أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - العولمة.. رحلة خارج التاريخ















المزيد.....



العولمة.. رحلة خارج التاريخ


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 1928 - 2007 / 5 / 27 - 11:15
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


عامة المفكرين والاقتصاديين السياسيين , البورجوازيون منهم كما الماركسيون المنحرفون الذين وقعوا قي الشرك البورجوازي ، يقاربون عالم اليوم بتسليم مسبق يفيد بأن التناقض الرأسمالي / الاشتراكي الذي صنع تاريخ القرنين الاخيرين من حياة العالم إنتهى اليوم الى انتصار الرأسمالية وهزيمة الاشتراكية . مثل هـذا التسليم مغاير لطبيعة الأمور وهو وهم يأسر الذين لا يدركون جوهر الاشتراكية وسر القانون العام للحركة في الطبيعة . ومن هنا يتجرأ هؤلاء على التقوّل برأسمالية متجددة الحيويـة تحتضن اليوم كل العالم يسمونـها " العولمة " وبعضهم يتعسف فيصفها بِ " نـهاية التاريـخ " والبعض الآخر يتكرم على البشرية فيطفق يبحث عن اشتراكية جديدة تحقق فكرة بورجوازية قديمة عنوانها العدالة الإجتماعية .
الحقيقة الكبرى التي يجب ألا ينساها أي باحث في النظام العالمي الجديد والتي يعمد التحريفيون وكتبة البورجوازية إلى إغفالها هي أن انـهيار المعسكر الاشتراكي لم يقع نتيجة لمواجهة حامية أو حتى باردة بين المعسكرين ، الرأسمالي والاشتراكي ، بل العكس تماما هو الصحيح فقد وقع الانـهيار بسبب تقاعس المعسكر الاشتراكي ، لعوامل داخلية ليست من موضوعنا ، عن مواجهة المعسكر الرأسـمالي . وقـع الانـهيار في ظـل " وفـاق دولي " بتعبير خروتشـوف و " توازن المصالح " بتعبير غورباتشوف . إن أي مراقب محايد وأمين يرى أن عمر الإتحاد السوفياتي يقع في نصفين متساويين ، النصف الأول وهو النصف الصاعد حين كان الاتحاد السوفياتي لا يتردد في مواجهة الامبريالية على مختلف الصعد ، والنصف الثاني وهو الهابط حين كانت القيادة في موسكو تهرب أمام الامبريالية بمختلف الحجـج .
أساس القانون العام للحركة في الطبيعة هو التناقض المتبادل أو الديالكتيك ، هذا التناقض الذي هو مولّد الحركة في الطبيعة وفي التاريخ ، تماما كما هو حال المحرّك الكهربائي حيث يتبادل قطبا محور المحرك الاستقطاب المغناطيسي : شمال - جنوب - شمال - جنوب على التوالي وحيث يكون الاستقطاب السالب هو شرط الاستقطاب الموجب والعكس بالعكس ، وفي اللحظة التي يتوقف الاستقطاب لأي من القطبين يتوقف للقطب الآخـر . ولد النظام الرأسمالي ترافـقه الطبقة العاملة ، وتحـرك الـتاريخ طيلة الـقرون الثلاثـة الأخـيرة بمـحرك رئيسـي هـو التـناقـض رأسـماليـون / عـمال أو رأسـمالية/اشـتراكية . اليوم انـهارت الاشتراكية فلا بد إذن أن تكون الرأسمالية قد انـهارت معها أيضا وفقاً لوحدة وآنية النقيضين في الديالكتيك .
ربّ من يقول أن في مثل هذا المنطق تسطيح فجّ لقضايا في غاية التعقيد ولعل في وسع المرء أن يتقبل نقداً كهذا شرط أن يصدر عن أناس يعرفون تماماً كل خـصائص العناصر المركبة للرأسمالية . الذين ينـكرون انـهيار الرأسمالية عليهم أن يعرفوا عمّا يتحدثون قبل ذلك . فالرأسمالية ليست أموالاُ متراكمة وحسب ، ولو أن هذا مفتاحها ، إنـها نموذج إنتاج يقتضي أساساُ تحويل الناس إلى عمال مأجورين يشغلون أدوات مختلفة للإنتاج كيما تعطي بالجملة سـلعاُ مادية بالتالي يحـتاجها الإنسان في معاشه . وعليه فان المرابي مهما امتلك من أموال ليس رأسمالياُ ومثله الذي يكتنز الأموال بلا طائل . ما كان بإمكان ماركس أن يؤكد بأن الشيوعية ستعقب الرأسمالية لو أن الرأسمالية لم تحوّل عامة الناس إلى عمال بروليتاريا مأجورين . الأموال الهائلة الداخلة في البورصات العالمية للمضاربة ليست هي فقط خارجة عن دائرة الإنتاج الرأسمالي بل إنـها تعمل حقيقة على تشويشها وبالتالي خنقها وتعطيلها . هؤلاء المضاربون وهم في مرصد متميز لدائرة الإنتاج الرأسمالي يرون بأم أعينهم الانـهيار المريع للرأسمالية فينتهزون الفرصة كيما يجعلوها تنهار لصالحهم . إنـهم يجردون الرأسماليين من كل فوائض العمل بل ومن الرأسمال نفسه من خـلال خـدع يمهرون بحبكها فيسارعون بذلك في تـهديم الرأسمالية . تجار المال هؤلاء هم لصوص وغشاشون كما في حكمة بنيامين فرانكلين الذي قال .." الحرب لصوصية والتجارة خـداع " . ثراء المضاربين لا يتأتى إلاّ من إفقار الرأسماليين وفي هذا الإفقار بالطبع تستفحل الأنيميا القاتلة للنظام الرأسمالي .
الرأسمالية لا تدخل سن البلوغ إلاّ وتحمل بالشيوعية فهي تقضي تلقائياُ على جميع نماذج الإنتاج الفردية القديمة البالية لتتحول بالتالي إلى النموذج الرأسمالي الخصيب كثيف الإنتاج ( Mass Production ) يرافق ذلك تحويل كافة شرائح وطبقات المجتمع إلى عمال مأجورين و بذلك يُقضي على تقسيم العمل ، وجميع هذه الملامح هي من ملامح الشيوعية . القيادات الخائنة للثورة الاشتراكية - وهي أصلاً من الطبقة الوسطى- فشلت بل لم ترغب أصلاً في استيلاد الشيوعية من رحم الرأسمالية فكان أن مات الجنين والأم بذات الوقت . أما ما نراه اليوم في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية فليس إلاّ شبحاُ ممسوخاُ للأم الرأسمالية الخصيبة . 80% من الاقتصاد الأمريكي هو اقتصاد خدمات و في إنكلترا وفرنسا أكثر من 70% و 65% في ألمانيا و 60% في اليابان . الخدمات امرأة عاقر لا تلد ولا تضيف وحدها أية قيمة ، لا تحول الناس إلى بروليتاريا بل تـهمش العمال ، يتكامل فيها تـقسيم العمل . إنـها اقـتصاد طـفيلي يتغذى على الإنتاج السلعي الرأسمالي وغير الرأسمالي ويمص دمه ، اقتصاد لا يلتصق بأدوات الإنتاج وهو بذلك اقتصاد رجعي لا يفضي إلاّ إلى التخلف طالما أن المعرفة بكل أشكالها ووسائلها مرتبطـة إرتباطاً وثـيقاً بأدوات الإنـتاج .
يتعرّف الباحثون على ما يسمى بالعولمة من خـلال .. " التداخل الواسع الواضح للأمور السياسية والاقتصادية والثقافية بين مختلف الأمم والشعوب دون اعتبار للحدود السيادية والقومية " . ويمثلّون هذا التداخل بالشركات المتعددة الجنسيات وبثورة الاتصالات وما يسمى بأوتوستراد المعلومات وبالعمالة المهاجرة وبازدهار (الرأسمالية) في بعض بلدان العالم الثالث مثل النمور الأسيوية الستة أو السبعة . السؤال المفصلي هنا الذي على القائلين بالعولمة كمرحلة إزدهار جديدة للرأسمالية الإجابة عليه والفصل فيه قبل موافقتهم على أفكارهم والإقرار بالعولمة التي يصورون ، وهو : هل أمثلة التداخل التي يسوقونـها لإثبات صحّة عولمتهم لا تقوم أو تظهر إطلاقاً إلاّ في ظل انتصار الرأسمالية انتصاراُ عالمياُ أم أن مظاهرها - ولم يتعمق هؤلاء العولميون لأكثر من وصف الظواهر - يمكن أن تظهر في ظلال أخرى ؟ ألا يمكن لها أن تتجلّى بوضوح تام في مجتمعات الطبقة الوسطى ؟!
الظواهر تلك لم تتشكل انعكاساُ لفترة جديدة من حياة الرأسمالية كما يدعي العولميون ، أي أنـها ليست تشكيلات لرأسمالية انتصرت على نقيضها الاشتراكي وإن هي ظهرت على قدر من الفعالية بعد انـهيار الاشتراكية وما كانت لتظهر لولاه . فالعولمة التي يطرحها أنصار هذه الأطروحة تنطوي على شروخ يستحيل تجاوزها وغير قابلة للرتق والإصلاح ويمكن تحسسها في التالي:-
الدور التاريخي للدولة :
1. يؤكد العولميون أن مؤسسة الدولة المعروفة ستتلاشى في ظل العولمة ويمثلون على ذلك بتضاؤل دور الدولـة في بلدان الـعالم الثالث . لكن الرأسمالية المتغولة أفقياُ وعمودياُ لا تستغني إطلاقاُ عن القمع والإكراه بل إن القمع هو عنصر رئيس في أسـاسها ، فكيف يتسنى لها ذلك بدون الدولة التي هي أداة القمع الطبقية الوحيدة ؟
2. صحيح أن دور الدولة تراجع بصورة ملموسة في دول العالم الثالث ولعله تراجع أكثر في دول العالم الثاني أي الدول الاشتراكية سابقاُ ، لكن دور الدولة اتسع كثيراُ في العالم الرأسمالي سابقاً وما رافق ذلك من اختلاف نوعي . إنـها تأخذ على عاتقها تحقيق الرفاه لمواطنيها ، وهي لذلك تستورد أكثر مما تصدر وتبعد عنها المحافظين الذين يريدون أن يحدّوا من الاستيراد ؛ واستقرت الدولة هناك في أحضان الذين يدعون الاجتماعيين الديموقراطيين وما تزايد شعبية كلنتون بعد فضائحه وحنثه باليمين إلاّ مثل قاطع على ذلك . أما تراجع دور الدولة في العالمين الثاني والثالث فإنما يعود إلى الإنـهيار الكبير الذي حـاق بالثورتين الاشتراكية والوطنية كليهما نتيجة لردة القيادة السوفيتية فيما بعد 1956 .
طبيعة البنية الرأسمالية:
1. اكتسبت دول المتروبول مركزيّتها ليس فقط بسبب أن عدداُ من مواطنيها راكم أموالاُ كانت كافية للشروع في بناء نموذج الإنتاج الرأسمالي بل ما هو أهم من هذا هو أن عمالها خلقوا ثروة جديدة بتحويل قوة عملهم إلى بضائع وسلع . شرط المتروبول أو جوهره هو تصدير فائض القيمة إلى أسواق الدول التابعة . حافظ المتروبول على تقسيم العمل هذا خلال القرنين الأخيرين وأملى على دوله التابعة استيراد هذا الفائض لقاء منتوجات لا تحمل قيمة مضافة تذكر كالمواد الخام والمنتوجات الزراعية . العولمة المطروحـة عـلينا اليوم تلغي هذا التقسيم نـهائياُ . هل يتمّ ذلك لمصلحة عمال البلدان التابعة وضد عمال المركز ؟!! لا يمكن أن يكون هذا وارداً في المفهوم الشائع الموهـوم للعولمة .
2. التنمية الرأسمالية كما يعممها اليوم العولميّون لم تكن متعذرة على البلدان المتخلفة بسبب القيود المفروضة من قبل المتروبول وحسب بل قبل هذا بسبب التخلف المتجذر في بنية مجتمعات بلدان العالم الثالث . لذلك كانت التنمية الشبيهة بالرأسمالية في بلدان جنوب شرق آسيا مجرد فقاعات انفجرت حالما زال خطر الثورة الشيوعية في تلك الأقاليم .
3. البنية الطبيعية القادرة على الحياة الرأسمالية هي بنية المركز والمحيط ، النواة والبروتوبلازم ، فكما أن النواة تتحكم بكل الوظائف الحيوية للخلية فان المركز يتحكم بكل نشاط دائرة الإنتاج الرأسمالية . إن تلاشـي النواة أو ذوبانـها في المحيط من شأنه إنـهاء حياة الخلية .
4. قلة من العولميين يحتفظون بالبنية التقليدية للدائرة الرأسمالية ويسمّون المركز المقرّ _ مقر الشركات المتعددة الجنسيات - فإن كان هذا صحيحاُ ولم يبق من دائرة الإنتاج الرأسمالية إلاّ المقرّ فما دواعي الشركة للاستقرار في مقر واحد بعينه ، مقر يأخذ منها الكثير ولا يكاد يعطيها شيئاُ يذكر ؟!! وإذا كان ثمة من داعٍ نجهله فهل المحيط العالمي الموحد قابل لأن يدار من قبل مقارٍ متعددة ؟؟
5. المركزية الرأسمالية تتجسد بنقدها الثقيل الصعب . لكن فيض التجـارة العولمي الغامـر لم تستطع أصعب النقود أن تحـيط به فنشأ ما يسمى بالبترودولار واليورودولار بالرغم من الثقة المفرطة غير المبررة التي تمتع بـها الدولار ، وقامت على الجانب الأوروبي حقوق السحب الخاصة . كل هذا حرم البنوك المركزية في مراكز الرأسمالية من حقها في مراقبة عملاتـها والسيطرة على أسعارها مما أدى إلى اضطرابات مالية خطيرة . ولا يخفى على أحد إن النقد هو الأداة الفعالة والحاسمة الأولى التي تتشكل بفعلها دائرة الإنتاج الرأسمالية والتي بواسطتها فقط يتحكم الرأسماليون بنشاط هذه الدائرة وتدفق الحياة فيها . بعد قـرار الدول الرأسمالية الخمسة الكبرى بإغراق العالم الثالث بفائض الأموال لديها عام 1974 بدأت العملات الصعبة بالانـهيار وقد انعكس ذلك بالفوائد البنكية المرتفعة التي وصلت في الولايات المتحـدة إلى أكثر من 20% وفي الدول الأربعة الأخرى إلى ما يقرب من هذه النسبة . وبعد أن تمّ تدمير البنى الاقتصادية في دول العالم الثالث كما كان مخططاً له بدأت عملات الدول الرأسمالية بالانـهيار انـهياراً مروّعاً لكن بدون أن يلحظ أحد التآكل المستمر لقيمة العملات الصعبة . ومما زاد من عدم وضوح الصورة هو الثبات النسبي لأسعار صرف العملات الصعبة بالدولار ، لكن القيمة التبادلية الفعلية للدولار ظلت تنهار باستمرار . الانـهيار العالمي الكامل للنقود أطل برأسه من وراء الأفق قبل فترة وجيزة وسيصل سريعاً عندما ينكشف مقدار الزيف في الثقة العالمية الخادعة بالدولار الأميركي وأن ثقله ناجم عن ثقل القبضة الأميركية أكثر مما هو عن ثقل الإنتاج الأميركي .
يرى العولميّون خاصة منهم " الماركسيون سابقاً " أن تعادل الرعب النووي هو ما دفع بالعالم إلى العولمة باعتبار أنه عطّل تماماً الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي . هم هنا بالطبع يتذكرون خروتشوف ، خليفة ستالين في قيادة الثورة الاشتراكية العالمية ، هارباً مروَّعاً أمام " النمر ذي الأنياب الذرية " لكنهم لا يسألون أنفسهم عن أسباب شجاعة أيزنـهاور وكيندي اللذين لم يروعهما النمر حتى وهو بأنياب ذرية . هذا الأمر وثيق الصلة بموضوعنا ومن شأنه أن يلقي ضوءاً كاشفاً على طبيعة العلاقات الدولية القائمة الآن . صحيح أن هذه العلاقات المعولمة قد قامت نتيجة لوقف الصراع بين المعسكرين لكنه صحيح أيضاً أن خروتشوف لم يهرب أمام النمر بسبب الأنياب الذرية بل لأنه لم يكن شيوعياً وأمّـل أن يسمح له النمر بأن يحيا وديعاً مسالماً في كنفه ! ستالين واجه النمر ذا الأنياب الذرية وتغلب عليه في 1945 حين لم يتراجع عن استعادة بولندا لأراضيها المقتطعة رغم تـهديد ترومان له بالقنبلة الذرية في بوتسدام أو عندما كان يحاصر برلين الغربية بين الفينة والأخرى . أما خروتشوف ابن الطبقة الوسطى المزدهرة فيما بعد الحرب فقد خان الثورة الاشتراكية والطبقة العاملة ؛ عاد إلى أصله راعياً وفلاحاً ، عاد رائداً طليعياً للطبقة الوسطى . لم يتوقف الصراع بسبب تعادل الرعب النووي بل بسبب صراعات طبقية داخل المجتمع السوفياتي ذاته .
الظواهـر والتناقضات التي أشـرنا إليـها لا يـمكن أن تجـتمع كصورة لجسـم واحـدٍ متكامل يسـميه العولميّـون " الرأسمالية المتجددة " . مثل هذا الافتراض الخاطئ لن يساعد في الإجابة الشافية على مائة سؤال وسؤال لا بد أن يثيرها لتبقى معلقة في الهواء . لكن الأمر يغدو على العكس تماماً إذا ما سلمنا بأن ظاهرة العولمة بدأت تتشكل في سماء العالم إثر الانـهيار الفعلي للعوالم الثلاث التي عرفناها بعد نـهاية الحرب العالمية الثانية . بل إن العالم الرأسمالي هو الذي سبق في الانـهيار إذ سـقط كما سـقط جحا بعد أن قطع فرع الشجرة الذي يقف عليه . ففي سنة 1974 عمدت الدول الرأسمالية الخمس الكبرى ، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانـيا واليابان ، إلى إغراق دول العالم الثالث بالقروض الكبيرة والسهلة مستهدفة شل قدرتـها على الإنتاج وبناء اقتصاد مستقل وبالتالي اغتيال ثورتها الوطنية . وكان أن نجحت المؤامرة في تحقيق أهدافها أيما نجاح ولم تعد دول العالم الثالث قادرة على امتصاص فائـض القيمة المتحقـق في الدول الرأسمالية . هذا تحديداً ما قوّض الثورة الوطنية ومعسكرها الذي كان جباراً في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وألحق بالمعسكر الرأسمالي الاستعماري هزائم كبرى . انـهارت العوالم الثلاث وسادت الطبقة الوسطى في جميعها . وللطبقة الوسطى نموذج إنتاج كسيح يفرز بناء فوقياً كسيحاً مثله ولو بعناوين براقة من مثل الديموقراطية ، حقوق الإنسان ، العدالة الاجتماعية ، الشرعية الدولية ، الطريق الثالثة والاشتراكية المؤنسنة ..ألخ وهي بإنتاجها الرث لا تجد بدّاً من أن تتطفل على إنتاج الرأسماليين الذين يهربون بأموالهم من دائرة الإنتاج الوطنية إلى أسواق المال أولاً ثم إلى دائرة الإنتاج الرأسمالي وراء الحدود وهو ما كان الدافع الأقوى لقيام الشركات المتعددة الجنسيات . أضف إلى ذلك أن السوق الرأسمالية الموحدة في مواجهة طويلة مع المعسكر الاشتراكي عملت على توحيد الشركات المتشابهة في أهدافها من جنسيات مختلفة وتنظيم سياساتها على الأقل .
المعلوماتية والتقانة ، وهما العمودان الرئيسيان في بناء العولمة ، كما يرسمه لنا ثقاتها ، هما في الظاهر والعرف فقط الحصة الرئيسية من إنتاج الطبقة الوسطى ؛ هكذا كان الأمر منذ القدم . واليوم تفاخر الطبقة الوسطى بإنجازاتـها المدهشة في هذين الحقلين ؛ بل إنـها تذهب بعيداً إلى حد الإدعاء بأن الإنسان سيحيا بالمعلوماتية وبالتقانة وحدهما ، وبذلك تزعم أن المعرفة قد أَضحت العامل الحدّي في الإنتاج وفي القيمة وليس قوة العمل كما كان عليه الأمر في السابق . وبناء على هذا الزعم فإنـها اليوم تملأ الدنيا زعيقاً مؤذنةً بتهميش الطبقة العاملة وبأحقيّتها في قيادة العالم وبناء المجتمعات المعصرنة . وتأكيداً على هذا التوجه أسفّت أيّما إسفاف في إنتاج التكنولوجيا لدرجة أنـها لم تستطع أن تُدخل في خدمة الإنتاج الحقيقي اللازم للتنمية سوى أقل من 1/10 من بدائعها التقنية . العولميون وهم غالباً لا يرغبون في الاستماع لزعيق الطبقة الوسطى من حيث أنهم ما زالوا مأسورين ( بانتصار الرأسمالية وبـهزيمة الاشتراكية ) لا يجدون مناصاً من الافتراض بأن الرأسمالية المتجـددة قد حضنت العـالم كله بأذرع قوية من الراديو والحوسبة المتداخلة الشبكات . الحقيقة البلجاء التي تكشف زور شهادة هؤلاء وأولئك من العولميين ورسل الطبقة الوسـطى هي أن المعرفة بكل صورها وتجلياتـها إنما هي من نتاج الشغل . إن العلاقة التي تربط العمال بأدوات الإنـتاج هي تماماً الرحـم الذي تولد وتتخلّق فيه المعرفة . بتر هذه العلاقة لا بدّ وأن يعيد الإنسان إلى أصوله الوحشية حين لم يكن على أدنى علاقة بالأداة .
العولمة المستحدثة
لقد كشف كارل ماركس عن طبيعة مميزة للنظام الرأسمالي وهو أنه النظام الأول في تاريخ الإنسانية الذي لا يمكن له أن ينمو ويسـتمر دون أن يـكون نظاماً عالمياً . فالمركز الرأسمالي الذي أخذ ينتج بالجملة ( Mass Production ) لا يمكن له أن يستهلك كل ما ينتج ولذلك توجب عليه أن يصدّر فائض إنتاجه إلى سوق تابعة وإلاّ اختنق ومات غريقاً بهذا الفائض . فقامت تبعاً لذلك مزاحمة بين المراكز الرأسمالية كانت تصل دائماً إلى شن الحروب الكبرى من أجل الهيمنة على البلدان الأخرى وفتح أسواقها لفائـض إنتاج المركز . عالمية النظام الرأسمالي تتجلى بوضوح باقتسام المراكز الرأسمالية لسطح الكرة الأرضية بحيث أنه في عام 1914 كان 80% من مساحة الأرض كل الأرض بما في ذلك المناطق المجهولة في حـوزة هذه المراكز على شكل مستعمرات وأشباه مستعمرات . جاءت الرأسمالية بحكم طبيعتها نظاماً عالمياً ولذلك فإن التناقض الرئيسي الذي حملته في أحشائها تناقض عالمي أيضاً كما أن الثورة التي سيفجرها هذا التناقض لتحلّه نهائياً لا بدّ وأن تكون ثورة عالمية . ومن هنا ارتفع نداء كارل ماركس الشهير .. " يا عمال العالم اتحدوا " .
غير أن العالمية التي كشف عنها ماركس وتحدث عنها لينين في مؤلفه الشهير " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية " ليست هي " العولمة " التي نحن بصددها والتي يصورها أصحاب نظريات متعددة ومتباينة من المفكرين على أنها نظام رأسـمالي واحد يسود العالم كله بمركز واحد هو الولايات المتحدة الأميركية كما يقول البعض أو بدون مركز على الإطلاق كما يقول البعض الآخر . وأسباب هؤلاء المفكرين لما هم في اتفاق عليه هي التالية :
1. انهيار المعسكر الإشتراكي بالصورة التي تمت ، أي انهياره من داخله دون التعرف على الأسباب الحقيقية لذلك مما دفع كافة المراقبين بوصف الانهيار بالزلزال وبالمدهش وبالمفاجىء ؛ حتى أن المتضررين من الإنهيار لم يكلفوا أنفسهم عناء تقصي تلك الأسباب وهو ما يدهش أكثر من الانهيار نفسه ، بل إن طبقة إجتماعية أو شريحة منظمة في المجتمع السوفياتي لم تقاوم ذلك الانهيار .
2. عالم اليوم يتشكل بقوام واحد ، أي أن جميع دوله تصطف في صف واحد وتعمل بنظام إقتصادي واحد رغم أن بعضها يقف في مقدمة الصف والبعض الآخر في مؤخرته . ويتمظهر هذا فيما يلي :
أ – الإنسياب السهل للتجارة العالمية وإنتقال الأموال بحرية تامة ودون أدني قيد إطلاقاً .
ب – إعتماد جميع دول العالم على ما يسمى ب " إقتصاد السوق " وهو ما يعني خضوع الإنتاج لقانون القيمة الرأسـمالي ـ ولو أن السوق لم تعد بالجـوهر سوقاً رأسمالية كما أن قانون القيمة قد فقد مساحة كبيرة من فعاليته .
ج ـ تراجع دور الدولة في المجتمعات بصورة عامة ( وهذا لا ينطبق تماماً على المجتمعات الرأسمالية الكلاسيكية )
د – تضاؤل السيادة الوطنية واضمحلال الحدود القومية .
هـ زوال الإمبريالية منذ سبيعينيات القرن العشرين .
3 . قيام الشركات المتعددة الجنسيات أو الأحرى معدومة الجنسية . هذه الشركات الكبرى بكل المقاييس ، وبحكم عدم انتمائها لأية جنسية ، لا تخضع لأية قيود أو قوانين وطنية وخاصة قوانين الضرائب .
4 . ثورة الإتصالات والمعلوماتية التي جعلت من العالم قرية صغيرة وأصبح التراسل والمتاجرة بين كل أطراف الأرض غير مكلف إن بالمال أو بالوقت أو بالجهد . ثم تعميم التراسل بلغة واحدة هي الإنجليزية .
جميع هذه الظواهر الهامة وذات الدلالة على النظـام العالمي القائم اليوم " العولمة " لم تكن موجودة ولو بمقدار في النظام الرأسمالي الكلاسيكي الذي ساد العالم طيلة القرون الثلاثة الأخيرة وحتى سبعينيات القرن العشرين . والتساؤل المفصلي الحاسم الذي يفرض نفسه هنا هو : لماذا لم يعكس النظام الرأسمالي الكلاسيكي قط مثل هذه الظواهر أو أيـّاً منها أبداً ؟ يزعـم بعض المنظرين للعولمة أن العولمـة هي مرحلة جـديدة من مراحـل تطور الرأسمالية يسمونها " رأسمالية ما بعد الإمبريالية Post Imperialism “ ويعللون ذلك بأن الرأسمالية استطاعت أن تحيي ذاتها بصورة خلاّقة بوساطة ميكانزمات داخلية في النظام الرأسمالي نفسه لتعمّر لفترة أخرى يصعب التنبؤ بنهايتها . والمنظرون الآخرون يوافقون على ما ينتهي إليه هؤلاء لكن من دون الإعتراف بأن الرأسمالية كانت على وشك الانهيار . ليس خفيّاً أبداً أن مبتغى هؤلاء المنظرين من خلال الزعم بأن الرأسمالية قد تجاوزت الإمبريالية إلى مرحلة " العولمة " هو دحض نظرية لينين القائلة بأن " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية " كما في مؤلفه الشهير الذي أشرنا إليه . ما يصح فقط في نظرية هؤلاء المعارضين للينين هو أن " العولمة " ظهرت فعلاً بعد انهيار الإمبريالية . لكنها ظهرت أيضاً بعد انهيار الاشتراكية الذي بدأ فعلاً في مطالع الستينات ولم ينتهِ إلاّ مع بداية التسعينات وما كان للعولمة أن تقوم لولا هذا الانهيار . فلماذا لم يسمِّ هؤلاء المنظرون " عولمتهم " " اشتراكية ما بعد الاشتراكية Post Socialism " ؟! ليس لهم حجة في ذلك سوى أن اقتصاد السوق هو اليوم الاقتصاد المعتمد في جميع دول العالم وأن قانون القيمة الرأسمالي هو القانون المهيمن في السوق وله تخضع السوق بكافة عناصرها ـ للأسف الشديد لم ينتبه علماء الإقتصاد بعد إلى أن قانون القيمة قد تآكل وفقد معظم فعاليته وأن سوق اليوم غير سوق الأمس تماماً ـ لكن سـتالين وهو المرجـعية الـشرعية الوحـيدة لـبناء الاشـتراكية كان قد أكّد بقوة في كتابـه " القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي " على أن الاشتراكية لا تستطيع أن تتقدم دون الإعتماد الواسع على قانون القيمة الرأسمالي ، بل أكثر من ذلك فالحزب الشيوعي السوفياتي كان قد قرر في الثمانينات الأخذ باقتصاد السوق ، فما حجة هؤلاء بعد كل هذا في الإنتصار للرأسمالية واعتبار " العولمة " شبكة رأسمالية وليست شبكة اشـتراكية خاصة وأن عـدداً من زعـماء الدول الرأسـمالية الكلاسـيكية اليـوم يدّعـون بأنـهم إنـما يخـطّون " الطريق الثالثة " ؟!
إجماع سائر المنظرين على أن العولمة تقوم أساسا على إنتصار الرأسمالية إنتصاراً عالمياً حاسماً يجب أن يثير تساؤلا مهما عن طبيعة الرأسمالية وبنيتها التشريحية . فما هي هذه الطبيعة وما هي الظواهر الدّالة عليها ؟
الروح التي تبعث الحياة في النظام الرأسمالي هي " فائض القيمة " الذي يتمثل بالربح المتحقق فقط من المتاجرة بقوة العمل ، وهو الفرق بين سعر الشراء "الأجور" وسعـر البيع ، القيمة الحقيقية للعمل ، أو " المعدل الإجتماعي لقيمة العمل " . هذه الحقيقة التي كشف عنها ماركس لم تعد موضع جدل وهي التي تؤسس للحقائق أو الظواهر التالية المؤشرة على نظام الإنتاج :
1. لأن فائض القيمة يتحقق من أجـور العمال فقط يتجه النظام الرأسمالي بقوة إلى تحويل كافة الناس من حوله إلى عمال أجراء وبذلك تتسع مساحة الطبقة العاملة في المجـتمع ويتعاظم الصراع الطبقي وتبرز نقابات العمال لتلعب دوراً رئيسياً في إدارة هذا الصراع .
2.بسبب هذا الأمر ، أولاً ، ولأن الرأسماليين يحرصون على تقديم منتوجاتهم إلى السـوق بأقـل كلفة فلا يحمّلونها خدمات كثيرة ومكلفة ، ثانياً ، فإن الطبقة الوسطى وهي الطبقة المختصة بإنتاج الخدمات لا تجد متنفساً للنمو ولـذلك تبقى في ظل النظام الرأسـمالي طبقة رقيقة وهشّة تتحاشـى أي صراع مفتوح مع الطبقة الرأسمالية وتعتاش على فتات الرأسمالية .
3.تراكم فائض القيمة لدى الرأسماليين يؤدي مباشرة إلى تناقص متزايد في قدرة المجـتمع على امتصاص مجـمل الإنتاج الوطني فيغرق النـظام في فائض الإنتاج ولا ينقذه من مثل هذه الأزمة القاتلة سوى تصدير هذا الفائض إلى الأسواق الخارجية .
4.التأمين الدائم للأسواق الخارجية يقتضي من دولة الرأسمالية تجهيز جيش كبير وإنتاج الأسلحة اللازمة له بهدف الإعتداء على البلدان الأخرى وإلحـاقها بالقوة للمركز الرأسـمالي لامتصاص فائـض انتاجه ، كما أن الأسلحـة ذاتها تمتص قدراً كبيراً من فائض العمل .
5.البنية التامة المتكاملة لأي نظام رأسمالي إذاً تتخذ شكل الخلية الحية ، النواة وهي المتروبول أو المركز الرأسمالي الإستعماري والمحيط أو الأطراف وهو البلدان المستعمرة والتابعة .
6.الأمـوال المتراكمـة لدى الرأسـماليين يجـري توظـيفها في توسـيع الإنـتاج الصناعي الرأسـمالي ( Expansion ) ومن خلال هذا التمدد فقط ينمو ويتطور النظام الرأسمالي ، وبغيره يتجمد ويموت .
7.جرّاء الإستغلال المتعاظم لشعوب المستعمرات والبلدان التابعة تنشأ في هذه البلدان حركات تحرر وطني تناضل بضراوة من أجل الإستقلال وفك كافة الروابط مع المركز الرأسمالي الإستعماري .
8.التنافس المتعاظم والمستمر بين المراكز الرأسمالية المتعددة للسيطرة على أوسع الأسواق وإلحاق أكبر البلدان وأكثرها عدداً بها لا بدّ وأن يفضي كل عقدين أو ثلاثة إلى حرب كونية تنتهي إلى إعادة تقسيم مناسب للمستعمرات .
كل هذه الظواهر الدّالة بصورة قاطعة على طبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي تغيب اليوم كلّـياً عن المسرح العالمي وعن مراكز الإنـتاج البارزة في الـعالم . فالطبقة العاملة في هـذه المراكز تهمشت وتقلصت مساحتها الاجـتماعية بصورة ملحوظة وما فتئت تتقلص . يعزو الكثيرون هذا التقلص إلى تطور التكنولوجيا الهائل لكن هذا ليس كل ما في الأمر بل ثمة أسباب أخرى . التقلص الكبير في مساحة الطبقة العاملة الاجتماعية يتم تعويضه من خلال تورم وانتفاخ الطبقة الوسطى التي تختص حصراً بإنتاج الخدمات وهو الإنتاج غير الرأسمالي وذو البنية التشريحية المختلفة . الأموال التي راكمها الرأسماليون عبر استغلالهم الطويل للطبقة العاملة تم نهبها من قبل لصوص البورصة وجرّاء ذلك توقف التمدد الصناعي وتوقف نمو الرأسمالية . تقلص الطبقة العاملة يؤدي مباشرة إلى هبوط حاد في مجمل فائض القيمة الكلي ومجمل فائض الإنتاج وبذلك تنتفي الحاجة لتأمين أسواق في المستعمرات والبلدان التابعة . وهكذا تنتهي الإمبريالية وتزول نهائياً من دائرة العلاقات الدولية وتتلاشى البنية الخلوية المعروفة لنموذج دائرة الإنتاج الرأسمالي ، بنية المركز والأطراف أو المحيط . تختلط النواة بالمحيط لتغدو الخلية كلها من قوام واحد . كما أن الدوائر المتعددة للإنتاج الرأسمالي تنفتح على بعضها البعض لتغدو جميعها كتلة هلامية من ذات القوام تغطي كل العالم تقريباً . هذا بالتحديد هو الصورة المتكاملة التي اتـفق الجميع على وصفها بِ " العولمة " . لقد اختفت منها نهائياً المراكز الرأسمالية وانحل التناقض التاريخي فيما بينها ولم تعد الحروب العامة الكبرى في أجندة أحد . إنها العولمة .
هي عولمة بالفعل لكنها ليست رأسمالية طالما أن الرأسمالية لا تحيا إلاّ في الخلية الحية حيث يتواجد المركز والمحيط . فبالإضافة إلى التفاعلات الحيوية بين المركز والمحيط ، بين الإنتاج والإستهلاك حيث يشكل المحيط الرئة التي يتنفس من خلالها المركز ، فإن قومية المركز او تموضع المركز في أمة بعينها هو أمر حيوي لا غنى عنه للبنية الرأسمالية الإمبريالية التي تستند أساساً على القمع وقهر الشعوب سواء في وطنها أو في البلدان الأجنبية . فالأداة الوحيدة القادرة على ممارسة القمع والعدوان هي دولة الرأسمالية التي تشكل جهازا ضخما للشرطة المسلحة وظيفته قمع الطبقة العاملة في المركز وجيشاً لجباً مجهزاً بكل أصناف الأسلحة الهجومية لقهر شعوب المستعمرات وإضافة أسواق مستعمرات جديدة . بدون هذا الصنف من الدولة ، وهي دولة قومية بالضرورة ، لا يمكن للرأسمالية أن تنمو وتتقدم . مثل هذا الصنف من الدولة لم يعد قائماً في عالم اليوم وقد طواه التاريخ منذ عام 1974 بعد الحرب الفيتنامية مباشرة وحلّ محله ما غـدا يعرف بِ " دولة الرفاه " ( Welfare State ) . وليس إلاّ من باب التجني واللغو بلغة قديمة ميتة وصف الدولة في الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو فرنسا بالدولة الإستعمارية طالما أن الإستعمار قد باد وانقرض . فنحن نرى اليوم الولايات المتحدة الأميركية التي أدمنت على العدوان على شعوب البلدان الأخرى وكانت تجهد في التجسس على الجمهوريات السوفيتية وتقوم بمغامرات خطرة في سبيل ذلك ترفض اليوم رفضا قاطعاً إرسال قوات أميركية إلى كل من جورجيا وأذربيجان الجمهوريتين السوفييتين سابقا رغم إلحاح حكومتي هاتين الجمهوريتين على إستضافة القوات الأميركية على أراضيهما . كما أن الكونجرس الأميركي يضغط باستمرار على حكومته لسحب القوات الأميركية من البلقان ولا يؤجل انسحابها إلاّ ضغط مقابل تمارسه المجموعة الأوروبية . ولم تنسحب القوات الأميركية من فيتنام إلاّ بعد خسارة أكثر من خمس وخمسين ألف جندياً رغم الضغط الشعبي داخل الولايات المتحدة وخارجها بينما انسحبت هاربة من لبنان ومن الصومال بفعل خسارتها لبضع عشرات من الجنود بالرغم من (شرعية) وجودها في هذين البلدين . دولة العصر ليست دولة الرأسمالية بل " دولة الرفاه " . وما طبيعـة " دولة الرفاه " ؟
يزعم الكاتب الإنجليزي المعروف ، أستاذ السوسيولوجيا في جامعة كمبرج ، أنتوني جدنز ( Anthony Giddens ) ، يزعم أن " دولة الرفاه " ما هي إلاّ مصالحة أو تسوية ( Compromise ) بين اليمين أو الرأسماليين من طرف واليسار أو العمال من طـرف آخـر . لكنه لا يلبث أن يوافـق نظيره جون غراي ( John Gray ) على أن " دولة الرفاه " قد أصبحت بالفعل العربة التي تحمل مصالح الطبقة الوسطى المتورمة ؛ ثم يضيف .. إن ( المصالحة ) لم تـقع بين الرأسماليين والعمال مباشرة بل جاءت لتثبيت وترجيح القطاعات الوسطى ( Middle Sectors ) من المجتمع . من الواضح هنا أن جدنز يحرص على عدم الإعـتراف بأن " دولة الرفاه " هي دولة الطبقة الوسطى بالتحديد ؛ لكن أحداً لا يمكنه موافقة جدنز على أن الدولة تتشكل قبل أن تتشكل الطبقة التي تعبر تلك الدولة عن مصالحها ؛ ولماذا تقوم دولة معينة بتثبيت وترجيح طبقة أخرى غير طبقتها !! ثم يتحاشى جدنز أيضاً الإعتراف الكامل بأن الطبقة الوسطى هي طبقة اجتماعية متماسكة إزّاء الطبقات الأخرى ومحددة المصالح والأهداف فيفضل وصفها بِ " القطاعات الوسطى" من المجتمع مشيراً بذلـك ليس إلى الضعف البنيـوي للطبقة الوسطى فقط ، وهذا حـقيقي ، ولكن أيـضاً إلى غـياب تام لأي ربـاط بين قـطاعاتها المختـلفة وهـو ما تـعنيه كلمة " قـطاع " “ Sector “ بالتحديد وهذا غير حقيقي .
ليس ثمة أي خطأ في الحديث عن قطاعات مختلفة في طبقة الرأسماليين وكذلك في طبقة العمال ، فهؤلاء وأولئك ينقسمون عادة إلى قطاعات عديدة تحددها حقول الإنتاج الرأسمالي المختلفة ـ النسيج ، المعادن ، المكائن ، السيارات .. ألخ لكن ما يوحد هؤلاء وأولئك هو نمط الإنتاج ، الإنتاج السلعي الرأسمالي . القطاعات المختلفة في الطبقة الوسطى لها أيضاً نمط واحد للإنتاج وهو إنتاج الخدمات الفردي غير الرأسمالي ـ الأطباء ، المحامون ، المهندسون ، المعلمون ..ألخ ؛ ولما كانت الخدمات منتوجاً قابلا ً للتبادل وذا طبيعة مختلفة تماماً عن طبيعة السلعة الرأسمالية سواء في شكل الإنتاج أو في التبادل أو في الإستهلاك ، ووسيلة إنتاج ذات خصائص مغايرة تماماً لوسيلة إنتاج السلع الرأسمالية فليس ثمة من شك في أن ما سماها جدنز " القطاعات الوسطى من المجتمع " إنما تشكل طبقة واحدة متماسكة في مواجهة طبقتي العمال والرأسماليين وتلعب دوراً نشـطاً في تخريب النظام الرأسمالي وبالتالي تهديمه تماماً كما كانت قد لعبت دوراً رئيسياً في تخريب النظام الإشتراكي وتهديمه . وعليه فإن " دولة الرفاه " ، دولة الطبقة الوسطى ، هي النقيض العام لنمط الإنتاج الرأسمالي بطرفيه ، الرأسماليين والعمال ، وليست ، كما زعـم جدنز ، المصالحـة أو التسوية بين اليمين واليسار أو بين الرأسـماليين والعـمال .
ثمة اختلاف نوعي بين " دولة الرأسمالية " من جهة والتي على صورتها ومثالها تشكّلت الدولة في البلدان المتخلفة خلال فترة التمدد الإمبريالي و " دولة الرفاه Welfare State " التي تقوم اليوم في معظم بلدان العالم بما في ذلك البلدان الرأسمالية الأمبريالية سابقاً من جهة أخرى . ولعله من المدهش القول بأن دولة الرفاه قامت في الدول النامية قبل أن تتعرف عليها شعوب البلدان الرأسمالية المتقدمة رغم أن الدول الرأسمالية هي التي خلقت دولة الرفاه دون احتساب مخاطر ذلك . فتبعاً لنتيجة الحرب العالمية الثانية فشلت الدول الإمبريالية في مواجهة حركة التحرر الوطني العالمية فكان أن ضاق الخناق على الإمبريالية حتى النزع الأخير عام 1972 . إزّاء هذا المصير الذي بدا محتوماً اجتمع قادة الدول الإمبريالية الخمس الكبرى عام 1974 ليبحثوا عن أدوات مواجهة لم تعرف من قبل . فوجدوا أن إغراق دول جبهة التحرر الوطني ، دول العالم الثالث ، بطوفان من دولارات القروض السهلة كخطة لإغراق بناها الإقتصادية والإجتماعية هو السلاح الوحيد الفعال المتاح . وفعلاً تحقق لها ما أرادت بسبب أن الثورة الإشتراكية كانت قد بدأت بالتفسخ والانهيار . وغرق في هذا الطوفان الذهبي الطبقات الإنتاجية في المجتمعات النامية ، طبقة العمال وطبقة الفلاحين وطبقة الرأسمالية الوطنية وهي الطبقات الحاملة لمشروع " التنمية الوطنية المستقلة " الهدف الرئيسي لحركة التحرر الوطني . جرّاء تلك الجـريمة النكراء لم يبقَ على سـطوح المجـتمعات الغارقـة إلاّ " الطبقة الوسطى " بالطبع ، التي بحكم طبيعة إنتاجها لا تمتلك أي مشروع تنموي مستقبلي . وبحكم هذه الإعاقة الخلقية للطبقة الوسطي من جهة وتبريراً لبقائها وحيدة على السطح من جهة أخرى قامت بتشكيل دولتها حسب قوانينها المطابقة لمتطلبات الدول الرأسمالية الدائنة والتي عرفت بِ " دولة الرفاه " ، الدولة التي تستدين لتنفق ثم تستدين أكثر لتنفق أكثر . وهـكذا قامت دولة الطبقة الوسطى بوظيفتها الأسـاسية والوحـيدة وهي تعـميم الحـياة الإستهلاكية المفتوحـة) ( Consumerism وما تقتضيه من توسيع لإنتاج الخدمات ، الإنتاج الوحيد للطبقة الوسطى حصراً . القيام بهذه الوظيفة هو بالتأكيد خيانة لثورة التحرر الوطني ومشروع التنمية المستقلة والإرتداد عليهما وهو غاية الدول الرأسمالية الكبرى صاحبة مشروع الإغراق الذهبي .
قبل أن تقوم دولة الرفاه أو دولة الطبقة الوسطى في بلدان العالم الثالث ، عرفت بلدان العالم الثاني ، البلدان الاشتراكية ، هذا الطراز من الدولة ، دولة الطبقة الوسطى . ففي عهد خروتشوف 1954- 1964 تحول الحزب الشيوعي السوفياتي من حزبٍ للطبقة العاملة إلى حزب للطبقة الوسطى وقد تجلّى ذلك بوضوح تام في طرد البلاشفة القدامى من المكتب السياسي للحزب عام 1957 ، وقد شكّلوا أكثر من نصف عدد أعضائه آنذاك ، واكتمل ذلك التحول بإعلان خروتشوف من على منبر المؤتمر الحادي والعشرين الإستثنائي للحزب عام 1959 إلغاء دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بِ " دولة الشعب كله " وهو الاسم الأثير لدى البورجوازية بكل أطيافها . لقد تيسر ذلك الإنقلاب بفعل الحرب الطويلة الشرسة التي خاضتها الشعوب السوفياتية ضد العدوان النازي الهتلري بطبقتيها ، العمال والطبقة الوسطى والفلاحون من ضمنها ، وحتّم ذلك على الحزب إيقاف سياسة الصراع الطبقي منذ أن بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق عام 1938 إثر مؤتمر ميونخ مباشرة . ومما يجدر ذكره هنا لدلالته هو أن خروتشوف قام بهذا الإنقلاب الرجعي تحت شعار .. " إذا لم تكن الإشتراكية لخير الشعب فلماذا الإشتراكية ؟ " وشعار .. " نحو مزيد من إنتاج السلع الإستهلاكية " ـ روح الطبقة الوسطى تتجسد في ذينك الشعارين . كما أن إفـلاس الطبقة الوسطى بدا جلـيّاً فيما بعد الإنقلاب حيث لم تعد الشعوب السوفياتية تجد حاجاتها الضرورية في مراكز التموين في حين خصصت ميزانيات ضخمة لإنتاج أجيال جديدة من الأسلحة
أما ظهور دولة الطبقة الوسطى في البلدان الرأسمالية المتقدمة فهو مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالإنقلابات التي حدثت في مجتمعات الدول النامية وفي مجتمعات الدول الاشتراكية أيضاً . فسياسة إغراق بلدان العالم الثالث بالطوفان الذهبي من قبل الدول الرأسمالية الكبرى كانت تعني بالجوهر تخـلّي النظام الرأسمالي عن الدماء التي تبث فيه الحياة . فخلال خمس سنوات فقط 1975- 1980 أُستنزف النظام الرأسمالي العالمي بحوالي ألفي مليار دولارا . هذا وحده كافٍ لتهديم النظام من أساسه طالما أن هذا الأساس هو الربح وتركيم الأموال من خلال ضبط الإنفاق من جهة وتعظيم الإنتاج من جهة أخرى . كما أن النتائج النهائية لمؤامرة الإغراق الذهبي والمتمثلة بإغراق وخنق البنى الإنتاجية المستقلة في الدول النامية قضت نهائياً على أي قدرة لهذه الدول في امتصاص أي قدر من فائض الإنتاج في المراكز الرأسمالية . أضف إلى ذلك أن الحياة الإستهلاكية التي أسست لها سياسة الإغراق الذهبي برهنت على أنها مارد أطلقه غبي من قمقمه وتعذّر على كل النجباء إعادته إلى القمقم بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وعلى رأس هؤلاء جميعاً منظمة السبعة الكبار ( G 7 ) . عندما ينهار النظام الرأسمالي بهذا الشكل أي بدون ثورة اشتراكية تقوم بها الطبقة العاملة فذلك يعني ، وكما استدرك ماركس ، أن تنكمش الطبقة العاملة وتتراجـع وهو ما حـصل في البلدان الرأسمالية المتقدمة أيضاً . التناقض الرئيسي والأساسي في النظام الرأسمالي ، رأسماليون / عمال ، لم يعد يلعب الدور الرئيسي في هذه البلدان ، وعلى المسرح الدولي بالتالي . لقد خلا المسرح تماما من الرأسماليين ومن العمال فكان أن تسنّى للطبقة الوسطى أن تعلوه وحيدة لتلعب الدور الذي يروق لها وهو الدور الذي رغم تفاهته تزينه للنظارة بتوزيع قطع الحلوى عليهم . إنها تنتج الخدمات بصورة واسعة متعددة الألوان وتوزعها بيسر وسهولة على الشعب كل الشعب ليحصل الجميع على التعليم والعناية الصحية والأمن والتنقل والإتصالات والإعلام وغيرها وغيرها . إنه لمن سوء حظ البشرية جمعاء أن الشعوب وفي طليعتها الطبقات الكادحة لم تكتشف بعد تفاهة وزيف الدور الذي تمثله الطبقة الوسطى وأنها بالنهاية سوف تدفع ودون أن تشـعر ثمناً باهـظاً لقاء هذه الخـدمات . لقد أقامت الطبقات الوسطى دولها الخاصة بها في كافة البلدان الرأسمالية المتقدمة وأخذت هذه الدول تنفق بغير حساب حتى أنها راكمت ديوناً على شعوبها لا تستطيع تحملها وتصل إلى آلاف المليارات
الوجود البشري يقوم أساساً على الإنتاج السلعي ( الغذاء والكساء والدواء والإيواء ) ، أما تحسين نوعية الحياة فيعتمد على إنتاج الخدمات بالإضافة إلى السلع ( التعليم والتربية والعناية الصحية والأمن والإتصالات ) . القضية الصعبة والمعقدة التي تطرحها هاتان الحقيقتان هي تحديد النسبة بين السلع التي يستهلكها الفرد المعتدل في مجتمع معيّن من طرف وبين الخدمات من طرف آخر . ليس صعباً تحديد السلع والخدمات التي يستهلكها مثل هذا الفرد ؛ لكن ونحن نستطيع معرفة قيمة هذه السلع يستحيل علينا معرفة القيمة الحقيقية للخدمات . يتم عادة التبادل بين السلع والخدمات بالإعتماد على الأسعار المعلنة لكل منهما . الأسعار المعلنة للسلع تؤشر دائماً بقوة على قيمتها الرأسمالية مع تذبذب بسيط ، أما أسعار الخدمات المعلنة فهي لا تؤشر بشكل من الأشكال على قيمتها الحقيقية إذ أن الخدمات لا تخضع لقانون القيمة الرأسمالي وذلك ببساطة لأن الخدمات لا يتم إنتاجها بالأسلوب الرأسمالي بل بالأسلوب الفردي . يتم إنتاج الخدمة بصورة عامة بدون توظيف رؤوس أموال تذكر وبدون تشغيل أدوات إنتاج ذات شأن وبدون مواد خام وحتى بدون أجور ، أي أجور خاضعة لشروط سوق العمل ؛ وكل هذا يعني أن كلفة الخدمة ليست أكثر من قيمة الجهد المبذول في إنتاجها . إلاّ أن الواقع يقول أن سعر الخدمة يساوي أضعاف قيمة الجهد اللازم لإنتاجها ؛ ونتيجة لذلك يهرب العاملون في قطاع إنتاج السلع إلى قطاع إنتاج الخدمات الأمر الذي أدى ، من بين أمور أخرى ، إلى تدهور نظام الإنتاج الرأسمالي وانهياره بالتالي . فليس من المعقول وصف الإقتصاد الأميركي اليوم بالإقتصاد الرأسمالي في حين أن 80% منه يعمل بأسلوب غير رأسسمالي وينتج الخدمات .
ثمة من يزعم أن أسلوب إنتاج الخدمات هو أيضاً أسلوب رأسمالي . مقارنة بسيطة بين الأسلوبين من شأنها أن توضح الإختلاف النوعي بينهما . ولنأخذ مثالاً على ذلك مصنعاً للأحذية وهو يعمل بأسلوب رأسمالي من جهة وبين شركة تأمين أو مصرف ( بنك ) وكلاهما يعمل بأسلوب غير رأسمالي وينتج الخدمات من جهة أخرى بافتراض أن الطرفين تأسسا بنفس رأس المال ويعمل فيهما نفس العدد من العاملين ـ
أ ـ مصنع الأحذية ينفق معظم رأسماله على المكان والمكائن ومواد الخام وأجور العمال قبل أن يتمكن من أن يعرض إنتاجه في السوق ليحوله إلى نقد مرة أخرى . في حين أن شركة التأمين أو البنك لا ينفقان جزءا ًيذكر من رأس المال قبل أن يباشرا في قبض وارداتهما من النقود . وهما في العادة يربطان الجزء الأكبر من رأس المال في البنوك بالفائدة .
ب ـ مصنع الأحذية ينتج سلعاً يعرضها في السوق . أما شركة التأمين أو البنك فإنهما لا ينتجان شيئاً ؛ فشركة التأمين تبيع خدمة تتمثل بسلامة الشيء المؤمن عليه ، السلامة التي لا علاقة لشركة التأمين بها من قريب أو بعيد حيث أن وقوع الأخطار لا تمنعهه أو تعوّقـه بأي حال من الأحوال شركة التأمين أو العاملون فيها
كما أن البنك يتعامل بالربا بزعم أنه ( يبيع ) التنمية التي يقوم بها أناس آخرون لا يعرفهم البنك على الإطلاق .
ج ـ الأرباح التي يحققها مصنع الأحذية هي أصلاً مجموع المبالغ المقتطعة من القيمة الحقيقية لأجور العمال أو ( فائض القيمة ) دون أدنى زيادة أخرى . أما شركة التأمين فأرباحها تتحقق من أقساط التأمين التي يدفعها عملاء الشركة ، كما أن البنك يحقق أرباحه بصفته مرابياً . من هنا نجد أن العاملين في شركات التأمين والبنوك وفي كثير من المؤسسات الخدمية الأخرى يتقاضون أجوراً أعلى بكثير من المعدل العام للأجور . ومع ذلك فإن هذه المؤسسات تحقق أرباحاً أكثر بكثير مما تحققه المصانع . وهنا تبرز حقيقة علمية في غاية الأهمية في علم الإقتصاد وهي أن الخدمة لا تحمل في قيمتها التبادلية أي فائض للقيمة الذي هو لب وروح أسـلوب الإنتاج الرأسمالي ، ولا أية حـدود للقيمة الحقيقيـة أو الكلفة وهو ما يعني أن الخدمـة لا تخـضع لقانون القيمة الرأسـمالي أي أنها ليست منتوجاً رأسمالياً .

قانون القيمة وسوق ما بعد الرأسمالية ( العولمة )
مثلما تبحـث الطيور عن مكان خـاص تحكمه شروط معينة لتعشش فيه وتتوالد ، كذلك تبحث الرساميل عن مكانها الخاص لتتوالد فيه . في السوق فقط تنجب الرساميل أبناءها الرساميل الذين يضمنون وحدهم استمرار النظام الرأسمالي ويعيدون الكرّة في عملية إنتاج الرأسمالية . في السوق فقط تتحول المنتوجات الرأسـمالية من السـلع إلى نقد M ) – (M - C هذه العملية التي بدونها لا يتحقـق " فائض القيمة " وهو الربح الذي هو هدف وغاية العملية الإنتاجية الرأسمالية من ألفها إلى يائها . الشـرط العـام الذي تتفرع منه سـائر الشـروط الأخـرى التي تحـكم السـوق هو " قانون القيمة " . وقانون القيمة كما هو معروف يقول بأن قيمة السلعة وقبل أن تدخل السوق لتتحول إلى نقد تساوي الكلفة الإجتماعية لإعادة إنتاج نفس كمية االشغل المختزن فيها أو التي تطلبها إنتاجها . لكن بعد أن تدخل السوق لتتحـول إلى نقد فإنها تخضع ولو بمقدار لقوانين السـوق التي أهـمها بالطبـع " العرض " ومن أولى مواده مقدارالكمية المعروضة من نفس السسلعة ثم مظهر السلعة ومكان عرضها ودعايتها ، ويقابل قانون العرض قانون الطلب ومن أولى مواده مقدار الكمية المطلوبة للمجتمع من نفس السلعة ثم قيمتها الإستعمالية والقطاع الذي تخاطبه من المجتمع وقدرته الشرائية . قوانين السوق تحدد " القيمة التبادلية " للسلعة ( Exchange Value ) هذه القيمة التي لا بدّ لها أن تتجه إلى التعادل مع قيمتها قبل دخولها السوق أو كلفة إنتاجها(Production Value ) بحيث لا تنحرف عنها إلاّ بمقدار . هذه هي السوق الرأسمالية التي تلد الرأسمالية وتعيد إنتاجها .
درج الإقتصاديون والباحثون في الإقتصاد السياسي على اعتبار إنتاج االخدمة مثله مثل إنتاج السلعة ، جوهرهما واحد ويخضعان لنفس القوانين في السوق بل وفيما قبل السوق . لا يجوز القفز عن دقائق الأمور العلمية بهذه الصورة الفظة وخاصة إذا كان لهذه الدقائق تداعيات هامة جداً في تشكيل المجتمع وفي تطوّره . ولا يمكن تعليل مثل هذا القفز غير المعقول إلاّ بأغراض مشبوهة ترمي إلى سرقة الطبقة العاملة والتحايل عليها لنهب جزءٍ هام من إنتاجها . فإنتاج الخدمة ينحو باستمرار إلى أن يكون إنتاجاً فردياً حتى وفي حالة تجميعه أو مأسسته . فطالما أن تقسيم العمل فيه يظل كاملا أو شبه كامل فإن طبيعته تبقى فرديـةً بورجوازيةً . كما أن إنتاج الخدمة لا يتم عادةً إلاّ عند استهلاكها وبهذا فهي لا تدخـل السـوق بتاتاً ولا تخـضع لقانـون العـرض بـكل مـواده مما ينجـم عنه فـقدان الخـدمة لقوتها " الصنمية " ( Fetichism ) التي للسلعة في السوق فتنقطع بذلك كل علاقة قيمية بينها وبين سـائر السلع المعروضة وتفقد بالنتيجة أي قيمة تبادليـة وهي القيمة التي تحـددها السوق في حالة السـلع . وكنتيجة لذلـك لا يتم مبادلـة الخدمة وفقا لدورة السلع الرأسمالية من خـلال السـوق وحسب القيمة التبادليـة ( Exchange Value ) ( نقود ـ سلعة ـ نقود ،M- C- M ) محققة فائض القيمة (Surplus Value ) بل تجري مبادلتها عادة مباشرة بين المنتج والمستهلك في مكان إنتاجها أو مكان استهلاكها وبذلك يتحدد سعرها من خلال صفقة غير محكومة بشروط ثابتة محددة . قد تلعب بعض العوامل دوراً ثانوياً في إجمال قيمة الصفقة من مثل المنفعة المتوخاة من الخدمة أو مكان إنتاجها أو استهلاكها ومن مثل يسـر الحـصول على مثيلتها أو يسـر أو عسر الحـال لـكل من المنتـج والمسـتهلك إلاّ أن كلفـة إنتاجـها( Production Value ) أو إعادة إنتاجـها وقيمتها التبادلية أيضاً المعروفتين تماماً في دورة الإنتاج الرأسمالي تظـلان غائـبتين ومبهمتين . كان ماركس قد لاحـظ بحـق أن الإنـتاج اليـدوي ما قـبل الرأسـمالي ، المانيفاكتورة ، إنـطوى على شـغل ذهـني ( Mental Labour ) أكثر مما عليه حال الإنتاج الرأسمالي المرتكز على الشغل اليدوي ( Manual Labour ) والذي اختزل العقلانية والمعرفة في أدوات الإنتاج نفسها ، المصانع والماكينات ، بخلاف آلات الإنتاج اليدوي التي كانت في غاية البساطة والتركيب . لكن ، وللأسف الشديد ، لم يدر في خلد ماركس ، أو غير ماركس ، أن النظام الرأسمالي الذي كان قد حقق تقدماً مجليّاً في العالم كله خلال القرن التاسع عشر سوف ينهار بعد قرن طويل لجهة أخرى غير جهة النظام الإشتراكي علما بأن أحد افتراضات الفلسفة الماركسية ( المادية الديالكتيكية ) يقول بإمكانية انهيار النقيضين الرئيسيين في الوحدة الواحدة لتبقى هذه الوحدة مجهولة المحتوى ، مجهولة المصير . وعالم اليوم في رحلة خارج التاريخ مجهولة المصير إثر انهيار النقيضين الرئيسيين في النظام العالمي اللذين تبلورا بشكل صارخ بنتيجة الحرب العالمية الثانية ، الرأسمالية/الإشتراكية . لذلك لم يلقِ ماركس بالاً إلى دراسة الفروقات التشريحية بين بنية السلعة وهي المنتوج الرأسمالي وبنية الخدمة وهي منتوج فردي بورجوازي ، ولا إلى دراسة عناصر ومكونات قيمة الخدمة . انهار الإنتاج الرأسمالي بكل بنائه الضخم لجهة الإنتاج الفردي البورجوازي ألا وهو إنتاج الخدمات ، حصة الطبقة الوسطى في تقسيم العمل الإجتماعي ، ولم يبقَ منه بالمتوسط في الدول ( الرأسمالية ) المتقدمة إلاّ ربع مجمل الإنتاج الوطني . وبناءً على هذه الحقيقة الصارخة ، عبثاً يحاول الدارسون للنظام العالمي الجديد الخلوص إلى نتائج علمية حقيقية صحيحة دون الوصول إلى المعايير القائمة التي تحكم اليوم مبادلة الخدمة بالسلعة . لن يجرؤ أحد على الإدعاء بأن مثل هذه المبادلة تتم وفق قانون القيمة الرأسمالي طالما أن قيمة الخدمة لا تقاس أبداً بكمية الشغل اللازم لإنتاجها كما هو أمر السلع . من المتعارف عليه أن الخدمة تباع بسعر يتناسب طردياً مع كمية ونوع المعرفة التي يتم من خلالها إنتاجها ، ولا تلعب كمية الشغل اللازم لإنتاجها إلاّ دوراً ثانوياً تماماً . فالطبيب والمهندس والمحامي والسمسار والخادم يتقاضون أجوراً تتناسب في الظاهر مع معارفهم ببعديها الكمي والنوعي . والسؤال المفصلي هنا هو : ما هي العوامل التي تشكل قيمة هذه المعرفة أو تلك ؟؟ هل هي كلفة إعـادة إنتاجها كما لو أن المعرفة سلعة معروضة في السوق الرأسمالية ؟؟ قطعاً ليس الأمر على هذا النحو فالمعرفة ليست سلعة يفقد منتجها كلفة إنتاجها حال بيعها أو استهلاكها كما أنها ليست معروضة في السوق . يجـهد هـذه الأيـام صندوق النقد الدولـي ومنظمة التجـارة العالميـة ( WTO ) إلى أن يجعلا من المعرفة سلعة مثل سائر السلع الرأسمالية ؛ وهما في سبيل ذلك يلجئان إلى فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي ترفض الإعتراف بما اصطلحت هاتان المنظمتان على تسميته بِ ( حق الملكية الفكرية ) . غير أن الدول القوية التي تستطيع تجاهل مثل هذه العقوبات ترفض الإعتراف بمثل هذا ( الحق البورجوازي ) منطلقة من الحق الطبيعي المعروف القائل بأن المعرفة أية كانت طبيعتها هي ملك للبشرية كلها منذ لحظة اكتشافها أو التوصل إليها . ولماذا يكون لمكتشف معرفة بعينها حق منفرد بامتلاكها طالما أنه ما كان ليكتشفها لولا أن استخدم في سبيل ذلك مجمل معارف البشرية التي راكمتها طيلة تاريخها الطويل دون أن يتكلف بأي ثمن ؟ لو كان للمعرفة قيمة سلعية تحملها في ذاتها وبصورة مستقلة لما اضطرت منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي إلى اللجوء لإجراءات قسرية لبيعها وتسويقها ولاشتراها الناس من تلقاء أنفسهم ـ وهل يدفع منتجو المعدات والأجهزة الكهربائية أية رسوم أو عوائد لبنيامين فرانكلن مكتشف الكهرباء ولورثته ؟ يستدل من هنا أن المعرفة تخضع للحقوق الطبيعية للناس ، كل الناس . لكن طالما أن المعرفة مشاع في كل الظروف والأحوال فلماذا إذاً تكون الخدمة المعتمدة على المعرفة المكثفة أعلى سعراً من تلك المعتمدة على المعرفة غير المكثفة ؟ في هذا الجانب فقط تشترك الخدمة مع السلعة لتكون كلفة إعادة إنتاجها دالة عامة على قيمتها ، بل على درجة قيمتها بين قيم الخدمات الأخرى دون السلع . ومع ذلك فإن كلفة إعادة الإنتاج تبقى هي المعيار غير المعيّر . فهل يدفع متلقي المعرفة ثمناً للمعرفة المتلقاة ؟ الجواب بالنفي طبعاً . قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الرسوم التي تتقاضاها بعض المدارس والجامعات إنما هي ثمن المعرفة التي يتلقاها التلميذ . إلاّ أن هذا غير صحيح أبداً ؛ قد تسد الرسوم التي يدفعها التلامذة أجور الأبنية والإدارة والتوجيه وقد تعطي حتى بعض الأرباح لكنها ليست في حال من الأحوال ثمناً للمعرفة المتلقاة طالما أن المدرسة أو الجامعة كانت قد ورثت معارفها من الأجيال الغابرة دون مقابل .
من كل ما تـقدم يـمكن القول بكل موضوعيـة أن الخدمـة ، وهي المعتمد إنتاجها عـلى المعـرفة والعمـل الذهـني ، لا ترتـبط بقانون القيمـة ( Law Of Value ) ولا تخـضع له بصورة ملموسة ؛ كما أنها تفتقد القيمة التبادلية ( Exchange Value) المحددة . وهكذا نعود إلى السؤال المعضلة المفروض أساساً من قبل التناقض بين العمل اليدوي والعمل الذهني ـ على أي أساس إذاً يتم التبادل بين الخدمات من جهة والسلع من جهة أخرى ؟
لما كانت الخدمـة لا تخـضع عموماً لقانـون القيمـة أو قيمـة الإنـتاج ( Production Value ) ولا تمتلك القيمة التبادلية المعروفة فلا بدّ إذاً أن تجري مبادلتها بشكل تعسفي أي بشروط وقيم يفرضها " المتعسف " ، والمتعسف هنا هو بالطبع صاحب السلطة أو الطبقة الحاكمة . وللتدليل على ذلك يتوجب ملاحظة الشروط والقيم المتباينة لمبادلة الخدمات بالسلع في ثلاثة مجتمعات مختلفة ذات سلطات متعارضة :
1. المجتمع الرأسمالي حيث يسود الإنتاج السلعي وفيه يحرص الرأسماليون على تنمية الخدمات ضمن الحدود اللازمة لخدمة دورة الإنتاج الرأسمالي وليس أكثر من ذلك . وعليه تتواجد الطبقة الوسطى منتجة الخدمات على مساحة ضيقة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة . ولأن الطبقة الوسطى في هذه المجتمعات تشكل بخدماتها عاملاً ضرورياً وفعالاً في تمكين الرأسماليين من استغلال الطبقة العاملة فلعلها تنال حصة ( عادلة ) من عوائد العملية الإنتاجية الرأسمالية مع حرص الرأسماليين ألاّ يشكل ذلك عبئاً على منتوجاتهم في الأسواق فيعيق رواجها واستهلاكها ولذلك تبقى الطبقة الوسطى في المجتمعات الرأسمالية رقيقة هشّـة وذليلة مأجورة .
2. المجتمع الإشتراكي الذي لم نعرفه إلاّ في الإتحاد السوفياتي . بدأت الإشتراكية في روسيا المتخلفة في التنمية الرأسمالية مما حتم على السلطة السوفياتية أن تنفتح على الطبقة الوسطى بقصد التوسع في إنتاج الخدمات المختلفة التي بدونها لا يمكن تحويل جماهير الفلاحين الغفيرة غير المتعلمة وغير المدربة إلى عمال قادرين على التعامل مع أدوات الإنتاج المتطورة . لكن السلطة السوفياتية مع ذلـك لم تعطِ الطبقة الوسطى التي تضاعفت مساحتها عشرات المرات في عهدها ، لم تعطها من عوائد الإنتاج الإشتراكي نصيباً (مقبولاً) الأمر الذي أدى بالتالي إلى انهيار التجربة الإشتراكية .
3. مجتمع الطبقة الوسطى تشكل بعد انهيار نظام الإنتاج الرأسمالي في مراكز الإمبريالية الكلاسيكية وتوابعها وانهيار التجربة الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي والبلدان الأخرى المصطفة وراءه . دولة الطبقة الوسطى أو دولة الرفاه لا تستطيع أن تجد تبريراً لدوام إمساكها بزمام السلطة سوى أن تقنع شعبها بالإسترخاء على فرشة وثيرة من الخدمات ؛ ومن طبائع الأمور أن تتنامى كل طبقة من خلال تنمية نموذجها الخاص من الإنتاج . ولا يتأتى هذا إلاّ عن طريق فرض مكافئات مجزية لمنتجي الخدمات . وهكذا أصبح منتجو السلع في مجتمعات الطبقة الوسطى هم فقراء المجتمع . تهمشت إلى حد كبير الطبقة العاملة وأخذ خطر البطالة يتهدد حياتها على عكس منتجي الخدمات الضرورية وغير الضرورية الذين يتكاثرون كالفطر وينعمون بحياة رغيدة .
ولو مثلنا هذه التباينات الثلاثة بالأرقام لأمكننا القول بأن نسبة أجر منتج الخدمات في المجتمع الرأسمالي إلى منتج السلع هي ما بين 150ـ 200% وفي المجتمع الإشتراكي ما بين 100ـ 150% ، أما في مجتمعات الطبقة الوسطى فهي تصل إلى ما بين 250ـ 500% بل وفي حالات كثيرة تتجاوز الخمسين ضعفاً . يترتب على ضوء هذه النسب الخلوص إلى أن القيم التبادلية للخدمات تتحدد بصورة تعسفية من قبل نظام الإنتاج السائد والطبقة أو السلطة الحاكمة . ولكل طبقة فلسفتها الخاصة في تبرير مثل هذا التعسف . فالرأسماليون يدركون تماماً أن منتجي الخدمات هم بالنهاية معاونون لهم على استغلال الطبقة العاملة وعليهم بذلك رشوتهم . أما الطبقوسطيون فإنهم يجادلون بأن التنمية البشرية والتطور الإنساني إنما يرتكزان على استهلاك المزيد من الخدمات . إلاّ أن الإشتراكيين الشيوعيين ، وهم يحاربون الرأسماليين واستغلالهم للطبقة العاملة ويعترفون من جهة أخرى بضرورة الخدمات في العملية الإنتاجية ، يؤكدون أن الإنتاج المادي هو الرحم الذي تتخلق فيه المعارف بشتى أشكالها وألوانها وفيه أيضاً تنمو وتتطور ، وهو بالتالي المسؤول الأول والأخير عن تطوير أسلوب إنتاج الخدمات نوعاً وكماً ؛ ثم يدللون بأن الجائع يبحث أولا عن عمل يوفر له الخبز قبل أن يفكر بلعب الرياضة أو سماع الموسيقى أو حتى الذهاب إلى المدرسة للتعلم .
اليوم وقد تهاوى الرأسماليون في كافة مراكز الرأسمالية ، وانهزم الإشتراكيون اللينينيون في الإتحاد السوفياتي وكافة الدول الإشتراكية الأخرى ، اليوم آلت السلطات كل السلطات وفي جميع أرجاء المعمورة إلى الطبقة الوسطى ؛ وبغياب قوى الإنتاج الأصيلة تشكلت الظروف التي تسمح لهذه الطبقة المارقة لأن تتعسف وتستبيح وسائل الإنتاج الرأسمالية والإشتراكية على حدٍ سواء وتقيم على أثرها وسائل الإنتاج الخاصة بها والتي تنتج الخدمات وتجعل من هذه الوسائل كعبة تحج إليها كل شعوب الأرض .
على ضوء كل ما تقدم نستطيع أن ندرك أن سوق اليوم ليست هي سوق الأمس وأن قانون القيمة لم يعد يعمل كما كان يعمل بالأمس . سوق السلع ضمرت وقل روادها وأخذ الناس يشترون من الخدمات ومن خارج السوق ما يعادل أضعاف ما يشترونه من السلع من السوق ، ثم يُزعم أن هكذا يجب أن تكون الحياة العصرية ، وأن ثمة طريقاً ثالثة تنفتح أمام البشرية تنتهي إلى ما تصفه البورجوازية بِ " العدالة الإجتماعية " إلاّ أنها في الحقيقة خروج أحمق كارثي عن مسار التاريخ .
في سيادة الطبقة الوسطى بوسائل إنتاجها الخدمية الخاصة بها تواجه الشعوب جميعها اليوم تناقضاً آنياً متسارع الخطورة وهو التناقض الذي سوف يتقرر بناء على سرعة وشكل حله مصير العالم . إنه التناقض الذي حملته معها وفي بنيتها الطبقة الوسطى والذي يشكل اليوم بناء على هذه السيادة التناقض الرئيسي الذي يلعب الدور الأول على المسرح العالمي . إنه التناقض بين إنتاج الخدمات وإنتاج السلع أو البضائع . عاشت الطبقة الوسطى هذا التناقض طيلة تاريخها الموغل في القدم ، لكنه كان على الدوام تناقضاً ثانوياً يتعيّن مساره تبعاً للنظام الإجتماعي القائم إن في النظام العبودي أو الإقطاعي أو الرأسمالي . أما في المجتمع الإشتراكي المتقدم نحو إلغاء الطبقة الوسطى بوسائل إننتاجها بعد أن تم التخلص من دائرة الإنتاج الرأسمالي وطواغيتها طفا هذا التناقض على السطح وأخذ يلعب دوراً رئيسياً في حياة المجتمع . ويكفي أن نذكر في هذا السياق الثورة الزراعية 29ـ1931 التي خاضها الحزب الشيوعي السـوفياتي ضد الفلاحـين وأسلوب إنتاجـهم الذي يحمل في أحشائه الطابع البورجوازي ، وكذلك حـملات التطهير ضد الشرائح العليا في الإدارة وفي الدولة خلال سـنيّ الثلاثينات . العدوان النازي المدمر على البلاد السوفياتية أدى مباشرة إلى وقف الصراع المباشر الذي قاده الحزب ضد الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها وقفاً تاماً ونهائياً الأمر الذي قاد في نهاية الخمسينات إلى أن تحقق الطبقة الوسطى انتصاراً حاسماً على الطبقة العاملة السوفياتية . إذّاك بدأ الإتحاد السـوفياتي بالسقوط . نعود إلى التذكير بكل هذا كيما نوضح حقيقة هامة لا يجوز تجاوزها من قبل مختلف الدارسين للتاريخ وللعلاقات الإجتماعية وهي أن التناقض بين الطبقة الوسطى بأسلوب إنتاجها البورجوازي وبين الطبقة الإجتماعية المقابلة وهي هنا البروليتاريا بأسلوب إنتاجها الإشتراكي هذا التناقض قد غدا ولأول مرة في التاريخ تناقضاً رئيسياً تلعب في ظلاله سائر التناقضات الأخرى .
ربّ من يقول أن التناقض بين الإنتاج الخدمي والإنتاج السلعي لن ينتهي ولن ينحل طالما أنه نابع أساساً من التناقض الأبدي بين أدوات الإنتاج من جهة والإنسان من جهة أخرى ، بين الشغل والوعي ، بين العمل اليدوي والعمـل الذهني . في هذا القول قدر كبير من الحقيقة لكن ليس الحقيقة كلها . فالشغل والمعرفة هما نقيضان ديالكتيكيان في وحدة واحدة لا يجوز فصمها وبخلاف ذلك لا يعود الشغل شغلاً ولا المعرفة معرفة . إنهما يتناميان فقط من خلال تحاورهما ديالكتيكياً وهذا لا يتم إلاّ إذا تواجدا في ذات الوحدة . ما تزعم الطبقة الوسطى أنها تستطيع تحقيقه هو فصل المعرفة عن الشغل بإدعاء أنها هي وحدها من ينتج المعرفة ، أما الشغل فهو حصة الطبقة العاملة واختصاصها . ليس هذا إلاّ تشويه خبيث للحقيقة . فالشغل والمعرفة المرتبطة بالوعي والمنبثقة عنه هما نقيضان ديالكتيكيان في وحدة واحدة غير قابلين للفصل . ولهذا فهما كلاهما من حصة الطبقة العاملة واختصاصها . والثورة التقنية الحديثة إنما ولدت من رحم الإنتاج الصناعي الرأسمالي وليس من وسـائل الإنتاج اليدوي الفردي البورجوازي ( المانيفاكتورة ) الذي كان فيما قبل الرأسمالية بنقاباته المهنية ( Guilds ) . الطبقة الوسطى الحديثة التي حلت محل النقابات المهنية القديمة في التراتب الطبقي الرأسمالي تسرق المعرفة من الطبقة العاملة ثم تعيدها أسلوباً جديداً إضافياً تبيعه للرأسماليين يساعدهم في زيادة استغلال الطبقة العاملة . واليوم هي تبرع في مبادلة تقنياتها لكلتا الطبقتين المنهارتين ، الرأسماليين والعمال ، لكن بأثمان تتجاوز كل حد معقول . إنها بذلك تقضي على كل أساليب الإنتاج المادي والتي نراها اليوم تتدهور جارفة معها بالطبع كل كينونة للمجتمعات البشرية . مجتمعات الطبقة الوسطى القائمة اليوم في كل أرجاء المعمورة هي بالضبط الجرف المتهاوي إلى الفناء والعدمية .
لما كان أسلوب الإنتاج هو ما يعيّن طبيعة وهوية النظام الإجتماعي فليس لأحدٍ أن يدّعي بأن النظام العالمي القائم اليوم هو نظام رأسمالي طالما أن الإنتاج الرأسمالي الحقيقي لا يغطي بالمتوسط في جميع الدول الرأسمالية الكلاسيكية أكثر من 20% من مجمل إنتاجها وأن إنتاج الخدمات الذي لا يتم بالأسلوب الرأسمالي بحال من الأحوال يغطي أكثر من 70% منه . ولا يمكن الإدعاء بأنه نظام رأسمالي بينما تحاصر ( سوق ) الخدمات سوق السلع وتخنقها فلا تجد متنفساً يعيد إليها بعض العافية ، بل تفتك بها ، تفترسها بوحشية فظيعة . كما أن " قانون القيمة ، Law Of Value " وهو القانون الذي يقوم مقام الحبل السري للنظام الرأسمالي لم يعد يعمل مع أكثر من 70% من مجمل الإنتاج وهو الخدمات . وزيادة على ذلك فإن الأزمة الدورية التي كانت تمسك بخناق النظام الرأسمالي من وقت إلى آخر ـ وآخرها أزمة 1971ـ 1974 والتي أتت عليه ـ لم تعد من ذات طبيعة الأزمة الماثلة اليوم . كانت أزمات الرأسـمالية تتمثل باختناق السوق الوطنية بالسلع الكاسدة ؛ أما اليوم فالأزمة تقوم باتجاه معاكس أي بانحسار السلع في الأسواق بنتيجة المبادلة الجائرة مع الخدمات حتى بتنا نرى ركوداً إقتصادياً في ظل جفاف سلعي في الأسواق وتنامي الواردات من السلع الأجنبية المختلفة من الخارج كما هو حال السوق الأمريكية والبريطانية وغيرهما . مثل هذه الظاهرة الجديدة لا يمكن لها أن تكون من فعل الإنتاج الرأسمالي الكثيف والمتوسع دون انقطاع .
إنـتاج الطبقة الوسـطى الرديء استطاع بمساعدة طواغيت الإمبريالية الحاقدين على طلائعي ثورة التحرر الوطني العالمية ومشاريعهم الوطنية الإستقلالية من طرف ، وحماة نموذج الإنتاج الفردي البورجوازي في الإتحاد السوفياتي والبلدان الإشتراكية من طرف آخر ، استطاع أن يطرد الإنتاج الرأسمالي الجيد من السوق ، مثلما يطرد النقد الرديء النقد الجيد . وهكذا غدت الأسواق الوطنية للبلدان الرأسمالية أسواقا غير مناسبة إطلاقا للإنتاج الرأسمالي السلعي ، فيها تُعتصر السلع حتى الرمق الأخير لصالح الخدمات . وتحرص الطبقة الوسطى بالحفاظ على ذراع الميزان مائلاً بهذا المقدار خوفاً من هروب الإنتاج السلعي الرأسمالي كليّاً من السوق الوطنية لأن هذا الأخير هو ما يدفع الثمن المطلوب للخدمات حتى آخـر سنت ؛ وفي حالة غيابه من السوق فلن تجد الخدمات أي مشترٍ لها . لكن حرص الطبقة الوسطى على الإحتفاظ بالإنتاج السلعي الرأسمالي في سوقها الوطنية لم يصل بعد لأن يكون مانعاً قاهراً يحول دون هروبه . تهرب مؤسسات الإنتاج الرأسمالي من السوق التي كانت لها في ما مضى وأصبحت اليوم لغيرها أو لنقيضها وهو إنتاج الخدمات ، تهرب بفعل الحيف الواقع عليها من خلال مبادلة منتوجاتها مبادلة جائرة لا تستند إلى قانون ولا إلى أي وجه من وجوه العدالة . أضف إلى ذلك أن الدولة ، دولة الطبقة الوسطى أو " دولة الرفاه " ، لا تتردد في تشريع أتاوات وضرائب وغرامات تفرضها على هذه المؤسسات المنتجة إنتاجاً حقيقياً لتنفقها بسخاء مفرط على رفاه الطبقة الوسطى بالدرجة الأولى وعلى توسيع وسائل إنتاجها الخدمية من مثل العناية الصحية والتعليم والأمن الذي اعتادت مؤسساته على قمع الطبقة العاملة .
تهرب مختلف مؤسسات الإنتاج الرأسمالي إلى البلدان الأخرى التي لم يتوسع بعد فيها إنتاج الخدمات والتي ما زالت أسواقها متحررة نسبياً من طغيان الخدمات وحيث يتم التبادل بصورة عامة بموجب قانون القيمة الرأسمالي الذي لم يتآكل كثيراً بعد . تهرب إلى حيث " دولة الرفاه " لم تقطـع شــوطاً طويلاً في ( ترفيه ) شعبها . تهرب من مجتمع كفّ عن أن يكون مجتمعاً رأسمالياً إلى آخر تؤمل أن يصبح رأسمالياً ـ ولو أنه لن يكون . هروبها بهذا الشكل أشبه ما يكون بهروب المطلوب للعدالة أو المدين الذي يتهرب من وجه دائنيه ؛ يتنكر ويتنقل من بلد إلى آخر منكراً هويته وجنسيته ؛ وفي سبيل ذلك يتوجب عليه أن يؤمن لنفسه مضيفاً في كل بلد يحل فيه . من يعترض على مثل هذا الهروب أو التهرب هو الطبقة الوسطى بأغنيائها وفقرائها قبل الطبقة العاملة ولهذا رأينا مظاهرات الساخطين على العولمة في سياتل وفي ديفوس وفي براغ وفي سدني وفي كويبك يقودها صعاليك الطبقة الوسطى من فنانين ومثقفين مفلسين وشذاذ آفاق وليس الطبقة العاملة ولا الشغيلة الكادحين الذين يأكلون خبزهم بعرق جبينهم .
على مثل هذه الشاكلة تماماً تتشكل " العولمة " اليوم . تهرب الشركات الرأسمالية من مراكزها التي لم تعد مراكزها وتتحد مع شركات أخرى مماثلة أو مكملة لها تقيم في بلدان متعددة وبذلك تصبح الشركة الكبرى الموحدة متعددة الجنسيات أو الأحرى عديمة الجنسية الأمر الذي يسهّل عليها مناقلة موجوداتها وعائداتها والإفلات من الضرائب ومن سيف الرقابة النقدية وتجاهل كل قوانين ومراسيم دولة الرفاه التي كانت ترغمها على تحمل أعباء ونفقات الترفيه . فالشركة عديمة الجنسية تستطيع أن تستقر حيث يناسبها وتستطيع أن لا تستقر في أي مقر .
هذه الصورة توضح بجلاء أن " العولمة " إنما هي الإنهيار التام والكامل للرأسمالية في مراكزها الكلاسيكية بل في المراكز والمحـيط على حـد سـواء . صحيح أن الشركات الكبرى الموحدة عديمة الجنسية إنما تنهج نهج العولمة لسبب واحد أحد وهو الإبقاء على روح وبنية النظام الرأسمالي ، لكن هذا لن يتوفر إلاّ بتوجيه البلدان المضيفة لهذه الشركات إلى الوراء كيما تعود وتأخذ بالنظام الرأسمالي من جديد وهذا لن يكون بالطبع لأن التاريخ لا يبدأ من آخره ولأن مجتمعات البلدان المضيفة كانت حتى قد سبقت في التهيكل حسب نمط إنتاج الطبقة الوسطى برغم أن عظام هيكلها ما زالت طرية . عبثاً تحاول الشركات عديمة الجنسية إنقاذ النظام الرأسمالي من مصيره المحتوم حتى ولو جاء ذلك بمساعدة مباشرة من صندوق النقد الدولي الذي لم يتفتق ذهنه في وصفاته الدولية المعروفة لدى الدول المدينة عن أكثر مما سماه " المشاريع الصغيرة " التي تقترح العودة إلى نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي أو إنتاج المانيفاكتورة !! لا أحد يستطيع عكس عجلة التاريخ لتسير إلى الوراء ، لا صندوق النقد الدولي ولا منظمة الدول الكبرى السبع ( G 7 ) ولا منظمة التجارة العالمية ( WTO ) ، لا أحد حتى ولو كان العالم بكل تشكيلاته الإجتماعية قد إنزلق فعلاً إلى خارج التاريخ بقيادة الطبقة الوسطى .
العولمة التي ينطوي معناها على إفتراض مسبق يقول أن العالم كله قد أصبح من قوام واحد لا بدّ وأن يكون قد تشكل تبعاً لانحلال العوالم الثلاث التي ورثناها عن الحرب العالمية الثانية وانتصار الإتحاد السوفياتي قائد الثورة الإشتراكية العالمية على ألمانيا النازية طليعة الإمبريالية الأوليغاركية ، وهي المعسكر الرأسمالي الإمبريالي والمعسكر الإشتراكي ومعسكر الدول النامية أو ثورة التحرر الوطني الذي غطى أكبر ثلاث قارات . هذه العولمة تعرضت منذ البداية إلى طمس وتشويه ومن قبل من ! من قبل دارسيها الأوائل فصوروها على أنها فينيق الرأسمالية المنبعث من الرماد . عذرهم الوحيد في ذلك هو أن معظمهم لم يتطهر من الحنق ومن السخط على الرأسمالية الإمبريالية مما أثر فيهم على سلامة التفكير ووضوح الرؤية . أما بعضهم الآخر من الذين ظلوا على ولائهم المطلق للرأسمالية فليسوا بحاجة لأي عذر .




#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعلان رامبوييه .. أخطر إنقلاب في التاريخ وهو أساس النظام الد ...
- اكذوبة إقتصاد المعرفة مرة أخرى
- إقتصاد السوق صيحة مشبوهة
- اليسار الغدّار
- القوى المطلقة للماركسية


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - العولمة.. رحلة خارج التاريخ