكأنهن حوريات جئن ليباركن العريس الميت ـ الحي ،المقتول الشهيد ، فتمتلك الأجساد المنفلتة حريتها الديناميكية خارج فضاء القهر والانزواء البيتي، وفي الفجر يجرجرن أجسادهن المشتعلة بالتوهج وهن مرعوبات ومذهولات من فيض الوجد المبارك ومن تنفيس الضيم الذي حملنه طوال عام ،ومن هذه اللحظة ،حتى العام القادم عليهن، أن يتحملن كل أنواع القهر، كنساء يعد البيت سجنا تاريخيا لهن، لذلك فإنهن ينتظرن ليلة الاشتعال هذه مرة أخرى في العام القادم .
إن الشيء المهم في هذه الطقوس هو المشاركة الجماعية لجميع السكان بالرغم من هدفها الديني ، حيث تتحول المدينة إلى احتفالات ومواكب ومجالس وغيرها من الفعاليات التي تتسم بدراميتها،فيعم الحزن والندب الجماعي .
و من الناحية الدينية فممارستها فيها الكثير من سبل التطهير للحصول على المغفرة بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، لكن من الناحية الفنية، فإن للجو الدرامي المصاحب بالموسيقى العنيفة والإيقاع المتميز، أهمية خاصة لإثارة مشاعر الإنسان المشارك أو المشاهد. وبعد ذلك تحول الأمر إلى استيعاب تراجيديا هذه الطقوس دراميا، فهي تشكل مسرحا متفردا.
لكن هذا الأمر يبدو صعب التحقق الآن، بالرغم من تعرف سكان المدينة في ذلك الزمان الهني على المسرح ، ومنذ خمسينات القرن العشرين كان هناك مسرح يقدم عروضا مختلفة في هذه المدينة العراقية الفقيرة . وشاهدت في أوائل ستينات القرن الماضي أول عرض مسرحي شعبي من فرقة المدينة المسرحية التي يديرها ويعمل بها شخصيات محترمة اجتماعيا في المدينة وهذا شيئ مهم لجدية العمل والجمهور.كانت الفرقة تهدف أن تكون محترفة، تأثرا بفرقة فاطمة رشدي عندما زارت العراق ، وعندما تقربت من أعضائها، وكنت في بداية المراهقة، تعلمت منهم الانضباط، واحترام قوانين المسرح عندما قررت الفرقة فصل أحد أعضائها،لأنه اعتلى خشبة المسرح من قاعة الجمهور أثناء الاستراحة، ولكن سرعان ما توقف نشاطها كأي مشروع جدي في ظروف استثنائية .
ولكني بدأت العمل في المسرح من خلال النشاط الفني المدرسي والذي جذبني كثيرا ليحدد مستقبلي المسرحي بوضوح، حيث بدأ هواية، لكنه تحول إلى وعي و احتراف.
الجانب الآخر أيضا، هو تعلمي للرسم من خلال النشاط الفني في بداية دراستي المتوسطة، وحزت على الجائزة الأولى على مدارس العراق، وقد ساعدتني هذه الهواية مستقبلا في دراستي في أكاديمية الفنون على الرؤية الفنية التشكيلية وتصميم الديكور لمسرحية في انتظار غودو التي أخرجها الفنان سامي عبد الحميد لفرقة المسرح الحديث في نهاية الستينيات من القرن العشرين.
وبالرغم من فقر هذه المدينة، كان فيها ثلاث سينمات هي النصر والخيام والحمراء ( الثورة ) ، كما كان في المدينة ناديان ليليان . وكانت السينما بالنسبة إلى الطفل اليافع والحالم الذي كنته، تشكل عالما سحريا جديدا، فأفلام هوليود مثل أفلام ( الكاوبوي ) وأفلام مثل ( جسر على نهر درينا )وأفلام الواقعية الجديدة ،وخاصة الفلم الايطالي " الرز المر"، وأفلام المخرج الايطالي "دي سيكا" وغيرها من الأفلام كانت تشكل ذاكرتنا وخيالنا الذي ينمو بسرعة قياسية ففي الأيام التي لا نملك قيها ثمن التذكرة ، وخاصة في الصيف، نعمد إلى تسلق السور العالي، نسبة إلى قاماتنا الصغيرة، لنجلس ساعات عديدة بانتظار مشاهدة الفيلم . أو نعمد أنا وصديقي ماجد الصابري إلى الاتفاق مع صاحب الحانوت الخاص بالسينما لبيع المرطبات في الاستراحة، أو أثناء العرض ، وكثيرا ما مكان يؤنبنا ويطردنا لأننا لم نهتم ببيعها، وإنما هدفنا الأساسي هو مشاهدة الفيلم . أو في أحسن الأحوال، نتشارك في شراء بطاقة واحدة،وننتظر قبل بدء العرض ، ونحن نتحرق شوقا، ولكن قاطع التذاكر ببروده المتعمد، يعذبنا حتى آخر لحظة قبل أن ندخل إلى العالم السحري .
في هذه المدينة الغرائبية، وفي كل حياتها اليومية، كانت تصدر فيها كل صباح جريدة بآسم صوت الجنوب ، وكان فيها مكتبة عامرة، وغنية بمختلف الكتب القديمة والمعاصرة، مما شكلت لدي ، ولجيلي من المثقفين عادة القراءة ،وساهمت أيضا المكتبة العصرية في السوق الكبير، وكذلك الكتب التي كان يستوردها شاكر الهاشمي في مخزنه. وهذه الأجواء أثرت كثيرا على بعض المثقفين الذين تربوا في هذه المدينة، والذين يحسبون الآن على جيل الستينات، جيل الخيبة والهزائم السياسية والروح العبثية والوعي الوجودي والإبداع الديناميكي. جيل غريب في وعيه وتمرده المبكر.مجموعة من المتمردين على واقع مدينتهم، يجلسون في المقاهي، أو في بساتين النخيل العامرة، ليتحاوروا بهمس مبحوح حد الخناق في الاشتراكية والثقافة والفلسفة والعراق وجوعه الدائم.
لكن بعضهم انتحر، والآخر مات، وبعضهم تركوا المدينة، ومازال بعضهم فيها وفيا لها بعد أن مرت عليه جميع المصائب والحروب، وبعضهم أكمل دراسته في بغداد أو في أوربا.وبعضهم نفى نفسه اختياريا إلى أعماق الريف والعيش في الأهوار.
في عام 1964 تقدمت لمعهد الفنون الجميلة لدراسة المسرح، لكني لم أقبل، غير أن عنادي دفعني لتكملة امتحان الإعدادية للتقديم إلى الأكاديمية، وتحققت أمنية كنت مرعوبا من عدم نيلها، وقبلت أنا والفنان فاضل خليل.وفتح أمامي أفق جديد عني وعن مدينتي إذ أن عالم الأكاديمية هو عالم جديد علي حيث يمكن أن تلتقي بفنانين العراق المعروفين سواء كانوا في المسرح أو السينما أو التشكيل .
من هنا، فإن هذا الرافد له أهميته وخصوصيته، وبما أن الأهل لم يوافقوا على مشروعي الفني في دراسة المسرح فقد حرموني من أي مصروف ،وبما أننا لم نقبل في القسم الداخلي، فقد وافق فاضل خليل المعروف بكرمه وإبداعه على أن أقاسمه المصاريف التي كان أهله يرسلونها له، والسكن في أماكن شعبية جدا لرخصها، مثل سوق الهرج، والحيدر خانة، فأصبحت قريبا أيضا من الشخصيات الشعبية الغنية بالسحر والحكمة والأسطورة. وفي الأكاديمية دخلت عالم المسرح بكل متطلباته وقوانينه الغريبة علي، والتي بدأت التعرف عليها لأول مرة، وبدأت أمرن جسدي وذاكرتي ومخيلتي لتكون مؤهلة للسير في هذا العالم الشائك.كنت مسحورا بجو العاصمة، بسينماتها، وباراتها، وضجيجها، وبدجلة الذي يخترقها متهاديا ليفصلها إلى الكرخ والرصافة، وكنت مسحورا بالتسكع في شارع الرشيد ظهرا، أو الدخول إلى السينمات الرخيصة والأفلام الساذجة للنوم في الظل البارد ،أو الجلوس على ساحل دجلة في أيام الخريف نستحم بدفء يشعرك بالخدر . هناك وفي شارع أبي نواس وبالذات في مقهى البتاويين قرأ لي الكاتب المبدع عبدالله صخي قصة متميزة في كونها تؤشر إلى أسلوب جديد للكتابة الستينية .
في شارع فرعي بين شارع السعدون وشارع أبي نواس، يقع مقهى صغير يتميز بتقديم الشاي بنكهة خاصة .كان يرتاده مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين والشعراء ورجال البوليس السري، وقد شكل هؤلاء المثقفون جيل الستينات المتمرد، وأصبح القسم الكبير منهم الآن يشكلون عالم الإبداع العراقي ويؤثرون فيه . كان لهذا المقهى ميزة التفرد حتى أصبح مكانا لصهر الأفكار الحداثية في الثقافة والفن والأدب من خلال رواده الذين كانوا موزعين في العمل في المجلات الثقافية، والإعلامية، والإبداعية .وبالتأكيد، فمثل هذا سيصبح رافدا للتأثير على أي إنسان يحاول أن يدخل في مجاهل الإبداع. وبما أن لكل جيل مناصروه، فإننا وجدنا في مكتبة بناي، ومكتبة هاشم مناصرة في شراء الكتب بالتقسيط منهلنا في القراءة. كان الليل له سحر آخر في بغداد، لذلك كانت متعة كبيرة الجلوس في ساعاته الأخيرة تحت ملحمة التحرير لجواد سليم، هناك وفي هذا الليل وهذا الجو اكتشفت مكاني ومستقبلي الإبداعي.
وعندما كنت أعود في العطلة الصيفية إلى مدينتي، كنت أنزوي في بساتينها الغنية بالفاكهة والرطب الذهبي، وأجلس على نهر دجلة بين شجيرات الصفصاف في منطقة الشبانة للتأمل. وبين الصفصاف والنخيل المائل بسعفه على النهر المنساب بهدوء ،كنت أقرأ كتاب فن المونتاج لـ "بود فكين"، وما كتبه "إيزنتشتاين" عن السيناريو والسينما عموما . وحرفيات هذا التكنيك يحتاجها عالم المسرح، ففيه حرفية خاصة، وقدرة على التنقل السريع في الحدث.
ولا أنسى الصدفة التي علمتني التوغل في عالم شكسبير الذي منحني الكثير في تعلم ـ ليس الفن فحسب ـ وإنما الحياة أيضا،وستمنحني "هاملت" أفقا جديدا ليخلق لدي رؤية جديدة وعالم أكثر تماسكا والتعرف على أن الفن يحتاج إلى رؤية فلسفية وتمرين على المعرفة وتوسيع الخيال ، وقد خدمتني الصدفة باللقاء بالفنان ومدرس المسرح في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة حميد محمد جواد .
ففي عام 1965 عاد حميد محمد جواد للتو بعد التخرج دراسة السينما في الاتحاد السوفيتي ( سابقا ) ، وبدأ تدريس المسرح في معهد الفنون الجميلة،وهو يمتلك القدرة على الدخول إلى قلب الآخر سريعا،بسبب روحه التمردية على البيروقراطية،والسخرية من الفن كوظيفة وتفضيل كون الفن هو الإبداع، وثورته على الصنمية في التفكير، ولاول مرة ارى هنالك من يتعامل مع المسرح بصوفية، وهو موسوعي الثقافة وعصامي في حياته، فقد تميز بعقله الشمولي المتنور .إن وعي حميد وثقافته الفنية والفلسفية ودعوته لتبني الفن بمفهومه الجمالي الخالص، وكثافة الإحساس بالزمن، وعبثية الوجود، وميله إلى العزلة ،والعزوف عن المغريات التي تمنع الفنان من ممارسة الفن كوجود ، كل هذه الأسباب كانت سببا في أن تتحلق حوله مجموعة من الطلبة الأكثر طموحا وتمردا، وسنرتبط به مصيرا للغور في تأمل الفن وعمل المسرح ،وأصبح معروفا بين أوساط الفن ، بأن هنالك على دجلة ،مجموعة من الفنانين الشباب يجلسون ساعات متأخرة في الليل، وخاصة في أيام العطل للتأمل والتفكير في الفن ،والقراءة والتمرين الفكري والفني لتكوين البصيرة الخيالية والذهنية ، وخلق مرادفات فنية صورية للتعبير فنيا عن الترادفات الحياتية مما خلق لدينا مفهوما جديدا في العملية المسرحية وهو مفهوم مسرح الصورة ،واستطاع أن يحقق هذا عندما أخرج مع طلبته مسرحية "هاملت"، فبالإضافة للتحليل الفلسفي الوجودي لماساة الأمير الدنمركي وشكسبير،فإن المخرج التزم بالنظرة الشمولية المقرونة بالحس التعبيري الفني المتفرد في كل شئ، في الحركة، أو التكوين، أو الرؤيا الإخراجية، أو الديكور الذي صممه هو كديكور تجريدي رمزي معبر له دلالات شاملة،والذي امتد إلى قاعة المشاهدين، وهو توجه يذكرنا بذات النهج للمخرج السويسري وأدلف آبيا، أو الانكليزي جوردون كريج الذين اهتما بعلاقة الكتلة بالفضاء ، إضافة إلى حذفه للشبح الذي يمثل والد هاملت، وبالرغم من خطورة هذا الأمر، إلا أن حميد جواد يبرر ذلك بكون عصر شكسبير يؤمن بالخرافات والأشباح، وهذا لا يتناسب مع عقلانية عصرنا . وكحل إخراجي فإن المخرج جعل هاملت يرى شبح والده الملك المقتول في داخله،في بصيرته ، ووعيه مكنونات روحه وأعماقها، فخلق ديالوجا بينه وبين الشبح الداخلي،السري الذي يوسوس في دواخل هاملت،كتحليل لما يراه من الفساد والعفن الذي حل في الدنمارك نتيجة لقتل الملك الحقيقي و لاغتصاب العرش من قبل الملك الجديد عم هاملت ، ولهذا فإن هذه المعالجة لم يسبق لها مثيل .لم أمثل في المسرحية إلا أنني تابعت إعدادها وإخراجها خطوة إثر أخرى ، لدرجة أنني حفظت المسرحية ظهرا على قلب ، ولهذا فان هذا الرافد العظيم، أثر في مسار تفكري الفني ،كما أثر في مستقبل المسرح العراقي، وأثر في تكوين رؤى الجيل المسرحي الستيني.
وفي سنوات المنفى كنت على اتصال تام مع مشاريع حميد محمد جواد السينمائية والمسرحية ، وحاول بعد سنوات من تحقيق أفكاره الجديدة، إنجاز عمله الضخم التالي وهو إعداد "الإخوة كرامازوف" وتحقيق العرض في ساحة الأكاديمية بديكور ضخم، وبالهواء الطلق، كأنه هياكل خرافية ، و أيضا التف حوله جيل من الطلبة الفنانين المبدعين لتحقيق أفكار جديدة في تفسير الإخوة من خلال التأكيد على التصادمات الكونية التي تبدو أبدية ، ولم يرى العمل النور بسبب بدء الحرب العراقية الإيرانية، والتفاف زملاء المهنة لقبر التجربة . والآن يعيش حميد منعزلا في منفاه الباريسي منقطعا عن الآخرين تماما، متوحدا مع غربته كفنان عراقي سرق زمنه الإبداعي.
المعروف عن الفنان سامي عبد الحميد المبدع والماهر في التمثيل وخلق الشخصيات على المسرح بكونه يحب دائما أن يمنح فرصا جيدة للفنانين الشباب المتميزين لذلك فإن إسناده لي دور البطولة في مسرحية يوجين أونيل "الإمبراطور جونز" تعد فرصة مهمة لطالب مسرح مثلي آنذاك، وخاصة وهذا الدور يعتبر دورا معقدا ليس نفسيا ـ فقط ـ وإنما حركيا. ففي المسرحية الكثير من التأويل والرمز الذي يجعل المخرج والممثل يبدعان في مجالات البعد الرمزي ، وكانت بالنسبة لي تجربة فريدة في معرفة الكيفية التي يمكن للممثل إن يبدع جسديا بالرغم من أن الكثير من أعمال عبد الحميد تنحو نحو الواقعية، وفي هذه المسرحية، فإن المخرج أعطى شخصية الإمبراطور إلى ممثلين اثنين بدلا من واحد، وهذا أضاف عمقا جديدا للعمل. وقد فتح لي سامي عبد الحميد أفقا جديدا عندما اسند لي ـ وأنا مازلت طالبا ـ مهمة تصميم ديكور مسرحية في "انتظار غودو" الذي كان يركز على فكرة الزمن والعدم من خلال التعبير عن اللاشئ، فتحولت أغصان شجرة الانتظار إلى أميال الساعة، والتأكيد على أن شجرة الحياة فارغة، ومنخورة، مما منح الديكور إمكانية خروج الصبي من داخل الشجرة ، ليخبر الأفاقين في نهاية كل فصل رسالة غودو في عدم مجيئه، ويعدهم بالمجئ غدا.
في مسرحية"عرس الدم" لغارسيا لوركا، منحني الفنان جعفر السعدي إمكانية التجاوز على الذات عندما أسند لي دور البطولة، وجعلني أشعر بشفافية الشعر، وتراجيديته على المسرح، لدرجة تتحول حركة الجسد إلى قيمة شعرية في الفضاء . المدرسة الأخرى التي أثرت في تكوين فكري المسرحي وذاتي كإنسان هي فرقة مسرح الحديث، وهو عالم جديد، فرقة مسرح الفني الحديث.
وتعتبر هذه الفرقة بيتا للفنانين الفقراء الرافضين، وغير المتكيفين مع النظام السابق ، تلك العائلة الفنية التي كانت مهمتها المساهمة في تطوير الوعي الاجتماعي والجمالي ، ليس لجمهورها فحسب ،وإنما لأعضائها من الشباب والرواد ، لأنها تميزت عن باقي الفرق،بكونها مدرسة فنية، تضم خيرة الفنانين العراقيين، وتعتمد على أهم المناهج الفنية العالمية ، ويتنوع ريبرتوارها المسرحي (برنامجها) بين واقعية وشعبية المسرحيات العراقية المعاصرة إلى المسرحيات العربية والعالمية.لذلك فإن الثيمة الرئيسية في عملها هي علاقة الإنسان بمجتمعه ،وموقفه السياسي ليس بما يحدث في وطنه ،فحسب، وإنما في العالم أيضا ، لذلك فإنها كانت تقدم فنا مسرحيا متطورا، يتسم بواقعيته،وصدقه،مما أدى إلى خلق جمهور كبيرو متنوع ، جمهور من البسطاء والنخبة ،سواء من العاصمة أو المحافظات ، و يثير هذا بالتأكيد حقد أجهزة النظام القمعية والصحفية والإعلامية ، لذلك فإن السلطة، كانت تضع العراقيل المختلفة أمام إنتاج الفرقة المسرحي، بسبب المعالجات السياسية والاجتماعية في المسرح العراقي، والتي يحاول تحقيقها فنان الفرقة، والفرق الأخرى غير المتكيفة مع أهداف السلطة ،وكانت ضرورية لتطوير وعي شعب عظيم تاريخيا مثل الشعب العراقي .وفنانو شعبنا من أعضاء فرقة الحديث اعتبروا الفرقة بيتهم الأول ،قدرهم في المعاناة ووسيلة لتحقيق وجودهم الإبداعي، فمن خلالها امتلكوا لغة التواصل مع الجمهور .
في مسرحية النخلة والجيران لقاسم محمد ، وعلى خشبة المسرح وقفت لأول مرة كممثل أمام الفنان خليل شوقي وزينب ويوسف العاني وناهدة الرماح ، في ذلك الزمن الذي أصبح ضبابيا في الذاكرة الآن. وعندما أصبحنا نحن الشباب أعضاء فيها،باركت الفرقة خطواتنا الفنية، واعتبرتنا رافدا شابا طموحا للمساهمة في مستقبل المسرح العراقي مثل : صلاح القصب، فاضل خليل، لطيف صالح ، مقداد عبد الرضا ، إسماعيل خليل،وبعد ذلك، إنضم بعدنا رياض محمد ، إقبال محمد علي ،كاظم السعيدي ،خالد خضوري ، طه رشيد ناظم شاكر . وأغلبنا نزح من مدن أخرى غير بغداد، مدن القصب السومري والبابلي والحضارات القديمة ، مدن الأحلام،والأساطير والسحر والخرافات، مدن مازالت تعاويذ العرافين في معابدها القديمة، توشوش في شواطئها فنصاب بالتوهان. مدن مسكونة بعبق الأهوار والبطائح وليالي الشجون ، ومدن أخرى برائحة المسك في مراقدها المقدسة . من هذه المدن نزحنا إلى حاضرة كبغداد التي لم تدهشنا كثيرا في ذلك الوقت، لأن هاجسنا كان دراسة المسرح في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة. كنا نتهيب احتراما من الاقتراب ـ ليس فقط من فناني الفرقة ـ وإنما من جميع الفنانين المبدعين مثل زينب، ناهدة الرماح ، خليل شوقي ،إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد ، يوسف العاني ،عبد الجبار عباس (رقد مشلولا وجائعا في بيته لسنوات طويلة قبل أن يموت )،وقاسم محمد ، جعفر السعدي ، حميد محمد جواد ،فاروق فياض ، عبد الواحد طه ، بدري حسون فريد ، آزادوهي صموئيل ، أسعد عبد الرزاق ، جميل نصيف ، طه سالم ، خليل الرفاعي، منذر حلمي ، علي فوزي ،جاسم العبودي ( مات وحيدا في دار العجزة في أمريكا )،جعفر علي (ظلت جثته مسجاة على الرصيف أمام المستشفى يوما كاملا ) ،روميو يوسف ، عبد القادر رحيم ، علي ياس، غازي القيسي وغيرهم . وكان فنانو الفرقة يعرفون بأن الشباب الجدد بحاجة إلى فترة من الزمن ليتعودوا على جو وعمل الفرقة، لذا فإنهم كانوا يبادروننا، وبذلك يقترحون صداقة متكافئة من القلب مبنية على الاحترام وبدون كبرياء أو فوقية بالرغم من أن أكثرهم يدرسوننا في الأكاديمية .
لكن ظروف العمل المسرحي الصعبة، في عهد النظام السابق الذي فرض تبعيث الثقافة فقط ،حدا بالكثيرين من الفنانين والمثقفين إلى ترك الوطن إلى المنفى. فبدأ عذاب الهروب إلى المنافي والشتات، ليستمر حتى هذه اللحظة ، لكن هل يبقى المنفى وطنا ؟

س:بعد هذا التكوين غادرت الوطن مضطرا مما أوصلك إلى القول إن الفنان العراقي في المنفى فقد مشروعه الفني بعد أن سرق منه زمنه الفني.كيف عشت هذه التجربة ؟ وكيف كان للتشتت تأثيره المأساوي على رؤيتك؟

المنفى والانبهار بالقيم الجديدة في الغرب
الدكتور فاضل سوداني :يحدث التناقض بين ثقافة الفنان وثقافة المنفى عندما يعيش الاغتراب المفروض عليه بعيدا عن بيته الأول ، منبت الوعي التأسيسي،وعن تلك العوامل التي شكلت وعيه الفني والجمالي ،ولكن بالرغم من هذا، فإن المنفى يفرض حالة من دمج الثقافات و إغنائها. وبالتأكيد فإن هذا، يعتمد على وعي الفنان ذاته في إعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يؤدي إلى أن تتحول غربته إلى تاريخ جديد من الإبداع في مكان وزمان جديدين. وهذا هو جوهر مهمة الفنان في منفاه .
إن ضرورة هذا الوعي، تحتمه طبيعة المجتمع الأوربي التجريدية ، لأنها تفرض على الفنان قيما جديدة لا تشكل ذات الاهتمامات الفنية للفنان سابقا والتي يحاول الفنان من خلالها معايشة الوجود والالتحام المصيري ، فتنشأ فوضى التناقض ، ويبدأ التصادم بين القيم الثقافية والحضارية التي تشكل وعيه الفني، وبين تلك التي تميز ثقافة المنفى،وعليه أن يحافظ على خلفيته الثقافية حتى يستطيع أن يتوصل إلى التفرد ،والأصالة حتى يبتعد في فنه عن "استهلاكية الثقافة واستهلاكية الوعي ".إن مشكلة التكيف الايجابي لاغتراب الفنان، تكمن في أهمية مقاومته للضياع الفني الذي يحتمه المجتمع الاستهلاكي الجديد . و تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة هنا ، ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته الجديدة أيضا ، لأنها تساعده على إنقاذ فنه.
وهذه قضية أساسية ، لأن معايشة المنفى الأوربي الجديد في سنوات اللجوء الأولى، تخلق حالة من الانبهار والاندهاش،بسبب بهرجة الحياة الجديدة التي تصيب الفنان بالتوهان،وبلا وعي منه ينجذب إلى الحياة الاستهلاكية، فتخبو جذوة الروح، و تنطفئ شعلة النار التي اختزنها الفنان في روحه، فيخضع فنه لمتطلبات تجارة السوق في مجتمع المنفى الاستهلاكي،أو يجبره لمعان الذهب على التحول إلى تاجر، كما حدث للكثير من المبدعين في منفانا ، لأن الأشياء المستهلكة ، تصبح هي الجوهرية في مجتمع الوعي الاستهلاكي، فيتأثر الفنان بهذا التشيؤ ، ويصبح تأثيره كفنان حقيقي كالذي يعزف على طبل مثقوب .
وهنا تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته أيضا،وعلى عكس هذا،فإنه يفقد مصباح النور القدسي الذي عثر عليه في أحد دروب الدنيا المليئة بالأسى، فيتحول الوعي الفني إلى وعي استهلاكي ، يُخضع الفن الحقيقي للهامشية التي تحوله إلى لوحات تزين قاعات البنوك ومؤسسات الصيارفة التي تتحكم بالمجتمع المعاصر.
ولكن من جانب آخر، فإن العيش في المنفى، سواء أكان خارج الوطن الأول، أو منفى الإنسان في داخله وهو في وطنه، يمتلك أهميته وضرورته. ولهذا فإن الفنان عليه أن يعمل على نفي نفسه فنيا ، وتغريب ذاته وهو في وطنه كامتحان، وهذا يعتبر جزء من تدريب الفنان لمواجهة ذاته الفنية من أجل أن يمتلك لغته الخاصة التي تختلف عن لغة مجتمعه. ففي المنفى تتجذر الأسئلة الأساسية لدى الفنان، ويستطيع أن يمتلك أدواته الفنية وأسلوبه الخاص ،إن المنفى خارج الذات، وخارج الوطن هي المؤامرة المصيرية التي تضع الفنان على حافة الخطر، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن المنفى هو الحافة التي تجعل من الفنان إما لامباليا،و إما عصاميا ، ويتم هذا ـ فقط ـ من خلال وعي الفنان لدوره في المنفى الجديد، وبدون هذا فإنه يصبح في منأى عن أوليات الحياة، وليس الإبداع ـ فقط ـ وأوليات الثقافة، والمجتمع، واللغة، والحب، والجنس،وتعلم عادات جديدة، مثل الكره ،والحقد، والقلق، والخوف من عنصرية الآخر، ولكن وعيه بكل هذه الإشكاليات تحصن قدرته على القيام بهذه المزاوجة بين الثقافة الجديدة في الحضارة الجديدة وآلياتها وتكنيكها الفني ، وبين ذلك الغنى الروحي الذي يمتلكه الشرق والذي تفتقر له أوربا، أي هي المزاوجة بين العقل الأوربي والروح الشرقية، وبالتأكيد فإنه سينتهي إلى فهم جديد للحياة والعالم والحضارة والتاريخ، وهذا يؤدي إلى وعي فني جديد،يؤدي بالفنان إلى استعادة زمنه الذي سرق منه وهو في وطنه الأول،إن هذا هو الهدف الثاني من معاناة المنفى.
فالفنان غريب دائما ( بالمفهوم الوجودي )، ولهذا فان الإبداع ـ فقط ـ يجعله منسجما من جديد مع ذاته ـ أولا ـ ومع الآخر ـ ثانيا ـ ولهذا ، فإن المنفى الأوربي أكثر أهمية من الناحية الإبداعية والفنية والتقنية والمعرفية من المنفى في المجتمع العربي، لأن الفنان المنفي في أوربا يتعلم تكنينكا جديدا لفهم الحياة،و لفهم إبداعه وتحقيقه، ويتعرف على جوهر الأسئلة المصيرية.ومن الأهمية بمكان، عليه أن يعرف إلى أي جمهور يتجه، و ما الموضوعات التي تشكل اهتمام الفنان في المنفى والتي من خلالها يستطيع أن يخلق حوارا حضاريا ولغة تواصل بينهما، بالرغم من أن خطورة المنفى تمنح المهاجر عقلا تجريديا.
ويجب أن نفهم العمل الإبداعي الذي يقدم إلى جمهور أوربي من زاوية أخرى، حيث أن بعض الفنانين العراقيين والعرب مصابون بهوس الجمهور الأوربي، أي أنهم يعتقدون أن تقديم عروضهم أمام جمهور أوربي يخلق عالمية الفن والفنان ، كما يجاهد بعض الفنانين العرب في استجداء العرض في أوربا، بدلا من بذل الجهد في إمكانية اكتشاف الأسئلة المصيرية التي تقلق الفنان والجمهور، وكذلك العمل على غنى أدواته الفنية ولغة خطابه الفني، بلا ثرثرة فكرية و فنية أو عاطفية وبلا سذاجة تجريبية.فاكتشاف الأسئلة الجوهرية التي تمس مصير جمهوره ومجتمعه هي التي تخلق عالمية الفكر والإبداع.
ومن جانب آخر، يكون ضغط المنفى مضاعفا عندما تكون الدكتاتورية هي سبب نفيك،وعندما ترفض أن تكون فنانا متكيفا مع آليات التفكير الدكتاتوري، وهذا ما حدث في العراق حيث الكثير من الفنانين كانوا مع ثقافة النظام ، أما الآخرين فاضطروا لترك العراق لهذا السبب ليعيشوا في المنافي في حالة من اللااستقرار والتشتت ، فالدكتاتورية والحروب تسرق زمن الفنان أو المثقف، و المنفى يسلبه نصف طاقته على الإبداع، لأن عليه ـ أولا ـ أن يوفر معيشته الحياتية، مادام هو غريب في بلد الغرباء.
وبالتأكيد، فإن كل هذا يؤثر على رؤية الفنان، بل أحيانا، تتغير جذريا،فمثلا يمكن أن تدخل مفردات ومفاهيم جديدة على اهتماماته.وبما أن الفلسفة والثقافة الغربية وبالذات الفرنسية المعاصرة تمتلك القدرة الشمولية في سبر أغوار النفس والحياة والعقل البشري ، فلابد إذن، أن يكون هنالك تأثير ما ، ولابد أن يعمد الفنان لمعالجة مشاكل الإنسان بشمولية كبيرة ذات فضاء واسع،فيصبح اهتمامه ليس في الإنسان ـ فقط ـ وإنما يضاف لها كل ما يتحرك في محيطه وفضائه، فالمسرح يهتم بالإنسان، إضافة إلى اهتمامه بأشيائه أيضا، أي تلك الأشياء التي تقلقه ،وهذا واضح في الثقافة الغربية، وكذلك الحال في الرسم بحيث امتلكت الأشياء وجودها في فضاء اللوحة وامتداد معناها خارج هذا الفضاء .ولكن هذه الأشياء لا يمكن أن تتكامل، أو تمتلك كيانها ومعناها في فضاء اللوحة،أو في الفضاء المسرحي إلا بجانب الإنسان ومن خلاله فقط، فتبدو علاقتهما أزلية .
إن هذا الوعي الشامل الذي يمكن للفنان أن يكتسبه من المنفى ، انعكس على كتابتي وإخراجي لمسرحية ( الرحلة الضوئية ) سواء في عرضها العربي أو الدنمركي ، ففيها تناولت شمولية المشكلة ، إنني في هذه المسرحية لم أعالج مشكلة الفنان فان كوخ ـ لأنه بطل الأحداث ـ وإنما أعالج مشكلة الفنان عموما ـ بما فيها الفنان العربي أو العراقي ـ في علاقته بالعالم والآخر والمجتمع ، ولم اطرح فيها تفاصيل حياته المعروفة كما عمل بعض من كتبوا عنه، وإنما كان السؤال الجوهري الذي يشكل أزمته المصيرية هو: كيف يستطيع الفنان أن يحول اللون الأصفر إلى نور ليضئ روحه والآخرين ، إضافة إلى تمايز التكنيك وأسلوب الطقوس في الكتابة ،أو الإخراج. ولذلك يمكن القول إن الفنان العراقي في المنفى الأوربي، بالرغم من أنه فقد مشروعه الفني بعد أن سرق زمنه ، إلا أنه تواصل بوعي أشمل، وبتجربة تكنيكية وفكرية أوسع.



س:من العراق إلى العيش في المنفى الاضطراري صرت تدافع على المسرح الذي يعالج المشاكل المصيرية التي تقلق المجتمع، وتدعو إلى إسقاط الأقنعة من المسرح الذي لا يتحدث عن الظروف والأزمنة الملتبسة التي تفرض الخواء الفكري على الفنون.ما تجليات هذه الدعوة على المسرحيين العراقيين في المنفى؟

الفنان العراقي ومواجهة هامشية المسرح العربي في أطروحاته الساذجة

الدكتور فاضل سوداني لا يمكن للفنان أن يكون قادرا على تناول مشاكل مجتمعه وإنسانه العراقي، أو العربي ما لم يمتلك نظرة كسموبوليتية شمولية للحياة والكون الذي نشترك في العيش فيه . وهذه النظرة لا يمكن أن تتحقق ما لم يكون الانتماء الكوسموبولوتي هو تعميق للانتماء الإنساني الأشمل، ولا يعني هذا الإغراق بالعالمية، أو محو الهوية والتفرد الذي يجب أن يمتاز به كل إنسان، بل بالعكس، إن مثل هذا يقوي الانتماء المحلي، فمثلا ما كتبه صمويل بيكيت، ووليام شكسبير، ويوجين يونسكو، وسوفوكلس، وموليير، ولوحات فان كوخ أو بيكاسو وغيرهم، مازالوا أكثر حداثة الآن، وهم لم يعبروا عن أزماتهم، أو لم يكتبوا عن الأسئلة الأكثر إلحاحا التي تمس ذواتهم والمجتمع الذي عايشوه ، بل هم عبروا ـ أيضا ـ عن مشاكلنا نحن أيضا .
وبما أن الفنان العراقي عاش خراب العبث السياسي في زمن الدكتاتورية، وعاش كذلك الإقصاء والتمايز والحرمان من المعرفة والتطور الفكري والتكنولوجي الذي يحدث في العالم،فإنه يضطر إلى الارتماء في المنفى الأوربي،إما أن يلتزم بالتجريديات الفكرية والجمالية بدون مزاوجتها مع نبض روحه،أو يبقى متشبثا بتعاليم فكرية وفنية تبدو سلفية وماضوية وقد تجاوزها الزمن، بحجة الحفاظ على الهوية ، لكن بصيغ سلفية .
وهذا بالتأكيد، انعكس على أعمال بعض الفنانين العراقيين في المنفى إذ أن بعضهم يرفض مفهوم الإستشراق بمفهومة الذي يؤكد على المراكز الثقافية العظمى، وبالذات المركزية الغربية فقط، و التي تتجاهل المراكز الحضارية الأقل منها، ولكنه عندما يتعامل مع أساليب العمل المسرحي، ويحاول أن يقدم عملا يعتبره حداثويا، فإنه يضطر أن يلتزم الفكر التجريدي، و يلتزم بأساليب الفن التجريدية التي خلفها الغرب وراءه منذ زمن، فيتحول العمل الفني إلى إشارات ويعم الغموض.
وبما أن الفنان العراقي يعيش في ظروف صعبة في المنفى العربي، أو الأوربي، مما يضطره إلى أن يعمل بشروط وثقافة وفن بلد المنفى ،مما يضطره إلى تنازلات فنية وجمالية، أما التنازل الجمالي، أو الفكري والسياسي فإلى أين يؤدي كل هذا بالنسبة إلى عمل الفنان في المنفى ؟
ففي المنفى الأوربي، يقع الفنان غير المتزن في الغموض،لأنه لا يملك الحصانة الداخلية فتشتت الرؤية، أو يضطر الفنان إلى تقليد الفن الغربي،مما يؤدي به إلى التجريد في أساليب العمل بحيث يلتبس الأمر على الجمهور، ويضطر الفنان إلى أن يرفضه باعتباره جمهورا متخلفا ولا يفهمه، وسيضطر الجمهور في ذات الوقت إلى أن يرفض هذا الفنان الثرثار في الأساليب الفنية المنقولة التي لا يعرف كيف يوظفها . الشئ المعروف هو أن كل المعارف والمكونات الفكرية مرمية في الطريق ويستطيع الفنان اللماح الذي يكون هدفه هو الإبداع، وليس التجارة ، اكتشافها .
الغموض إذن، يكمن في فكر وخيال وعقل الفنان ذاته، وكما يقول نيتشه "إن مشكلة الإنسان هي خياله" . أحد زملائي من المخرجين جعل الممثل يركض في قاعة العرض فترة طويلة بدون أن يفهم الجمهور سبب ذلك، وعندما سألته عن السبب ، قال إنه يريد أن يصل بالممثل إلى أقصى درجات قدرته الجسدية ، إلا أن الممثل أرهق، وتخلخل أداؤه بعد ذلك . لكن المخرج نسى بأنه بهذا فإن العرض، يتحول إلى تمارين وليس عرضا، وهنالك فرق كبير بينهما ، إن الإبداع لا يأخذ تفصيلات الواقع كما هي،أي أن أي حركة لاتقدم كما هي، وإنما في الفن تتغير وظائفها لكي تتناسب مع زمنها الفني وليس الواقعي ، وبهذا فإن عمله تحول إلى تجريد غير مفهوم، بالرغم من أن الادعاء هو الوصول إلى عمل مسرحي متحرك وديناميكي و مابعد حداثي.أو أن بعض الفنانين يعملون على معالجة مشاكل المجتمع الأوربي الذي يعيشون فيه من خلال أعمالهم المسرحية ابتغاء لضمان مؤسسات الدعم في هذه البلدان، وظنا منهم بأنهم يساهمون في معالجة قضايا اللاجئين ومجتمعات اللجوء. لكن من فائض القول التاكيد على أن فهم مشاكل مجتمع ما، يكون أبناؤه و فنانوه هم الأكثر قدرة على هذا الأمر.
أما في المنفى العربي، فإن الفنان العراقي يعمل ضمن شروط (غير معلنة ) تخضعه كي يتكيف مع سياسات وإيديولوجية ذلك الحزب أو النظام ، وهذا خسران كبير للفكر الفني الإبداعي، لدرجة أن الكثير من الفنانين يضطرون للمساومة ،ليس فقط على مبادئهم، أو أخلاقياتهم الفنية، وإنما على تضامنهم مع مصائب شعبهم كما هو الحال بتأخر بعض الفنانين العراقيين (خوفا على مكاسبهم ومجاملة للأنظمة العربية التي يقيمون فيها ) من التضامن مع مصائب الشعب العراقي و الحرب التدميرية ضده التي يلعب الدور الأساس فيها بعض دول الجوار ، وبالتأكيد فإن هذا يؤثر على أدائهم الفني . أي أنه يؤثر على الفنان، ويمنعه من أن يفكر بحرية وعلى قدرته على كشف تلك الحقائق المصيرية التي تقلق المجتمع، انطلاقا من أن الفنان هو ضمير شعبه . وأي مسرح لا يتحدث عن الظروف والأزمنة الملتبسة التي تفرض الخواء الفكري على الفنون، فإن هذا المسرح، ومن ورائه فنانيه يساومون على وجودهم ليس الفني فحسب وإنما الوجودي أيضا.
الفنان العربي تربى على هامشية المسرح العربي في أطروحاته الساذجة الآن، وأكثر الفانين العراقيين وضعوا في ظروف تجبرهم على خدمة أغراض سياسية وإيديولوجية، كما هو الحال في عهد النظام السابق، وفي ظروف الحر ب المعلنة و غير المعلنة، والهدف الحقيقي هو توقف عملية تطوير الثقافة والفكر.... إضافة إلى أن الكثير من الأعمال الفنية العربية تعمل على خلق سكونية الوعي، مما يساهم في تكريس سكونية التطور الاجتماعي .
ولهذا فإن الكثير من البلدان غير الديمقراطية، يشكل ديالكتيك الثقافة الحرة خطورة على أنظمتها،وخاصة إذا كانت الأمية تشكل نسبة كبيرة في المجتمع، وإذا أضيف إلى هذا لامبالاة وتساهل المثقف مع ذاته .
إذن معاناة الفنان مضاعفة، فإما التكيف الفكري ضد مايؤمن به ، أو التكيف ضمن شروط المنفى. أما الطريق الآخر، أي طريق انسجام المثقف مع ذاته ودوره التاريخي، فهو الطريق الأشق، لكنه الوحيد لإنقاذ الوعي الحر المشاكس الذي يمتلك ضرورته للمثقف والفنان الفعال غير المتكيف.

س:ربما أوصلتك هده النظرة ـ أحيانا ـ إلى الاقتناع بأن المسرح هو الذي يخلق التوازن النفسي عند الإنسان والجماعة في زمن العذابات، وأنه يستطيع داخل الوطن وخارجه أن يبني الوعي الإنساني عموما والوعي الجمالي خاصة كنتيجة حتمية لوجود علاقة بين الإنسان والمدينة.هل هذه النظرة عندك خلاصة للنظريات المسرحية في الغرب ؟

المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح

الدكتور فاضل سوداني: إذا كانت هذه النظريات المسرحية الغربية هي النظريات السائدة هناك، ولها تأثيرها في حياتنا، وفي بلداننا نتيجة للمركزية الغربية، أو الأوربية، فعلينا أن نتمثل هذه النظريات جيدا من خلال غنى الروح الشرقية ، من أجل خلق العلاقة المصيرية بين المدينة العربية، أو الشرق أوسطية وبين المسرح أو الثقافة و الفن عموما.وعلينا في البداية أن نشخص طبيعة العلاقة بين المسرح والمدينة العربية، وهل هنالك حقا وجود لهذه العلاقة ؟. أم أن هنالك وهما وادعاء دعائيا للسلطات ذاتها. وبما أن الأنظمة العربية تكره الفن والجمال، وتخاف من علاقته بالمدينة ، نتيجة لجماهيريته، فإنها إما أن تكيفه مع أهدافها الإيديولوجية والسياسية، وبهذا فإنها تقوم بالتشويه الفكري ، وإما أنها ترفضه بحجج دينية سلفية كما ذكرت سابقا . ولهذا فليس هنالك علاقة مصيرية بين الفن والمدينة العربية لان تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا يفرض مقدمات جوهرية تؤثر في المدينة كمجتمع والإنسان كفرد برغم تعقيدات التطور الاجتماعي . وأهم هذه المقدمات هي الديمقراطية الاجتماعية ، وحرية الفنان و الذات ككائن بشري مبدع فاعل ، بما فيها حرية الاكتشاف والتجريب في الفكر والفن وشتى أشكال الوعي الثقافي .
فالمدينة المتحضرة التي تحتم مقدمات التكامل الاجتماعي، ويشكل التطور العلمي والفكري والثقافي أساس وجودها اليومي ، بالتأكيد ستكون مدينة مستقبلية ، ويوتوبيا ، ومدينة الحلم ، والفردوس . إنها المدينة والمدنية التي تؤثر على المتعايشين في فضاءها الديناميكي . وبما أن المسرح قضية حضارية أساسا، فإنه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية، وتحتمه تكاملية المجتمع المديني . ولهذا فإن أي تفكير بجوهر وماهية المسرح، هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية ـ جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه ـ أيضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة ،إلا أنه كان ـ ومازال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للمدينة والإنسان .
ولكن السبب الحاسم والمثير الذي أدى إلى تطور المسرح بعد ذلك هو الذي حدث في الحياة الاجتماعية الإغريقية حيث أحدثت الممارسة الديمقراطية في المجتمع الأثيني القديم تطورا وتغيراً داخليا هائلا لعصرها .
ومنذ القدم ارتبط نشوء الظاهرة المسرحية بتكامل المدينة وفضائها الاجتماعي المديني الذي تطورت فيه ذات الإنسان الواعية، بعد أن وجد ت جوهرها الحيوي،ولكن ارتباط ديمقراطية المدينة بحرية الفكر وتجريبية الإبداع في شتى المجالات يشكل الشروط الأساسية لتكامل المدينة والمسرح في ذات الوقت،كما أسلفنا سابقا .
فالانسجام الحقيقي بين هدفية التكامل الاجتماعي و الثقافي ـ وبالذات المسرح ، باعتباره فعالية جماهيرية ـ هو الذي سيخلق نوعا من وحدة الهدف لتحقيق مجتمع المدينة الحضاري والمسرح الحضاري المستقبلي ـ البصري ، فتتكامل العلاقة التبادلية بين تأثير مجتمع المدينة في تكوين فكر الفنان، وبالتالي القدرة التأثيرية للمسرح في المدينة .
وضمن التطور الديناميكي للمدينة والمسرح، فإن المواضيع التي نوقشت على خشبة المسرح في الأزمنة التي تلت الإغريق اختلفت جذريا. فمع مسرحيات شكسبير بدأ النقد الاجتماعي للحياة وتأشير معادلة الخير والشر والصراع بينهما، وازدواجية هذه العلاقة في ذات بشرية واحدة ،وفي أزمنة لاحقة تميز المسرح بمعالجة المشكلات الاجتماعية بسخرية مرة ،بما فيها معالجات مسرح القرن السابع والثامن عشر . و أكدت الكثير من الأعمال المسرحية على رفض المظالم الاجتماعية، وتطور هذا إلى التأكيد على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية ومطالبة الإنسان بحقوقه، التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وانعكس هذا في أعمال الكثير من مؤلفي المسرح العالمي.
لكن التطورات العظيمة في القرن العشرين الذي مر عاصفا ومضطربا ومخيفا ـ في ذات الوقت ـ ومازال تأثير حروبه المعلنة والمخفية كبيرا على وجود الإنسان،أعطت إمكانيات جديدة للمسرح، فأرتبط بالتطور التكنولوجي، وأشر تناميا متزايدا للوعي الثوري والفلسفي في معالجته لشتى المشكلات الاجتماعية والفردية ضمن الواقع المضطرب . وطبيعة هذه المشكلات وحجمها خلقت الوعي الشمولي للفنان المسرحي وساعد هذا على إمكانية المسرح وقدرته في أسلبة العصر ، من خلال التأكيد على جوهر المشكلات الأساسية التي تميزه .
ومن اعتيادي القول إن المسرح يتطور وسط الاستقرار والهدوء الاقتصادي والسياسي وحرية التجريب التي تطور ديناميكية الفكر ، غير أن المدن تخلق أحيانا جحيمها الأرضي، وتجعل من الحرب قدرها، فتفقد أمنها ليتحول كل شئ إلى أشباح ويصير المسرح خرابا .إلا أن مسرح ما بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية ،أكد حالة من الفوضى المنظمة ، أي الفوضى البنائية من أجل خلق اللاتوازن في النظام الطبقي، وكذلك في الوعي الاجتماعي للمدينة ،وإعادة خلق ديناميكية الوعي الفردي الجديد .
فارتباط المسرح بالفلسفات الطليعية ،وخاصة الوجودية ،والسريالية ،والماركسية،وفلسفة تضخيم الذات التي نشأت بتأثير الحروب،جعلت الفكر المسرحي موزعا بين جانبين :
الأول : فضح النظام الرأسمالي ـ الاستغلالي، وكشف الأسباب الحقيقية والعدوانية للحروب التي تقودها مخططات أرباب العمل ورأس المال العالمي ،و المساهمة في بناء وعي جديد، و إغناء روح الإنسان من خلال التأكيد على الفكر الثوري ـ اللبرالي والماركسي، كأيديولوجيا يمكن أن تمنح الإنسان عالما فوق الطبقات . وكان للعقل البر يشتي المؤدلج، والمشاكس دور كبير في تأكيد الأيديولوجيا في المسرح، وإعطاء أهمية كبرى لاحترام حرية الإنسان .
الثاني : إبراز الخواء الروحي والقلق المضاعف للإنسان الخارج للتو من تحت أنقاض الحرب، مع الإشارة إلى استلاب هذا الكائن في عالم غير حر أساسا، وفي الآن ذاته، تضخيم الذات الفردية وسط تناقضات حياتية عصيبة نتيجة لخواء العصر . وقد أكد هذا الاتجاه أيضا على التناقض في الوجود والحياة والتأكيد على عزلة الإنسان، وقصور لغة التفاهم بين الإنسان والعالم المحيط.
ولهذا فإن مؤلفي ومنظري هذا الاتجاه ،كالمسرح الطليعي ( اللامعقول ) ـ والتجارب الآنية كمسرح الصورة ،أو مسرح الحداثة وما بعد الحداثة المتأثرة بفكر ورؤى أنتونان أرتو،ومايرهولد ،وغروتوفسكي، تميزوا بالوعي الشمولي لمعالجة أي ظاهرة حتى وإن كانت محلية لتأكيد شمولية مشكلة الإنسان .ومن هذا المنطلق فإن المسرح هو الذي ساهم في خلق التوازن في زمن الاضطراب والفوضى التي أعقبت الحرب، وأعاد الثقة للفنان وللإنسان عموما بأنه قادر على مسك اللحظة الزمنية من جديد .
إضافة إلى هذا، فإن هذه المسارح، والاتجاهات،والرؤى، أرجعت المسرح إلى جذوره الطقوسية الأولى التي تحتم على عدم الاستغناء عن مشاركة الجمهور الوجدانية . ومن جانب آخر، فإنها تعد تجارب ضرورية للمزج بين المسرح كطقس والمدينة كفضاء اجتماعي يمكن أن يؤثر أحدهما بالآخر. وهنا ينبثق سؤال جوهري هو : هل يمكن أن توجد في المدينة العربية مثل هذه العلاقة الدينامية بين المسرح والمدينة الأوربية ، وكيف يمكن أن توجد؟
إن الالتباس الذي يعيق تطور المسرح العربي الآن، ويخلق جوهر أزمته، هو أن المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح،لأن المتعايشين في المدينة منشغلين عن المسرح بأمور أخرى ، إما أن تكون إيديولوجية ،أو سياسية ،أوفكاهية تخديرية ،وإما أن الأنظمة التي تسير هذه المدن تعتبر المعرفة الفكرية والجمالية شيئا ثانويا . وعكس هذا فإن المسرح، لا يمكن أن يوجد، ويكون ديناميكيا إلا في قدرته على إثارة الأسئلة الجوهرية والمصيرية في عصر تكنولوجي جديد. إضافة إلى أن المسرح يشكل بالنسبة للمدينة خطورة جوهرية، لأنه يخلق التجمعات، ويثير الأسئلة، وينتج وعيا جديدا، ويقوم بعدوى المعرفة، لهذا فإنه يعد هامشيا في صلب برنامج النظام الذي يقود المدينة العربية.
والجانب الآخر الذي يمتلك أهميته، وتفرضه لغة المسرح وطبيعته الفنية ، هو تغيير العلاقة مع الجمهور المتلقي ليتحول إلى متفاعل، و يقوم بفعل المشاركة كما كانت عليه وظيفته في الطقوس المسرحية قديما .
هنا تكمن ضرورة إعادة معمارية السرد الرؤيوي والفكري للطقس المسرحي في المدينة العربية المستقبلية، بحيث تكون هنالك إمكانية لاستعادة مجد المسرح حتى يصبح له ارتباط عضوي بحياة الجمهور كما كان عليه المسرح اليوناني القديم . أو خلق تلك العلاقة الحميمة المتجذرة بالمدينة، كما في مدينة القرون الوسطى الأوربية .

س :أنت تنتقد ـ دوما ـ الديمقراطيات المزيفة التي تخلق إنسانا مزيفا وسطحيا بفكر سطحي يجعله يتكيف مع مفاهيم لا يؤمن بها ، ويساير ثقافات سلفية بعيدة عن روح العصر،هل أوصلك هذا الاعتقاد إلى بلورة تجربتك في كتاباتك المسرحية والنقدية؟

النص البصري والذاكرة الجسدية المطلقة للممثل والعلاقة مع المتلقي
الدكتور فاضل سوداني :المسرح هو فن اللحظة ( الآن وهنا ) التي لا يخضع الزمن فيها لأبعاده الواقعية والمنطقية ، وإنما يخضع الإبداع المسرحي لقوانين زمن الإبداع الذي يكون ديناميكيا يعبر عن الإيقاع المستتر للموضوع الفني ، فيظهر لنا الخفايا اللامرئية في الواقع والحياة وذات الإنسان. ويقوم أيضا بدلالات وإحالات على الماضي وكذلك على المستقبل .
فالطاقة الإبداعية في الفنون جميعها، وفي المسرح خاصة ، ذات قيمة دلالية ، تقوم بالعدوى ،وتؤثر على الفنان ، ومن خلاله يتسرب الإبداع المبني على الإشارات والدلالات والإحالات السيميولوجية إلى المتلقي الذي يتحول إلى متفاعل بمفردات هذه اللغة التعبيرية لخلق صورة درامية في زمن و ظروف محدد ة ،ولكنها تخضع للآنية ( الآن) وللمكانية (هنا )، وبهذا يكمن جوهر الفن المسرحي .
والشيء الذي يمتلك أهميته في المسرح أيضا، هو " اللحظة الإبداعية " التي تعتبر رؤية درامية ذات دلالات سميولوجية يتجلى بمفرداتها فكر المؤلف والمخرج ، ويتجسد المعنى الذي ينتجه جسد الممثل وقدراته التعبيرية لتأليف لغة دلالية إشاراتية للمخاطبة، فالحركة التعبيرية لجسد الممثل هي مفردات للغة معرفية في الفضاء الديناميكي المكتظ بالدلالات والرموز والضاج بالمعاني .
وعلاقة الممثل بالسكونية والنمطية أو الديناميكية تحدد لنا نوعين من الإبداع في عمله :
1. الممثل الفنان المبدع : وهو الفنان الذي ينشئ معنى معرفيا في الفضاء الإبداعي في مكان وزمان وظرف محدد ،ويمتلك معرفة علمية وإبداعية بتكنيك لغته الفنية ،وهو الذي يكوّن من جسده والوسائل التعبيرية الأخرى لغة سميولوجية لإنتاج المعاني .
2. الممثل النمطي المتكيف الذي يتكيف مع نمطية و سكونية المسرح التقليدي ، وهو عبد مخلص لهذه الطريقة التي تنتج وتعيد واقعا فوتوغرافيا . و يعتمد الممثل فيها على الارتجال الساذج، بغية خلق علاقة تعتمد الثرثرة في الحركة التي لا تعني شيئا.
وضمن هذا الفهم، وهذه الفرضية، كتبت دراساتي النقدية، أو نصوصي المسرحية والتي أخرجتها برؤى حاولت من خلالها الوصول إلى مفهومي عن النص البصري، والبعد الرابع، والتفاعلية بالتلقي، و الذاكرة الجسدية المطلقة للممثل، وذاكرة الأشياء. إنه أسلوبي في العمل الذي يعتمد على نظرة خاصة ليس للحاضر وإنما لمستقبل و للماضي أيضا الذي يشمل ماضي الإنسان وقلقه التاريخي وغموض التاريخ المكتوب دائما بانحياز. وكل هذا يحتاج من الفنان قراءة جديدة .ولهذا فإن المشروع الفني لأي فنان هو زمن يسمح بطرح سؤال جوهري، قد لا يكفي عمر الفنان لمعالجته. انطلاقا من هذا فإنني عالجت علاقتي بالتاريخ السومري والبابلي، من خلال قراءتي المتحررة لملحمة "جلجامش" أنتجت مسرحيتي "أغنية الصقر" . ومن جانب آخر كانت تقلقني ـ أيضا ـ علاقتي كإنسان معاصر ، بالأزمة الإنسانية للآخر،وشموليتها،بغض النظر عن البعد الزماني والجغرافي ، كما هو الحال في كتابتي لمسرحية "مساء الخير أيها السيد فان كوخ"، أو مسرحية "النزهة "، وكذلك مسرحية " الرحلة الضوئية"، أو مسرحية" النـزهات الخيالية ".
وطرحت على نفسي السؤال التالي :
كيف يمكن النظر إلى العلاقة بين الذات المعاصرة و التاريخ وبين العنف، والحرية كمفردات معاصرة يمكن أن نعثر عليها في التراجيديا أو الملحمة ؟
فمن أجل الإجابة عنه، اتجهت نحو معالجة موضوعة تراجيدية البطل الملحمي، وجحيم الحرية بوعيها المعاصر، كالتباس من جانب، والتزام من جانب آخر، وكذلك انعكاس العنف كسلوك يميز حياتنا المعاصرة كان من الضروري إعادة تفسير النص التراجيدي و الملحمي القديم ( واعني ملحمة جلجامش ) ،والنظر إليه وقراءته من فضاءاته الخفية الأخرى ، بحيث نتعمق في تفسير مصير البطل ضمن التباسات الوجود الملحمي والمعطى المعاصر.وهذا يفرض بالتأكيد، وعيا بنائيا، تأويليا ودراميا للأحداث حسب مفهومي البصري.
فحاولت التعامل والغور بحرية في المتن المتشابك والمعقد لأهم ملحمة منحت البطل إمكانية طرح الأسئلة المصيرية (ملحمة جلجامش )،كنص ملحمي متفرد عصي على الفهم ،أحيانا، يخضع لفانتازيا الامتداد الأسطوري،مبتعدا عن مقصلة المنطق واليقينيات.وقد أدى هذا إلى انبثاق نص مسرحي امتلك حريته وديناميكيته بعيدا عن الفضاء الملحمي، وهو نص أغنية الصقر (إصدار دار الحضارة الجديدة سابقا ـ الكنوز الأدبية بيروت) التي عالجت جلجامش كبطل يحمل قدره ويتصارع مع ظلامية عصره ، لكنه كان معذبا من حريته أيضا ، وكان الجوهر الذي يمتد على طول المسرحية هو الحرية والاختيار .
ومن أجل أن يتحقق الوعي الملحمي المعاصر في "أغنية الصقر"، لم أعتمد على تفاصيل الأحداث والشخصيات، كما أكدها الشاعر الملحمي القديم ، بل عمدت إلى إتباع أسلوب التناقض ، بمعنى استخدام بعض أحداث الملحمة والتناقض معها، وإبقاء بعض شخصياتها ، مع التغيير الجذري لمصائرهما، وأهدافهما وخلق شخصيات جديدة ، ومسك اللحظة الزمنية المعاصرة التي تؤدي إلى الإبداع الدرامي البصري .
فتطور شخصية جلجامش الجديدة في النص المسرحي، شمل بعدا آخر ، فهو لم يعد بطلا أسطوريا وملحميا، نصفه إله ،ونصفه الآخر إنسان، كما في الملحمة .وإنما هو ابن ملك مازالوا يهيئونه للعرش ، فهو إذن شاب قليل التجربة أيضا ، يعيش وسط مجتمع مدنس يقدس قيوده وعبوديته، ومسكون بالخوف من سلطة قصر ملئ بالوجود المزيف يقوده الملك( والد جلجامش)،وأركان سلطته الإرهابية من الجهلة وعلى رأسهم الكاهن( الطاعون و العقل المعدي والمتكيف للشرور).
فمن أجل أن يتوحد جلجامش مع ذاته، ويمارس وجوده الخالص والمكثف، عليه أن يكتشف أسرار فضاء الوجود الملوث الآخر الذي يحيط به، عندها يرى سبب ويلات مدينته هو القصر ـ كسلطة .
فكل من جلجامش بوعيه المعاصر ( الحرية المعاصرة ) و الملك يمثلان زمانين مختلفين،لكن لهما فعلهما الخاص الذي تفترض الضرورة الوجودية أن يدافع كل منهما عن زمنه .
وزمن جلجامش يعني وعيه الحر، ورحلته المصيرية، ولكن ليس في طلب الخلود، كما في الملحمة، وإنما لممارسة فعل حريته الواعية ،وهذا يعني أن الذات مسكونة بحريتها من أجل الوصول إلى الحقيقة الذاتية ومواجهة الوجود المزيف ، وتمسك جلجامش بحريته في ذات الوقت يحثه ويقربه من مصيره المحتوم ـ بوعي منه ـ أي يقربه من الموت ..تلك البومة القدرية بعينيها الناريتين.
إن جلجامش يجب أن يقتل، لأنه رأى وهج الحرية وشعاعها،فسمح لنفسه بالتحرك في فضاء أوسع من ذلك الذي حدد له ، لذلك فالملك ( والد جلجامش )، يسند مهمة قتل ابنه إلى الكاهن (الأب الروحي الآخر والمنفذ الفعلي لنتائج مقصلة منطق السلطة)، فتبدأ عملية استهانة رجال السلطة بكل القيم الإنسانية تاريخيا،ويصبح جلجامش صدى للفكر البنائي العالمي المتمرد ، فيتهمونه بسرقة النار المقدسة ، ويدينون دعوته بدوران الأرض حول الشمس ، وإيمانه بأن الملكية الخاصة سرقة ، وبحثه الدائم عن الحقيقة بوعي أعمى عندما يمسك مصباحا وسط الظهيرة ودعوته بأن الوجود مرتبط بالوعي .
هذه مجمل الخطايا التي يذنبونه بها، ولهذا فإن جلجامش المعاصر كبطل جديد يجتاز حواجز المكان والزمان ، فهو اختزال للعقل البشري وشمولية الكينونة الايجابية التي تدعو إلى الفعل الثوري التمردي تاريخيا، و في هذا العالم .إنه اختزال لبطولة بروميثيوس، والعقل التركيبي لجاليلو، وحب ديوجين وديكارت للحقيقة ، وجنون وعبقرية نيتشه من أجل الإنسان الحلم ، وقدر المسيح في حبه للتضحية .إنه بطل يمكن أن يوجد في كل العصور، لكنه مرفوض في كل العصور أيضا.
وإذا حاولنا أن نحلل البعد السيميولوجي للزمن الأسطوري في فضاء هذا النص المسرحي البصري، لاكتشفنا ما يؤكد على وجود أزمنة ثلاث للحدث ، من خلالها تكون الشخصية فعلها ووجودها الخارجي ـ الموضوعي والداخلي ـ الذاتي .فهنالك زمن الشخصية الآني (الآن) على خشبة المسرح ، حيث يمكن للممثل أن يتكيف مع شخصيته وهو في حضرة الجمهور لحظة الكشف . والزمن الآخر هو زمن الشخصية وهي منسجمة مع زمنها الماضي، ومن ثم زمن الشخصية وهي تعيد تشكيل الحدث الذي وقع في الزمن الماضي الأكثر بعدا عن لحظة وجودها الآني و الماضي القريب.
إن هنالك تداخلا وتلامسا واعيا ومقصودا للأزمنة ، فالماضي يشكل تاريخية الأحداث والشخصيات ،يتداخل مع الحاضر الذي يضئ ذاكرة الممثل والجمهور في ذات الوقت . لذا فان الأحداث تخضع لزمنها الإبداعي، الذي يشبه زمن الحلم، وليس الواقعي. وهذا يعتمد على تحقيق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في النص والعرض البصري.وإذا كانت الملحمة البابلية القديمة قد عالجت جلجامش كفعل باحث عن الخلود ، فإن مسرحية "أغنية الصقر" تناقضت مع هذه الموضوعة، وأوجدت بديلها المعاصر .كما في الحوار التالي :
( جلجامش : إن مانبغيه ليس الخلود وإنما وسيلة العيش في هذه الحياة ، حتى وإن كان الطريق إلى هذه الغاية هو الموت ذاته . المهم هو الحيوية وليست الحياة.الأبدية... نعم ليست الحياة الأبدية )
إذن جلجامش هنا يفضل الموت على الحياة بدون حيوية ، بدون وعي ، ولهذا فإنه لا يقوم برحلته من أجل الحصول على " زهرة الحياة "، وإنما يقوم بهذه الرحلة بداخل ذاته ووعيه وماضيه وحياته وحياة الآخرين من أجل اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة ،
وفي جانب آخر عالجت موضوعة الحرية والذات الأخرى أيضا، فكتبت مسرحية "الرحلة الضوئية"برؤيا مختلفة للتعبير عن طقس مسرحي بصري عن رؤى فان كوخ (العنف وأمل الإنسان في التطهير )،وأخرجتها برؤى إخراجية متنوعة ومختلفة، سواء كان ذلك باللغة الدنمركية ( لجمهور دنمركي ) أو العربية ( للجمهور العربي ) وسيطبع قريبا وكذلك ترجمت إلى الانكليزية.
و في هذا النص حاولت تحقيق مفهومي حول النص البصري في الكتابة، واعتماد رؤيا إخراجية لتأكيد ما ورائية الأحداث وانعكاسها على واقعنا، إنها لغة لها علاقة بميتافيزيقا العنف، وميتافيزيقا ذاكرة الجسد المطلقة.إزاء هذا نحتاج إلى مسرح مغاير، وإلى مفهوم مسرحي يرى العنف والجمال والتطهير برؤيا تتناسب مع حجم خراب الإنسان وضياعه المعاصر.
وبالتأكيد فإن تأسيس عرض مسرحي بهذا المفهوم سيبتعد عن تقديم حياة فان كوخ كسرد تاريخي، و سيتعمق في تلك الرؤيا التي تسببها نوبات الوجد الوحشية التي يعاني منها الفنان جراء العنف الاجتماعي الذي يمارس ضده ، وسيتعمق في أحلام الفنان الشاردة في الذاكرة النهارية ، وفي تلك الرؤى القلقة التي توجد صداها في العنف وفي الفوضى الكونية ، وفي ذلك النور المتوهج الذي يضئ روح الفنان وأرواحنا ليطهرنا كشهود على انهيار الحضارة و نتيجة للشعور بالذنب .
إذن من أجل تقديم عرض مسرحي بصري عن الإنسان والعنف،احتوى النص على طقوس بصرية عديدة ،وكل طقس يمثل رؤيا حلمية واقعية فيها الكثير من البصريات مثل : القربان ،وهم الحب ، ملاك وشيطان يتخاصمان على جسدي الاعتراف، أما الطقس الخامس فهو على شكل بابين ضوئيين... الباب الأول : زهرة الشعراء و قداس النقاد ، و الباب الثاني: عينا ميدوزا الجميلتان، وأما الطقس السادس والأخير، فكان تحت عنوان غابة السد يم في مرآة الأسرار .وهذا النص هو محاولة للكشف عن النص البصري الذي يكتب للعرض وليس للقراءة ويؤَول كشفرة تؤسس بصرية العرض المسرحي المستقبلي .

س :.في كتاباتك النقدية تقدم منظورا حداثيا أثناء الدعوة إلى التفاعل مع الجسد كمفرد بصرية تخلق الصورة في فضاء الطقس الاحتفالي للمسرح لتحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء،وتدعو ـ أيضا ـ إلى إيجاد مؤلف خاص بالنص البصري،بعيدا عن اللغة الأدبية،ما تفاصيل هذا المنظور ؟
معادلة تغيير الرؤية الإخراجية ومستقبل العرض البصري
الدكتور فاضل سوداني :إن مفهوم البعد الرابع يحتم تغيرا في القوانين السرية لفن العرض المسرحي الذي يشمل : النص المسرحي بحيث يتخلى عن كونه نصا أدبيا ويتحول إلى نص بصري ، و يفرض تغيرا في الرؤية الإخراجية،أي فضاء العرض في الطقس المسرحي بكل مكوناته الجمالية والتكنيكية.ومفهوم التفاعلية ،أي تحول الجمهور من المتلقي السلبي إلى متلق ديناميكي متفاعل ، وكل هذا احاول ان ادعو له واؤسس بعض جوانبه .

س:كيف يمكن أن تتحقق هذه المعادلة ؟
الدكتور فاضل سوداني : إن هذا يدعوني إلى تناول بعض من مفاهيم البعد الرابع ومعمارية السرد الرؤيوي في الإخراج البصري وكتابة النص البصري، لان موت المسرح المعاصر يكمن في حيثيات سوق العرض والطلب التجاري والمباشرة وهامشية معالجاته لمشاكل الذات والمجتمع ،وكذلك سذاجة اهدافه التي تتحول دائما في المسرح العربي ( ماعدا بعض الاستثناءآت) من افكار وقيم انسانية عالية الرقي والمستوى الانساني الى خدمات إعلامية ، والمشكلة الاخرى هي سيطرة اللغة الأدبية السردية الثرثارة في العرض المسرحي .أما مستقبله فيكمن في لغة النص،وفي علامات العرض البصرية وأسرارها ،والمساهمة في إغناء الوعي الجمالي للمتفرج المتفاعل . ولكن أية لغة هذه التي من المفترض أن تؤثر على البصر والبصيرة ؟
يرتكز النص البصري الذي ينبئنا بمستقبل العرض البصري على ركيزتين أساسيتين هما : اللغة الأدبية البصرية (البعد البصري والمادي للكلمة ودلالاتها التأويلية )،ولغة التداعي البصري للأنساق البصرية في الفضاء الإبداعي ( أي الحوار بين ذاكرة الجسد وتداعيات الفضاء بما فيها ذاكرة الأشياء والأنساق الأخرى ، وبين الفنان البصري ـ المخرج والممثل ـ و المتفرج).
إن هذين الجانبين، اللغة الأدبية البصرية والتداعي البصري للأنساق،هما اللذان يعيدان خلق اللغة الفنية بصريا، سواء أكان ذلك في النص أو كان في العرض ، فمن خلالهما يمكن أن نعيد الكلمة وأبعادها الأدبية السردية والحوارية إلى كينونتها التأويلية والدلالية والبصرية في زمن جديد هو زمن العرض البصري .
إنني هنا أدعو ا إلى نص بصري، وعرض بصري، وجمهور متفاعل، أي مبدأ التفاعلية في المشاهدة التي ادعو لها بدلا من النص الأدبي والعرض التقليدي والمتفرج الهامشي.
وفي الطقس المسرحي البصري الذي ، يتحول الزمن الواقعي فيه إلى زمن فني يشكل بعدا ميتافيزيقيا ، أي زمن الرؤية والحلم والواقع اللامرئي في حركته الديناميكية . وهذا يعني الطاقة السرية الإبداعية للفكر والخيال واللاوعي لتحقيق مفهوم البعد الرابع للزمن والفضاء في العرض المسرحي .
فإذا كان الزمن الواقعي يتشكل من الماضي والحاضر والمستقبل، فإن الزمن الإبداعي يشكل بعدا رابعا. فالماضي في العرض ( الطقس ) المسرحي هو ماضي الأحداث والشخصيات المنجزة من قبل المؤلف،يعرضها الممثل والمخرج لمناقشة مأزقها وسؤالها المصيري ،ومتابعة مصائرها وقدرها أمام المتفاعل( الجمهور ) من أجل إغناء روحه، وكشف تلك الحقائق اللامرئية في الحياة والوجود وتاريخ البشر .
والحاضر هو آنية وجود (وماهية ) الممثل ( الإنسان )، مضافا إليه
( ماهية ووجود ) الشخصية التي يمثلها ( كفنان )، فيلتحم بها، أو يتماهى أو يغربها، وهي في ماضيها وتاريخها،وقبل وجودها في زمن الإبداع الآني،أعني الاحتراق في لحظة الخلق على المسرح باعتباره فن اللحظة .ولهذا فإن الحضور الآني للممثل يعد حاضرا للممثل والشخصية في ذات الوقت، والتي إما أن يتماهى بها، أو يغربها، لأن وجودهما اللحظوي هنا يعني وجودا إنسانيا جديدا يتكشف بصريا ورؤيويا (الآن في فضاء العرض)،فيصبح وجودا ديناميكيا ،حياتيا، إبداعيا . وهذا يعني حسب ( هايدجر ) آنية لحظوية ( أي حضورا آنيا )، إضافة إلى ماض متكدس . ولهذا فإن تاريخية الشخصية هي حاضر الممثل أيضا عندما يكون موجودا الآن وفي لحظة الفعل، أو في الهذيان الإبداعي الرؤيوي المنظم . ( لأن الممثل يقوم بعرض ماضي الشخصية، ويقوم بتغريبه وتحويله إلى حاضر آني في لحظة تفاعل الجمهور معها)، ويؤثر كل هذا في إعادة خلق الحدث والشخصية من جديد .فالتاريخية( حسب هايدجر ) تفهم من خلال علاقة الحاضر الآنية، ( الحضور اللحظوي = الوجود الإنساني)، بالماضي المتكدس والمتراكم(ضمن اللحظة الإبداعية)،وليس وفقا للماضي كمفهوم زال وانتهى، إذن، هنالك استمرارية، وهناك وجود ديناميكي وعلاقة تأثيرية متبادلة بين حاضر وماضي الشخصيات، والأحداث، والممثل كإنسان وفنان وطاقته الإبداعية ،وكل ما يحتويه فضاء ومتن النص في الطقس المسرحي لتحقيق الرؤية البصرية .
أما المستقبل، فهو ذلك السؤال الذي يطرحه الفنان والعرض المسرحي (الطقس)على المتفاعل( الجمهور )، وهو سؤال مرتبط بالحياة والواقع والمدينة والكون و الإنسان في وجوده الآني. إذن فالمستقبل الغامض الذي يطمح الطقس المسرحي في الكشف عنه يعني ذلك السؤال المصيري الوجودي الذي يقلق الفنان والمتفاعل ( الجمهور ) في ذات الوقت.
غير أن لحظة تقريب وتلاحم هذه الأزمنة الثلاث تشكل تلامسها، وهذا يعني تشكيل الرؤيا الإبداعية والتأليف الرؤيوي والفكر الإخراجي،أي أن عمل المخرج الإبداعي يتجسد في تقريب هذه الأزمنة الثلاث فيما بينها في التلامس من أجل خلق بعد رابع هو البعد الإبداعي الشعري الذي يكون رؤية الفنان البصرية . وهذا التلامس هو الذي يخلق العرض الجديد .
بهذه الوسائل ـ فقط ـ يقوم المخرج بإعادة كتابة وبناء النص ( البصري ) أصلا من جديد . ومن هنا فإن هذا النص يجب أن يكون ضد الأدب في مفهومنا البصري، بمعنى أن يكتب للمشاهدة وليس للقراءة لتحقيق الطقس المسرحي في فضاء المدينة المعاصرة.
وبهذا فإن النص في الطقس المسرحي البصري، ضمن مفهوم بصريات النص، والبعد الرابع، يجب أن يكتب بوعي بصري ورؤيوي منذ بذرته الأولى . أي أن حجم ومستقبل الفعل والحدث و الحركة و المادة والصمت المتوتر والرموز والإشارات، لها كثافتها وحجمها و ديناميكيتها وأبعادها ضمن الزمن والفضاء الإبداعي على خشبة المسرح، وليس على الورق. لأن المؤلف المسرحي صاحب الرؤية الأدبية ، عادة لا يهتم ، بل غير قادر على امتلاك الإحساس بأبعاد الفضاء المسرحي وديناميكية الإيقاع، وحجم الأحداث، والفعل والتكوين في العرض المسرحي(أي على خشبة المسرح )، بل يعتبره خارج اختصاصه، وإنما يهتم بالدرجة الأولى بالجوانب اللغوية والبناء المعماري الأدبي للنص، وبناء الشخصيات وفرض قوانين الأدب .
ولهذا فإننا يمكن أن ندعو النص المسرحي غير البصري ، بالنص الأدبي المغلق، النص الميت، لأنه ذلك النص الذي يتحدث بالوسائل الأدبية عن كل الأجوبة حد الثرثرة، ولا يتعامل مع فضاء العرض البصري، وإنما يكتب بلغة الأدب.
إن مؤلف النص الأدبي المغلق في المسرح، يعمق اغتراب نص العرض والفضاء الإبداعي ومهمات المسرح، عموما، أمام المتفرج المتفاعل ، لذلك فمثل هذا النص هو اغتراب لآنية العرض البصري و للمتفرج في ذات الوقت . لأنه كتب ضمن انشغالات تهدف إلى تحديد وتركيز وهيمنة الأطر الأدبية على فضاء العرض ،وإهمال الوسائل البصرية وجعلها ثانوية ، أو جعلها تخدم البعد التفسيري للصياغات الأدبية وثرثرة المضامين الواقعية والنفسية المقيتة ، وبهذا فإن النص المغلق هنا، لا يسمح بالإمكانيات البصرية للمخرج والممثل، بل يحدد أفق خيالهما،وخاصة القدرات التعبيرية للممثل التي تعتمد على أطلاق الأسرار الإبداعية لذاكرته الجسدية المطلقة ، والتي لا يتكامل إبداعها إلا في فضاء ديناميكية العرض البصري.
ومن جانب آخر، فإن النص الأدبي، والعرض التقليدي غير البصري ، يخلقان الاغتراب أيضا في وعي وروح المتفرج، ولا ينسجمان مع طبيعة الحوار الذي يتم بين العرض البصري والمتفرج المتفاعل، وبذلك يفقدان الاتصال فيما بينهما.
وهنا تصبح مهمة المؤلف المسرحي مزدوجة، فبالإضافة إلى قدرته على فهم الصنعة الأدبية، عليه أن يمتلك حساسية وفهما دقيقا لقوانين العرض المسرحي بحيث تتحول الكلمة والصور الشعرية ـ الأدبية، وكل رموز العرض إلى رؤيا بصرية.وهذا ما يحقق مفهوم النص البصري وتداعيات الذاكرة المطلقة لجسد الممثل، وهذا يدفع بالمسرح إلى أن ينتمي إلى مسرح ما بعد الحداثة ،أما التمثيل في فضاء الطقس البصري فهو الإيقاع الداخلي لموسيقى المهارة ، وهو الرقص المتوتر والعنيف في دوامة الفضاء الإبداعي الملتهب للتعبير عن موسيقى ومثيولوجيا الجسد وعلاقته بالأشياء. وهذا ما يفرض ما أدعوه بالذاكرة الجسدية البصرية المطلقة للممثل، أي هي القدرات وأسرار الجسد البصرية باعتباره ذاكرة بصرية ديناميكية لاترتبط بالماضي بل بالحاضر والمستقبل ، و هذا يعني كينونة الجسد البصرية . ومن خلال هذه الذاكرة الجسدية، يخلق الممثل لغته البصرية . هذا ما ندعوه بميتافيزيقا الذاكرة لجسدية البصرية المطلقة،و النص البصري الذي يوحي بتداعي الرؤيا الإخراجية البصرية ، يجب أن يسمح بمساحة لإعادة خلق كينونة المكان الفضائي، أي سينوغرافيا الفضاء البصري الذي هو زمن إبداعي مكثف في الفضاء ، يمنح وجودا جديدا ومستقلا لذاكرة الأشياء ولجسد الممثل ولدور الأنساق البصرية الإبداعية الأخرى .
إن وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع المادة، أو الشئ هو من أجل إنتاج معنى محدد وصورة . ويمتلك جسد الممثل طاقة إبداعية سرية يمكن تحقيقها من خلال مفاهيم "انتونين أرتو" و"غروتوفسكي" و "مايرهولد" ، وطقوس الوجد الصوفي الإسلامي .
و لهذا فإن فضاء الطقس المسرحي يمكن أن يكون معبرا ـ فقط ـ من خلال لغة الهذيان الإبداعي للجسد، وارتباطه بالمادة التي يتعامل معها. حيث أن المادة ، أو الشئ في الفضاء الطقسي، أصبح لهما وجودهما المستقل والمعبر، وأن الجسد هو مادة وشكل وصورة له وجوده وإيقاعه الخاص في فضاء الطقس . فمن خلال الإيماءة، والحركة المعبرة، وعلاقتها بالمادة، يمكن اكتشاف لغة تعبير، وهذه اللغة تحقق بعدا جديدا للزمن والفضاء في الطقس المسرحي.
إن هذيان الجسد التعبيري يؤدي إلى هذيان الأشياء المحيطة، فيعيدها،ويحدث نوع من التحول في وجود هذه الأشياء التي يتعامل معها الممثل . وعندما تدخل هذه الأشياء في العملية الفنية، أو في المملكة التعبيرية للمخرج و للممثل، فإنها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية، ويمنحها الممثل والعرض معاني ووظائف جديدة لها إيقاعها ومكانها في الفضاء والزمن.
فالكراسي في مسرحية "يوجين يونسكو"، خلقت هذيانها الوجودي عندما تعامل معها الممثل بشكل مختلف وفي معنى مختلف أدى إلى أن تحقق وجودها في فضاء العرض .
ولا تعني دعوتي لكتابة النص البصري إلى إلغاء الكلمة، أو إلغاء الوسائل اللغوية الأخرى عموما، وإنما على العكس، فإن الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصري إذا أحسن انتقائها ، وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبية إلى بصرية تصبح جزء من تحقيق المشهدية البصرية في العرض .
وهذا كله يفرض أسس كتابة النص البصري في زمن مابعد الحداثة، ويوحي، بل يفرض، أيضا بعدا رابعا للزمن والفضاء البصري في العرض المسرحي .ومجموع هذه الوسائل تحقق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري. وهذا يعني تحقيق فن النوايا الخفية، فن الحركة والإيماءة والصورة البصرية المشحونة بالمعنى والرمز المطلق والمستحيل والشعر والسحر. إنه فن السر المباح ـ فقط ـ في حضرة الجمهور المتفاعل في فضاء مقدس، إنه الفن المرئي. والرؤية الخفية لتوضيح التباسات الوجود، والتشابكات الغامضة في مجتمع مدينة تليق بالإنسان المعاصر .إذن، أنا أدعو إلى تحقيق البعد الرابع في زمن وفضاء العرض المسرحي الذي يجدد جميع المكونات والأنساق الإبداعية لفضاء المسرح.

س:.أين يكمن البعد الفكري في هذا المسرح البصري؟

المسرح البصري والالتزام بمشكلة الإنسان الأزلية
الدكتور فاضل سوداني : لا يعالج العرض و النص المسرحي البصري ماضي وحاضر الإنسان وعلاقته بمجتمعه ومدينته فحسب، بل يتنبأ بمستقبله أيضا،و هذا يجب أن يساعدنا على اكتشاف الطريق نحو النص المسرحي العربي المؤسس، والغني بالحكمة والفلسفة والأسطورة والطقس ومحاججة، مسلمات الواقع بعقل ديناميكي شمولي مشاكس، ومن ثم رفضها جذريا ـ بلا أسف ـ إذا اقتضت الضرورة ، وبالتأكيد فإن الجانب الفكري في المسرح البصري سيتحقق من خلال الأفكار التي تعطي بعدا جديدا للعميلة المسرحية الإبداعية برمتها،والتي تشمل كتابة نصا فاعل وحيوي بعيدا عن النصوص المتكيفة مع الواقع الذي لا يعبر عن الجوهر الحقيقي للإنسان ، وبعيدا أيضا عن مفاهيم التراث السلفي ، و لا يتحقق هذا إلا بوجود فكر بصري يمتلكه مؤلف مسرحي له القدرة على الرؤية البصرية وليس الأدبية فقط . و بالنسبة للمسرح الأوربي،فإن البحث عن البصريات كان هو السبب الحقيقي الذي دفع بـ "أنتونان أرتو"، و"مايرهولد"، و"بريشت"، و"بيتر بروك" إلى اللجوء للطقوس والأساطير الشرقية . وبالتأكيد، لا يقتصر البعد الفكري على معالجة الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما هو الحال بالنسبة إلى المسرح التقليدي ، وإنما يكمن الجانب الفكري للمفهوم الذي ندعو له في الكشف عن الأسرار والجوانب اللامرئية من مشكلة الإنسان الأزلية وفي طرح تلك الأسئلة التي تقلق الجمهور حتى يعمل حياتيا ووجوديا على إزالة الصدأ الفكري لديه،ويتم هذا من خلال مفهوم البعد الرابع الذي هو ذلك البعد الإبداعي الرؤيوي والبصري الذي يتشكل من نص بصري ورؤية إخراجية بصرية والذاكرة الجسدية للممثل، ومجموع الوسائل والأنساق البصرية المعاصرة لتوصيل الرؤيا للجمهور المتفاعل.

س :تقترح مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوفر في هذا المخرج ،منها أن يتعامل مع الممثل كجسد يمتلك قدرة مخفية يجب أن يفجر منها الذاكرة الميثولوجية والتاريخية والتعبيرية لإنتاج لغة بصرية للتواصل مع المتلقي.كيف تحقق ذلك في تجربتك الخاصة؟ومع أي متلق ستتواصل في المنفى؟

تكامل اللغة في بناء عرض النص البصري والتحرر من العواطف الثرثارة
الدكتور فاضل سوداني :في المسرح البصري يشكل الجسد وذاكرته المطلقة ،والأنساق الأخرى التي تحقق البصريات ، تشكل لغة تواصل فيها الكثير من التأويلية و الشاعرية والتفرد .لهذا يمكن الحديث عن ذاكرة جسد الممثل، وذاكرة الأشياء، وإعطاء غير المرئي الكامن في الشئ شكلا مرئيا ووظيفة بصرية أخرى.
إذن،فجسد الممثل هو وجود وكينونة وطاقة مشبعة بالدلالات والرموز البصرية والسميولوجية . وكما يمكن التواصل بالكلمة،كذلك يمكن تحويل الجسد إلى لغة تعبيرية من خلالها يمكن التواصل مع الجمهور بمفردات لغوية رؤيوية وبصرية غير أدبية .فالصمت المعبر له مكانته كلغة للممثل للتعبير عن شعرية الفضاء، وكذلك الحال مع الرموز والإحالات التي لها أبعادها الفلسفية، والتي تصل إلى وعي وأحاسيس المتفاعل بكل تكثيف، وبدون ثرثرة أو ضجيج فائض.
ومن هذا المنطلق، فإن المخرج هو راء متفرد نتيجة لرؤيته الإبداعية الخاصة التي تتشكل في زمن مأزوم دائما.ومثل هذا المخرج الرائي في مفهوم ما نطلق عليه بالبعد الرابع، يكون كالشاعر الرائي، حيث هو الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ما وراء الأشياء ، وهو الذي يضع يده على الجوهر الخفي في كل مظهر من مظاهر الوجود بما فيه الواقع المرئي واللامرئي .
وأستطيع أن أؤكد ،بلا حرج، أن بحث المخرج، من أجل تكامل لغته، يكمن في ما وراء النص وما وراء الإيماءة ، ما وراء الميزانسين ، وما وراء الفعل والحدث ،وما وراء سينوغرافيا العرض ، ما وراء الصورة ، ما وراء الفضاء المسرحي وزمنه .
فمن الضروري أن يتحرر المسرح والدراما ـ بشكل عام ـ من الغموض والالتباس السيكولوجي والعواطف الثرثارة ، ومن أجل هذا، يعمد المخرج إلى التأليف بالجسد،وبالحركة، وبالصورة،وبالسينوغرافيا، واللون والضوء والرائحة وسينوغرافيا الفضاء.
إن الكثير من المخرجين يتعاملون مع جسد الممثل بوظيفته الحياتية اليومية، وكذلك يفعل الممثلون في المسرح التقليدي حيث لا يتعاملون مع أجسادهم كذاكرة جسدية إبداعية، وإنما كتاريخ حياتي يومي، وهنا يكمن جوهر الاختلاف.وهنا لا يمكن عزل جسد الممثل في الفضاء الإبداعي عن الأشياء التي تفرض وجودها في الإبداع. وتحققت ذاكرة الأشياء، وديناميكية مثيولوجيا جسد الممثل ـ مثلا ـ في مسرحية "الرحلة Terra Nova Teatre الضوئية"على المسرح في "كوبنهاغن"، وهي طقس رؤيوي عن وجد الفنان "فان كوخ "حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية إلى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور "فان كوخ" ميتا فيه ، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي، يقوم "فان كوخ" من موته ليبدأ تقديم أسرار وجده أمام مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها وأمام الجمهور، إنها القيامة التي تكشف عن السر، وتعلن عن خلود الفنان.ومن خلال طقوس الحضور المكثف الذي تقوم به المرأة المليئة بالأسرار لمساعدته على إنجاز رحلته الضوئية المصيرية ـ حتي يريد أن يحول اللون الأصفر إلى نور ـ وهدفها أن يصبح ملكها في النهاية حتى تعبث بمصيره ما تشاء وكأنها الموت ،لكن بهذا بالذات،امتلك "فان كوخ" خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل، أو اللمبو، أو الفردوس الإبداعي.
ومن جانب آخر فإن المرأة الأخرى.. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية، ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض، فإنها تعمد إلى تطهيره بالضوء، و بزهور عباد الشمس المنقوع بالماء المقدس …الماء الزلال.. الماء الذي هو جوهر الحياة الذي يحيل ظلام البصيرة إلى رؤيا.
وبمعنى آخر، إن الحوض فقد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملا مختلفا أنتج معنى جديدا، وكذلك الحال مع زهور عباد الشمس.وأيضا فإن شخصيات ـ مثل صديقه "غوغان"، وأخاه "ثيو"ـ كانت تماثيل حجرية لها توترها و وجودها في فضاء العرض . ولكن تعامل الممثل "فان كوخ " معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الأشياء وجسد الممثل. أما المرايا التي استخدمت في زمنها الميتافيزيقي الإبداعي، فإنها لم تعكس وجه الإنسان ، وإنما عكست دواخله وذاته أيضا ،أي أنها عكست القناع الحقيقي للإنسان .من خلال ارتباطها بالكلمة الإيحائية ذات الدلالة الشعرية . و عكست تلك الهوة بين الإنسان ومرآته الداخلية .
( هو : " من خلال الحجاب " انظر إلى هذه المرآة لتراني . "فترة " ماذا ترى ؟
فان كوخ : أرى وجهي يحمل ملامح غريبة .
هو : ( يبتسم ) إنك ترى وجهي وليس وجهك .
فان كوخ : ( فترة ) حقا أنت تشبهني . لم أُلاحظ هذا من قبل .
هو : إن الوجوه متشابهة، وتحمل ملامح موتها . أنت إنسان غريب في عالم وحشي . ولأنك أكثر حساسية من الآخرين سيكون عذابك عظيما.
فان كوخ : إذن كانت رحلتي عبثا ؟
هو : كلا … يجب أن يكون الفنان كالقديسين . خذ .. خذ زهور الجنون هذه لكي تساعدك على الرؤيا. ( يناوله زهور عباد الشمس )، وعندما تعود من المكان الذي أتيت، أستيقظ مبكرا ليلة سقوط القمر عند بوابات البحر، واستحم بزبد أمواجه، وادهن جسدك وعينيك بهذه الزهور، حينذاك سترى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض ….تذكر ليلة سقوط القمر..عندما يتحول إلى ظلام.. ظلام .. ظلام. ( وهو يختفي ) « أيها الإنسان الحر دائما ستحب البحر "..البحر .. البحر..البحر. داتا .. دايا .. داميانا ) .
أما بالنسبة إلى الجمهور، فلا هو ولا مكونات العرض البصري يخضعان لجغرافية ومكان وزمان ما ، وإنما كل جمهور يخلص للمسرح يكون هو جمهور البصريات الذي يفهم هدف عرض المسرح البصري ، إنه بحاجة له، لأن الجمهور بحاجة إلى الجمال، وبحاجة إلى المسرح البصري يخلق المعرفة الفكرية واللذة البصرية. إن الجمهور في الطقس المسرحي البصري، يجب أن يتحول إلى متفاعل ( أي يكف ان يلعب دور المتفرج والمتلقي الساكن والمتكيف لمختلف الأفكار والوصايا الجاهزة ).
أما المتلقي في الطقس المسرحي البصري المبني على البعد الرابع للزمن والفضاء، وباستخدام النص البصري، فيتحول إلى متفاعل بعد أن يعديه الفنان برؤاه البصرية. والاختلاف جوهري بين المتلقي والمتفاعل في المسرح المعاصر . وهذا الاختلاف ناتج من كون الفنان أصبح هو فاعل تاريخه الشخصي، أو تاريخ الذين يتفاعلون معه ( فنانون ـ جمهور ) ،ولهذا فإنه يخلق هذا التاريخ في فضاء الطقس أمام مشاهد متفاعل، لايشارك بوعي روحاني ـ كما في الطقوس الدينية ـ بل يتفاعل من خلال السؤال المصيري المعاصر الذي يطرحه الفاعل الذي يمتلك معادلا موضوعيا للواقع .وبهذا فانه يُدخل المتفاعل في شبكة الاقتناص ، أو في دائرة النار الرؤيوية المسرحية الجحيمية المقدسة . عندها يمتلك هذا المتفاعل باب الرؤيا، فيرى حياته المسترخية التي مازال يمارسها حتى هذه اللحظة كهاوية مظلمة، فيصاب بالرعب إزاء ماهيته ووجوده ومصيره المستقبلي.
ضمن هذه المعادلة يظهر الاختلاف بين (المتفرج ـ المتلقي ) وبين ( المتفاعل ) . فالأول على طول تاريخ المسرح، كان ملتاثا في البحث عن الأجوبة السلبية والوصايا التي تعمق حالة الاسترخاء في حياته ( وفي الاسترخاء يكمن الصدأ )،ويبتعد عن الأسئلة المصيرية والوجودية التي تقلقه . فهو غير مهيأ في للدخول في تواصل إشعاعي، سري مع الفاعل ( الفنان ).
فالمتفاعل في الطقس المسرحي البصري المبني على مفهوم البعد الرابع فإنه يمتلك الرغبة الكاملة والاستعداد للدخول في النار المقدسة، أي التفاعل مع الفنان لامتلاك الرؤيا، وأن يكون مفكرا في المسرح. فمن خلال بحثه وتقبله الأسئلة المصيرية، والتفاعل معها ـ وهي عادة أسئلة صعبة تمس وجوده ومصيره فتثير قلقه ـ ومن خلال تأثير الدلالات التعبيرية ـ اللغوية للصورة الجمالية الفنية يكون مستعدا للتغير والتواصل. وبهذا فإن المتفاعل عندما يمتلك الرؤيا، فإنه يقوم بالعبور إلى المكان المقدس ليرى فردوس الإبداع الحقيقي.

س :.من هذه الأطروحات والقناعات والمشاريع التتظيرية والنقدية كيف يمكن أن تكشف لغتك الخاصة في المسرح داخل لغة المسرح العربي في المنفى وأنت تستحضر مسرح الصورة ومسرح القسوة ومسرح المضطهدين و الذاكرة المسرحية العراقية ؟

المسرح الجاد هو مسرح النخبة
الدكتور فاضل سوداني :يبدو المسرح البصري ومكوناته وأساسياته في الرؤيا الإخراجية التي تعتمد على البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي والنص البصري، وكذلك ذاكرة جسد الممثل المطلقة ومبدأ التفاعلية في المشاهدة ، يبدو كل هذا وكأنه يدعو ويثير النخبة فقط من الجمهور، نعم المسرح الجاد هو مسرح النخبة .وبما أنني أؤمن بأن التذوق و اللذة الإبداعية لا تقتصر على النص الأدبي ـ فقط ـ وإنما على جميع وسائل البصريات ،فأساسيات المسرح البصري التي ذكرناها لا تعتمد على الكلمة والنص الأدبي ـ فقط ـ وإنمايكون من الضروري التقبل والتأثير الإيجاب للذة الفكرية في توعية الذات ، وهذا يعتمد أيضا على البصريات بما فيها الكلمة البصرية التي يعرف المؤلف البصري في العرض البصري كيف يخلصها من جذرها الأدبي . لماذا نفترض أن هنالك ضرورة لتقديم مسرح ساذج يعمم الجهالة في كل شئ،سواء بالنسبة إلى نص المؤلف، أو بالنسبة إلى نص البصريات . إن المسرح الأدبي مسرح جاهل لأنه يعطي المتفرج كل شئ وبجاهزية عالية ، لهذا فإن المسرح السيئ ينتعش الآن،لأن النخبة الحقيقية سواء كانت جمهورا أو فنانين تخلوا عن المسرح الجاد وباعت نفسها وأفكارها للمسرح التجاري بسبب سوء الأحوال المعاشية لهم ،بالرغم من أنهم يعيشون في بلدان تمتلك اقتصادا غنيا . والمفروض أن يكون المسرح ضد جاهزية الجهالة وتكاملها ، لأن هدفه هو خلق الجدل بين عقل الإنسان وروحه وبين عصره الذي يعيش فيه ،وهذه الأسئلة هي الجوهرية في عملنا . وإذا رفضت السلفية العربية والعقلية الإقطاعية المسرح كما هو واقع ،وإذا تخلت البرجوازية المثقفة عن مسرحها التنويري، فلا بد أن تنتعش الجهالة المسرحية والفنية، ولابد أن يعم المفهوم الخاطئ في المسرح في كون وظيفته لا تقلق الجمهور بأسئلة مصيرية ، وإنما يعالج مشاكل المجتمع ،وهذا بالتأكيد انحراف في مفهوم دور ووظيفة المسرح ، لأنه لا يعالج مشاكل الناس، وإنما يطرح الأسئلة التي تقلقهم ـ فقط ـ سواء كانت كونية ـ مصيرية ،أو اجتماعية وواقعية. وأسئلة المسرح هي: ما المشكلة ولماذا ؟ أما الجواب فعلى الجمهور أن يبحث عنه في حياته وواقعه وحياته.
وهنالك قضية أخرى لها علاقة بلذة النص، وتذوقه الجمالي والفكري، وبالتأكيد فإن هذا شئ ضروري للنص البصري أيضا قبل أن يمتلك ضرورته للنص الأدبي،ولكن هنا يتم التذوق هذا من خلال مفردات النص البصري وأنساقه التي هي ليست فقط الكلمة ووسائل اللغة الأدبية ، وإنما لذة النص البصرية تتم من خلال جميع وسائل النص البصري التي مر ذكرها ، فبدل الاعتماد على الكلمة ـ فقط ـ لتحقيق لذة النص ، أصبحت الوسائل البصرية تعتمد على مفردات الصورة والتصور والتخيل والبعد الميتافيزيقي لذاكرة الجسد وذاكرة الأشياء وغيرها،وهذه كلها إضافة إلى الكلمة البصرية التي أصبحت تشكل لذة بصرية جديدة للقارئ أو المشاهد المتفاعل،وتؤثر على جميع حواسه،وهو في محيط ديناميكيته التفاعلية عند تلقيه للنص البصري.
فالمخرج وتداعياته البصرية ( مؤلف وخالق الفضاء البصري للعرض )، والمؤلف (مبدع النص البصري الذي أوحي بالعرض البصري المستقبلي )، والممثل، وذاكرة جسده البصرية يكشف النص و العرض البصري تلك الصور ،ويكشف أسرار الحوارات واللغة المستترة والصور المشعة والمثيرة ببراءتها والأصيلة لتبهرنا وكأنها تنبثق من السديم النائي في البرزخ الكوني . كل هذا يؤسس ما ندعو له، أي البعد الرابع في الفضاء والزمن في العرض المسرحي.
ولذلك فإن التداعي البصري للأنساق الذي يمنحه خيال الفنان البصري هو زمن يؤثر بصريا على المتفرج،ويؤدي به إلى امتلاك لذة التفكير في جوهر زمني ـ بصري إبداعي جديد ( العرض البصري الإبداعي) أي يضعه في زمن الإبداع والحلم وميتافيزيقا الخيال .
ولكي يفهم القارئ قصدية وبصرية العرض والنص البصري المفتوح الذي ندعو له ـ وهو على خلاف السرد في النص الدرامي الأدبي المغلق ـ لأنه تأويل بصري دلالي(ظاهراتي) يعتمد على الزمن البصري، (أي تلامس الأزمنة الثلاث: ميتافيزيقيا الذاكرة المطلقة للجسد، والمخيلة ،والرؤيا البصرية)، والممثل فيه يمتلك ذاكرة جسد بصرية تتوهج تأويلا إبداعيا من خلال تداعي فكر للمخرج البصري، لأنه يمتلك رؤيته الحرة في ظروف الفضاء البصري ، وهذا التداعي البصري للمخرج ضروري لخلق الرؤيا الجديدة للنص البصري و بحضور الممثل وميتافيزيقيا ذاكرة الأشياء . والمسرح البصري ويؤكد ـ أيضا ـ على ميتافيزيقيا الصورة ،وديناميكية اللغة البصرية،وعلى ديناميكية الأسئلة.وفي هذا المسرح تكون الكلمة والإيماءة والحركة والصورة البصرية علامة مرئية ومسموعة ، ولهذا فمن الضروري ـ أيضا ـ في المسرح البصري، أن يبرز إيقاع الزمن الفني البصري المسموع والمرئي . وخلاصة القول إن جوهر هذا المفهوم هو من أجل الوصول إلى تأويل رؤيوي بصري مادي في الفضاء البصري ، ومساعدة البصيرة التأويلية ( للجمهور ) المتفاعل من خلال التاكيد على مفهوم التفاعلية من أجل أن يصبح العرض بكل بصرياته ملكا وقريبا لروح الجمهور .



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جحيم الحرية والتباس الحقيقة الذاتية
- بصريات الجسد في الطقس المسرحي
- ذكرى عنادل العمارة ( ميسان) المهاجرة
- رسائل تشيخوف يقرأها المخرج بيتر بروك دراميا
- عروض مسرحية عن همس الحواس و ذاكرة الاشياء
- عرض مسرحية حدّ ث ودلالات الفكر الاخراجي في المسرح
- فن التشكيل البصري في زمن العولمة
- البعد الرابع لغة فن التشكيل البصري
- البعد الرابع لغة الفن البصري
- الممثل في مسرح البعد الرابع البصري
- هل مازال العراق يلتهم أبناؤه
- الموسيقى ومجزرة حلبجه
- زهور المدينة المدللة في الزمن الهني
- فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف
- طنجة .... برزخ الابداع والمنفى
- أسطورة النار المقدسة في الأزمنة المنسية
- الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري
- عبد الرزاق المطلبي واحلام كانت مرمية في الطريق) سر التجسد)
- تعاويذ الحب وتوهج الجسد في بهو النساء
- الحضور الابداعي للكتابة عن المسرح


المزيد.....




- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...
- بسبب متلازمة صحية.. تبرئة بلجيكي من تهمة القيادة ثملا
- 400 جثة وألفا مفقود ومقابر جماعية.. شهادات من داخل خانيونس
- رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي
- الشيوخ الأميركي يقر -مساعدات مليارية- لإسرائيل وأوكرانيا
- رسالة شكر من إسرائيل.. ماذا قال كاتس لـ-الشيوخ الأميركي-؟


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - فاضل سوداني - العراق والسياسة والمنفى والغرب ومسرح الصورة