أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - مروية عنوانها؛ طه حسين















المزيد.....



مروية عنوانها؛ طه حسين


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1933 - 2007 / 6 / 1 - 09:36
المحور: الادب والفن
    


حديثنا، في هذا المقام، يخص طه حسين الذي ملأ دنيا ثقافة العرب وشغل فضاءها في فاصلة حية ومتوترة من الزمن، أو بالأحرى فإنه/ أي الحديث، يخص فكر هذا المفكر الإشكالي، وهو فكر مسوّغ بتجربة حياة، متلون باسقاطاتها، فكر لا بد من تناوله عبر فحص تلك التجربة واستنطاق مسارها وتعرجاتها، وهذه تجربة أولى ترتبط بتجربة أكبر هي تجربة جيلين أو ثلاثة رسخ فكر وتقاليد النهضة منذ منتصف القرن التاسع عشر وطرح الأسئلة والإشكاليات الكبرى التي تتصل بالثقافة والمجتمع والتاريخ بقصد إحداث انزياح حقيقي في بؤرها ومداراتها، فكوّن خطاباً جديداً بشبكة مفاهيم ورؤية منهجية تختلف بهذه الدرجة أو تلك عمّا ألفناها طوال قرون. وإذن فسياق السيرة الشخصية للمفكر، ها هنا، يتكافأ ويتناظر مع سياق سردية النهضة العربية التي يمكن تأشير بدء شروعها مع رفاعة رافع الطهطاوي ( توفي في 1873 ) ومن جاء بعده من تلامذته والمتأثرين بأطروحته. والسياقان كلاهما يؤثران بقوة في تشكيل وإنشاء فكر وأدب المفكر والأديب "طه حسين" بقدر ما يؤثر التشكيل والإنشاء ذاك في السياقين عينهما.
ولد طه حسين في 14 نوفمبر 1889 في إحدى القرى بصعيد مصر، في عائلة من الطبقة البرجوازية الريفية الدنيا، حيث لم تكن ميسورة الحال، لكنها لم تكن معدمة كذلك وقد هيأت لابنها الضرير أن يدرس ويتعلم، فدخل بدءاً في الكتاتيب بعدما فقد بصره وهو في الثالثة، وانتقل إلى القاهرة ليدرس في الجامع الأزهر واستمع إلى بعض محاضرات الشيخ محمد عبدة الذي كان يعيش أواخر أيامه، وهناك تعرف عن كثب على علوم اللغة العربية وآدابها.
يحكي في كتابه ( الأيام ) عن انكبابه على التعلم فيقول: "وإذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً، والأزهرية مع الظهر، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً. وكان يحضر الدرس الأول في الأزهر ، والدرس الثاني في مسجد محمد بك أبي الذهب ، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على أستاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه . وربما المّ بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول إلى شرح ابن عقيل على الألفية. ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس. كان يستجهل الشيخ، ويرى في "قنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الأزهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه".
ولم يكتف بدروس الأزهر بل تعرف على أفكار المعاصرين من المفكرين المصريين واللبنانيين ولا سيما الليبراليين منهم ( من الطهطاوي وحتى أحمد لطفي السيد ) وفي الجامعة المصرية الوليدة استمع إلى محاضرات بعض المستشرقين كليتمان ونالينو وسنتيانا وأخذ يتعلم اللغة الفرنسية، وفي العام 1914 غادر في بعثة دراسية إلى فرنسا ليدرس في السوربون، وسرعان ما تم إعادته إلى مصر بسبب عدم وجود تخصيصات مالية كافية لاستمرار طلاب البعثة في الدراسة، لكنه رجع إلى باريس ثانية في 1915 بعد توفر الأموال اللازمة لدى الجامعة المصرية فمكث في باريس حتى العام 1919، وخلال هذه السنوات الأربع درس وتلقى العلم على يد أكاديميين ومفكرين كبار منهم إميل دوركهايم وإرنست بلوخ وغاستون لاتسون وبيار جاني ولوسيان ليفي برول وطالع مؤلفات كبار الكتّاب الفرنسيين وتأثر بهم ولا سيما أناتول فرانس، وكانت رسالته التي وضعها هناك عن ابن خلدون. وتزوج من امرأة فرنسية تدعى سوزان، التي ستشجعه، وستعينه، إلى حد بعيد، خلال أكثر من خمسة عقود، في أن يحقق ما حلم به.
وبعد عودته استطاع أن يكون واحداً من تلك الكوكبة اللامعة من المفكرين المصريين الذين سيبقى تأثيرهم يتصادى في الوسط الفكري والثقافي لأجيال لاحقة، وخلال ذلك خاض مجموعة من المعارك على صفحات الصحف والمجلات مع مجايليه تشير إلى مرحلة زاهية من تاريخ تطور فكر النهضة العربية وثقافتها.
في سلسلة أعلام الأدب المعاصر في مصر التي أصدرتها الجامعة الأميركية في القاهرة وهي سلسلة بيوجرافية نقدية ببلوجرافية خُصص جزؤها الأول لعميد الأدب العربي طه حسين وصدر في العام 1975، وقد أحصى واضعو الببلوجرافيا مؤلفاته على الشكل الآتي "كتبه في الأدب والنقد والتاريخ والتربية ( 40 كتاباً ) ثم أدبه القصصي ( 6 روايات ومجموعة قصص قصيرة، 12 قصة قصيرة في دوريات ) ثم الأعمال التي قام بترجمتها وهي ( 10 كتب ترجمها، وكتابان راجع ترجمتهما، 29 مقالاً ودراسة قام بترجمتها نشرها في دوريات ) يلي هذا نشره ( 23 قصيدة نشرها في مصر الفتاة والجريدة والسياسة ) والمقدمات التي كتبها لكتب الآخرين ( 36 مقدمة ) ثم فهرسة للدراسات والمقالات والخواطر التي كتبها ونشرها في الصحف والدوريات ( عددها 1325 مقالاً وخاطرة ودراسة ) وأخيراً الأحاديث الصحفية والندوات التي شارك فيها أو أدلى بها وعددها 110".
مفارقات مرويته:
تنطوي مروية طه حسين، كما يمكننا تصورها على جملة مفارقات أساسية وثانوية تغذي فيها ( في المروية ) جدل الفكر ـ التجربة، وبالتالي تخلق ذلك التعاشق أو التنافذ بين النص والحياة، نصه الذي أنتج، وحياته التي عاش.. أولى هذه المفارقات هي ذلك العوق الفيزيولوجي الذي فاجأه وهو في سن الثالثة، نتيجة تخلف المحيط والإهمال، أقصد عماه، ومقدار ما أثّر في مزاجه ووجدانه ولغته الأدبية ليشحذ بالمقابل خياله وفكره فيسعى إلى توسيع وتعميق رؤية الآخرين إلى الذات والواقع والمستقبل، مكابداً من أجل الخروج من محبس العمى إلى فضاء الحرية، ومن أسر الواقع المحدود إلى رحاب الأدب والفكر التي لا تحد.
وثانية هذه المفارقات تتجلى في نشأته من ضمن عائلة فقيرة، في قرية بعيدة، خرج منهما إلى باريس والسوربون، ومن ثم لتكون له مكانته العلمية والأكاديمية والإدارية. وثالثة هذه المفارقات ما أراد له والده أن يحققه شيخاً من مشايخ الأزهر، مثقفاً تقليدياً بالمعنى الذي رآه غرامشي في المعلمين ورجال الدين الذين يعيدون تداول الأفكار الجاهزة ذاتها سنة بعد سنة، وما قيض له أن يكون، لا بحكم الظروف التي ساعدته وحسب وإنما بقوة إرادته وقدراته الموهوبة التي امتلكها، مثقفاً عضوياً حتى بمعنى أوسع من ذاك الذي نجده عند غرامشي أيضاً، واحداً أو على رأس تلك النخبة المستنيرة التي أثرت عميقاً في فكر وضمير جيله والجيل الذي جاء من بعده، تاركاً بصمات على الحياة الفكرية والتربوية والأكاديمية لمصر والبلدان العربية في حقبة حرجة من تاريخهما.
ورابعة هذه المفارقات هي تضلعه بالموروث وبعلوم اللغة العربية وآدابها وبالتاريخ والفقه الإسلاميين نتيجة دراسته في الأزهر ليتماس بعد ذلك مع الغرب ويتبنى أفكار منظّري عصر التنوير الأوروبي، فهو الابن البار لمفكري النهضة العربية بدءاً من الطهطاوي ومروراً بأحمد لطفي السيد وانتهاءً بمحمد عبدة، كما هو التلميذ الذي تشرب عقله بأفكار كانط وديكارت وأوغست كونت وأرنست بلوخ وأميل دوركهايم وغاستون لاتسون وغيرهم، إذ أخذ العدّة المنهجية الغربية الحديثة ولا سيما منهج الشك لديكارت ليحاكم بها الموروث الفكري والتاريخي العربي وما جرّه عليه ذلك من خصومات وعداوات ومعارك واتهامات ومحاكمات. وكان صدور كتاب ( في الشعر الجاهلي )/ في العام 1926 أول الشرارة الكبيرة إذ أحدث معه إزاحة حقيقية في إطار الفكر العربي الإسلامي من خلال اقتحامه لأرض مجهولة في ميدان ذلك الفكر، أو رؤيته لأرض الميدان ذاك من زاوية نظر جديدة وبأدوات منهج عقلاني لم يكن مطروقاً، إلى الحد الذي أوصله إليه، في فضائنا الثقافي.
ربما لم يدرك طه حسين تماماً أنه، عبر كتابه هذا، إنما يهدد منظومة فكرية قارّة، بكاملها، ترسخت أسسها منذ مئات السنين، أو هو يدخل منطقة فكرية محظورة، ويستنطق فيها المسكوت عنه، والممنوع التفكير فيه، وأنه يخلخل آليات منهج ونظام فكر فاتحاً كوّة واسعة في الجدار الصلد لهما، فطه حسين، كما يقول غالي شكري "كحلقة في سلسلة الفكر البرجوازي الجديد قد دعم الرؤية الليبرالية الوافدة على الثقافة بشاهد خطير يمس قدس الأقداس عند الفكر السلفي وهو اللغة". وهو بتبنيه لمنهج الشك عند ديكارت قد سعى إلى النظر بموضوعية علمية لكل ما أصبح في ثقافتنا بحكم المسلّمات غير القابلة للجدل والنقاش، لتفضي خطوته هذه بالتالي إلى جعل المؤسسات القديمة في مهب الريح. وما فعله طه حسين هو أنه وجد أن كثيراً من الشعر الجاهلي منحول وأنه ينتمي بأسلوبه ورؤيته وصوره إلى صدر الإسلام وثقافته، غير أن هذا ليس كل ما قاله في كتابه آنف الذكر وإنما بات لا يرى لتفاصيل بعض قصص القرآن أساساً تاريخياً، وإنما وجدها واردة لغايات تربوية، ومن أجل أخذ العبرة واكتساب الموعظة الحسنة.. كان يريد أن يضع المؤسسة التقليدية ومنظومتها الفكرية في محكمة العقل والعلم، بغض النظر عن مقدار ما أصاب أو أخطا في هذا. ولم يكن في هذا مفكراً مادياً بحسب غالي شكري، بالمعنى الذي ذهبت إليه طروحات الماركسية والبراغماتية والوضعية والتجريبية، وإنما "يظل مفكراً مثالياً بالمعنى الفلسفي كديكارت نفسه، وإنه لم يتخذ من ديكارت ولا من أوغست كونت سوى بعض العناصر المنهجية غير المترابطة عضوياً في نظام فلسفي متسق، أي بلغة هذه الأيام قد استلهم الشعار أكثر من استلهامه لأسس البناء المنهجي وطوابقه الشاهقة". ويقول طه حسين عن منهجه هذا أنه قصد به "التمحيص على ضوء العقل وعدم التسليم الأعمى بما رواه الأولون وأخبرنا به السلف". وبسبب كتابه هذا أثيرت ضده قضية رفعها أحد تلامذة الأزهر وحققت فيها النيابة العامة متعرضاً خلالها لهجوم غير مسبوق في الجامعة والصحافة، ومن قبل أئمة المساجد، وحتى من بعض عامة الناس. كذلك كتب القلم السياسي، وهو ما كان يعادل دائرة المخابرات بمقاييس زمننا، تقريراً في القضية رُفع إلى الملك وإلى المندوب السامي البريطاني، وخرج طلبة الأزهر إلى الشارع في تظاهرة نادوا خلالها بسقوط الشيخ طه حسين!! وفي الوقت نفسه صدرت سبعة كتب في مصر وحدها للتنديد به والرد على كتابه.
كانت هذه لحظة في غاية الأهمية، في مسار فكر النهضة العربية. لكن السؤال الذي يشخص أمامنا الآن هو؛ هل أن هذه اللحظة حلّت قبل أوانها؟. وهل أنها أُجهضت تماماً، أم أن تراجع طه حسين بعدئذ وإصداره للطبعة الثانية من الكتاب بعنوان ثانٍ هو ( في الأدب الجاهلي ) بعد أن حذف منه فصلاً وأضاف إليه ثلاثة فصول جديدة، وغيّر في أفكار واستنتاجات فصول أخرى. نقول؛ هل أن تراجعه شكّل ضربة قاضية نهائية لبدء ثورة فكرية كان من الممكن أن تُحدث تغييرات هائلة في بنية فكر النهضة العربية ومن ثم في بنية المجتمع العربي، أم أن ذلك عدّ تراجعاً تكتيكياً حيث أُخفيت الأفكار وأزيحت مؤقتاً بينما تكرس المنهج العلمي وبقيت الجذوة تحت الرماد لتؤجج فيما بعد قبسات من فكر جديد ورؤية جديدة إلى الدين والتراث والمجتمع والتاريخ والحاضر والمستقبل كما تجلى عند كثر من المفكرين العرب المعاصرين "عبد الله القصيبي، محمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، نصر حامد أبو زيد، خليل عبد الكريم، السيد محمود القمني، عبد الله إبراهيم، عبد الله الغذامي، وغيرهم" مع الإشارة إلى اختلاف هؤلاء بعضهم عن بعض في الموجِّه الإيديولوجي والمنهج وطريقة التفكير، ومن ثم في التخريجات الفكرية؟.
التقاء الشرق بالغرب:
لم تكن مصر قد خرجت تماماً من قوقعة القرون الوسطى، على الرغم مما فعله نابليون خلال حملته، وما أنجزه محمد علي باشا، حين غادر طه حسين إلى أوربا، فرنسا تحديداً. وهناك اصطدم بحضارة مغايرة صارخة، ثرية وبراقة. واختلف طه حسين إلى مسارح باريس ومتاحفها ومكتباتها، وتعرف على فنونها وآدابها وموسيقاها ونظمها الاجتماعية والسياسية فأحس بالفارق الهائل بين الحاضرة الأوربية الحديثة من جهة وبين مصر وهي ترزح تحت سياط الفقر والأمية والتخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي من جهة ثانية لذلك لم يكن مستغرباً أن يتأثر طه حسين بمعطيات الحضارة الغربية، وأن يدعو إلى التشبه بها والأخذ بأسبابها. فطه حسين كان من المنبهرين بالغرب. ولا شك أن انبهاره هذا كان مسؤولاً عن آرائه وأفكاره حول التراث العربي الإسلامي وتاريخ مصر والعرب، ودعوته إلى الإقليمية المصرية، وعن تصوراته حول مستقبل مصر وثقافتها. ولا بد من الإشارة إلى ما للمستشرقين ونظرتهم من دور في تكوين وعي وثقافة طه حسين والذين تتلمذ على أيديهم سواء في مصر أو في السوربون. فعبوره إلى باريس أخرجه من إطاره الفكري/ الأزهري الديني ليدخله في إطار آخر مختلف ذي طابع حضاري مادي، على الرغم من أن طه حسين لم يكن مادياً بالمعنى التقليدي للكلمة، في تفكيره ورؤيته الفلسفية. وطه حسين لم يكن الرائد الأول في اتصالنا بالغرب، ولم يقل الكلمة الفصل في إشكاليات علاقتنا بالآخر ولكنه قال ما سيحضر في صميم طروحات مفكرينا حول تلك الإشكاليات ولسنوات طويلة قادمة.
في الجزء الأول من كتابه ( الأيام ) يروي لنا طه حسين واقعة حفظه للقرآن وهو في سن التاسعة وكيف أنه سعى إلى لبس العمّة وأحب أن ينادونه في منزله وقريته بـ "الشيخ" يقول؛ "أما هو فقد أعجبه هذا اللفظ في أول الأمر ولكنه كان ينتظر شيئاً آخر من مظاهر المكافأة والتشجيع، كان ينتظر أن يكون شيخاً حقاً، فيتخذ العمّة ويلبس الجبة والقفطان، وكان من العسير إقناعه بأنه اصغر من أن يحمل العمّة ومن أن يدخل في القفطان". ويحدثنا كيف أصيب بالإحباط جراء فشله أمام أصدقاء أبيه الذي أخضعه لاختبار في إثبات أنه يحفظ سور الكتاب الكريم. وهناك واقعة أخرى تجري الإشارة إليها وهي أنه في أثناء مغادرته مصر للمرة الأولى إلى فرنسا في العام 1914 وهو على متن السفينة ( أصفهان ) خلع عمّته وقذفها إلى البحر وأهدى قفطانه لراقصة فرنسية. والواقعتان إذا ما ربطناهما معاً نخرج باستنتاج ذي دلالة رمزية موحية تكشف عن فعل الانتقال من أسر ثقافة إلى أخرى، وانفتاح على أفق آخر. وان تجري الواقعة الثانية في البحر المتوسط الذي رأى فيه قناة ووسيلة اتصال وليس مجرد عازل مائي بين بلده مصر وأوربا بفضائها الفكري والحضاري إنما يعمق تلك الدلالة ويوسع مداها، وقد كان طه حسين يؤمن أن ذلك البحر هو "بحرنا كما هو بحرهم" وأن "فرنسا وإيطاليا واليونان يخصوننا كما نحن نخصهم. قرابتنا لهم قرابة حضارية، فمن المستغرب أن يضمنا شاطئ واحد، ولا نتأثر بهم أو نؤثر فيهم". ووجد في الحضارة الإغريقية القديمة الأصل والمنبع للحضارات اللاحقة سواء في أوربا أو في مصر والبلدان العربية، وفي كل مرة كان يصر على أن الحضارة العربية الإسلامية ازدهرت يوم تفاعلت، من غير عُقد، مع معطيات الحضارة الإغريقية التي منها انطلق العقل الإنساني وصنع تاريخه "وما أعترضه من ضروب التطور وألوان الاستحالة والرقي حتى انتهى إلى حيث هو الآن". على حد تعبيره. ولذا أخذ على عاتقه حين رجع من باريس في العام 1919 مهمة التعريف بالثقافة الإغريقية وتدريسها لطلبته فنشر بين عامي 1920 ـ 1925 ثلاثة كتب هي ( صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان ) و ( نظام الأثينيين ) و ( قادة الفكر ). وقد استهدف طه حسين من نشره لهذه الكتب كما يقول محمد نور الدين أفاية "تقديم العقل الإغريقي في كليته، أي في تمظهراته المختلفة، في الأدب والسياسة والفكر". وغالباً ما قارن طه حسين بين العقل اليوناني الخالص الذي انتصر والعقل الشرقي الذي انهزم، فالأول على وفق ما يرى "يسلك في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس ثم فلسفة ديكارت وكانط وكونت وهيجل". أما العقل الشرقي الذي يقابله فإنه "يذهب مذهباً دينياً قانعاً في فهم الطبيعة وتفسيرها". وكان طه حسين يتلمس ملامح تلك القرابة بين الثقافة العربية الإسلامية وثقافة اليونان ويجد أننا اقرب إلى هذه الثقافة الأخيرة بكثير من قربنا من الثقافة الصينية أو اليابانية المنتميتان إلى الشرق جغرافياً وحضارياً. وهو على الرغم من هذا لم يتنكر لثقافته العربية الإسلامية بل غدا واحداً من دعائمها طوال نصف قرن فنشر في آدابها وتاريخها عشرات الكتب وكتب فيهما مئات المقالات والبحوث.
وكان ديدنه إدراج التراث والثقافة العربيين داخل التراث الثقافي الإنساني "محاولاً إخضاع الأول لقواعد المنهج كما نحتها التطور العلمي الأوربي". وحين كتب بعد ذلك ما عُرف بإسلامياته ولا سيما كتب ( على هامش السيرة، الوعد الحق، الشيخان ) إنما سعى إلى تأصيل استخدام المنهج العلمي لتخليص الدراسات الإسلامية من الجمود والخرافة وبأسلوب هادئ وغير صادم كما حصل مع كتاب ( في الشعر الجاهلي ) ولا بد أن طه حسين شعر أن الوقت لم يكن مناسباً لمواجهة مكشوفة مع حرّاس الثقافة التقليدية، وأن تعميم وتأصيل المنهج المستند على معطيات العقل والعلم يعد أكثر ضرورة وجدوى. وفي هذا كله، ولاعتبارات شخصية وأنطولوجية وحضارية تحوّل طه حسين إلى جسر بين ثقافتين، كان يجد أواصر مشتركة كثيرة بينهما. وها هو يحدثك عن أبي العلاء المعري بتعاطف وتفهم وإعجاب (لعماه علاقة بالأمر، لاشك ) مثلما يحدثك وبالتعاطف والتفهم والإعجاب نفسه عن الكاتب الفرنسي المعاصر أندريه جيد، في سبيل المثال، على الرغم من الاختلاف بين عصري الرجلين وأدبهما ونظرتهما إلى الحياة والعالم. فيعبر عن تمزقه بينهما، في كتابه ( مع أبي العلاء في سجنه ) قائلاً؛ "أنا بين رجلين يدعوني أحدهما إلى زهد شاحب مظلم لأني لا أشهد لذات الحياة ولا أكاد أحصلها، ويدعوني أحدهما الآخر إلى حياة كلها حس ومتعة، لأن جمال الطبيعة ينفذ إلى نفسي من كل وجه. فأما الأول فهو أبو العلاء وأما الثاني فهو أندريه جيد".
في النقد الأدبي:
طه حسين واحد من أهم من أرسوا أسس النقد الحديث في فضاء الثقافة العربية، فهو أحد رموز هذا النقد في القرن العشرين ممن لهم فضلهم على من جاءوا من بعدهم. وقد فهم النقد بعدِّه أدوات فحص وتقويم ومنهج رؤية للنص الأدبي والفكري، ولهذا كان أديباً ومفكراً في الوقت عينه، استوعب مناهج الأقدمين والمحدثين على الرغم من أن الدارسين يضعونه في خانة الأدب قبل أي شيء، فألبرت حوراني، في سبيل المثال، في كتابه الذي يؤرخ فيه لفكر النهضة العربية ( الفكر العربي في عصر النهضة 1789 ـ 1939 ) يرى فيه أديباً أكثر من كونه مفكراً.
كان اهتمامه بالتاريخ والمجتمع والسياسة يجعله ينظر إلى النص الأدبي في سياقه التاريخي/ الاجتماعي فيراه انعكاساً للبيئة التي ولد فيها، فيما كانت ذائقته الجمالية ومعرفته بقوانين إنتاج الخطاب الأدبي تدفعه لرؤية هذا النص من الداخل، إي في بنيته اللغوية وأسلوبه وصوره. أما المنهج الذي رمى إلى إبداعه في حقل النقد الأدبي فمتعدد المرجعيات سواء تلك التي تشربها من خلال تماسه مع فكر وأدب الغرب الحديث، أو تلك التي نهلها من الأدب العربي في مراحله التاريخية، ولا سيما القديمة منها.. يقول غالي شكري أن طه حسين "تمكّن.. باقتدار من أن يمزج هذين العنصرين المنهجيين المتنافرين، ولعل هذا ا يمنح منهجه معنى الأصالة لا بالعودة إلى القديم، ولكن بتلبية الاحتياجات الموضوعية للواقع في اتجاه التقدم. إن هذا المزج في ذاته قد تم على ضوء استكشاف عميق لتاريخنا الأدبي جنباً إلى جنب مع إدراك عميق لحاضرنا الذي ينشد النهضة".
لا شك أن التقدم والنهضة واحتياجات الواقع كان في صلب تفكير طه حسين، فهو لم يكن منعزلاً عن مشاكل مجتمعه وعصره، وكان يريد للأديب دوراً يؤديه ووظيفة يضطلع بها، لكنه في نهاية المطاف كان مقتنعاً أن النص الأدبي يجب أن يبقى خارج قيود الزمان والمكان، وان يبقى هو المعيار الوحيد للتقويم الصحيح، وكما يقول؛ "إن الفن يبقى الحقيقة الضائعة بين يديه ( الناقد ) إذا لم يتخذ من النص دليله الوحيد لمعرفة هذه الحقيقة الأشمل من التاريخ والأغنى من الجغرافيا والأعمق من المجتمع والأخصب من الفرد".
وطه حسين عموماً ينتمي إلى المرحلة التوفيقية/ التلفيقية من تاريخ فكر النهضة العربية التي كانت ( وما تزال ) ثنائيات ( القديم ـ الحديث )، ( الأصالة ـ المعاصرة )، ( التراث العربي القديم ـ الحضارة الغربية الحديثة ) الخ تهيمن على، وتشغل، الفضاء الثقافي العربي.
ربما لم يستطع طه حسين أن يتجاوز هذه الثنائية القلقة بين ( داخل النص ) و ( خارجه ) وأن يوفق في النظر إليهما باقتدار كبير، وأن يتجنب التناقض الناشئ عن المسألة هذه، غير أنه كان واعياً لأبعادها وقد حاول حلها من خلال مفهوم وفكرة ( المرآة ). واستناداً على هذا المفهوم وهذه الفكرة انطلق جابر عصفور في تقصي الفكر النقدي عند طه حسين فكان كتابه ( المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين ) ثمرة جهد علمي جاد ودؤوب، ومن أفضل ما صدر بهذا الصدد.
ومنذ البدء يجد عصفور أن "العمل الأدبي عند طه حسين علّة لمعلول سابق في الوجود، وصورة لأصل قبلي يوازيه". ملاحظاً أن علاقة العمل الأدبي بأصله، عنده، تُختزل في كلمات ثلاث هي؛ التصوير والتمثيل والانعكاس، وكلها تدور في مجال دلالي واحد وهي دوال تفضي إلى مدلول أساسي هو لب ما يمكن أن يكون فكراً نقدياً عند طه حسين، وهنا كما يشير جابر عصفور فإن الأدب يقودنا إلى أصله المغاير له، فهو صورة أو صور لعالم يوازيه، مثلما توازي صور المرآة موضوعاتها.
تستحوذ كلمة المرآة على دراسات طه حسين النقدية حتى لتوشك أن تغدو منها بمثابة المركز أو البؤرة، وتتردد كلمة ( مرآة ) أيضاً في تضاعيف ما كتب من نصوص ومقالات وخواطر أدبية، وكذلك تتكرر الكلمة ذاتها في بعض عنوانات كتبه ( مرآة الضمير الحديث )/ 1949 ( مرآة الإسلام )/ 1959. وهو إذ يقول في كتابه ( كتب ومؤلفون ) "إنما ينبغي أن يدرس الشعر والنثر من حيث هما مرآة لحياة الأمة العربية في طور من أطوارها" فإنه في كتابه ( فصول في الأدب والنقد ) يقول "الناقد مرآة صافية واضحة كأحسن ما يكون الصفاء والوضوح والجلاء. وهذه المرآة تعكس صورة الأديب نفسه كما تعكس صورة الناقد". وإذا كانت فكرة المرآة التي تحيل إلى معاني التصوير والتمثيل والانعكاس تجعلنا نضع الناقد الذي يتبناها في صف النقاد الكلاسيكيين الذين يرون في الأدب والفن محاكاة للواقع فإن جابر عصفور يتحدث عن ثلاث مرايا تمثل جوانب ثلاثة ينطوي عليها العمل الأدبي في معالجات طه حسين النقدية هي الجانب الاجتماعي والجانب الفردي والجانب الإنساني حيث يصبح العمل الأدبي مرآة للمجتمع ومرآة للمبدع ومرآة للإنسانية فيشكل عندئذ ثلاث استجابات نقدية؛ الأولى تنحو منحى تاريخياً يركز على الصلة بين العمل الأدبي والبيئة التي تنتجه، والثانية تنحو منحى نفسياً نتعرف من خلاله على شخصية المبدع، أما الثالثة فمرتبطة بالبعد الإنساني ارتباطها بلون من الجمال المطلق". ومنذ ذلك الحين، منذ رحيل طه حسين في 28/10/1973 عرف النقد الأدبي العربي مفاهيم ومصطلحات ومناهج جديدة معظمها غربية، إلى جانب إعادة رؤية واستثمار لمفاهيم ومناهج النقاد العرب القدماء، غيّرت من منظور الناقد وآليات التقويم واستنتاجاته. غير أن هذا كله لا يقلل من شأن طه حسين، ومن دوره الريادي، ومن مكانته المعرفية، ولا يلغي قيمة انفتاحه على الفكر المعاصر وفتوحاته في حقل الفكر النقدي عربياً.
الليبرالية والتربية:
طه حين أحد ممثلي الفكر الليبرالي العربي.. أحد الرواد العظام لهذا الفكر، وأشد المتحمسين للدفاع عنه، وقد دخل، من ضمن هذا المسار، مماحكات ومعارك شكلت لحظات مجيدة في تاريخ نهضتنا المجهضة، وتعرّض إلى التهجم والتنديد والاتهامات بسبب تبنيه لذلك الفكر. وهو، في الأحوال كلها، ربيب فكر التنوير الأوربي مذ حقق تفاعله الخلاق مع ذلك الفكر، يوم ذهب إلى باريس والتحق بالسوربون، وعاد لينادي بسلطة العقل والعلم والثقافة ونبذ التقليد والخرافة إذ وعى أن الحضارة الأوربية هي المدنية القائمة على حكم القانون والمشيدة بالعلم والمعرفة والثقافة، وهي العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة، وهي الديمقراطية بمؤسساتها الدستورية ونظامها الاجتماعي الحر، والحرية التي بها تكفل إنسانية الإنسان ويتم الرهان على مستقبله. فيؤكد أن؛ "المقياس الوحيد لأي تقدم أو حضارة هو مدى حرية الوطن والمواطن، أما الصناعة والمعرفة والازدهار الاقتصادي والتفوق العسكري، فكلها نتائج للحرية. ولا خسارة في الحرية إلا للأغلال بكافة أنواعها فردية واجتماعية، فكرية ومادية". ولم تكن مسألة المأزق الحضاري الأوربي المتجسد بالبعد الاستعماري له في ممارساته، وما يشكله هذا من تناقض صارخ في جسم تلك الحضارة في علاقتها بالآخر غائباً عن بال طه حسين الذي حذر من مجافاة الحرية بحجة أن الغرب الاستعماري يتبناها، فيقول؛ "إذا كانت أوربا وأمريكا تنكرتا للحرية، فلا ينبغي أن ننساق نحن في هذا التيار ونتنكر لها. الاحتكارات ضد الحرية داخل المجتمع، والاستعمار ضده خارجه. هذه تجربة أسيفة لا يحق لنا أن نفقد الإيمان بالحرية بسببها". .
وطه حسين هو امتداد لفكر النهضة العربية.. هو تلميذ محمد عبدة وأحمد لطفي السيد، ولذلك التراث العقلاني كله المتمثل بأفكار الطهطاوي والأفغاني وخير الدين التونسي والكواكبي وغيرهم. والسؤال الذي يبرز، في سياقنا هذا هو؛ هل شكلت لحظة ( طه حسين ) قطيعة بالمعنى الباشلاري مع ذلك التراث؟. هل بدّل طه حسين بشكل حاسم من الترسيمة المعرفية العربية واضعاً إيانا على عتبة فكرية جديدة.. يقول غالي شكري: "كان الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبدة، يقولون بدرجات متفاوتة أن الحضارة الحديثة لا تتناقض مع الإسلام الصحيح. وجاء علي عبد الرازق ليقول أن لا علاقة بين الإسلام كعقيدة دينية والدولة كنظام سياسي للحكم. وجاء طه حسين بما يشبه ( الضربة القاضية ) ليقول؛ إن العاطفة الدينية والوجدان الروحي ومعتقدات السلف لا علاقة لها بالعلم وقوانينه وتجاربه ورؤاه ومقدماته ونتائجه".
إن فصل الدائرتين السياسية والدينية تسمح، على وفق وجهة نظره، باقتباس أسس ومعطيات المدنية الأوربية من دون اقتباس دينها. وهذا مما يسهل فعله في مصر لأن لا كهنوت في الإسلام. ولكي تتعزز سلطة العقل ويتحقق المجتمع المدني العلماني الديمقراطي لا بد من الالتفات إلى التربية والتعليم. وقد عمل طه حسين في مجال التربية موظفاً كبيراً ووزيراً، وكذلك أستاذاً وعميداً في الجامعة وهو صاحب الشعار الشهير حول جعل التعليم متاحاً للجميع كالماء والهواء. واستطاع أن يقنع الحكومة بتحقيق مجانية التعليم الابتدائي، فلا تقدم ولا مدنية وتحضر من غير محاربة الجهل وإشاعة العلم والمعرفة. وقد واجه أولئك الذين تحدثوا عن مشاكل معقدة سيفرزها انتشار التعليم ومنها البطالة فكان ردّه أن يجري تغيير النظام الاجتماعي لفتح مجالات جديدة للعمل ووضع حد للظلم بتصغير الأملاك الكبرى وتمصير الحياة الاقتصادية. وتأثير طه حسين على تقاليد الحياة الجامعية في مصر لا يمكن إنكارها هو الذي أراد من الجامعة أن تكون مجتمعاً فكرياً قائماً على المودة والصداقة والتعاون والتضامن. وفي الوقت نفسه طالب بإصلاح الأزهر وتغيير نظام التعليم فيه ليدرِّس الإسلام الحقيقي، دين الحرية والعلم والمعرفة، ويظل معيناً للحياة الروحية.
كان متفائلاً وهو يكتب وينشر كتاب ( مستقبل الثقافة في مصر ) بعد معاهدة 1936 التي حصلت مصر بموجبها على استقلالها، ويحدد أسباب القوة التي يجب اكتسابها لتكون مصر جزءاً من الحضارة الحديثة، ومنها التربية والتعليم والاقتصاد وبناء الدولة على فكرة المواطنة والدستور والنظام البرلماني والجيش القوي. وهذا كله بدعامة عقلانية وطيدة.. يقول محمد نورالدين أفاية؛ " إن عقلانيته ( أي طه حسين ) أرادها أن تكون نهجاً تتجسد في المؤسسات، في التعليم واللغة والإعلام، وفي كل أجهزة الدولة بحكم أن الدولة هي الضامنة لتوازن المجتمع الحديث".
ويبدو أن طه حسين تحسس وهو في أواخر أيامه الطريق المسدود الذي وصلت إليه مصر والبلدان العربية بعد أن ساد الاستبداد والقمع، واندثرت أو كادت معالم الحياة الديمقراطية، وتخلخل نظام التعليم وتخلف، وتراجعت الثقافة، فقبل أشهر قليلة من وفاته في نهاية تشرين الأول من العام 1973 يقول لغالي شكري؛ " يخيل إلي أن ما كافحنا ( يقصد جيله ) من أجله، هو نفسه لا زال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم.. إنني في آخر أيامي، أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل.. أين أبناء جيلي؟. لقد عشت لسوء الحظ بعدهم، ثق أن جميعهم ماتوا وفي قلوبهم حسرة".
وكما قلنا، فثمة تذبذب في مواقف طه حسين وطروحاته مردّه إلى تلك التيارات المتضادة التي تناوبت التأثير في فكره وشخصيته، فعوقه الفيزيولوجي/ العمى، وتشربه المبكر بعصارة الأدب العربي الإسلامي، ثم تلك الهزة العنيفة التي أحدثها التقاؤه الصادم بالغرب، والعصر المربك الذي عاشه بتحولاته وأزماته وإحباطاته جعله دوماً على الخط القلق والخطر من ساحة الثقافة. فقد كان عليه أن يجيب على أسئلة شائكة ومصيرية تتعلق بالهوية والتاريخ والدين والعلم والفن والأدب والسياسة. فطه حسين يعد رمز تماس الشرق بالغرب في النقطة الحرجة من علاقتهما.. وعي موار حاد وجريء جاء في اللحظة المناسبة من السياق التاريخي لحركة النهضة العربية في النصف الأول من القرن الماضي، لم ينكر تراث الشرق أو يتنكر له لكنه حاول أن يتناوله بمنظور جديد، برؤية مغايرة تتقاطع مع المألوف السائد، وركون هذا المألوف السائد، حد الكسل، لأدواته ومناهجه القديمة، ليغدو طه حسين فيما بعد حجراً هاماً في بنية ثقافتنا المعاصرة. ولكي نستوعب حقاً مكانة طه حسين في كوننا الثقافي ينبغي أن نعاود التحري عن جذوره الفكرية، وأن نفهم الإطار الحضاري التاريخي الذي وجد فيه ( أنفعل به وتفاعل معه ). وحتى بعض تحفظاتنا على بعض من مواقفه وآرائه يجب أن لا ينسينا الدور الجبار الذي قام به في تثوير مناحي من حياتنا الثقافية، وتلك الآفاق التي أشرعها على صعد الفكر والأدب والتربية والتعليم من أجل أن يكون مستقبلنا أكثر بهاءً.. تردد أحياناً، وتراجع أحياناً، وكان مضطراً للمواربة في حالات، وحتى حين كتب سيرته ( الأيام ) لجأ إلى ضمير الغائب ( هو ) وكان يتحدث عن نفسه فيطلق عليها كلمة ( صاحبنا )، في محاولة التفاف على مسؤولية مواجهة الذات وكشف جوانب من تاريخها السري، أو غير المعروف لعامة القراء، في وقت لم يكن فيه نوع كتابة السيرة الذاتية قد انتشر على نطاق واسع في إطار الثقافة العربية.
كان رأيه أن يحدث ضجة في الزوايا الساكنة من حياتنا الثقافية، وان يهز الثوابت التي أطمأننا إليها لكي يتأكد من حقيقة قوتها ورسوخها، وان ينسف منها ما هو وهمي وزائف، وقيل أنه كان أحياناً يدلي بآراء لا يؤمن بها، لا لشيء إلاّ لكي يهيئ للجدل والحوار المبدع ويشعل النقاش، ويحفز العقول ويستثيرها.
المصادر:
• ( الفكر العربي في عصر النهضة 1798 ـ 1939 ) ألبرت حوراني.
• ( الغرب في المتخيل العربي ) محمد نور الدين أفاية.
• ( النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ) غالي شكري.
• ( ماذا يبقى من طه حسين ) غالي شكري.
• ( المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين ) جابر عصفور.
• مجلة ( آفاق عربية ) العدد 4 كانون الأول 1975.
• بعض مؤلفات طه حسين.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حياة ساكنة- لقتيبة الجنابي
- في الروح الوطنية العراقية
- إمبراطورية العقل الأميركي: قراءة أولى
- في الاستثمار الثقافي
- نحو حوار ثقافي عراقي
- بمناسبة بلوغه الثمانين: ماركيز بين روايتين
- حين يُصادر كافكا وبوشكين؛ الإيديولوجيا والإنتاج الثقافي
- فيروسات بشرية
- جحا وابنه والحمار
- الأفضل هو الأسرع
- الإعلام العربي: سلطة الإيديولوجيا ومقتضيات العصر
- سنة موت ريكاردو ريس: المخيلة تنتهك التاريخ
- السياسة والكذب
- النخب العراقية ومعضلة تأصيل الهوية الوطنية
- عن الربيع والموسيقى والقراءة
- السياسة التي خربت نصف أعمارنا!!
- ( بورخس: مساء عادي في بوينس آيرس )
- كوميديا عراقية سوداء
- مغامرة الكتابة الروائية
- الحلم العراقي


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - مروية عنوانها؛ طه حسين