أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سعدون محسن ضمد - العائد مع الذات















المزيد.....

العائد مع الذات


سعدون محسن ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 1928 - 2007 / 5 / 27 - 07:51
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(الممكن وغير الممكن تكسيره من جسد الهوية)
لم تخرج الهوية عن كونها ورقة تثبت موقفي من الخدمة العسكرية، إلا في ذلك اليوم القائظ الذي طلب فيه صديقي، هويتي ليعاينها، وبعد أن قلّبها بسرعة، أعادها لي وهو يقول: أنها من الفئة (ج). طريقته في الكلام دفعتني لأن أسأله عن معنى هذه الفئة، فأجابني بتشفي، بأن هذا يعني أنني مواطن من الدرجة الثالثة. لم أصدقه طبعاً، فقد كنت حذراً جداً من هؤلاء الذين يبنون وجهات نظر مرعبة فوق ضنون وأوهام لا تمت للواقع بصلة.
ومع أنني لم أصدقه، إلا أنني، ومنذ ذلك اليوم أخذت أعامل الهوية بشكل مختلف، فبعد أن كنت أحملها لأثبت من خلالها، للانضباط العسكري، سلامة موقفي من الخدمة العسكرية، أصبحت بالإضافة لذلك أحملها وأنا أرفض هاجس أنها تصنفني لمواطن من الدرجة (كذا).
هل يمكن لورقة صغيرة أن تصنف إنساناً وتضعه برف معين في أرشيف البشر؟ طبعاً لا. (كنت أجيب على هواجسي). لكن مع ذلك، أخذت الهوية تتحول ومنذ ذلك اليوم لهاجس مخيف وقلق.
كانت تلك محطتي الأولى مع الهوية.. أما المحطة الثانية فكانت مع قراءتي لكتاب اللامنتمي لكولن ولسن، فمن خلال ذلك الكتاب تعرفت على معنى أن الهوية خيار أيضاً. الهوية ليست هاجساً فقط، ولا وثيقة إثبات لموقف معين، بل هي أيضاً خيار، ويمكن أن يكون هذا الخيار عابثاً أو فوضوياً أو منفلتاً أو عصامياً أو أو أو.... الخ، غير أنها خيار.
في كتاب اللامنتمي يعلن كولن ولسن عن هوية وحيدة جديرة بالاحترام، تلك هي اللاهوية، وذلك عندما يطرح المثقف باعتباره كائن ما فوق الولاء والانتماء.
هكذا عرفت البعد الجدير بالاحترام من أبعاد الهوية. أقصد أنني عرفت ضيق الأفق الذي تحتوي عليه الهوية ومهما كانت، فهي لا تنفك عن كونها إطار يؤطر الفكر، ويحدد بالتالي السلوك. كولن ولسن أخذ ينتقي ـ وأنا أقرأه ـ نماذج معينة من خيرة مثقفي العالم، ليثبت لي عدم انتمائهم إلا لمعرفتهم، التي هي في نهاية الأمر معرفة متحركة وغير ثابتة، وتابعة للتجربة اليومية التي ترفد الإنسان دائماً بالجديد.
قَرَأْت اللامنتمي في منتصف التسعينيات، وأيامها كان العراق يمعن ذبحاً بأبناءه.. يخيفهم.. يطاردهم.. يلقي بهم خارج حدوده، أو هو في أحسن الأحوال يطعم بهم أفواه الحروب التي لا تشبع أبداً، هذه الظروف جعلتني مستعد جداً لتقبل فكرة اللاانتماء. كان مثلث (الدين، الأرض، الإنسان) في العراق، يخيفني بل يحاصرني، فهذا المثلث يستدعي الموت، بل يجعله حتمياً لأبعد الحدود. فالدين إطار غير مرن من الأخلاق والقيم، وهو يدفع بالمنتمين إليه وبشدة نـحو ثقافة الفداء، فداء القيم، أو الدفاع عنها بوجه الاعتداءات التي لا تنتهي.
الأرض من جهتها، ومنذ القدم أيضاً، كرَّست حصتها بالفدية، الفدية الإنسانية، فهي أيضاً أَسَّست للفداء وللفدائي، الأرض مثل الدين تطارد الإنسان الذي ينتمي إليها، ربما ليست كل الأراضي، فقد يكون هذا المسّ أو الجنون مقتصر على أدياننا وأراضينا فقط.
مثلث (الدين، الأرض، الإنسان) هذا جعلني أكره الحياة، أو أنني أشعر بعدم الجدوى منها، أصبحت في تلك الأيام بلا فائدة، لكن كتاب اللامنتمي أجهز على ذلك المثلث، كسَّر قارورة الهوية وحرَّرني من حصارها المميت،
لماذا ننتمي إذا كنّا لا نؤمن، أو بالأحرى؛ لماذا ننتمي إذا كان الانتماء خاسرا لهذه الدرجة؟
إذن فقد هشم كتاب اللامنتمي انتماءاتي للزمان والمكان، للتاريخ والجغرافية. ولأن الهوية لا يمكن لها أن تكون أبعد من (الزمكان) ولا أعمق غوراً.. فقد نَفَضْتُها عن ملابسي، مع كولن ولسن.
على أثر ذلك أصبحت بأتم الاستعداد لمغادرة العراق (الهوية/ الوطن) وإلى غير رجعة، لكنني لم أتمكن من المغادرة إلا في سنة 2000. وخلال خمس سنوات من انتظار السفر، كانت هواجس الانتماء قد ماتت جميعها بذاتي.
في أول أيامي في سوريا طُرح علي سؤال الهوية بصورة غير مباشرة، ففي جلسة نقاش مع مجموعة من الأصدقاء، دار الحوار التالي:
ـ هل أنت مستعد لرحلة مغادرة الوطن التي قد تطول وتطول؟ (سألني وليد غنية).
ـ لم أعد أفهم هذه المفردة (وطن) ماذا تقصد؟ (قلت له) لقد تكسّرت جغرافية الهوية، الأرض كلها وطن الآن. وحيث تقف قدماك فأنت في وطنك.
ـ الكلام سهل.. لكن ما لن تستطيع أن تحققه بسهولة، هو عملية الانسلاخ عن انتماءاتك.
ـ لقد فعلت عندما خرجت من وطني.. انسلخت تماماً، وربما فعلت ذلك قبل أن أخرج.
ـ لكن، هب أنك حصلت على جنسية بلد آخر.. أي أصبحت مواطناً لبلد ما.. وهب أن هذا الوطن الجديد طالبك بأن تكون جندياً في حرب يخوضها على العراق، فهل ستوافق؟
ـ نعم (قلت مسرعاً).. وسأقبل دون تردد، سأدافع عن بلد يؤويني، ضد بلد يطاردني.
ابتسم صديقي الذي كان أكثر حكمة منّي وكف عن محاصرتي.. طبعاً لم أفهم المغزى وراء ابتسامته إلا بعد رحلة طويلة.. رحلة بدأت عندما دخلت على سوبر ماركت بدمشق لشراء بعض الحاجات.
سألت البائع إن كان يبيع الخبز أم لا، غير أنه لم يجبني، بل أومأ لي برأسه، إيماءة حسبت أنها شتيمة، أو أنها على الأغلب كانت كذلك. لكن الرجل لا يعرفني (سألت نفسي)، ليس هناك من سبب يدفعه لذلك.. وبعد أن تكرر الأمر مع غيره من أصحاب المحال، شككت بموضوع الشتيمة، فليس من المعقول أن كل هؤلاء متواطئون على النيل مني فقط لأنني عراقي.
لكن مع ذلك وحتى بعد أن تعودت على تلك الإيماءة التي يستخدمها السوريون كما نستخدم نحن كلمة (لا). مع ذلك بقيت أشعر أنها أقرب للإهانة، وعلى هذا الأساس كنت أتعرض لتلك الإهانة عشرات المرات يومياً. فعندما يرفع السوري رأسه لرفض الطلب أو الاعتراض على الجملة، فإنه لا يفعل ذلك بسرعة وخفة، بل ببطء كريه، ثم يستمر برفع رأسه، إلى أن تنكشف بواطن منخريه أمام وجهك، ثم يترافق مع هذه الحركة انسداد جزئي وتدريجي للعينين، وهذا ما يشعرك بأن كلمة (لا) التي يقصدها، مصحوبة أيضاً بلكمة أو على الأقل صفعة ثقيلة جداً. عندما كان يواجهني صاحب محل بتلك الإيماءة أتذكر على الفور زمجرة كان يستخدمها والدي لطردي من البيت (أطْلَعْ برَّ).
هذه (الإيماءة/ الشتيمة) هي التي فتحت أمامي العمق الحقيقي للهوية. فالسوري لا يقول من خلالها كلمة (لا) فقط، بل هو يقطع دابر الموضوع الذي اسْتَحَقَّ الرفض، وفعلاً فدابر الموضوع لا ينقطع بل ويتهشم تماماً. من شاهد هذه الإيماءة فقط يستطع أن يفهم قصدي، بشرط أن لا يكون سورياً.
عموماً من خلال هذه الإيماء. تعرفت على البعد الانثروبولوجي للهوية، الشخصية القومية أو المجتمعية، كَشَفَتها لي تلك الإيماءة. ذلك أنها واجهتني بمصير لم أحسب حسابه. فغاية ما كنت أفكر به سابقاً هو موضوع إنسلاخي من هويتي، لكنني لم أفكر بما بعد ذلك، فليس من المعقول أن أضل بلا هوية، لكن كيف يمكن لي أن أندرج بهوية أخرى، مع الإيماءة بدا الأمر صعباً. فأنا ستطيع أن أقول (لا) بأشكال مختلفة، أستطيع أن أتفنن بها، أجعلها غزلية، ومراوغة، وشفافة وحازمة، وحتى سوقيَّة، لكن الـ(لا) على الطريقة السورية لن أتمكن منها.
هذا ما أدركته سريعاً. المشكلة التي أخذت تتضخم بعد تجربة السوبر ماركت، هي اكتشافي لجسد الهوية، فمع كولن ولسن تعرفت على الهوية وهي في الفراغ، هوية الفكر وفكر الهوية.. الدين، الأيديولوجيا، الاتجاهات الفكرية والثقافية. لكن تبين بعد ذلك أنَّ هناك المزيد، هناك التقاليد والأعراف هناك أشياء كثيرة يمكن أن نسميها بـ(جسد الهوية) أي ما لا يمكن نزعه، أو ما لا يمكن التخلص منه. بمعنى أنك لا تستطيع أن تنسلخ من أي عرف أو تقليد، فإذا أردت نزع تقليد وجب عليك ارتداء غيره، وهذه هي الطامَّة الكبرى، إذ كيف لي أن أتقن تلك الإيماءة؟ كيف لي أن أقول لسائق الـ(سرفيس) أو (الميكرو باص) أو (الكيّا) عندما أريد النزول: (عاليمين لو سمحت) أو (نزّلني عاليمين) أو (عاليمين زكاتك)، وحتى لو أنني فعلت ذلك فمن المستحيل أن أتقنها كما يفعل السوريون، ذلك أنهم يلفظون جملهم برقة ونعومة منقطعة النظير، وخاصَّة الشاميون منهم، فلهجة هؤلاء كما الزبدة، ولن تستطيع الحنجرة العراقية الإمساك بكلماتها. إذن فما أن أقول الجملة السورية سيعرف جميع ركّاب السرفيس بأنني عراقي متصنع. أما إذا قلت بنبرة عراقية جنوبية جافَّة (نازل بلا زحمة أو نازل الله ايخليك أو بكلي اتنزلني يمك) فهنا سيكون أمر إعلان الهوية فاقعاً جداً.
كيف استطاع كولن ولسن أن يجعل من موضوع اللاانتماء سهل إلى هذه الدرجة؟
في الهوية أو الثقافة بعد قسري لا يمكن انتزاعه أو رفض الإنتماء إليه، في الهوية أبعاد أخرى أكثر عمقاً من تلك التي تناولها كتاب اللامنتمي. بعدٌ أكبر من الأفكار والتأملات، بعدٌ يمسّ الشخصية الفردية، بل ويشكل محورها ومجموع المفردات التي تحدِّد ملامحها.
الكثير من الأشياء التلقائية عند العراقي لا يفهمها السوري بل ولا يستسيغها إطلاقاً. كلمة (ياولد) التي نستخدمها للنداء في كثير من الأحيان على أي شخص لا نعرفه، كما نستخدمها غالباً ونحن ننادي على البائع عند التبضع.. (يولد.. بيش كيلوا الطماطه)، هذه الكلمة تعتبر شتيمة في سوريا، شتيمة تؤدي لحفلة ملاكمة تدمي الوجوه. وهناك الكثير من الأمثلة على الفوارق بين الثقافات. يقولون أن الإيرانيين يطلقون على العربي الذي يلبس (دشداشة) تسمية (عُرْبي داخل چيس)، وعندما سمعت هذه التسمية عرفت السبب الذي كان يدفع بجدّي لارتداء الـ(بنطلون) عند سفره لإيران في نهايات القرن التاسع عشر، لم أكن أفهم كيف يمكن لـ(ضمد حسين أبو الهيل) أن يتخلي عن زيه العربي الذي يَعْتَبِر التخلي عنه عاراً ما بعده عار، ويلبس كما يلبس (العجم). لكن عندما سمعت بقصة الـ(عُرْبي داخل چيس) فهمت مقدار الضغط الذي تمارسه الثقافة المجتمعية الإيرانية على العربي، حتى لتضطر رجلاً مثل جدي على ارتداء الـ(بنطلون)، تضطره للتنكر لهويته، إخفائها حتى لا تضغط عليه الهوية الأخرى.
مع إيماءة صاحب السوبرماركت تراجعت عن أشياء كثيرة، ليس أقلها موضوع الفئة (ج) في هوية الأحوال المدنية، فمن يومها قبلت بجزء من أطروحة صديقي الذي صنفني للفئة الثالثة، الجزء المتعلق بكوني (شروكي). فهذه الـ(شروكية) عرفت من يومها أنها هوية لا يمكن لي، لا التنكر لها ولا انتزاعها، لكن طبعاً بقيت أرفض التصنيف غير الموضوعي المرتبط بها، في هذا السياق نستطيع أن نتذكر كيف أن ابن الريف الذي يحاول تقليد (لَكْنَة) أهل المدينة وهم يتكلمون، كيف يقع بحرج شديد ويصبح محل تندر، فابن الريف هذا يمكن أن ينطبق عليه وصف اللامنتمي، إذ هو رافض لثقافته، أو هو على أقل تقدير يخجل منها، لكن عدم ولائه أو انتماءه لها، لا يكفيان لكي يتمكن من النطق بصورة مشابهة لابن المدينة، فمخارج الحروف جزء من الشخصية القومية، وتنتقل عن طريق التنشئة الاجتماعية التي تبدأ بأغاني (الدلع) التي تغنيها الأم للطفل ولا تنتهي إلا بلحظات الحياة الأخيرة، هذا المخارج لا يمكن الخلاص منه بقرار، لا يمكن للإنسان أن ينزع هويته بين ليلة وضحاها، لأنها ستطارده، ستعلن للآخرين جذره الحقيقي مهما تنكر أو كان حاذقا باختيار المفردات والملابس والسيارات.
في يوم ما، حاورت صديق حانق على الإسلام بشكل غير طبيعي. كان صديقي، الحاصل على إحدى الجنسيات الغربية، يريد الانسجام مع الثقافة الجديدة، ومثل هذا الانسجام مطلوب طبعاً حتى يستطيع الإنسان أن يتأقلم مع بيئته، لكن هذا التأقلم يحتاج إلى وقت، وحتى يتم، وتنمحي آثار الهوية الأولى، فلابد أن يستغرق الموضوع عدَّة أجيال. المثير للاستفزاز في حواري مع صديقي ذاك، هو إعلانه لرفض الهوية الإسلامية عن طريق شتم الرسول محمد(ص). كان يصر على الإكثار من الشتائم خلال حديثه معي، في سعي واضح لإعلان انسلاخه عن هويته الدينية. لكن ما لم يدركه صديقي ذاك، أو ما أدركته أنا بعد تجربة السوبر ماركت، أن الثقافة ليست بدلة مكونة من عدة قطع ويمكن لمرتديها أن يتخلى عن قطعة من قطعها ويبقى، مع ذلك، محتفظاً بأناقته، ليس الدين جزء يمكن نزعه من الشخصية، يمكن طبعاً لمن يريد أن يعلن عدم ولائه أن يشتم، يمكن له أيضاً أن يترك الصلاة، ويعبَّ كل مساء عشرات القناني من البيرة أو غيرها من المشروبات المحرَّمة، لكن لا يمكن له أن يقتلع كل المفردات التقاليدية أو العرفية التي رسمها الدين بداخل شخصيته. عادات الطعام مثلاً، عادات الحمام أيضاً، عادات ارتداء الملابس، النوم، التحية ورد التحية، المحاورات.. الخ. كل هذه الأشياء ستطارده حيث يكون، لتعلن على رؤوس الأشهاد جذوره الدينية، الدين مفردة مهمة من مفردات الثقافة، وهو يشترك بشكل فعّال برسم ملامحها، ولذلك نجد أن العادات أو التقاليد تختلف بين ثقافة يعمل خلالها الدين المسيحي وأخرى يعمل خلالها البوذي، وثالثة السيخي.
مع أن الهوية كانت الهاجس الأشد حضوراً معي خلال سنوات مغادرتي للعراق، إلا أنني مع ذلك لا أزال عاجزاً عن تحديد فهم دقيق وعلمي لموضوع الهوية، ويبقى سؤال: ما هي الهوية، سؤالاً مفتوح الشهية..
فما هي الهوية بنهاية الأمر؟
ما لا سبيل لإنكاره، أن للهوية طعم آخر في العراق الآن، وفي عراق ما بعد 2003، كانت تنتظرني تجربة جديدة مع الهوية، في العراق الجديد تضخمت الهوية بشكل لا يطاق. والهواجس التي كنت أحسب بأنني سأتركها على الأراضي السورية رافقتني دون أن أعلم. وإذا كان عليَّ هناك أن أتحفظ فقط عندما أريد النزول من السرفيس، فقد توجّب عليَّ هنا أن أتحفظ حتى عندما أمشي في الشارع صامتاً. ذلك أن وحش الهوية النهم قد التهم حتى شوارع بغداد فضلاً عن محافظات العراق، فصار شارع الكرادة شيعي، وشارع الأعظمية سنّي، وشارع السعدون أمريكي. وصار عليَّ بالنتيجة التحفظ من كل شيء وإزاء كل شيء،
الهوية التي أثبتت نفسها من خلال الذبح، وصار لها قرابينها الكثيرة. لم تعد مجرد فكرة يمكن التخلّص منها. خاصَّة وأنها استطاعت أن تستدعي أشد آليات القسر المجتمعية لتستخدمها في خدمة أغراضها والدفاع عن وجودها، الهوية العراقية تشظت لهويات متعددة، ويخطئ تماماً من ينكر وجود هذه الشضايا، لأنها تحاورت مع بعضها بالهاونات والصواريخ، وليس فقط بالسكاكين. في العراق وعندما تعرضت الهوية للتهديد، أو أنها شعرت بذلك استدعت كل ما يمكن استدعائه من الوحشية الإنسانية، سخرت كل الأساليب البشعة في القتال من أجل حماية نفسها، وهذا الموضوع بحد ذاته كفيل بأن يكشف لنا خطورة موضوع الهوية ومقدار تمكنها من الإنسان، ذاتاً وتأريخاً.
ما يجب التوقف عنده ونحن نعالج موضوع الهوية الحسّاس، هو أنَّ (الهويات) العراقية بحاجة للطمأنينة. الكوامن المجتمعية التي استدعت الهاونات بحاجة إلى تطمينات، بحاجة إلى أشياء ملموسة، تبرر لها ترك القلق على المصير.
أنا شخصياً وخلال رحلتي البسيطة مع هواجس الهوية أستطيع أن أفهم بأنها قادرة على أن تنغص على الإنسان حياته.. تخيفه.. تطارده.. تقلبه لوحش كاسر. في سوريا وعندما أصبحت مخارج الحروف عند الكلام هوية، لم يعد من السهل عليَّ التكلم، لم أكن أتكلم في الشارع بطلاقة ويسر، صارت الجمل محسوبة ومنتقاة، لأنها أصبحت هوية، صارت عملية التبضّع من السوق مشكلة، لأنني سأكون مرغماً على إعلان هويتي. وإذا كان الموضوع بهذه الخطورة والدقة والعمق، فكيف يمكن لنا أن نعالج الجراح العميقة التي سببتها تجربة الأربع سنوات الماضية على جميع شضايا هويتنا الواحدة. الهويات الأبرز في الذات العراقية كلها مجروحة بجروح عميقة جداً. تهديم قبَّة سامراء أكَّد للهوية الشيعية صعوبة العودة إلى الوراء، فقد تأكد لهذه الهوية أنها تنام مع تنين سنّي كبير ومخيف.
الهوية السنّية هي الأخرى أصبحت على يقين بأن الشيعة ليسوا عراقيين فقط بل شيعة عراقيين، وإذا كانوا هم الأغلبية في العراق، فالعراق على هذا الأساس لن يكون عراقاً فقط، بل عراق شيعي، ومن يشاهد الفضائية العراقية يستطيع أن يتفهم مخاوف السنة، فهذه الفضائية الناطقة باسم الحكومة العراقية ليست للجميع، بل للشيعية العراقييين فقط وفقط. إذن كيف يطمئن السنّي وهو يعتقد بأن العراق بطريقه لترك مذهبه والتحول لشيعي؟
أما الأكراد فهم يعرفون بأن الأمور لن تكون دائماً كما هي عليه الآن، أي أنها ستتغير عندما تنتهي خلافات العرب مع بعضهم (شيعة/ سنة). وبالتالي فهي مضطرة لاستغلال الفرصة السانحة وتحقيق أكبر قدر من المكاسب. الهويات العراقية بحاجة للاطمئنان على المصير إذن.
لكن كيف يمكن لنا أن نقع على مثل تلك التطمينات وسط هذا الفضاء (السياسي/ الديني) الملتهب؟
هل يمكن أن نعتبر أن تطمين الهوية يكمن بنزعها والتخلص منها؟ لماذا لا يعود العراق بلا هوية، السنة لن يقبلوا بعراق شيعي، ولا الشيعة سيقبلون بعراق سني. الكورد أيضاً لن يقبلوا بعراق عربي. لذلك فعلى العراق أن لا ينتمي إلا لعراقه، وكما أن نهري دجلة والفرات لا يستطيع أحد أن يساوم على انتمائهما لقطعة صغيرة من الكل العراقي، كذلك يتوجب على شوارع بغداد أن تكون كذلك وعلى قناة العراق الفضائية ورئيس الوزراء العراقي والشرطة والجيش والوزارات، التي تغص بصور المراجع، أن تكون كذلك.





#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرض الزعامة
- سرد الشياطين
- العودة إلى القرية
- الواقع الافتراضي.. الانترنت بوابة العالم الخيالي الجديد
- محكمة الاطفال
- حصاد السنين
- وحده الحيوان لم يتغير
- التنين العربي (مشنوقا)
- منطق الثور الهائج
- الاختلاف والدين.. كيف يمكن إجراء مصالحة بين الدين والاختلاف؟
- يوم كان الرب أنثى
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الثالثة وال ...
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الثانية
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الأولى
- جريمة أنني أفكر/ أفكر؛ أنني مجرم
- كذبة كبيرة أسمها.... العراق
- وداعاً شهاب الفضلي.. ما دمت هناك وأنا هنا
- الإسقاط الرمزي لشكل الأعضاء التناسلية.. دراسة في عدوانية الذ ...
- ولمية عفاريت
- مدفع الشرق الأوسط الكبير... الدرع الأميركي بمواجهة القذيفة ا ...


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سعدون محسن ضمد - العائد مع الذات