أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول في سجن عدرا















المزيد.....

الرحيل إلى المجهول في سجن عدرا


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1929 - 2007 / 5 / 28 - 11:02
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


قال محمد خوجة بلطف ولباقة جمة:
بعد الصلاة سنضع أسرتكم فوق الأسرة التي وقع الأختيارعليها. اصبروا علينا قليلاً.. عشرة دقائق.
لم نتكلم أو ننبس بحرف.
وقف مصطفى الشيخ حسن بين الأسرة.. وجهه بأتجاه الجنوب. وضع يده على أذنه وراح يؤذن.. الله أكبر.. الله أكبر.
الباقون كانوا قد أنتهوا من الوضوء واستعدوا للصلاة في ممر المهجع. وقفوا إلى جانب بعضهم البعض في خط مستقيم طويل يمتد من الجدار إلى الجدارفي خشوع كامل.
كنت واقفاً مع محمد خيروتيسيرالمسالمة من التنظيم الشعبي الناصري في الزاويا الغربية من المهجع.
بعد الصلاة تحرك كل واحد في أتجاه..
كان في كل مهجع سخانتان موصولتان بسلك كهربائي من أجل تسخين الشاي وتحضيروجبة الطعام البسيطة والسريعة.. بطاطا مسلوقة مع بصلة.
وضعت سريري فوق سرير بسام الأشقر. عدلت فراشي.. وضعت الوسادة والشرشف الأخضرالذي أعطاني إياها رفيقي وصديقي حمزة حبوس على السرير. طويت البطانيات الثلاث مع بعضها ورميتها جانباً.
صعدت إلى أعلى السريروجلست عليه.
كان المطريهطل بخفوت في الخارج.. الرياح تهب بصمت تلسع النوافذ العالية بين الحين والأخر منذرة ببدء شتاء قاس وبارد.
رحت أنظر إلى حركة الأخرين مستغرباً من صمتهم وشرودهم.
كل واحد يعمل بشكل منفرد.. منغلقاً على نفسه.. ملفوف بطبقة سميكة من العزلة والحيادية تاركاً مسافة بينه وبين الأخرين. كان كل فرد يحاول الابتعاد قدرالامكان عن الدخول في المشاكل التي تستفز أعصابه أو أعصاب غيره الذي انهكها مدة السجن الطويلة. كنت أراقب حالة القلق والتوتر.. الحركات العنيفة التي تصدر منهم.. حركة الايدي وهي ترتفع أو تنزل.. شد الاصابع عند الأشارات أو في حركة التعابير الأخرى كالعينين أو الوجه.
عندما كان يتكلم السجناء كنت أحس بنبرات الأنفعال والقسوة أثناء التعبير وفي لحظات التكلم.
كانت الكلمات تخرج من أفواههم مشدودة.. عصبية ومرصوصة.
هذا ينطبق على الجميع دون أستثناء سواء كانوا شيوعيون او أخوان أوغيرهم من المعتقلين.
تجربة السجن الطويلة علمت الجميع أن يهتم كل سجين بشؤونه الخاصة. يبذل جهداً إضافياً في محاولة السيطرة على انفعالاته ككأئن إنسانياً محصور في مكان مغلق ومعزول عن المجتمع مدة طويلة ولا يعرف متى سيخرج من هذا المكان الكريه. بل لقد وصلت لقناعة كاملة أنهم استسلموا لشروط القدر وتقلباته لعدم وجود أفراج في الأفق المنظور للخروج من هذا النفق المظلم.
احسست بهذه الأشياء منذ اللحظات الأولى لدخولي هذه التجربة.
المعاناة اليومية كثيرة ومتعددة.. كخوف السجين على أهله واولاده وأسرته.. المحاولة الصعبة والمملة لقتل الفراغ والوقت الطويل والرتيب.. الاهتمام المرهق في معرفة أخبار العالم الخارجي ومحاولة التواصل معه.
كل فرد كان يحاول جاهداً أن يمررالايام بأقل قدرممكن من الخسائر النفسية والروحية وتخفيف انعكساتها عليه وعلى الذين حوله.
كنت أراها في السجناء القدامى منذ اللحظات الأولى.
عندما يوضع الانسان في مكان خطيروصعب يهدد وجوده وكيانه.. يلجأ الدماغ إلى خلق آليات دفاعية معقدة تساعده على حماية الفرد من الانهياروالدماروالخراب والبقاء على وجوده بشكل متوازن.
كان مصطفى الشيخ حسن ومحمد نحلوس على سرير واحد.. واحد مقابل الأخرفي الطابق الثاني من الأسرة.. يحيكون حقائب من الخرز.. يشتغلون بصمت كامل.. لا يلتفتون إلى اليمين أو اليسار وكأن شؤون العالم كله لا يهمهم.. كل واحد طاوياً رجليه تحته.. يمضيان في رحلة قتل الوقت والانتظار.
كان مصطفى ونحلوس في عمر الورد عندما اعتقلوا.. في السادسة عشرة من العمر.. كلاهما يحمل على ظهره وروحه جبل من الهموم والاحزان.
لقد مكث كل واحد منهم مدة أثنتا عشرة سنة في السجن.
رحت اسرح بخيالي إلى البعيد مستغرباً من قدرة بلادنا على مواجهة الصعوبات القاسية والوقوف في وجه المحن وتقلبات الزمن وتحديه ومقاومته عبر عصورمتعددة وعبر ويلات كثيرة.
على مبعدة.. شاهدت شاباً طويل القامة.. في السنة الرابعة من دراسة للهندسة المدنية. لقد أخذوه من الجامعة.. من دراسته ورموه في هذا المكان. كان مضجعاً على الفراش ينظر إلى السقف شارداً يفكر ويتأمل ويبحر في مرافئ حياته العميقة دون أن يتحرك. طوال الوقت يسمر نظراته في السقف بقلب مكسور. وعلى مبعدة قصيرة رجل قصير القامة فارداً رجليه عابس الوجه والجبين. وفي الطرف الأخر أحدهم يحمل صحناً فيه طعامه المتواضع.. وأخر يدخل إلى الحمام. بعضهم يدخن السيكارة.. يمجها بقسوة وصمت مطبق ثم ينفث دخانها في فضاء المكان المغلق..
كانت رائحة الدخان تمتزج برائحة الأنفاس.. الطبخ ودورات المياه.
وراء كل واحد حكاية وقصة مطوية في صفحات النسيان. رحلة محفوفة بالألم والوجع. كل واحد يكتم بوحه في مدار مغلق. حزنه مدفون في قلبه. لمن يحكيه.. ولمن يقوله.. إذا كان كل واحد منهم.. كتلة مصنوعة من قهر وهم وألم.. ووراء الأبتسامات العريضة التي تتوارد على محياهم عندما يتكلمون شجن عميق مخبأ في دهاليز القلب.
الزمن الأغبر.. استباح كل لون جميل.. وكل حلم ملون.
يستحيل علي المرء أن يتصالح مع هكذا مكان.. مع السجن.
كانت ذاكرتي تتوه وتبتعد.. يرافقها زوغان عميق.. غفوة مؤقتة.. سرعان ما تستيقظ على لسع الوضع الجديد الذي أنا فيه.
راحت الأيام تمضي ببطء.. تحرق معها أجمل لحظات العمر.. زهوة الشباب وريعانه.
في السنوات الأولى كنت أحلم إنني خارج السجن.. وسط الأهل والخلان.. في بيتنا أو في شوارع مدينتي.. في اماكن العمل أو على ضفاف نهر الخابور.. رحلاتي مع فريق كرة القدم.. مع الحبيبة التي بقيت تنتظرني سنوات طويلة. كثيرة هي المرات التي كنت أحلم إنني في سريري الخشبي استيقظ صباحاً على رائحة قهوة أمي.. أجلس معها.. أنظر إلى شريط الدخان وهو يتصاعد من لفافتها المحروقة.
أراهم معي.. أبي وأمي وأخوتي.. على سفرة واحدة نأكل.. نضحك ونتحادث.. نشرب الشاي او القهوة.
نجلس في نفس الغرفة التي ضمتنا فيما مضى من الأيام نتكلم ونضحك ونناقش ببعضنا في شؤون وشجون حياتنا اليومية والقادمة.
كان عقلي وقلبي يرفضان السجن ولا يريدان لهذه الروح الطليقة ان تتأكسد وراء الجدارن الصدئة.
رحت اروض ذاكرتي الجديدة..
كنت أذهب في شرود.. أرحل إلى مطارح الزمن المفقود.. مداعباً الكلمات المتمازجة.. احط الرحال عند وجه حبيبتي.. أقول لها عندما كنا نلتقي في الخلوات البعيدة عن عيون الفضوليون وهمساتهم الموجعة:
احبك.
كانت لي كنسيم الروح الذي يختزن عذوبة الوجود.. شهيق العمروخلود الحياة.. اسرح مع الاماسي التي ضمتنا.. الاماسي الناضحة بالمرارة والفرح.. بالسعادة والألم. كان ذلك الوقت زمن احتكاك الموت بالحياة.. الموج بالصخور الصلبة.. العري بالبرد.. الحلم بالكابوس. كنت أقول لها عنما كنا نلتقي:
أنا يا ش.. مجدول منك وفيك. أحس بالتمزق والوحدة لبعادك عني. أهرب من الجدران التي تحاصر روحي وقلبي.. في محاولتي الهروب ألجأ إليك.. إلى عينيك.. أشعربالكآبة من هذا المكان المقفرومن الأماكن المغلقة.
أكره الاماكن الضيقة التي تأسر روحي وتقيد حريتي.
عندما تشتد علي الاوجاع وتحاصرني الاماسي الحزينة أعود إليك.. إلى قلبك الجميل.. لأبعد عن ذهني الأنفعالات السوداوية التي تلتصق بي.. لأهرب من البؤس والهمسات الخافتة المكومة علي والمتسربلة بقوة من فتحة الجدران وفراغاتها الموحشة.
في الصباح جاء الأخ والصديق نقولا الزهروجلس معي على سريري. رحنا نتحدث في أشياء كثيرة. كان المهجع بارداً والمصابيح مطفأة. كان الضوء الباهت القادم من وراء النوافذ العالية يبعث على الكآبة والقرف.
بعد قليل جاء رفيقنا مصطفى حسين.
نزلنا ورحنا نمشي في الممر. كنت لابساً سترة صوفية ممزقة يتسرب من فتحاتها آلآف الذائاب الجائعة. يتسرب الهواء الى صدري ورئتي وبقايا جسدي الأعزل. كنت أضع يدي في جيوبي المثقوبة وأشدها إلى الأعلى لأحمي نفسي من البرد.
حاولت أن أمرربضع خطوات في عراء المكان الضيق.. في أرض مصنوعة من حدود متينة وحواجز عامرة.
تتداخل الأفكار في ذهني ما بين ماض مضى وحاضر ضاغط وموجع.
كثيرة هي المرات التي كنت أضحك فيها من اهتمامات السجناء بالاشياء الصغيرة.. دقتهم في متابعة ما هو عادي وعابر كإملاء الماء في الحوض أواهتمامهم بموضوع الدورسواء في الغسيل أو جلب الطعام.. كنت أقول لنفسي.. لن يروضني السجن.. لن أقبل أن اتحول إلى آلة تمارس الطقوس اليومية بمنتهى الحرفة والدقة... لن استسلم لهذه الاشياء أبداً.. يجب ان أقاوم.. أن أرفض هذه التفهات.
نجحت قليلاً.. وفشلت أكثر.
كانت مصادفة مهمة وضرورية أن أحتك عن قرب بالأخوان المسلمين وحزب التحرير الأسلامي وحزب البعث العربي الاشتراكي بأتجاهاته المختلفة.. اليسار واليمين حسب اللغة الدارجة في تصنيفات القوى والاحزاب السياسية المختلفة.
أن أرى وأشاهد بشرمن ألوان مختلفة تمثل الطيف العام من وطننا وبلدنا الحبيب سورية. قوى وأحزاب متعددة.. من دمشق وحلب.. اللاذقية وحماه.. حمص ودرعا.. السويداء ودير الزور.. طرطوس وأدلب.. وغيرها.
لقد جمع القمع والتنكيل كل القوى المعارضة في بلادنا تحت سقف واحد. لقد جمعتنا المأساة ورفضنا للظلم رغم تباين آراءنا ورؤانا المختلفة.
كانت سورية في تلك المرحلة تمر في فنرة عصيبة.. نظام بوليسي مجرم يحمل شعار من ليس معنا.. فهو ضدنا بالضرورة.
مع هكذا عقل منحط عاش وطننا وشعبنا.
لم يترك شيء على حاله.
لقد كان بيننا ثلاثة رجال معتقلون من شركة سيرونيكس لتجميع التلفزيون.. جريمتهم أنهم قالوا أن البيض مفقود من السوق..
لقد مكثوا في السجن ستة أشهردون زيارة من أسرهم وأولادهم.. انقطعوا عن العالم الخارجي بقضه وقضيضه مثل أي معتقل سياسي له آرائه وفكره.
في علاقتي بالأخرين..
بسرعة كبيرة كأي سجين جديد..
رحت أفتح علاقات حميمة مع الرفاق والأصدقاء المتواجدون في السجن والمهجع.. لم أكن أحس بحاجز نفسي أو روحي معهم.
اقتربت مرة من سرير عمرالزبداني والقيت التحية عليه. قلت:
ــ مساء الخير.. هل لي أن اتعرف عليك. أبتسم ابتسامة متواضعة وقال:
ــ مساء النور.. تفضل أجلس أهلاً وسهلا.. سألني إذا كنت أرغب في شرب كأس شاي معدلة/ شاي المطعم مع إضافة الماء إليها.
مضى يحضر الشاي ويرحب. سألت عمر عن سبب أعتقاله. قلت:
ــ ماذا فعلت.. ما هي تهمتك والأسباب التي جعلتك تبقى في السجن مدة طويلة. قال
ــ لا تهمة لي على الاطلاق.. أنا لاعب كرة القدم في الأمن الداخلي.. منتخب الشباب. وقفت مذهولاً قلت: إذاً لم سجنت.. لقد حيرتني ما هو سبب إعتقالك.. ابتسم مرة أخرى وقال:
ــ أنا رهينة.. لقد وضعوني هنا إلى حين القاء القبض على أخي.
ــ إذاً أنت لست مطلوباً.. أخيك هو المطلوب.
ــ نعم هو ما تقول.. أخي هو المطلوب من الأجهزة الأمنية. واضاف:
لقد تنقلت بين عدة سجون.. التحقيق.. سجن القلعة.. سجن الشيخ حسن.. سجن عدرا الذي نحن فيه!
لقد بقي عمر الزبداني في السجن أثنتا عشرة عاماً وتم الافراج عنه بموجب عفو مشروط صادرعن حافظ الأسد.. لا ذنب له سوى إن أخيه يعمل في السياسة ومنتمي إلى تنظيم سياسي معارض.
عندما تغلق الأبواب.. كنت أجلس على سريره.. أشرب الشاي.. نتكلم في شؤون الحياة وشجونها.. عن الأهل.. وكرة القدم.
كذلك كنت أجلس على أسرة الأخوة والأصدقاء.. وليد عرفات ومحمود الجعفري.. مع حسين قلة وبسام الأشقر.. مع أيسروأبو التاج نتحدث في قضايا متنوعة.
كان لي دائماً وجهة نظر حول علاقات البشر مع بعضها البعض. أن لا تفسد السياسة العلاقات الانسانية. أن توضع جانباً الخلافات الفكرية والسياسية عندما يتعامل الناس مع بعضهم البعض في تسيير شؤونهم الحياتية واليومية.
أن لا تخلط العلاقات الشخصية بالجوانب الاخرى.
لقد أبتلت بلداننا العربية بأنظمة فاسدة ومنحطة على الصعيد السياسي والاخلاقي والروحي. لذلك فإن السياسة الفاسدة.. تفسد النفوس والأخلاق.. تترك بين الناس مسافة وهوة واسعة من الفرقة والتشرذم في علاقاتهم ببعضهم ولا يمكن أن ترمم بسهولة ما دام كل واحد متمسك بموقفه.
لذا كان تقربي من الجميع ودياً وأخوياً.
كنت أقول أن المستفيد الأكبر من خلافات القوى والأحزاب السياسية وصراعاتها وأبتعادها عن بعضها هي السلطة البوليسية الظالمة.
كانت تجربة الخمسينيات من القرن العشرين عبرة لمن أعتبر.
تداول السلطة في تلك الفترة جعل كل القوى والاحزاب تنخرط في اللعبة الديمقراطية من أقصى اليمين إلى أقصى اليساردون أن يكون فيتو على أي حزب سياسي.. مهما كان طرحه. المهم أن يعبرعن نفسه عبر برنامج سياسي ويحترم إرادة الأخرين وتعبيراتهم السياسية والفكرية وقبوله بتداول السلطة بشكل عصري.
كان في السجن خمسة وعشرون معتقلاً من الأخوان المسلمين. القسم الأكبرمنهم كان مصاباً بمرض السل والأمراض الجلدية المزمنة.. المتعددة والمتنوعة نتيجة عدم تعرضهم للشمس وبقاءهم مدة طويلة في عزلة كاملة وفي مكان رطب ومظلم ولعدم وجود دواء وطبابة.
لقد تحدثوا معي عن فظائع سجن تدمر وويلاته. الحقيقة لم أصدق ما سمعت. كنت أقول في سري إنهم يبالغون هناك حبتان زيادة عن الواقع.
لكن أثناء ترحيلي إلى ذلك السجن الكريه تأكد لي ان ما يقولوه هو أقل من الواقع بكثير.
كان السجناء يقفون في طابورطويل عراة تماماً تحت ضربات البرد وقسوة الطبيعة في البيئة الصحراوية القاسية. يمر الحلاق بيده الموس الحادة. الرؤوس مطأطأ والجسد منحني والعيون مغمضة. بضربة موس حادة من الحلاق على الجهتين يكون قد أخرج الجلد مع شعر الرأس والذقن. عندها يسيل الدم غزيراً من الرأس والوجه.. ينزل بغزارة على الطرفين.
يبقى الدم نازفاً إلى أن يجف لوحده دون تعقيم.
الموس المغموسة بالدم تنتقل من رأس ووجه سجين إلى رأس ووجه سجين أخر.
يحدث هذا الأمر كل أسبوع مرة واحدة.
مرات كثيرة..
يصرخ الشرطي من بعيد.. أنتبه..
رأسك وجسدك في الارض.. ضع يدك على شعرعانتك .. أبدأ يا أبن ال.. لديك دقيقة واحد لتنفيذ الأمر.. أنتف شعر عانتك بسرعة.
يبدأ السجناء بنتف شعرعانتهم كل واحد بيديه.
في هذا العراء كل رجل مطأطأ الرأس والبدن..الأكبال تلسع جسده ووجهه إلى أن ينزف من كل أنحاء جسده.
الذي يموت يأخذوه ويدفنه في مكان مجهول.
كل عشرة رجال يتقاسمون بيضة واحدة وبرتقالة واحدة ورغيف خبز واحد خلال النهاركله.
كان في كل مهجع قرابة المئتان من المعتقلين.
ينتظر كل فرد من أفراد المهجع قرابة الست ساعات أو سبع ساعات في الطابور الممل إلى حين مجيء دوره من أجل الدخول إلى المرحاض أو الحمام.
المكان ضيق.. والحرارة خانقة.. الكثير منهم أختنقوا من قلة الهواء خاصة مرضى الربو.
يبقى السجين مقرفصاً طوال الوقت لا مكان لمد قدميه إلى الأمام أو الخلف ينام بهذا الشكل طوال الوقت.
لماذا هذا الحقد كله.. ولمصلحة من فعل حافظ الأسد بهؤلاء البشر ولماذا مارس عليهم كل هذا الظلم والقسوة.
عندما نقل بعضهم إلى سجن عدرا في دمشق كان وزن أطولهم قامة لا يتجاوزالثلاثون كيلوغرام. خائف ولا يستطيع أن يرفع رأسه إلى الأعلى.. وعندما يتكلم مع سجين أخريبقي رأسه مطأطئاً.
السجين في سجن تدمر يبقى رأسه مطأطئاً طوال فترة مكوثه في ذلك السجن الكريه.
لقد حفظوا القرآن في صدورهم لهذا كانوا يقرأوه لبعضهم البعض دون أن يفتحوا الكتاب.
في سجن عدرا.. مثل أي مكان أخر في الدنيا.
كانت الأمزجة مختلفة. كل واحد له مزاج وتكوين نفسي وروحي مختلف عن الأخرين. كان المعتقلون متعددوا المشارب والأنتماءات لهذا كان يتخلل العلاقات الحيطة والحذر بل تتحول العلاقات إلى مجرد تأديه وقت ضائع وميت. علاقات سطحية وغير محددة بشرط أو عمق. لذلك كان كل واحد يهجس داخل كيانه وأحلامه ومراميه.. يسكن داخل كيانه المشبع برائحة الحياة القادمة بعيداً عن هذا الوحش الفتاك الذي أسمه السجن.
عبد الله محمد شاب صغير لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر. كان عبد الله يقود دراجته الهوائية في الشارع. شاءت الصدف في إحدى المرات أن يقع على الارض بجانب مفرزة الشرطة المدنية. أشتبهت الشرطة فيه.. شكوا فيما إذا كان لصاً وسرق دراجة أحدهم. أخذوه إلى المخفر وفتشوه. كان في جيبه جريدة الراية الحمراء الناطقة بلسان حزب العمل الشيوعي. اتصلوا بالامن السياسي. جاءت دورية وأخذته إلى التحقيق.. ونتيجة التعذيب الوحشي الذي تعرض لها اعترف إنه يعرف أحدهم وأعطاه الجريدة من أجل أن يقراها.
لقد امضى عبد الله محمد في السجن ثمانية اعوام ونيف وخرج بموجب عفو عام ومشروط.
غياث السيد علي.. مرشح للأنتماء إلى الحزب الشيوعي / المكتب السياسي/ أي لم يصبح عضواً اساسياً في الحزب حين اعتقاله.. أمضى في السجن أثنتا عشرة عاماً.
نقولا الزهر.. صديق للحزب الشيوعي/ المكتب السياسي/ أمضى في السجن أربعة عشرة عاماً وخرج بعد تقديمه إلى محكمة أمن الدولة وحكم عليه وجرد من حقوقه المدنية.
جميع المعتقلين تنقلوا بين فروع التحقيق العسكري.. سجن القلعة.. الشيخ حسن وعدرا.
أغلب المتهمين بالانتماء إلى حزب العمل الشيوعي كانوا في ريعان الشباب.. في العشرين من العمر.. راتب شعبو ونبيل جولاق.. خير الدين الغزالي وبرهان ناصيف.. دانيال حسن وأياد السلموني وغيرهم.
يتبع..




#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول سجن عدرا
- الحافلة البرتقالية
- الرحيل إلى المجهول الترحيل
- الرحيل إلى المجهول سجن الحسكة
- الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
- الرحيل إلى المجهول التحقيق
- الرحيل إلى المجهول 1
- الحب.. وأشياء أخرى
- الهرم
- تحت ظلال بادية تدمر
- الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
- بعد المعركة الطويلة على لبنان
- الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
- النظام الدولي وآلياته
- غرفة التحقيق
- النظام العربي
- ظلال الوقت
- من الذاكرة.. إلى الذاكرة
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر


المزيد.....




- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...
- المقررة الأممية لحقوق الإنسان تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائي ...
- العفو الدولية: استمرار العنصرية الممنهجة والتمييز الديني بفر ...
- عائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس تحتشد أمام مقر القيادة العس ...
- استئجار طائرات وتدريب مرافقين.. بريطانيا تستعد لطرد المهاجري ...
- تعذيب وتسليم.. رايتس ووتش: تصاعد القمع ضد السوريين بلبنان
- كنعاني: الراي العام العالمي عازم على وقف جرائم الحرب في غزة ...
- كيف تستعد إسرائيل لاحتمال إصدار مذكرة اعتقال دولية لنتنياهو؟ ...
- منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بش ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول في سجن عدرا