لقد وعدت الولايات المتحدة الامريكية بنشر الديمقراطية والتحضر والتمدن عشية قيامها بالحرب ضد العراق في منطقة الشرق الاوسط . بيد ان تأريخها وممارساتها الفعلية تكّذب وعودها دائما. فهي التي كانت في العام 1991 في حرب الخليج الثانية وراء اعادة تنصيب امراء الكويت الذين ليس بأمكانهم حتى تلفظ كلمة "الديمقراطية". وهي التي اعترفت بأقصى سرعة بجماعة الطالبان كحكومة عندما استولت الاخيرة على العاصمة كابول، لكنها سرعان ما سحبت اعترافها بها عندما تعالت صيحات منظمات حقوق الانسان والدفاع عن المرأة ضد هذه الجماعة، ناهيك عن سجلها الاسود في قمع الحريات عن طريق التخطيط لانقلابات عسكرية في بلدان امريكا اللاتينية او مساندتها لحكومات تنتهك باستمرار"حقوق الانسان" والنساء والعمال كالسعودية ومصر والاردن والباكستان ...الخ. وهكذا يعيد التاريخ نفسه، لكن هذه المرة بمهزلة قل نظيرها في العالم. فليس هنالك ما يثير الاستغراب عندما نرى "بول بريمر" يحاول التملق لتيارات الاسلام السياسي ورجالاته ورموزه من جهة، ومن جهة اخرى يتوعد القاعدة والجهاد الاسلامي بالانتقام عندما يعلنون مسؤوليتهم عن الاعمال الارهابية التي تقام في العراق. فمن جانب، يشكل مجلس للحكم اكثر من نصف اعضاءه هم رموز الاسلام السياسي لا لشئ الا لانهم اضفوا الشرعية على حرب امريكا المدمرة ضد جماهير العراق وعلى وجود قواتها، ومن جانب اخر تصرخ من جراء الاعمال الارهابية لاسلام سياسي آخر. ولا تكتف بهذا الحد بل انها تعمل على انتاج واعادة انتاج افكار وقيم يستند عليها الاسلام السياسي في العراق. فعلى سبيل المثال لا الحصر لا يشكل القرار الذي اصدرته تلك السلطة بحظر بيع المشروبات الكحولية على الارصفة بعد الثامن عشر من آب لفتة حضارية كما هو الامر في الغرب بل هو تملقا واضحا لجماعات الاسلام السياسي. فالادارة الامريكية لم تحرك ساكنا للقبض على عناصر الاسلام السياسي الارهابية عندما دمرت عددا من محلات الخمور وقتلت العديد من الذين كانوا يبيعون المشروبات الكحولية في الشوارع، بل راحت تصدر ذلك القرار ويهمها تطبيقه، دون الاخذ بنظر الاعتبار توفير فرص عمل لاولئك الباعة الذين يحصلون على قوتهم اليومي جراء ذاك العمل.
ان الولايات المتحدة تحاول خلق الاستقرارالسياسي في العراق بأي ثمن. وبعكس ذلك فأن فشلها في ذلك يعني هزيمة خططها التي تعني هزيمتها في الهيمنة على العالم. لذا نرى تقسيم المجتمع العراقي على اسس قومية وطائفية وعشائرية كما هو واضح في مجلس الحكم بدلا من تعريفه على اسس المواطنة وحقوق الانسان في اضعف الحالات كما هو مأخوذ من نظام الديمقراطيات الغربية الذي تغنى به بوش الاب كثيرا وعلّمه لابنه للتغني به ايضا، هو الاسلم لتهيئة الاجواء والارضية لمضي امريكا قدما بخططها ضاربة بعرض الحائط هذا الخليط غير المنسجم في "مجلس المحكومين" الذي يبقى مثل القنبلة الموقوته لا تدري في اي وقت ستنفجر. فلم يكن محض صدفة ابعاد منظمة حرية المرأة في العراق من المؤتمر النسوي في بغداد الذي اشرفت عليه سلطة الائتلاف المؤقتة. فسلطة الائتلاف لا تريد كما هو واضح ان يخوض مؤتمرها في بحث مطلب المنظمة المذكورة وهو"المساواة الكاملة للمرأة مع الرجل المتمحورة في الدستور العراقي الجديد وفي قوانين الاحوال الشخصية وفصل الدين عن الدولة" لأن ذلك سيعكر صفو المشتركات في المؤتمراللواتي يبغين التعبيرعن افكار وتقاليد نخبة مجلس الحكم. وتستمر الادارة الامريكية في سياستها عندما تتنصل مرة اخرى وترفض تحقيق مطالب اتحاد العاطلين عن العمل على الرغم من مرور اكثر من 29 يوما على اعتصامهم ويضم في صفوفه اكثر من 130 الف عضو. وحتى لو طبقنا مفاهيم الديمقراطية المقدسة جدا في العرف الغربي والتي ليس من حق اي شخص المساس بها، فسنجد انه لا يوجد أي طرف في مجلس الحكم الانتقالي من يمتلك ثقة حتى خمسة الاف عضو في اقصى الحالات. الا ان الادارة الامريكية تعطي الشرعية له مع ذلك. وقد يحاججني احد عباقرة مجلس الحكم ليقول لي بأن الحكيم مثلا او الطالباني يمثلان كذا مليون. جوابي هو انه وبالرغم من ان هؤلاء قد نصبوا بالدبابة الامريكية على رقاب الجماهير دون ان تهيئ لتلك الجماهير الظروف السانحة لاختيار ممثليها، الا انه ومع هذا اقول لو سلمنا بفرضية عبقرينا هذه ، سنقول وبنفس المنطق أن اتحاد العاطلين يمثل عشرات الملايين من جماهير العراق، وهذا شيء واقعي لان مطلب الاتحاد هو مطلب جميع العاطلين في العراق. الا ان امريكا لا تبغي الانسياق وراء مطالب اتحاد العاطلين وان يكون بالنتيجة ابراز الصراع الطبقي والهوية الانسانية محل الصراعات القومية والطائفية والعشائرية والهويات اللانسانية. لا تبغي امريكا ان تكون للمنظمات الجماهيرية للعمال والارادة الحرة للبشر في العراق دورا في رسم الملامح السياسية والاجتماعية للمجتمع. وعلى غير مرامها تأتي الرياح احيانا بما لا تشتهيها السفن، فها هي وسائل الاعلام العالمية ومن ضمنها سي ان ان "CNN " وواشطن تايمس"Washington Times" والاقتصادي "The Economist" كبريات وسائل الاعلام اليمينية في الولايات المتحدة لا تلتقي لاول مرة مع اقصى اليمين من صناع قرار السياسة اليمينية للادارة الامريكية وخططها الرجعية في العراق الى جانب البي بي سي"BBC World". فــ"ينار محمد" احدى مؤسسات منظمة حرية المرأة في العراق وشخصيتها البارزة تتصدر تلك القنوات الاعلامية لتتحدث عن اوضاع المرأة والمجتمع المدني العراقي والعلمانية ونقد العشائرية والقومية والطائفية، وعشرات غيرها من الفضائيات والصحف تنشر حوارات ومقابلات لقادة اتحاد العاطلين مثل قاسم هادي وصباح حسين وفلاح علوان بدلا من الجلبي وعلاوي وغيرهم من اركان مجلس الحكم. وتشير بالاجماع الى دور الحزب الشيوعي العمالي العراقي وريادته في تلك الميادين مقابل مجلس الحكم المسلوب القرار والارادة. وهذا التناقض يظهر جليا للعيان داخل جناح اليمين الحاكم في الولايات المتحدة كساسة ومزيفين للوعي ومضللين للراي العام في وسائل الاعلام. فالجناح اليميني التقليدي تعّود، وكجزء من تقاليده السياسية واستراتيجيته، التحالف مع قوى الاسلام السياسي في منطقة الشرق الاوسط ضد التيار الانساني والشيوعي. بيد ان جريمة 11 ايلول في نيويورك وواشنطن تركت اثارا بالغة على مزيفي الوعي (وسائل الاعلام اليمينية) بحيث احدثت شرخا واسعا في نمط النظر والتصور الى الشرق وشعوبه. فهي تعتقد منذ تاريخ تلك الجريمة النكراء ان العلمانية واطلاق اكسير الديمقراطية ومفاهيم حقوق الانسان وحرية الفرد ...الخ هي الكفيلة بأبعاد الولايات المتحدة عن خطر الهجمات التي تقودها جماعات الاسلام السياسي. ان الادارة الامريكية لم ولن يكون في حساباتها ولا برامجها نشر مفاهيم حقوق الانسان والحرية والمساواة في العراق وفي المنطقة. ان صراعها الحالي هو مع جماعة قطب الاسلام السياسي الذي اندمج مع القوميين الفاشيين في العراق تحت شعار معاداة الاحتلال، وليس صراعا مع الافكار والتقاليد والقيم التي تنتج وتعيد انتاج الاسلام السياسي. واذا ما تحاول اوساط مجموعات الاسلام السياسي والحزب الشيوعي العراقي نشر دعايات وشائعات مفادها بأن استراتيجية الادارة الامريكية تلتقي مع استراتيجية الحزب الشيوعي العمالي العراقي لمناهضة الاسلام وانه مدعوم من الموساد والدوائر الصهيونية، لا تعدو اكثر من سخافات وهراء لا يصدقها العقل السوي وهي تعمل للحيلولة دون سحب البساط من تحت اقدام الاسلاميين. حيث تبقى استراتيجية الولايات المتحدة ترتبط بأكثر القوى معاداة للانسانية في العراق وانها لن تتخلى عن حليفها الاسلام السياسي كما هو واضح في زيارات بريمر الى رموز الاسلام السياسي وما يعكسه مجلس الحكم وما ذكرته من امثلة في بداية مقالي هذا.
ان شرط رضوخ الادارة الامريكية لفرض العلمانية وفصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم والمساواة الكاملة للرجل مع المرأة وترسيخ الهوية الانسانية في العراق هو تنظيم الجماهير في صفها المستقل وقيادة اعتراضاتها ضد ممارسات اللانسانية لجماعات الاسلام السياسي الذين في مجلس الحكم او الذين يرفعون شعار معاداة الاحتلال لتبريراعمالهم الارهابية، وبموازاة ذلك فضح سياسة تملق الادارة الامريكية ونهجها الرجعي في العراق الى جانب قيادة حملات عالمية ضد هذه السياسة. ان شرط بروز الهوية الانسانية في العراق هو في الحاق الهزيمة السياسية لمشاريع امريكا في العراق والاسلام السياسي. بهذا تتحقق المرحلة الاولى من استراتيجية الحزب الشيوعي العمالي العراقي.