أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - أزمة الماركسية هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء!!؟















المزيد.....



أزمة الماركسية هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء!!؟


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 1927 - 2007 / 5 / 26 - 11:17
المحور: مقابلات و حوارات
    


مقابلة مع الكاتب العربي والباحث الماركسي
عبد الحسين شعبان*
أزمة الماركسية
هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء!!؟

حوار أجراه في براغ
هاني الريّس
* أجرى الحوار في براغ في شهر أيار (مايو) 1990، ونُشر في صحيفة " أنوال" اليسارية المغربية في عدديها الصادرين يوم 14 و21 آب (اغسطس) 1990.
o الدكتور عبد الحسين شعبان يساري عربي وماركسي غير آرثزوكسي، منفتح على التيارات الاشتراكية والديمقراطية مع تمسكه الشديد بعقيدته ولكن بدون تعصب او انغلاق. وعبد الحسين شعبان باحث عراقي وكاتب جزل العطاء مهتم بقضايا الفكر والآيديولوجيا والحقوق والصراع الدولي والنزاع العربي- الاسرائيلي. وساهم في تأسيس اللجنة العربية لدعم قرار الامم المتحدة 3379 (اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية1986) وهو القرار الذي اعتبر الصهيونية " شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وشغل منصب السكرتير العام في اللجنة.
تميّزت مواقفه بالوضوح من القضية القومية العربية وخصوصا القضية الفلسطينية. ولم تمنعه أمميته من توجيه النقد واللوم بجرأة وعلناً الى السوفييت، داعياً الى إعادة النظر في بعض مواقفهم الخاطئة من القضية الفلسطينية وبخاصة قرار التقسيم ومن المشروع الصهيوني عموماً.
إنتقد جمود وتخلّف القيادات الشيوعية العربية التقليدية وخاض الصراع مع المناضلين الذين تبنّوا خط التجديد في الحركة الشيوعية والثورية العربية.
من مناصري ودعاة البريسترويكا مع تحذيراته وكتاباته المبكرة حول النشاط الصهيوني وأبعاده الخطيرة في الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية. وقد تابع وكتب عن كثب عن التطورات الدراماتيكية العاصفة وحركة التغيير التي جرت فيها مؤخراً.
وعندما اندلعت الحرب العراقية-الايرانية، كرس جزءاً كبيراً من وقته وجهده الفكري لمعالجتها. فألف كتاباً ونشر عدداً من الابحاث والدراسات حولها داعياً لوقف الحرب فورا، تلك الدعوة التي إقترنت بتحرك سياسي عربي شعبي، كان أحد المساهمين البارزين فيه، خصوصاً لرفض الاحتلال الاجنبي لبلاده.
حول هذه الموضوعات وغيرها كان لنا هذا الحوار مع الباحث العراقي عبد الحسين شعبان، الذي تميّز بالصراحة والسعي في الاجتهاد بعيداً عن التقليد والنمطية، بل تحدث بحرارة المناضل ومسؤولية الباحث، وبخاصة عن أزمة الحركة الشيوعية والتحررية العربية.
*****
o كيف يمكن تفسير ما يحدث الآن من تطورات متسارعة سياسية واجتماعية في بلدان (المنظومة الاشتراكية)؟

 في البدء يمكن القول ان التغيرات الحاصلة في البلدان الاشتراكية تعود لأسباب نظرية وأخرى تطبيقية. وتتلخص في إهمال الجانب المنهجي النقدي من الفكر الماركسي، وعدم تفعيله وتطويره لإستيعاب المستجدات والمتغيرات وما تزخر به الحياة من تطور واكتشاف وثورة علمية- تقنية جبارة، وهو ما يشكّل إحدى سمات عصرنا الراهن، مما أدّى الى الجمود بل والتحجر أحيانا والإكتفاء بمقولات عفا عليها الزمن، ولم تعد تنسجم مع روح العصر خصوصاً بعد مرور قرن ونيف من الزمان.
وللأسف الشديد تحوّلت الماركسية لدى البعض، وهي علم حي (المقصود المنهج) ومنفتح الى عقيدة جامدة ووصفة جاهزة في أحيان كثيرة، ليقوم " الحزب" بدور تلقينها للجماهير كشيء أشبه بالادعية والتعاويذ، في حين تقضي تعاليمها حسب إنجلز إعادة النظر بالستراتيجية والسياسة عند كل اختراع جديد في العلوم العسكرية.
وارتبطت تلك التراجعات على الصعيد النظري بنسخ تجربة النموذج الاشتراكي " السوفيتي " دون مراعاة لخصائص التطور الوطنية والقومية، بل في تعارض معها احيانا. واعتمد الموديل الستاليني الارادوي كطريق وحيد لبناء الاشتراكية، وذلك بالاستعانة بالدور القسري لآلة الدولة والدور التعليمي الأوامري للجهاز الحزبي البعيد عن الجماهير، والذي أحدث الانفصام بينه وبينها تدريجياً، بحكم تحوّله الى جهاز بيروقراطي لا يتحسس نبضها ولا يعيش مشاكلها وهمومها، ولم يعد الإدعاء بكونه يجسد ويمثل الطبقة العاملة بوصفه الطليعة صحيحا في احيان كثيرة، خصوصا بعد أن تحوّلت القيادات الى أشبه بالنخبة وأضفت حول نفسها هالة أشبه بالقدسية بحيث أصبحت القيادة فمكتبها السياسي فأمينها العام فوق النقد وأفكارهم ومواقفهم تثبت الحياة صحتها وصوابها دائما وتعمم كاستنتاجات غير قابلة للخطأ او النقض.
وتميّزت تلك النماذج " الأصل والفرع" بأنظمة شمولية صارمة وبهيمنة الدولة الأوامرية على كل زوايا المجتمع مع جمود في التفكير وروتينية مقرفة وبيروقراطية كابحة.
ومن الجهة الاخرى سادت الاحزاب الحاكمة في بلدان اوروبا الشرقية كما هو في الاتحاد السوفياتي، المركزية الشديدة، وجرى تقزيم الديمقراطية الداخلية الى الحد الذي أصبحت المعارضة والاختلاف في الرأي ليس سوى " زندقة" وتحريفية وتخريب. وكان انتاج " الاجماع المصطنع" دليلاً على وحدة الرأي والارادة والعمل المزعومة والاّ فان النبذ والعقوبات والتشويه لكل من يرفع عقيرته ويتجرأ على مخالفة القيادة " الحكيمة".
وأدّى انعدام النقد الذاتي الحقيقي الاّ بعد فترات تاريخية بكاملها وحقب زمنية شاملة: الستالينية ، الخروشوفية، البريجينيفية، الى حالة من الركود وسادت اللا ابالية وتقلّصت روح المبادرة.
لقد كونت بعض العوامل المشتركة خلفية للاحداث والتطورات الدراماتيكية، التي جرت في كل من بولونيا والمجر والمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وغيرها من الانظمة التي اتخذت من الاشتراكية عنواناً لنظامها الاجتماعي وذلك من خلال:
• الممارسات الاستبدادية التي إتخذت أحياناً طابع القهر السياسي فضلاً عن محاولات الانفراد بالسلطة والهيمنة وخرق حقوق الانسان وحرياته الأساسية وخصوصاً حقوقه المدنية والسياسية.
• المشكلات والمصاعب الاقتصادية المتراكمة واخطاء التطبيق، التي أدّت الى حدوث اختناقات اقتصادية كبرى واختلالات معيارية مبدئية، تلك التي اوصلت الاتحاد السوفياتي على مشارف الازمة الاقتصا-اجتماعية، كما سمّاها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وهي الحقيقة التي شهدتها بلدان اوروبا الشرقية بأشكال مختلفة اضافة الى الركود وانخفاض وتائر الانتاج والديون وبخاصة في السبعينات.
هذه العناصر اضافة الى الحاجة الماسة للتغيير الديمقراطي وخصوصا في شكل وأساليب وانماط الحكم والادارة، هي التي تفّسر السرعة المذهلة التي جرت فيها التطورات في بلدان اوروبا الشرقية، فضلاً عن ان رياح التغيير التي هبّت على الاتحاد السوفياتي منذ وصول غورباتشوف الى السلطة عام 1985، أوجدت الارضية المناسبة للتغيير ولنبذ مالم يعد صالحاً ولإفساح المجال للجماهير المكبوتة ان تقول رأيها في انظمة شوّهت المثل والمبادئ الاشتراكية، تلك التي تستهدف سعادة الانسان وحريته وكرامته قبل كل شيء، رغم ما تنطوي عليه تلك التغييرات المفاجئة والصدمات التي قد تتركها من مخاطر على الخيار الاشتراكي لهذه البلدان، خصوصا في ظل التشوش والبلبلة والاحباط الناجم عن فشل تلك النماذج وغياب الوجه الانساني للاشتراكية وهو ما راهنت عليه القوى والدوائر المتربصة والمعادية للاشتراكية.

o الى أي مدى يمكن النظر الى مستقبل الاوضاع السياسية واستقرارها في ظل التغييرات الاخيرة في بلدان اوروبا الشرقية؟

 يمكن القول ان العودة الى الماضي ليست ممكنة، مهما بكى البعض على الاطلال وربما هي غير مقبولة أيضا مهما بلغت الحسرات والتمنيات الطيبة، فشعوب بلدان اوروبا الشرقية قالت رأيها في الانظمة الحاكمة ولا بد من احترام ارادتها.
لقد بدأت مرحلة جديدة في تطور هذه البلدان، لعب ويلعب العامل الدولي دوراً كبير الاهمية في تحديد ملامحها وبالتالي في استقرارها وتطورها. فما حصل لم يكن نتيجة العوامل الداخلية التي أشرنا اليها حسب، بل بفعل التفاعل مع بعض العوامل الخارجية المؤثرة. فقد كان غورباتشوف يعطي الضوء الاخضر لتغييرات مماثلة لما جرى في بولونيا، حين اعتبرها " ضرورة حيوية وتاريخية".
كما ان المناخ الدولي الذي إنتعش في ظل " الوفاق"، الذي توّج في قمة مالطا (كانون الاول- ديسمبر-1989) وانتقال الصراع بين الشرق والغرب من المواجهة الى الحوار فالتعاون واسدال الستار على عهد الحرب الباردة، كان له أكبر الاثر خصوصا في ظل التنازلات السوفيتية بقبول الخيار صفر ثم خيار صفر المزدوج بعد ان كانت موسكو تربط بين موضوع مفاوضات الحد من الاسلحة الاستراتيجية النووية بموضوع " حرب النجوم".
بتقديري ان المشكلة الاجتماعية في بلدان اوروبا الشرقية ستتقدم الى الواجهة، خصوصا بعد حل المشلكة السياسية واعتماد الديمقراطية والعلانية وقبول واقرار مبدأ التعددية. فأوضاع هذه البلدان لا تحسد عليها بما فيها الاتحاد السوفيتي، بل انه من اكثرها تعقيداً، فقد ترافقت التغييرات مع شحة وتقليص المواد الغذائية واختفاء عدد من السلع والبضائع التي كانت موجودة في فترة الركود وبضائقة اقتصادية كبيرة، وانفجار لمشكلات القوميات ولعدد من القضايا والمعضلات الاجتماعية التي لم تكن منظورة.
ويتوقف " نجاح " البريسترويكا في الاتحاد السوفيتي على حل المشكلة الاقتصادية وتجاوز آثارها الضارة بإعادة تجديد البنى والأساسات على حد تعبير غورباتشوف، تلك العملية التي قد تستغرق فترة زمنية لا تقل عن خمس سنوات كما يقدر بعض الخبراء.(هذا إذا نجحت؟)
اما في بلدان اوروبا الشرقية فبعضها يعاني من الديون المرهقة (بولونيا مثلا مدينة بمبلغ 39 مليار دولار) فضلا عن ارتفاع الاسعار الذي اخذ يهدد اوساطاً واسعة من السكان في ظل التقليصات المستمرة في التخصيصات الاجتماعية. ولم يتحقق شيء يذكر لحد الآن من الوعود بالقروض والمساعدات ونقل التكنولوجيا الغربية.
باختصار ان الصراع الاجتماعي الذي بدا خافتاً في السنوات السابقة، سيظهر الى العلن وبشكل أكثر حدةً مما يمكن توقعه، وسيبرز في قطاعات إعتبرت احدى "إنجازات" الانظمة التي تبنت طريق" التطور الاشتراكي"، وخصوصا في المسائل الملحة كالضمانات الاجتماعية والتعليم والطب والسكن وغيرها!!
ومع ان العاصفة لم تهدأ بعد، الا أن المرجح ان الامور سارت لصالح بدائل غير واضحة المعالم وتتنازعها أهواء شتى وتتصارع في داخلها قوى وتيارات مختلفة، بحيث يصبح الخيار الاشتراكي ذاته معرضا للاقصاء في ظل موجة الاندفاع وردود الافعال والسعي لاحداث تغييرات بنيوية في طبيعة الانظمة واعتماد آليات السوق.

o كيف يمكن النظر الى انعكاسات حركة التغيير في اوروبا الشرقية على البلدان العربية!؟ هل ثمة أوجه للمقارنة ايضا؟

 في ظل العالم المترابط يصبح من الصعب بل والعسير مقاومة رياح التغيير، فلا أحد يستطيع ان يحمي نفسه ويصدّ موجات التجديد القادمة بقوة خصوصا وان الافكار في ظل ثورة الاتصالات والثورة العلمية- التقنية أخذت تدخل العقول بدون إستئذان أو رخص وتتخطى الحدود بدون جوازات مرور وتعبر الفضاءات الواسعة وتخترق المسافات الشاسعة بسرعة مذهلة، ولم يعد مجدياً " الستار الحديدي" والشبكات المكهربة واجهزة التشويش لمنع انتقال المعلومات وتبادل الافكار.
بتقديري سيجد الزلزال الاوروشرقي طريقه الى البحر المتوسط، الى منطقتنا ودولنا وشعوبنا وامتنا العربية، ليس بطريقة المحاكاة والافتعال في التقليد، بل بحكم تشابك العلاقات بين الدول والشعوب وترابطها، ولن تنفع تبجحات بعض الحكام وتشبثاتهم للتمسك بالصيغ الاستبدادية وبالنهج القديم.
لقد اصيب البعض بالاحباط واليأس جراء الانهيارات السريعة التي حدثت في اوروبا الشرقية، تلك التي كنّا نصورها نحن الشيوعيين والماركسيين العرب، بأنها قوية ومتماسكة بل لا يمكن اقتحام قلاعها المحصّنة، كما كنا نجمّل صورتها في العالم العربي، ونتحدث باستمرار عن الازدهار والرفاه والنجاحات الكبرى، ونغض الطرف عن الصعوبات والاخفاقات وهدر حقوق الانسان، وكنّا نمارس تلك الدعاوى، اما عن جهلٍ أحيانا أو نقص في المعلومات أو عن تضليل تمطرنا به اجهزة الدعاية في البلدان " الاشتراكية" واحصاءات وأرقام ما أنزل الله بها من سلطان، وفي كل الاحوال لا يمكن تبرير مواقفنا تلك وهو ما ينبغي قوله علنا دون مواربة او ابهام.
ومثلما فعلنا في تزيين صورة البلدان التي اتخذت الطريق الاشتراكي شعاراً لتطورها، مارسنا الدور بصدد الانظمة الوطنية التحررية وتحدثنا عن منجزات كبرى لحركة التحرر الوطني، تلك التي تعيش أزمة بنيوية حادة وعميقة منذ عقد ونيف من الزمان.
لقد اقتبست العديد من انظمة التحرر الوطني ومنها العربية الكثير من العناصر من البلدان، التي سارت في طريق التطور الاشتراكي حيث بنت شكلاً للحكم فيه بعض أوجه الشبه بتلك البلدان كنظام الحزب الواحد " القائد" والجبهة الوطنية الشكلية والاجهزة القمعية الواسعة الصلاحيات والاجهزة الحزبية المتحكّمة والبيروقراطية "الدولتية" البليدة والتنكر لدور الرأي العام وهدر حقوق الانسان.
تلك العناصر مع بعض الانجازات الاجتماعية المحدودة، هي التي دفعتنا للحديث احيانا عن بلدان التطور اللاراسمالي او بلدان التوجه الاشتراكي، فقد قلّدت شكل الحكم وتقتنيات التجهيل والديماغوجيا والتزييف الاعلامي وسعت لبناء انظمة شمولية صارخة حتى كانت أشبه بدكتاتوريات " يسارية" او تقدمية في حين ظلت الدكتاتوريات اليمينية (الدول الرجعية) اكثر انسجاما مع نفسها ومنطلقاتها.
ان قلق بعض الانظمة العربية التي تشترك مع بعض بلدان اوروبا الشرقية في بعض أوجه الشبه ناجم عن الخوف من انتقال عدوى التغيير الديمقراطي اليها خصوصا وانها كانت تعتقد بأنها تقلّد انظمة راسخة لا تزعزعها الريح سريعا فتنهار بهذه السرعة.

o بِمَ تفسر انتعاش الحركة الصهيونية في ظل البريسترويكا والتغييرات الاخيرة في بلدان اوروبا الشرقية، وما انعكاس ذلك على القضية الفلسطينية حسب تقديركم ؟

 عندما انفجر البركان السوفيتي قذف معه الكثير من الحمم والنيران، ومع انه لم يهدأ لحد الان، الا ان الكثير من النتوءات الجديدة ظهرت الى السطح، فقد خرجت الصهيونية من قمقمها لترى النور، وتأسست جمعيات واتحادات علنية للصهاينة واليهود مستغلة أجواء البريسترويكا والغلاسنوست.
ولم يكن ذلك هو المعْلم الوحيد للنشاط الصهيوني، فقد اخذ يبرز من خلال صعود الدور اليهودي المباشر على النطاق المحلي في بلدان اوروبا الشرقية، وتقدم بعض العناصر في القطاعات الحيوية كالاعلام والخارجية والتجارة ومراكز الثقافة والفنون والاداب واللغات وغيرها، وهو ما يمكن ان يترك تاثيره على العلاقات العربية- الأوروشرقية، خصوصاً في موضوع الصراع العربي-الاسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية.
ربما تلك احدى المفاجآت غير السارة، التي حملتها التغييرات ذات الطابع "الديمقراطي" والايجابي عموما في الاتحاد السوفيتي وبلدان اوروبا الشرقية إذ انها ترافقت مع العرس الصهيوني الجديد ومحاولات الصهيونية المحمومة في هذه البلدان لتشويه صورة الاعلام العربي وتسويد صفحة العرب عموماً، وهذا ما كان ملفتاً للنظر خلال الاحداث الدامية التي رافقت التغيير في رومانيا حيث جرى اقحام اسم العرب والفلسطينين بشكل خاص، باعتبارهم من المدافعين عن " الديكتاتور الاشتراكي" شاوشسكو، وهو ما يلقي ظلالاً من الشك حول الدور الذي (يمكن أن تلعبه القوى والجهات المعادية للعرب بما فيها الصهيونية) في بعض الاجهزة المحلية في دول اوروبا الشرقية، لكون الصهيونية هي المستفيد الاول من تلك الإساءات الى العرب.
كما برز الخبر الاسرائيلي محل الخبر الفلسطيني او على حسابه فيما ما يذاع ويُنشر ويُبث ويُكتب عن الانتفاضة الفلسطينية، بل هناك من تجرأ على القول انها ضرب من الارهاب مشككاً بمضامينها الانسانية والتحررية النبيلة.
واقترنت تلك التغييرات ايضا باعادة العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل من جانب المجر(اواخر العام الماضي 1989) وتشيكوسلوفاكيا (اوائل العام الجاري 1990) مع تعبير الرئيس التشيكوسلوفاكي الجديد السيد فاتسلاف هافل في اول خطاب له بمناسبة العام الجديد وتوليه منصب الرئاسة، عن طموحه باعادة العلاقات مع اسرائيل، وبولونيا (ستعاد العلاقات خلال الشهرين القادمين) وذلك دون ضمانات او حتى تأكيدات (تطمينية) من جانب الحكومة الاسرائيلية، بتلبية مطالب الشعب العربي الفلسطيني العادلة والمشروعة وبقبول " فكرة المؤتمر الدولي" أساساً لتسوية النزاع والوصول الى حل شامل ودائم.(كما يقال)
وأخيراً تواكبت موجة التغييرات مع تدفق الآلاف من المهاجرين اليهود السوفييت الى اسرائيل، تلك التي ستقدم دعماً بشرياً هائلاً لها، مما سيفتح شهيتها أكثر للاحتفاظ بالاراضي الفلسطينية المحتلة وضمّها تدريجياً، كما ضمّت القدس العربية من قبل والجولان، وذلك بعد تكثيف عمليات الاستيطان، وهو ما دعا شامير للحديث بكل استخفاف وصلف بالشرعية الدولية عن " اسرائيل الكبرى".
وبرز معْلَم آخر على النشاط الصهيوني في الاتحاد السوفيتي، تجلى في تنظيم عمليات اعتداء ضد الشخصيات المعادية للصهيونية، فقد اغتيل مؤخرا الباحث السوفيتي المعروف يفغيني يفييسيف عضو اللجنة الاجتماعية السوفيتية لمناهضة الصهيونية (التي أسسها اندروبووف عام 1983)، الذي سبق وان جرى التنكيل به على يد عناصر صهيونية وممالئة لها في العهد البريجينيفي.

o تعتبر الاجراءات الاخيرة للهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي حلقة من حلقات المؤامرة الدولية ضد قضية العرب المركزية (فلسطين) كيف تقيّم ذلك؟
 تعرض الشعب العربي الفلسطيني منذ بداية القرن الحالي وحتى الآن لثلاث مؤامرات دولية كبرى وحسب اعتقادي هي:
• مؤامرة وعد بلفور عام 1917 وبموجبه استطاعت الحركة الصهيونية منذ انطلاقتها السياسية المنظمة بعد مؤتمر بال (سويسرا) 1897، الحصول على تصريح بريطاني لإقامة " الوطن القومي لليهود" في فلسطين، وذلك من وزير الخارجية البريطاني (بلفور) نتيجة الخدمات التي قدّمتها لبريطانيا في الحرب العالمية الاولى ورغبة من بريطانيا في تأسيس كيان صهيوني في قلب الوطن العربي، وهو ما كثفت دعوتها لتحقيقه بزيادة الهجرة والسعي للاستيطان في فلسطين بموجب " وعد من لا يملك لمن لا يستحق" على حد تعبير الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقد شكّل الوعد بعد مؤتمر سان ريمو أحد المسوّغات الصهيونية لتأسيس اسرائيل.
• إقامة اسرائيل في 15 ايار 1948 وذلك بعد قرار التقسيم، الذي صدر من الجمعية العامة للامم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، حيث دخل المشروع الصهيوني حيّز التنفيذ الفعلي بتأسيس الدولة. ثم التوسع الذي أعقبه بعد الحرب العربية- الاسرائيلية الاولى واحتلال اراض عربية جديدة والاستيلاء بعد عدوان الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967 على الضفة والقطاع والقسم الشرقي من مدينة القدس.
• الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي الى " اسرائيل"، تلك التي إتخذت طابع الهجرة الجماعية وليست الهجرة الفردية. وهي اقرب الى الهجرة الطوعية، خصوصاً بعد إغلاق المحطات الاوروبية الوسيطة (روما وفيينا) وتشريع الكونغرس الامريكي قانوناً جديداً (تشرين الاول/ اكتوبر 1989) يضع تقييدات على المهاجرين اليهود السوفيت، للتوّجه الى الولايات المتحدة، وهو يعني اسقاط " حق" المهاجرين في اختيار بلد الهجرة، اذا افترضنا انه حق طبيعي تقرّه لائحة حقوق الانسان والعديد من الوثائق الدولية، لكنه لا ينبغي ولا يفترض أن يكون على حساب شعب آخر وبالضد من حق الشعب (الفلسطيني) بالعودة الى ارضه واقامة دولته المستقلة فوق ترابه وحقه في العيش بحرية وسلام واستقرار في وطنه.

ان الترخيص بهجرة اليهود السوفييت بالطريقة التي تمت فيها لحد الآن هو أحد اركان المؤامرة الدولية الكبرى، بل والصفقة الدولية الثالثة في أواخر القرن بحق الشعب العربي الفلسطيني، اذا إعتبرنا ان الصفقة الدولية الاولى بمنح وعد بلفور والثانية بتأسيس اسرائيل واحتلالها للاراضي العربية بعد عام 1967 والثالثة هي تلك التي تريد مدّ اسرائيل بالعنصر البشري (سيصل الى نحو ثلاث ملايين بعد خمس سنوات) وهو الذي طالما ظلّت تفتقر اليه وتعاني من نقصه.
واذا كان الاعتقاد ان صفقة اواخر القرن هي احدى العوامل الرئيسية التي ستعبّد طريق الوفاق الدولي، وستعّجل بالحصول على المساعدات والتكنولوجيا وستبعد شبح الكارثة النووية، فان ذلك لم يمنع الامبريالية وبخاصة الامريكية من ممارسة العدوان، كما حصل في بنما مؤخرا وبتشجيع اسرائيل على التمادي في سياستها المتعنتة وسيؤدي أيضاً الى الاساءة الى العلاقات التاريخية التي ربطت الاتحاد السوفياتي بالعرب والى والصداقة المديدة العربية- السوفيتية التي كانت عاملاً ايجابياً في توازن القوى، وبخاصة للوقوف بوجه العدوان الاسرائيلي وتقديم الخبرات لتنمية وتقدم البلدان العربية وتعزيز استقلالها وسيادتها، تلكم هي العناصر المشرقة للعلاقات العربية- السوفيتية، ولهذا فانه لا يمكن تبرير عمليات الهجرة الحالية خصوصا بالشكل والكيفية اللتان تتمان، بل يمكن القول انها تصبّ حتى من حيث تشاء أو لا تشاء في أهداف ومشاريع الاستيطان الصهيوني ولا تخدم عملية السلام.
إن الموقف الأخير، لتبرير الهجرة حتى وان جرى رمي الكرة في ملعب مجلس الامن، يعيد الى الذاكرة بعض الاخطاء الفادحة تاريخيا بخصوص القضية الفلسطينية، تلك التي لا يمكن تبريرها أيديولوجياً سواءاً بالموافقة على قرار التقسيم والتنظير له وتبرير وجود " أمة يهودية"، ومن ثم التقدير الخاطئ حول " امكانية انتقال اسرائيل على طريق الديمقراطية والتقدم، تلك التصوّرات التي لم تزكيها الحياة ولم تثبت أهليتها وجدارتها لا على المستوى النظري ولا على المستوى العملي. وكانت جزءاً من أخطاء القيادة الستالينية وتحت ضغط القوى الصهيونية، التي سوّغت اتخاذ مثل تلك المواقف الخاطئة.
وللاسف الشديد وقعت الاحزاب الشيوعية العربية انذاك بانفصام شديد بين واقعها وجمهورها من جهة وبين موقفها الذيلي اللامسؤول. وحتى الآن تحجم بعض القيادات عن إعادة النظر بمواقفها الخاطئة وتسقط بين التبرير الساذج والدفاع السقيم عن مواقف خاطئة ارتكبتها القيادات الستالينية، وقامت قياداتنا على مسايرتها بعيداً عن المصالح القومية العليا، وبنظرة مبتسرة ومشوّهة للأممية، تلك التي تعتمد على التلقي والتأييد الاعمى لمواقف " المركز" باعتباره دليلاً على الاخلاص والوفاء للمبادئ "ومحكّاً" لا يخطأ للشيوعية والماركسية!.
ان موجة النقد الحالية لتهجير اليهود السوفييت ينبغي ان تتوجه لمناشدة الاصدقاء السوفيت انطلاقا من علاقات الصداقة للتوقف عن تهجير اليهود الى اسرائيل مباشرة، وان تقترن عملية الهجرة (على افتراض فتح المحطات الوسيطة في اوروبا وإلغاء الكونغرس الأمريكي التشريع، الذي سنّه لتقييد استقبال اليهود السوفيت) بالضغط على اسرائيل لتلبية مطالب الشعب العربي الفلسطيني وانتفاضته الباسلة.
لقد لعبت المنظمات الصهيونية (الداخلية) والدولية دوراً كبيراً في عملية التهجير الاخيرة باسم " حقوق الانسان"، وفي اثارة موجة من الفزع والاستفزاز بحق اليهود وذلك تحضيراً لتهيئتهم نفسيا للهجرة .
وقد أخذ النشاط الصهيوني في الفترة الاخيرة أبعاداً خطيرة حيث استطاعت الصهيونية وبفعل ضعف او غياب الجهد العربي المعاكس، استدراج عدد من المثقفين البارزين في الاتحاد السوفيتي ممن رفعوا اصواتهم بوجه الاستبداد سابقاً وقدّموا أعمالاً مجيدة، لإيقاعهم في شرك التزييف الصهيوني حيث أقدموا على زيارة تل ابيب امثال الكاتب اتماتوف والشاعر يفتشنكو والمخرج كليموف وغيرهم، في حين تندلع الانتفاضة الفلسطينية وتواصل اسرائيل ارهابها ضد الشعب العربي الفلسطيني.

o لننتقل الى موضوع الازمة في الحركة الشيوعية والتحررية العربية.. هل يمكن اطلاق صفة الازمة وما هي ملامحها وسماتها وكيف السبيل لتجاوزها؟

 لا بدّ من الاشارة الى انه بدون قول الحقيقة يستحيل انجاز عمل ابداعي كبير بمستوى التحدي المطروح. ومن الخطأ التفكير بإخفاء هذا النقص أو ذاك بحجة عدم إعطاء ذلك فرصة للعدو. كما ان من الخطأ أيضاً تصوّر إمكانية معالجة الأزمة وتجاوزها باستبدال هذا الامين العام او ذاك او هذا الفريق القيادي او ذاك، لأن الأزمة أشمل وأعمق بكثير، إنها تتعلق بالأساسات حيث تتطلب اعادة البناء ككل شامل.
لنتخلَّ عن المكابرة أولاً ولننظر للامور بكل واقعية ثانياً، فقد كنّا عقوداً من الزمان نعتبر اي إنتقاد جدّي للأنظمة التي حكمت في أوروبا الشرقية، إنما هو خدمة للعدو الطبقي.. وكنّا نعتبر الحديث عن النواقص والمثالب والعيوب لتلك الانظمة ولأحزابنا وقياداتها، إنمّا هي من اختراع الخصوم، ولم يكن ذلك في الواقع سوى استخفاف بعقول الناس وتزييف لوعييها. لقد زيّنا وجه الانظمة الاوروشرقية وعقدنا المقارنات غير المعقولة، واستعنا بارقام واحصاءات إتضح أنها لم تكن دقيقة، بل كان قسم منها مزيّف أيضاً فضلاً عن معلومات مغلوطة.. لهذا يمكن تقديم النقد الذاتي العلني دون تبريرات، رغم ما يحمله ذلك من مرارات، لكن المسؤولية والمراجعة والمصداقية الثورية تتطلب قول الحقيقة، سواء على المستوى الجماعي او المستوى الفردي ولست في ذلك أريد أن أعفي نفسي وبتواضع وإخلاص أقول كنت مع من ساهم في تبييض صفحة الانظمة في بلدان اوروبا الشرقية، دون تمحيص دقيق ودون البحث عن النواقص والمشكلات الحقيقية، التي عانت منها شعوب هذه البلدان، بل كان الهمّ الأكبر هو تقديم صورة " النموذج " بانجازاته ومكتسباته، وربما بالغنا في ذلك الى حد يمكن فيه القول اننا لم نقل كل الحقيقة، بسبب من " أدلجتنا"، وربما بدافع من إثبات أفضلياتنا وفي أحيان كثيرة لمنظومة المعلومات المقدّمة لنا.
لهذا السبب ظل البعض يخفف من مصطلح الأزمة ويختزلها (بعد التطور في المواقف) الى مجرد صعوبات ونواقص، وهو بدافع من تفاؤل تاريخي ساذج وحتمية قدرية، صعوبات مؤقتة وطارئة يمكن لحركة التحرر الوطني وللحركة الشيوعية العربية من تجاوزها.
وعندما استخدم غورباتشوف مصطلح " على مشارف الازمة" في كتابه "بريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم" استشكل البعض كثيراً مثل هذا المصطلح الثقيل على النفس. وإستشار البعض الآخر وذهب بعض الشيوعيين التقليديين وربما بعض الماركسيين المتعصبين، الى اتهام غورباتشوف بتهم شتى معتبرين البريسترويكا مجرد فخ ينبغي عدم الوقوع في شباكه، او فكرة لعبت الصهيونية دورا كبيرا في ترويجها، او تخليا عن الماركسية اللينينية، وليس تكييفها وتطويرها لتنسجم مع متطلبات العصر والثورة العلمية – التقنية، وإلغاء بعض المسلّمات التي لم تعد صالحة.
ومع احترامنا لتلك الاراء والاطروحات واقرارنا بأن نتائج الاصلاحات الايجابية لم تظهر على نحو كاف، في حين برزت مشكلات جدية على السطح، الاّ أن جوهر عملية البريسترويكا والاصلاح والغلاسنوست يتمثل في ابراز الجانب الانساني الاصيل للاشتراكية والمضمون الديمقراطي الحقيقي لمثلها وقيمها، التي لحقها التشوّه خلال فترات الاستبداد والركود في السنوات السابقة وتجارب البناء الاشتراكي في اوروبا الشرقية.
لقد اخذ مصطلح الازمة بُعده الكامل في مقالة لغورباتشوف نشرها في جريدة البرافدا بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 تحت عنوان " الفكر الاشتراكي والبريسترويكا الثورية"، وذلك عندما تحدث عن اعادة التأسيس والبناء، اي من القاعدة الاقتصادية الى البناء الفوقي، وهو بالطبع يقصد أزمة بنيوية طاحنة على صعيد الفكر والممارسة.
يتراءى للبعض ان الحديث عن " ازمة الماركسية"، يعني إلقاء كلمات الرثاء الاخيرة بحق " الماركسية" قبل إهالة التراب عليها ودفنها او وضعها في متحف التاريخ. ربما تضج أجهزة الاعلام الغربية وبعض المنظرّين الغربيين بمثل تلك التنظيرات، لكنهم يتساءلون في الوقت نفسه هل يريد غورباتشوف تخليص الماركسية مما علق بها من " آثام" وممارسات سيئة ناجمة عن التطبيقات المشوّهة واعادة الوجه الانساني المشرق للاشتراكية، أم أنه يريد التخلي عن الماركسية؟ وقبل ان تجيب بالنفي لا ترى فائدة ترجى من مساعدة غورباتشوف لتحسين صورة الماركسية، وبالتالي ليس هناك من مبرر من تقديم العون التكنولوجي له طالما بقي متمسكا بالخيار الاشتراكي!!
ان التهيب من ذكر مصطلح " أزمة الماركسية" لاعتبارات سايكولوجية في الغالب لن يدعها في منأى عن حقيقة كونها تعيش ازمة باعتبارها أحد روافد الفكر الانساني المهمة، تلك التي تتطلب انضاج ظروف حلّها وإعادة شبابها وحيويتها لها وتخليصها من الترّهات التي اقترنت بها بعيداً عن الصيغ الستاتيكية ( الجامدة) التي تكثر الحديث في " الدفاع عن نقاوة النظرية" وغيرها من القوالب التي يتم التعكّز عليها بالضد من جوهر الماركسية ومنهجها الجدلي وصيرورة العلم والتطور.
والحديث عن الازمة لا يعني صب الماء في طاحونة الأعداء كما يذهب بعض اصحابنا من القيادات التقليدية ومن الجامدين عقائديا وغير القادرين على رؤية الواقع، كما ان الحديث عن الازمة لا يعني السعي لنشر الغسيل الوسخ أمام الخصوم ولا يستهدف خلق بلبلة، بل يعني: كشف جوانب هذه الازمة والسعي لتقديم الاجابات الصحيحة على الاسئلة الراهنة، التي تطرحها الحياة المعاصرة والثورة العلمية- التقنية والعمل على تطوير التعاليم الاشتراكية العلمية بما ينسجم مع المتغيرات.
إن إبداء اللامبالاة ازاء تطوير التعاليم الماركسية والمنهج الجدلي وأخذها كعقيدة جامدة، سيجعل النظرية أمام تعارض صارخ مع حقائق العصر. وهو ما يتطلب وقفة جدية تأملية انتقادية للموضوعات العقائدية الجامدة والانعزالية واعادة النظر بطرق التناول التقليدية ولاسس الماركسية في ضوء متطلبات العلم.
فمثلا ان الحديث عن الدور الطليعي للبروليتاريا وضرورة قيام دكتاتوريتها دون الاخذ بنظر الاعتبار التطور الحاصل في تركيبها وطبيعة عملها في المؤسسات الرأسمالية الكبرى، وظروف وجوهر طموحها الاجتماعي، والسمات المميزة لوعيها خصوصا في ظل ثورة الاتصالات والثورة العلمية- التقنية وما تطرحه من مهمات، وكذلك في ظروف البلدان النامية، يبقى مجرد شعار خصوصاً في ظل التجارب التي مرت بها البلدان الاشتراكية وتخليّها عن ما يسمى بالدور القيادي المفروض " دستوريا" وضياع الدور الطليعي بسبب الترهل البيروقراطي.
ان اعادة النظر مطلوبة على الصعيد النظري بمثل هذه الموضوعات، التي كانت من المسلّمات التي لا يمكن المساس فيها او حتى مناقشتها في الماركسية وتحوّلت لدى البعض الى أشبه بـ" البسملة"، كما يتطلب إعادة النظر بنظرية الدولة في الماركسية وأخذْ التطورات التي حصلت بنظر الاعتبار وكذلك بنظرية التأميم الشامل، الذي أثبتت فشلها في جميع التجارب الاشتراكية، كما يتطلب الامر إعادة النظر بالديمقراطية المركزية، وقواعد العمل الداخلية للحزب من الطراز الجديد، الذي أصبحت قواعد من طراز عتيق مع مرور الزمن وتقادمه، بما يؤكد تعددية الآراء والمنابر ويحفظ حقوق الاقلية في التعبير عن آرائها ومواقفها والدفاع عنها وبما يعزز الديمقراطية نهجا وممارسة.
إن إعادة النظر وفتح الحوار واسعاً وعلى مصراعيه، لا يعني التراجع عن الماركسية كمنهج للتحليل ولا عن المنظور الستراتيجي التاريخي والأفق الثوري، بل تعزيزهما وتفعيلهما ومدّهما بدم جديد.
لقد ظلت الحركة الشيوعية العربية رغم النجاحات التي حققتها تعاني من :
 التقليد والنسخ الآلي للتجارب " الجاهزة"، لهذا إتسمّت بالإتكالية الفكرية وعدم القدرة على التفكير المستقل وصياغة الستراتيج والتاكتيك الصحيحين بطريقة حيوية، فضلا عن شحة العطاء الفكري(مع بعض الاستثناءات القليلة) والاحكام المتعجلة.
 عدم هضم التعاليم الماركسية –" اللينينية" على نحو حي وخلاق ومبدع، وبالتالي امكانية استخدامها بشكل ينسجم مع الظروف والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في بلداننا ومن اجل تغييرها فضلاً عن سيادة المسلمات الجاهزة محل العقل.
 عدم استيعاب الواقع الاجتماعي- الاقتصادي- التاريخي- النفسي لمجتمعاتنا وشعوبنا وامتنا العربية، ولهذا فان بعض التنظيرات ظلت غريبة، خصوصاً تلك التي اعتمدت على المحاكاة والتقليد فضلا عن عقم وشلل معظم القيادات وإنغمارها بالعمل المسلكي اليومي والمهمات التنظيمية التي لا تنتهي.
 الابتعاد عن بعض القضايا القومية الحيوية كالوحدة العربية والقضية الفلسطينية، حيث لم نبذل جهداً كبيراً في هذا الميدان وظلت هذه المسألة حتى وقت قريب حكراً على بعض القوى القومية، في حين كنّا ننبهر بالنموذج " الاشتراكي"، ونفرط في كيل المدائح للاخرين والتغنّي بانتصاراتهم وتبرير الظواهر السلبية التي كانت بارزة.
 الايمانية والتعصب في فهمنا للمنهج الماركسي، مما كان يعني رفض الاجتهاد ووأد المبادرة وركود الفكر والانغلاق، وتدريجياً أصبحت السمات المميزة للتطبيقات الاشتراكية، تجد مكانها الى صفوفنا حيث تفشّت الستالينية وعبادة الفرد في العمل التنظيمي وإفتقدت الاحزاب تدريجياً الى أبسط مقوّمات الديمقراطية، باستثناء بعض الممارسات الشكلية.
أعتقد ان السبيل للخلاص من الازمة الراهنة يبدأ بالحوار بدون قيود وبدون عقبات للتحريم ونبذ القناعات المسبقة والتصورات المعلبة واحترام الرأي الآخر والحرص على حماية التنوع والتعدد في الاراء وصيانة حق الاختلاف.
ان الابتعاد عن الاحكام والقوالب الجامدة، والتخلي عن اليقين اللاهوتي واعتماد الصراحة والوضوح والبحث المضني عن الحقيقة وبروح ديمقراطية يمكن ان يوصل الحركة الشيوعية والتحررية، حتى تضع قدميها على الطريق الصحيحة. ولا أحد يدعي بالطبع انه يملك الحقيقة كل الحقيقة، لكن الحوار يولد القناعات المشتركة ويعزز التصورات المتقاربة. انه السبيل لاعادة البناء والتجديد للقوى التي شاخت وللقيادات التي لم تعد تنسجم مع ايقاع العصر وللقوى الجديدة لكي تأخذ مكانها بجدارة وللجماهير لكي تقول كلمتها.

o لماذا لم تتكشف أخطاء الانظمة " الاشتراكية" والاحزاب الشيوعية الحاكمة بالشكل الذي ظهرت به الآن؟ هل هذا يعود الى ان الاتحاد السوفيتي وغورباتشوف تحديدا هو الذي حمل راية النقد الاخيرة؟ ما هو تفسيرك كيساري عربي؟

 تعود أخطاء الانظمة الاشتراكية والاحزاب الشيوعية الحاكمة وغير الحاكمة الى فترة أسبق، وهي الفترة التي سميت بالستالينية، والتي كانت تؤكد وجوب الالتزام بشكل واحد للبناء الاشتراكي، وهو النموذج المعتمد في الاتحاد السوفياتي.
وقد بدأت بعض الارهاصات الفكرية والاستقلالية منذ وقت مبكر ولكنها جميعاً قُمعت ولقيت ما لقيت من تشويهات. فتحت يافطة التحريفية (والتي كانت تعني انذاك الابتعاد عن النموذج الستاليني للبناء الاشتراكي)، جرى التنديد بالمحاولات الاستقلالية لليوغسلاف، ولقيت فكرة " التسيير الذاتي" هجوماً عنيفاً وصل الى حد خيانة المبادئ والعمالة ولحقت بيوغسلافيا، الصين الشعبية رغم تجربتها المتميّزة والكبيرة، ثم سارت ألبانيا على هذا الطريق، واتخذت بعض الأحزاب الاوروبية طريقاً ونهجاً مستقلاً إتسم بتوجيه بعض الانتقادات للتوّجهات السوفيتية ومحاولات فرض الهيمنة على الحركة الشيوعية العالمية، وذلك دون حوار معرفي ومناقشة هادئة ومعمّقة وأخذ ظروف البلدان وخصائص تطورها بنظر الاعتبار وليس باصدار الاحكام.
كان البعض من المثقفين الكبار ينسلخ عن جسد الحزب لعدم امكانية الحزب من استيعابه وخصوصا في ظل قيادات مستبّدة ومتسلطة أو جاهلة، او لعدم تمكّنه من التكيّف بين " حزبية متخلفة" ورأي شجاع واجتهاد نظري. هكذا كان شأن تروتسكي حين جرت تنحيته ولوحق حتى في المنفى فاغتيل، وهكذا كان شأن بوخارين فرغم رضوخه الا ان شكوك ستالين ظلت تحوم حوله فلف حبل المنشقة حول رقبته وهو يتهف لأبو البروليتاريا العالمية.
ولحق التشويه والملاحقة لوكاش المجري، وقيل الكثير من الاساءات بحق غارودي الفرنسي ولم يسلم غرامشي الايطالي من محاولات الافتراء، وسواءاً أكان هؤلاء على حق او لم يكونوا فانهم جميعاً أرادوا تطوير الماركسية وأجهدوا عقولهم لتقديم اجابات مختلفة عن الاسئلة، التي حاولت الانظمة الستالينية والنيوستالينية (الستينات والسبعينات) قولبتها وتقنينها، وانطلقوا من اجتهادات وخصائص نظرية وعملية خاصة وعامة.
وتعتبر بريسترويكا غورباتشوف حالياً واحدة من المحاولات الفكرية المهمة، التي تسعى لتجديد واعادة بناء الفكر الماركسي بما ينسجم مع متطلبات الثورة العلمية- التقنية والانتقال بالعالم من المجابهة الى الحوار الى التعاون، وخصوصاً لدرء الفناء النووي وحماية البيئة وحل معضلات التنمية والتطور، تلك التي أطلق عليها اسم " التفكير السياسي الجديد في العلاقات الدولية"، بتقديم ما هو انساني على ما هو طبقي واعتماد توازن المصالح بدلا من توازن القوى اساسا لحل المشاكل الدولية في ظل عالم مترابط، متناقض، مبرقش على حد تعبيره، يتطلب التعاون.
ان مبادرة غورباتشوف لاعادة البناء والتجديد والدمقرطة تكتسب أهمية خاصة لكونها جاءت من الامين العام للحزب ورئيس الدولة حاليا وبمشاركة وحماسة من جانب اعداد غير قليلة من قادة الحزب وكوادره، رغم معارضة العناصر المحافظة والتقليدية والمتضررة.
لقد سبق غورباتشوف ارهاصات للاصلاح السياسي والاقتصادي بدأها خروشوف في العام 1956 وبعد المؤتمر العشرين مباشرة لكنها لم تكن شمولية، وظلت فوقية ومحدودة ولم تتوفر لها الاداة المناسبة فضلا عن بقاء الديمقراطية مقيّدة والحريات مقننة، ولم تتوفر الأجواء العلنية الضرورية لإنعاش الحياة السياسية والحياة الحزبية الداخلية للقيام والمشاركة الفعالة في عملية التغيير.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما يحدث في العراق ارهاب منفلت من عقاله (الجزء الاول والثاني ...
- بن لادن مجرم وعار على العرب والاسلام
- الاحتفال التكريمي الخاص ب الشخصية العربية البحرينية الكبيرة ...
- ما يحدث في العراق ارهاب منفلت من عقاله
- الارهاب الدولي وحقوق الانسان : رؤية عربية
- الفلسطينيون في العراق: الحماية المفقودة
- من دفتر الذكريات - على هامش حركة حسن السريع
- السيستاني أو ولاية الفقيه غير المعلنة!
- الحديقة السوداء في محطّات شوكت خزندار - الشيوعية - !
- الحكم الصالح والتنمية المستدامة
- الحكم الصالح (الراشد) والتنمية المستدامة
- حكومة المالكي عاجزة عن حل الميليشيات ومهددة بالانهيار
- احتمالات الحرب الاهلية في العراق
- خيارات الرئيس بوش في العراق
- الائتلاف والاختلاف في ستراتيجيات وتاكتيكات المقاومة العربية! ...
- الازمات والنزاعات الاقليمية وأثرها على عملية التغيير والاصلا ...
- عام بريمر العراقي في الميزان
- المحكمة الجنائية الدولية
- هل سيتمكن المالكي من حل المليشيات ؟
- ما بعد العدوان الاسرائيلي


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - أزمة الماركسية هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء!!؟