أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد فواز - التاريخ السري للموساد الإسرائيلي 1/6















المزيد.....


التاريخ السري للموساد الإسرائيلي 1/6


عماد فواز

الحوار المتمدن-العدد: 1936 - 2007 / 6 / 4 - 05:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أدهشني ( كتاب التاريخ السري للموساد) للكاتب الإنجليزي غوردون توماس ترجمة وتحليل الدكتور محمد مخلوف ،حيث يشهد هذا الكتاب أهميته من طريقة رسم ملامح عمل الموساد تحت إشراف بن غوريون.. كما أن المؤلف قد تعامل مع الأحداث بموضوعيه ودقة للمعلومات والوثائق أضفت على الكتاب المصداقية الواضحة.

أما المؤلف، غوردون توماس، فهو كاتب شهير يقيم في بريطانيا ويصل رصيده من المؤلفات إلى 37 كتاباً، ترجمت إلى العديد من لغات العالم.

ومعظمها مكرس لعالم الاستخبارات، وهو في كتابه هذا يقدم تأريخاً لجهاز الموساد عقب لقاءات مع شخصيات عديدة لها صلة بشكل ما برصد أنشطة جهاز المخابرات الإسرائيلي فضلاً عن الوصول إلى الكثير من الوثائق والمصادر السرية، مما أتاح له الكشف عن أسرار لم تكن معروفة من قبل، ويلقي عليها الضوء في كتابه للمرة الأولى.


في عام 1917 أطلق اللورد بلفور وعده المعروف بإقامة «وطن قومي لليهود» في فلسطين. بدأت الحركة الصهيونية بعدها بالتحرك وشرع اليهود القلائل الذين كانوا في عين المكان بالتعبئة.


هكذا ذات يوم من أيام سبتمبر 1929 حاولوا التجمع علانية بالقرب من حائط البراق. رأى الفلسطينيون في ذلك تحديا لمشاعرهم ورشقوهم بالحجارة. وقال يومها أحد المسئولين اليهود المشاركين بالتجمع: «قام بقاء شعبنا منذ الملك داؤود على النوعية الممتازة لاستخباراته».


كانت تلك الفكرة هي نواة قيام تنظيم استخباري وتجسسي يعد من أكثر الأجهزة ضراوة في العالم، أي الموساد. وكان الشكل الجنيني لهذا الجهاز قد تشكّل داخل منظمة «الهاغاناه» التي أنشأها اليهود في فلسطين من أجل ممارسة كل أشكال العنف لإرهاب الفلسطينيين العرب، وزودوها بجهاز مختص في التضليل وتزييف المعلومات بواسطة جواسيسهم. واعتبر ديفيد بن غوريون أن الأولوية المطلقة للهاغاناه ينبغي أن تتمثل في تعزيز شبكة استخباراتها.


وفي عام 1949 أي بعد قيام الدولة العبرية قرر بن غوريون، رئيس وزرائها آنذاك، إنشاء خمسة أجهزة سرية للعمل على صعيدي الداخل والخارج. واتخذت دوائر التجسس الأجهزة المناظرة لها في فرنسا وانجلترا نموذجا احتذت به لا سيما أن هذه الأجهزة قبلت التعامل مع الإسرائيليين الذين أقاموا علاقات أيضا مع الأجهزة السرية الأميركية.


لكن سرعان ما قامت الصراعات بين الوزراء والضباط الكبار في إسرائيل للوصول إلى المناصب العليا الحساسة، وكان كل منهم يريد أن يتولّى تنسيق الإستراتيجية العامة لإدارات الاستخبارات وتجنيد العملاء والوصول أولا إلى المعلومات المحصّلة كي يزوّد القيادات السياسية بها. وكان الصراع «مريرا بشكل خاص بين وزير الدفاع ووزير الخارجية إذ كان يريد كل منهما امتلاك حق الإشراف على أجهزة التجسس الخارجي».


منهاج العمل


في الثاني من مارس 1951 استدعى ديفيد بن غوريون رؤساء الأجهزة السرية الإسرائيلية الخمسة إلى مكتبه، وأعلن لهم قراره بجمع كل نشاطات التجسس الخارجي في جهاز واحد عمّده باسم «ها موساد لوتوم» أي «معهد التنسيق» كما أعلن في الوقت نفسه حصر مسؤولية «العمليات الخاصة» به شخصيا، بينما أشرف وزير الخارجية على الجهاز «إداريا وسياسيا».


وضمّ في الوقت نفسه ضباطا كبارا يمثلون هيئات الاستخبارات الإسرائيلية الأخرى وخاصة شين بيت»، جهاز الأمن الداخلي، و«أمان»، جهاز الاستخبارات العسكرية وممثلين أيضا عن سلاحي البحرية والطيران. واحتفظت رئاسة الحكومة بدورها في حسم أي خلاف بين مختلف الأطراف. ولخّص بن غوريون الوضع بالصيغة التالية:


«تقدمون للموساد قائمة متطلباتكم وهو الذي يقوم بتأمينها. وليس عليكم الاهتمام بمعرفة أين سوف يتوجه ولا بالسعر الذي سيدفعه»، وجاء في نص المذكرة الأولى التي وجهها بن غوريون إلى «روفن شيلواه»، أول مدير للموساد، قوله: «سيعمل الموساد تحت إمرتي، وسوف يتبع تعليماتي ويقدم لي باستمرار تقريرا عن نشاطاته».


في مايو 1951، أي بعد عدة أسابيع فقط من تأسيس الموساد رسميا، تمّ الكشف عن الشبكة التي كان قد أنشأها في العراق.واعتقلت الأجهزة الأمنية العراقية عددا من الأشخاص بينهم عميلان إسرائيليان وعشرات من اليهود العراقيين ومن العرب.


ووجهت المحكمة العراقية تهمة التجسس لثمانية وعشرين شخصا وحكمت على العميلين الإسرائيليين بالإعدام وعلى 17 متعاملا معهم بالسجن مدى الحياة. خرج العميلان الإسرائيليان من السجن بعد فترة مقابل مبلغ مالي كبير جرى وضعه في حساب سويسري باسم وزير الداخلية العراقي، كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب.


حلّت بعد فترة وجيزة كارثة أخرى، إذ أن العميل تيودور غروس لم يكن يعمل لحساب الموساد فقط وإنما أيضا لحساب الأجهزة السرية المصرية كما أكّد ايسر هاريل رئيس جهاز شين بيت مشيرا إلى امتلاكه لـ البرهان القاطع على خيانة غروس.


سافر هاريل إلى روما وأقنع غروس بالعودة معه إلى تل أبيب بعد أن وعده بمنصب رفيع في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية. حوكم غروس سرا وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما، ويُفترض أنه مات قبل خروجه منه.


أدّت تلك القضية إلى استقالة روفن شيلواه وتولّي ايسر هاريل رئاسة الموساد لمدة أحد عشر عاما. وقد قوبل في البداية بقليل من الحماس من قبل ضباط الموساد، إذ كان قصير القامة، لا يتجاوز طوله مترا ونصف المتر مع أذنين منتصبتين مثل الرادار، هذا فضلا عن أنه كان يتحدث اللغة العبرية بلكنة واضحة مثل يهود أوروبا الوسطى.


وكانت ثيابه مهملة باستمرار وكأنه قد نام بها. كانت كلماته الأولى لأركان قيادته هي: «الماضي هو الماضي. ولن تكون هناك أخطاء بعد اليوم. سوف نعمل معا. ولن نتحدث لأحد إلا فيما بيننا».


في اليوم نفسه أفهم المتعاونين معه ماذا يعني بذلك، إذ عندما سأله سائقه عن الوجهة التي يقصدانها أجابه أنه سر وأخذ هاريل مكان السائق ثم عاد بعد قليل ومعه علبة من الحلوى لفريق عمله. كانت الرسالة واضحة وهو أنه هو وحده من يحق له أن يطرح الأسئلة. كانت ايماءة بسيطة، ولكنها حاسمة، إذ وجدت التعاطف لدى مرؤوسيه الذين قابلوه بفتور في البداية.


وقام هاريل بزيارة عدد من البلدان العربية سرا كي يشرف بنفسه على تجنيد عملاء لشبكات الموساد. ولم يكن يخفي تفضيله لأولئك الذين كانوا قد عاشوا في «الكيبوتزات»، الأمر الذي فسّره بالقول: «يعيش هؤلاء بالقرب من العرب ولم يتعلّموا كيف يفكرون مثلهم فقط، وإنما أن يفعلوا ذلك بسرعة أكبر».


لقاء في واشنطن


يحدد مؤلّف هذا الكتاب أهم صفات هاريل أنه كان صبورا جدا وكان شديد الحرص على المقرّبين منه بينما كان ينظر بعيون الشك والريبة لكل من ليس في دائرة هؤلاء.


واستطاع أن يثبت مواقعه أكثر بعد زيارته إلى واشنطن عام 1954 حيث التقى بـ آلان دالاس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وقدّم يومها الإسرائيلي ذو القامة القصيرة هدية نقش عليها العبارة التالية:


«لن ينام حارس إسرائيل أبدا ولن يدغدغ النعاس عينيه»، وهذا ما علّق عليه الأميركي بالقول: «يمكنك الاعتماد عليَّ كي تبقى عيوني مفتوحة معك».


توطدت منذ ذلك اللقاء العلاقات أكثر بين الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي قدّمت للجهاز الإسرائيلي كل الأعتدة والتجهيزات الضرورية من أجل التنصت وآلات التصوير الدقيقة وأجهزة عديدة أخرى اعترف هاريل يومها أنه لم يكن يعرف حتى بوجودها. بل أقام الرجلان بينهما خطا هاتفيا أحمر للتحدث مباشرة، بعيدا عن كل «الآذان الأخرى» بل وبعيدا عن مصالح وزارتي الخارجية الأميركية والإسرائيلية.


وفي عام 1961 أشرف رئيس الموساد على عملية استهدفت استقدام آلاف اليهود المغاربة إلى إسرائيل. وبعد عام انطلق «هاريل» إلى جنوب السودان من أجل دعم المتمردين الموالين لإسرائيل ضد النظام القائم. وساعد في السنة نفسها إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي الصديق القديم لإسرائيل من أجل التغلب على محاولة انقلاب عسكري.


لكن في الوقت نفسه واجه هاريل غضبا متصاعدا في الداخل من قبل اليهود المتزمتين، بمن في ذلك أشخاص داخل حكومة ديفيد بن غوريون، إذ اتهموه أنه لم يعد يحسب أي حساب لحساسيتهم الدينية، بل اتهموه بالسعي سرا للوصول إلى أعلى المراتب السياسية. وسيطر الفتور على علاقات بن غوريون وهاريل، الذي وجد نفسه مضطرا لتقديم تقرير مفصل قبل الشروع بأية عملية بينما كان طليق اليدين قبل ذلك.


تزايدت حدة الشائعات في فبراير 1962 إثر عملية خطف «يوزيل شوماشير» ابن الثامنة من قبل فرقة يهودية متطرفة جدا، كان جدّه لأمه أحد أعضائها وكانت تدعى فرقة «حرّاس جدران القدس».


سجنت الشرطة الإسرائيلية الجد فقامت مظاهرات عنيفة من قبل اليهود المتزمتين شبّهوا فيها بن غوريون بالنازيين لأنه تجرأ وسجن «عجوزا طاعنا في السن». أنذر مستشارو بن غوريون رئيسهم أن تلك القضية قد تكون سببا في هزيمته خلال الدورات الانتخابية المقبلة، بل قالوا له إنه في حالة نشوب حرب مع العرب قد «تدعم بعض المجموعات المتطرفة العدو».


استدعى بن غوريون رئيس الموساد هاريل وطلب منه إيجاد الطفل فاعترض قائلا بأن مثل هذا العمل ليس من مهمة جهازه. وينقل المؤلف عن هاريل قوله: «انخفضت الحرارة فجأة عدة درجات، وشرح لي أن هذا أمرا ينبغي تنفيذه. فأجبت أنني أحتاج على الأقل إلى قراءة ملف الشرطة. وافق رئيس الوزراء على ذلك وأعطاني ساعة واحدة من أجل ذلك».


جنّد هاريل 40 من رجاله بعد قراءة الملف بغية تحديد مكان وجود الطفل. كانت المهمة شديدة الصعوبة، إذ فشل أحد عملاء الموساد - أصبح رئيسا لجهاز الشين بيت فيما بعد- في التغلغل إلى صفوف الفرقة المتطرفة. وتمّ اكتشاف عميل آخر بعد أيام من تكليفه بمراقبة مدرسة تلمودية.


وحاول ثالث أن ينخرط بين مجموعة من اليهود الذين كانوا في الطريق إلى القدس من أجل دفن أحد أقاربهم. لكن أُكتشف أمره سريعا ذلك أنه أخطأ في تلاوة الصلوات.


لم يثن هذا الفشل المتكرر عزيمة هاريل الذي أعلن عن اقتناعه أن الطفل موجود خارج إسرائيل وفي مكان ما بأوروبا. فأقام خلية عمل مكلّفة بالبحث عنه في باريس. ولم يتم العثور على الطفل فاتجه فريق من الموساد إلى أميركا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية.


ألقت الشرطة البريطانية على عشرة من عملاء الموساد كانوا قد تزيّوا بهيئة «متدينين» مع لحى مزيفة وشاركوا في الاجتماع الديني صباح يوم سبت في كنيس بضواحي لندن. لكن جرى الإفراج عنهم سرا وسريعا عن طريق تدخل السفارة الإسرائيلية لدى السلطات المعنية.


جرت في تلك الأثناء دعوة حاخام متشدد حقيقي إلى باريس للإشراف على عملية ختان أحد صبيان عائلة يهودية غنية، استقبله في المطار حاخامان بثياب سوداء على غرار أزياء المتطرفين اليهود، ولم يكونا في الحقيقة سوى اثنين من عناصر الموساد.


وقد جاء في التقرير الذي أرسلاه لمسؤولهما: «اقتيد الحاخام إلى أحد مواخير شارع بيغال من دون أن يعتريه أي شك حول طبيعة المكان. دخلت عاهرتان كنّا قد دفعنا لهما الأجر إلى غرفته وألقيتا نفسهما عليه. التقطنا له صورا ثم عرضناها عليه مع التهديد بنشرها إذا لم يخبرنا عن مكان الطفل. لكنه أقنعنا بعدم معرفته مكان وجوده فقمنا بتمزيق الصور أمامه».


هناك حاخام آخر هو شاي فراير اعترض عملاء الموساد طريقه عندما كان يقصد جنيف قادما من باريس. بدا أن هذا الاحتمال الجديد لا يؤدي إلى أية نتيجة. مع ذلك أصدر هاريل الأوامر باعتقال الحاخام في مقر الموساد بجنيف حتى نهاية التحقيق خشية أن يقوم بإخطار المجموعات اليهودية المتطرفة كلها.


هناك سبيل آخر بدا واعدا وتمثل في مادلين فراي ابنة الأسرة الأرستقراطية الفرنسية التي كانت أنقذت الكثير من الأطفال اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تتردد بعد ذلك كثيرا نعلى إسرائيل حيث قابلت بعض أعضاء الفرقة المتطرفة، وكانت هي نفسها قد اعتنقت اليهودية. في شهر أغسطس 1926 حدد عملاء الموساد مكان إقامتها في إحدى ضواحي باريس.


قابلت مادلين عملاء الموساد بجفاء عندما قدّموا أنفسهم لها، فجاء هاريل نفسه لمقابلتها وشرح لها الظلم الكبير الواقع على والدي الطفل يوزيل. أكّدت مادلين أنها لا تعرف شيئا عن الأمر، فطلب منها هاريل رؤية جواز سفرها، كانت توجد تحت صورتها صورة لابنتها فأشار رئيس الموساد لأحد عناصره كي يعطيه صورة ليوزيل. كان الشبه كبيرا إلى حد التماثل بين الوجهين. فاتصل هاريل حالا بتل أبيب وقال:


«أعرف كل ما أحتاج معرفته عن مادلين من أبسط تفاصيل حياتها الغرامية عندما كانت طالبة إلى قرارها الالتحاق بالحركة اليهودية المتطرفة بعد تخليها عن مسيحيتها. لقد قلت لها، كما لو أنني أملك البرهان القاطع، إنها صبغت شعر الطفل يوزيل بغية إخراجه من إسرائيل. نفت كل شيء».


لكنها اعترفت أخيرا بكل شيء وكيف أنها سافرت كسائحة إلى حيفا بحرا. وبعد أسبوع خرجت أمام الشرطة قاصدة زيوريخ جواً بعد أن ألبست يوزيل ثياب طفلة وصبغت شعره.


أمضى يوزيل بعض الوقت في مدرسة تلمودية متطرفة في جنيف ثم اصطحبته مادلين إلى نيويورك. وعندما سألها هاريل عن مكان وجوده الراهن أعطته العنوان في بروكلين بنيويورك، وأن اسمه أصبح يانكال جيرتنر. عندها قال لها هاريل مبتسما:


«شكرا مادلين، وإنني أرغب عرض منصب عليك في جهاز الموساد. فموهبتك يمكنك أن تقدم خدمات كبرى لإسرائيل». ورفضت مادلين ذلك. طار عملاء الموساد إلى نيويورك حيث كان ينتظرهم فريق من عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بطلب خاص من بن غوريون إلى وزير العدل الأميركي. وصل الجميع إلى العنوان.


فتحت السيدة «جيرتنر» لهم الباب، دخلوا فوجدوا الأب يصلي وبجانبه طفل شاحب وعلى رأسه القلنسوة اليهودية وخصلتا شعر طويلتان تتدليان على وجهه. فقال له أحد عملاء الموساد «مرحبا يوزيل. نحن هنا كي نعيدك إلى أهلك». هكذا مضت ثمانية أشهر منذ بداية البحث وأُنفق مليون دولار في العملية.


لم يمنع هذا النجاح الذي حققه هاريل من تقديمه استقالته بتاريخ 25 مارس 1963 بعد حملة شائعات وتشهير قادها مائير اميت، رئيس جهاز «أمان» وخلف «هاريل» على رأس الموساد. كان عمر هاريل آنذاك خمسين عاما. وانتهت باستقالته حقبة من تاريخ الجهاز الإسرائيلي.


الأولوية للتجسس


بعد عدة دقائق فقط من جلوسه خلف مكتبه الجديد استدعى أميت رؤساء الدوائر. لقد اصطفوا أمامه، ونظر إليهم بهدوء واحدا بعد الآخر، ليقول لهم بعد ذلك أنه لن تكون هناك بعد آلان مهمات البحث عن أطفال، وأعطى الأولوية للتجسس.


وبعد فترة قصيرة من استلام أميت منصبه حضر إلى السفارة الإسرائيلية بباريس شخص قدّم نفسه باسم «سلمان». وقال أنه يمكن أن يقدم، مقابل مليون دولار، إحدى الطائرات المقاتلة الأكثر مضاء آنذاك أي «الميغ-21». وختم سلمان حديثه بالجملة الغريبة التالية: «ما عليكم سوى إرسال أحدهم إلى بغداد. وهناك يقوم بالاتصال بهذا الرقم ويطلب جوزيف، ولا تنسوا تحضير المليون دولار».


عرض الدبلوماسي مضمون المحادثة على جاسوس إسرائيلي موجود في السفارة حافظ على موقعه رغم التغييرات التي قام بها مائير أميت. وأرسل الجاسوس بدوره المعلومات إلى تل أبيب مع رقم الهاتف الذي أعطاه «سلمان».


حيّرت القضية أميت، فمن جهة هناك خشية أن يكون سلمان عميلا مزدوجا جندته الاستخبارات العراقية من أجل نصب فخ للموساد. وهناك خطر الكشف عن عملاء الموساد في العراق. لكن كان إغراء الحصول على الميغ-21 كبيرا أيضا، إذ كان مسؤولو الطيران الإسرائيليون على استعداد لدفع ملايين الدولارات للحصول على المعلومات الخاصة بها.


قال أميت نفسه حول تلك القضية: «كنت أفكر بها قبل أن أنام وحالما أستيقظ، وكل الأوقات بينهما عندما تكون لديًّ دقيقة فراغ. فمعرفة السلاح المتقدم للعدو هي أولوية بالنسبة لكل جهاز استخبارات، والحصول على طائرة من هذا النوع أمر شبه مستحيل». اختار أميت للعميل الموفد إلى بغداد اسما وجواز سفر بريطانيين:


جورج بيكون الذي ذهب بصفة مدير مبيعات في شركة لندنية مختصة بتصنيع أجهزة التصوير الشعاعي الطبي. وصل إلى بغداد بطائرة تابعة للخطوط الجوية العراقية ومعه عدة صناديق من العينات، بل وأظهر كفاءة عالية حيث باع عدة أجهزة لمستشفيات عراقية.


في بداية الأسبوع الثاني لإقامته اتصل بيكون بالرقم المعني. وينقل عنه المؤلف قوله: «اتصلت من هاتف مدفوع الأجر في بهو الفندق. ذلك أن خطر التنصت أقل مما هو في الغرفة. رفع أحدهم السماعة عند الرنّة الأولى وسأل بالفارسية عن المتحدّث.


فأجبت بالإنجليزية معتذرا بغموض وكأنني قد أخطأت بالرقم. فطلب مني المتكلم - بالإنجليزية هذه المرّة - الافصاح عمّن أكون. فقلت إنني صديق لجوزيف، وهل يعرف أحدا بهذا الاسم؟ فرجاني الانتظار. قلت لنفسي إنهم يحاولون الآن تحديد موقع الهاتف الذي أتحدّث منه وأنني ربما وقعت في الفخ. لكن شخصا ودودا قال لي أن اسمه جوزيف وأنه مسرور لاتصالي. وسألني إن كنت أعرف باريس. كان هو الشخص المقصود قلت لنفسي».


جرى اللقاء ظهر اليوم الثاني في أحد مقاهي بغداد. يقول بيكون عن اللقاء: قال لي جوزيف أنه مسرور لرؤيتي (...). وتحدث عن المطر والطقس الجميل (...). فهمت أنه ليس عميلا في جهاز مكافحة التجسس، فهدأت انفعالاتي، وقلت له أن أصدقائي مهتمون جدا بالسلعة التي تحدث عنها صديقه.


فأجابني: «سلمان ابن أخي. يعيش في باريس كنادل في مقهى. جميع الندل الجيدون غادروا». ثم اقترب من الطاولة وأضاف: «أنت هنا من أجل الميغ؟ أستطيع جلبها لك. لكن هذا كلفته مليون دولار».


ثم طلب العجوز عدم التحدث حيث هما، وحددا موعدا في أحد الأماكن العامة على ضفة الفرات في اليوم التالي. لم تغمض عينا «بيكون» تلك الليلة بسبب هاجس أن فخا قد نُصب له إمّا من قبل الاستخبارات العراقية وإمّا من قبل عصابة من المحتالين الدهاة.


قدّم له موعد اليوم الثاني إيضاحات أكثر عن شخصية جوزيف ودوافعه. إنه ينتمي في الأصل إلى عائلة يهودية فقيرة.


عمل عندما كان فتى لدى عائلة مارونية غنية صرفته من الخدمة بعد 30 سنة من العمل. فوجد نفسه في الشارع وعمره 50 سنة. واعتراه وهو بتلك الحالة الحنين إلى جذوره اليهودية.


عبّر عن رغبته تلك لأخته المدعوة مانو التي كان ابنها منير قائدا لطائرة مقاتلة في سلاح الطيران العراقي. فأخبرته مانو بأنها تحلم هي أيضا بالهجرة إلى إسرائيل. لكن كيف؟


بقيت الفكرة في ذهن جوزيف، وسمع منير يردد أمامه عدة مرّات أثناء الطعام أن رئيسه لا يكف عن القول بأن الإسرائيليين مستعدون لدفع مليون دولار من أجل إلقاء نظرة واحدة على طائرته. هكذا رسخ مبلغ المليون دولار في رأسه.


وفكر جوزيف بهجرة جماعية تترك الأسرة كلها في اطارها العراق دفعة واحدة. كان منير شديد التعلق بوالدته وعلى استعداد لفعل أي شيء من أجلها، وقد يقبل الفرار بطائرته. أما بقية أفراد العائلة فيتكفل العملاء الإسرائيليون بذلك، وهم أصحاب خبرة كبيرة في هذا الميدان. وضمن هذا الإطار ذهب «سلمان» إلى السفارة الإسرائيلية بباريس.


«ومنير؟ هل هو على اطلاع؟» هكذا سأل بيكون فأجاب جوزيف: «بالتأكيد. وهو موافق على الهرب. لكنه يريد نصف المبلغ حالا والنصف الآخر قبيل الرحيل». اندهش بيكون، فكل ما سمعه بدا ممكنا وقابلا للتحقيق. لكن ينبغي عليه أولا تقديم تقريره إلى مائير أميت. سأل هذا الأخير بعد لقاء استمر نصف يوم كامل مع بيكون عند عودته وشرح خطة جوزيف كاملة. «لكن، أين يريد أن يتم الدفع؟»، «في أحد البنوك السويسرية».


فأردف أميت: «يبدو أن جوزيف هذا لاعب ماهر، وعندما نضع المال على الحساب لن نراه بعد ذلك. فما الذي يدفعك للثقة به؟» «أثق به، إذ ليس هناك خيار آخر. فأمر «أميت» بوضع نصف مليون دولار في بنك سويسري «كريدي سويس».كان الرهان دقيقا، وليس فقط على الصعيد المالي، إذ كان يعرف أنه لن يبقى على رأس الموساد إذا تكشف أن جوزيف محتال كما يتوقع بعض العاملين معه.


الميغ التي اختفت


أخطر أميت كلاً من بن غوريون وإسحاق رابين رئيس الأركان، فأعطيا الضوء الأخضر. فأخبرهما أميت أنه سوف يسحب جميع عملاء الموساد في العراق.


قال: «في حالة الفشل، ستكون رأسي وحدها التي ستطيح. لقد شكّلت خمسة فرق. الفريق الأول مسؤول عن الاتصال بين بغداد وبيني. والتعليمات الموجهة له تنص على التزام الصمت الكامل إلا في حالة وقوع أزمة كبيرة. بتعبير آخر لم أكن أريد التحدث عن هذا الفريق تحت أية حجة كانت.


وكان على الفريق الثاني الذهاب إلى بغداد دون أن يكون أحد على علم بذلك، لا بيكون ولا عناصر الفريق الأول، فعلا لا أحد. وتمثلت مهمته في إخراج بيكون إذا حدث خلل وأيضا جوزيف إذا أمكن ذلك. والفريق الثالث مهمته أن لا تغيب عائلة جوزيف عن ناظريه. والفريق الرابع مهمته جلاء المعنيين. وكان على الفريق الخامس تأمين الصلات مع واشنطن والأتراك.


كان ينبغي على طائرة الميغ اختراق الأجواء التركية بعد مغادرة العراق قبل أن تحط عندنا. وكان ينبغي على الأميركيين الذين يمتلكون قاعدة في شمال تركيا، دفع الأتراك للتعاون عبر القول لهم أن الطائرة موجهة إلى الولايات المتحدة. وكان قد تمّ إخباري بأن العراقيين، بدافع خشية هروب أحد طياريهم، لم يكونوا يملؤون خزانات وقود طائرات الميغ إلا نصفها. وهذا ما كان باستطاعتنا أن نفعل شيئا حياله».


انطلقت العملية بعد ذلك. وحصل ابن عم جوزيف على السماح له بالخروج بحجة العلاج إلى جنيف. وعندما وصل إليها بعث ببطاقة بريدية إلى بغداد قال فيها: «المنشآت الصحية ممتازة، وأنا متأكد من أنني سوف أتوصل إلى الشفاء الكامل». كانت تلك هي الإشارة المتفق عليها للتأكيد أنه جرى ايداع مبلغ نصف المليون دولار الثاني في رقم الحساب المعني في سويسرا.


أعلن جوزيف، بعد أن اطمأن إلى وصول المبلغ كاملاً إلى الحساب السويسري، للعميل الإسرائيلي «بيكون» أن جميع أفراد أسرته جاهزين للسفر. فعشية المهمة الأخيرة التي كان منير سيقوم فيها للتدرب على طائرته المقاتلة قادهم جوزيف كلهم في موكب إلى أحد الجبال «للاستمتاع بعذوبة المناخ».


لم تعترض القوات العراقية المنتشرة على عدة حواجز في الطريق على ذلك، إذ كان من المألوف أن يهجر العديد من سكان العاصمة حرارتها الشديدة كل صيف للذهاب إلى الجبال.


استقبل فريق الاتصال الإسرائيلي الذي كان موجوداً في المناطق الكردية أفراد عائلة جوزيف الذين جرى اقتيادهم إلى منطقة أخرى حيث كانت تنتظرهم طائرة هليكوبتر تابعة للجيش التركي. وكانت الطائرات تخترق الحدود من دون أية صعوبات عبر طيرانها على ارتفاع منخفض جدا بحيث لا يمكن لأجهزة الرادار أن تكتشفها.


اتصل أحد عملاء الموساد بمنير كي يخطره بأن أخته قد ولدت طفلة وأن كل شيء تم على ما يرام، كانت تلك رسالة مشفرة جديدة تعني أن عملية ترحيل أفراد العائلة قد اكتملت تماما.


في صباح اليوم التالي الذي صادف الخامس عشر من شهر أغسطس 1966، ومع شروق الشمس أقلع منير بطائرته في مهمة اعتيادية. وما إن ابتعد عن القاعدة حتى زاد قوة محركات طائرته الميغ إلى أقصى حد ممكن وبلغ الحدود التركية قبل أن يتم اتخاذ أي إجراء ضده، بما في ذلك احتمال إسقاط طائرته.


ومع اجتيازه الحدود التركية رافقت طائرته عدة طائرات من طراز فانتوم تابعة للسلاح الجوي الأميركي. لقد حطّ منير بطائرته في إحدى القواعد التركية حيث جرى تزويدها بالوقود وأقلع من جديد، وعندها تلقى رسالة جديدة صريحة وغير مشفرة جاء فيها: «عائلتك في مكان آمن وسوف تلحق بهم بعد فترة قليلة». حطت طائرة الميغ-21 بعد ساعة في أحد المطارات العسكرية الإسرائيلية.


هكذا نجح جهاز الموساد في أن ينال شهرة على صعيد التجسس. كانت تلك مرحلة مفصلية في مسيرة هذا الجهاز الذي كان قد غدا ذا باع طويل في عالم العمليات السرية.



#عماد_فواز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - قصة أبى البشر آدم بين التوراه والقرآن -
- كتاب الرسائل الفلسفية .. لفيلسوف الإسلام أبو يوسف الكندي
- شعراء قتلهم شعرهم
- ( إطلالة على السخرية عند أبي العلاء المعري )
- أشعر بالكآبة..!!
- يا سادة أنتم حكاماً ولستم ألهه
- تجارة وتعاطي المخدرات رائجة في سجون حبيب العادلي
- عندما يحكم الجهلاء رسلا!!
- ماذا ينتظر شعب مصر من أغلبية صعدت على أجساد النساء؟!
- فشل بطعم السفه!!
- أه يا وطني الكبير ..أصبحت عزبة صغيرة وأنا بك عبدا!!.
- (مرض الخوف)
- بلد عوالم بصحيح...!!
- تنظيم جديد يعلن مسؤليتة عن التفجيرات القادمة!!
- أثار الدلتا منهوبة..وبالأدله
- جمال مبارك ينفي التوريث ولكن بطمع الإثبات!!
- عندما يتبنى الجاهل أفكارا هدامه!!
- الوجه الآخر للخلافة الاسلامية..أراجوزات الحكم
- ذكريات ابن معتقل مصري
- قراءة في دفتر وزارة الداخلية والمختلين عقليا!


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد فواز - التاريخ السري للموساد الإسرائيلي 1/6