أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - فريد زهران - القمع الفكرى داخل الأحزاب السياسية فى مصر















المزيد.....


القمع الفكرى داخل الأحزاب السياسية فى مصر


فريد زهران

الحوار المتمدن-العدد: 582 - 2003 / 9 / 5 - 02:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


        الحديث عن القمع الفكرى فى الأحزاب السياسية المصرية حديث يثير الكثير من الحزن والأسى؛ ذلك أننى - وعلى مدى ما يزيد عن عشرين عاما - عرفت (بوصفى مشاركا فى الكثير من الأحيان، وبوصفى شاهد عيان فى الكثير من الأحيان الأخرى) إلى أى حد تنتهك أبسط الحريات الديمقراطية داخل الأحزاب المصرية.

        ترى، من أين يبدأ القمع الفكرى الذى ينشب مخالبه فى كافة أطراف مجتمعنا ؟! طبيعى أن يعود بنا البعض إلى الأسرة، وطبيعى أن يعود بنا البعض إلى المدرسة، ولكننا - من ناحيتنا - نود أن نعود بهذا القمع إلى التاريخ المصرى الموغل فى القدم إلى الوقت الذى عرفت فيه مصر الحاكم باعتباره الإله نفسه، وعندما كانت السيطرة على النهر تعنى السيطرة على مقاليد الأمور، وعندما كان العدل يمتزج بالاستبداد، باختصار: لقد عرف الاستبداد لنا طريقا منذ آلاف السنين.

        وإذا كان هذا "الاستبداد العادل" يبدو مبررا ومنطقيا ومتحضرا فى إطار شروط معينة من تطور المجتمع وقواه الإنتاجية وعلاقات إنتاجه، فإن هذا الإرث الآن يبدو معيقا للمجتمع ومعطلا لتقدمه وتطوره.

        إن هذا الإرث الذى يدعو إلى عبادة شخص الزعيم أو الرئيس أو المدير ويتمحور حول الفكر الأحادى لا يتغلغل داخل جهاز الدولة الرئاسى الهرمى فحسب، بل يمتد ويخلق كل المؤسسات الأخرى على شاكلة جهاز الدولة :  نموذج هرمى يقبع على رأسه إله صغير يدين بالولاء - أو العبادة - لكبير الآلهة، وفى المقابل يطلب هذا الإله من مرؤسيه أو رعاياه المحليين نفس القدر من الإخلاص والولاء.

        إذا كان - الاستبداد كما هو واضح من كل ما تقدم - يلقى بظلاله على كافة مؤسسات المجتمع فى بلادنا، فلماذا إذن يثير القمع الفكرى فى الأحزاب السياسية المصرية ما أشرنا إليه من أسى أو حزن ؟! السبب فى ذلك، عزيزى القارئ، هو ما نعرفه جميعا من أن الأحزاب المصرية - وبالذات المعارض منها وهو ما يستثنى فقط الحزب الحاكم - إذ تتهم الدولة بالاستبداد فإنها فى نفس الوقت ترفع شعارات الديموقراطية، حيث تبدو الصورة بالنسبة للمراقب الساذج كما لو كنا إزاء دولة استبدادية وأحزاب معارضة ديموقراطية، والواقع أن الصورة الحقيقية للأمر تشى بأن "كله محصل بعضه" وأنه "ما أسوأ من سيدى إلا ستى".

        قلنا إن للقمع الفكرى جذورا فى تاريخنا المصرى، ولكن هذا التراث السلبى وحده لا يفسر الحاضر، على اعتبار أن هذا الإرث الاستبدادى ما لم يتناغم مع أسباب حية فى واقعنا المعاش ما كان يمكن أن يكون له هذا التأثير الذى نلاحظه، والأسباب التى تستدعى من حاضرنا هذا التراث الاستبدادى كثيرة، وهى تبدأ من خارج الأحزاب نفسها، تبدأ من قانون الأحزاب بالتحديد.

        إن قانون الأحزاب الذى وضع أمام إقامة الحزب كل ما يمكن وضعه من عراقيل وعقبات قد جعل من رخصة "أى حزب" ميزة كبيرة لمن يمتلكها، وهو فى العادة شخص رئيس الحزب الذى أصبح أقرب ما يكون إلى "صاحب المشروع أو الدكان" منه إلى شخصية اعتبارية قابلة للتغيير.

        احتكار رخصة الحزب معناها أن المختلف مصيره الشارع؛ إذ لن يستطيع هذا المختلف مهما كانت قيمته الاعتبارية أو قوته التصويتية أن يخرج من الحزب - سواء باختياره أو مضطرا - لكى يؤسس حزبا آخر، وكلنا يعرف كيف أن المرحوم أحمد مجاهد (الذى صوت له وفقا لمصادر إبراهيم شكرى نفسه أقلية تقدر بـ 45% من الأصوات) حاول عبثا وعلى مدى سنوات طويلة أن يستمر باسم حزب العمل لكن الرخصة كانت ملك إبراهيم شكرى، وعندما قرر أحمد مجاهد أن يسلم بهذه الحقيقة ويبدأ رحلة الحصول على رخصة أخرى وافته المنية بعد بضعة سنوات دون أن يتمكن من الحصول على هذه الرخصة العزيزة !!

        كل الذين اختلفوا داخل الأحزاب المصرية الشرعية - وأنا واحد منهم - كانوا يعرفون هذه الحقيقة المرة القائلة بأن المختلف مصيره الشارع، وبإن المختلفين لا يستطيعون الحصول على رخصة جديدة إلا عبر رحلة شاقة، وأن استمرار ترابطهم وتجانسهم بدون نشاط سياسى فاعل هو أمر شديد الصعوبة، لأن النشاط الجماعى بدون رخصة مؤثم، ولذلك لن نكون مبالغين إذن إذا قلنا إن المختلفين لن يستطيعوا - فى الغالب الأعم - الإعلان عن أنفسهم كحزب جديد، وخصوصا أن صحيفة "الحزب - الرخصة" أو "الحزب - الرئيس" وأدواته المختلفة ستكون قد شنت حملة منظمة على المختلفين وأبرزت كل نقائصهم وعيوبهم وراهنت على تعميق الخلافات فيما بينهم - وحققت فى ذلك بعض النجاح بالطبع بما تملكه من مغريات ومغانم تتمثل فى المواقع القيادية التى تُمنح للمخلصين وأصحاب الولاء.

        القمع الفكرى والسياسى - إذن - هو الأسلوب الوحيد المعتمد فى إدارة الأحزاب السياسية بوجه عام، وهو ما يكاد يمثل نقطة الاتفاق الأساسية والوحيدة التى يجتمعون عليها، وإذا كان هناك بعض الفروق فيما بينها، فإنها تظل مجرد فروق كمية، فروق فى الدرجة، ونحن لا نعنى بذلك أنها فروق طفيفة أو شكلية؛ فقد تكون بالفعل فروقا كبيرة ويعتد بها عند المقارنة فيما بين الأحزاب المختلفة، ومع ذلك فإنها - مرة أخرى - تظل فروقا فى الدرجة فحسب، ويظل المنهج السائد فى كافة الأحزاب هو القمع الفكرى والسياسى، والغريب أن أبرز دعاة الديموقراطية وأكثرهم راديكالية هم الذين يديرون ظهورهم كل يوم لأبسط قواعد الديموقراطية أثناء إدارتهم لأحزابهم، ويزداد الأمر مأساوية عندما نلاحظ كيف يتبادل الجميع الاتهامات فيما بينهم، حيث يتصور كل حزب - بـ "بجاحة" لا تليق إلا بكل كذاب صفيق - أنه ديموقراطى وأن الآخرين ليسوا كذلك !!

        ولأن كل هذا النقد الحاد لا قيمة له إذا انسحب على الآخرين فحسب - مثلما جرت العادة - فإننا سنبدأ النقد هنا من داخل التيار الذى ننتمى، إليه والذى عشنا - أو شاهدنا عن قرب - آليات عمله وسبل تنظيم الصراع الفكرى والسياسى داخله، ونعنى بذلك : التيار اليسارى بفرقه واتجاهاته وتنظيماته المختلفة.

        تحت الأرض، حيث ينشط بعض اليساريين وقد طردوا من ساحة العمل العلنى بترسانة من القوانين المقيدة للحريات، شاهدت بنفسى وعن قرب كيف يقهر هؤلاء المقهورين بعضهم البعض، وفيما يحلم السواد الأعظم منهم بالديموقراطية ويتوقون إليها فإن بعض القيادات لا ترى فى الديموقراطية سوى وسيلة للاستيلاء على السلطة، ويتشدقون فيما بينهم بأن قمع معارضيهم من "أعداء الشعب" هو الوسيلة الوحيدة الصحيحة لحماية مصالح " الطبقات الشعبية" عقب الاستيلاء على السلطة، وامتدادا لهذه الطريقة فى التفكير فإن "أعداء الشعب" أو "الانتهازيين" كانوا يظهرون من حين إلى آخر داخل التنظيم نفسه، ومن ثم فقد كان قمع هؤلاء يعتبر عملا نضاليا، وسنضرب لذلك أمثلة محددة.

        فى عام 1975، وداخل ما عرف بعد ذلك فى قضايا وتحقيقات أمن الدولة باسم حزب العمال الشيوعى المصرى، حدث خلاف واسع حول أسباب الأزمة التى تعيق تطور الحزب: فبينما تراءى لبعض الكوادر القيادية أن هناك توجهات خاطئة ينتهجها الحزب، فإن القيادة كانت ترى أن هناك "انحرافا تلقائيا" قد أصاب بعض جوانب العمل التنظيمى، وفى تطور الحوار - أو الصراع الفكرى - وعلى مدى أسابيع قليلة بدا أن الأمر يتعلق أساسا بوزن العمل الطلابى، فبينما كانت القيادة ترى أن هناك ضرورة للتركيز على العمل الطلابى على اعتبار أن الحركة الطلابية من الممكن أن تكون رافعة للنهوض بكافة فئات وطبقات المجتمع، فإن المختلفين - على اختلافهم - كانوا يرون أن هناك ضرورة للتركيز على الطبقة العاملة والجماهير الشعبية باعتبارها الطبقات صاحبة المصلحة فى أى تغيير اجتماعى. والخلاف كما نرى لم يكن يتعلق بأى أمور استراتيجية من وجهة النظر الماركسية، إذ كان الأمر كما لاحظنا يتعلق بتكتيكات العمل أو الحركة، ولكن القيادة لم تتحمل وجود مختلفين، وباستخدام بعض من تراث الفكر الماركسى نفسه راحت القيادة ترهب الجميع باسم الانضباط والمركزية الديموقراطية والالتزام الحزبى، وتسارعت الإجراءات التى بدأت بـ "تصعيد" - أو ترقية - الموالين والموافقين مهما كان تواضع مستوى كفاءتهم أو قدراتهم وتثبيت المخالفين فى نفس مواقعهم بصرف النظر عما يتمتع به بعضهم من قدرات أو كفاءات كبيرة، وانتهت بفصل بعض أبرز المختلفين لإرهاب الباقين مرورا بتجميد عضوية البعض أو عزلهم من خلال تقليص وتحجيم نفوذهم وتكليفهم بمهام أقل وفى مواقع لا تتيح لهم سوى دوائر ضيقة من العلاقات.

        فى الحزب الشيوعى المصرى عرفت الكوادر الوسيطة - بل وبعض الكوادر القيادية أيضا - صنوفا من القمع الفكرى والسياسى جعلت من هذا الحزب قوة طرد مستمرة لعدد من أعضائه وقياداته كلما احتدم الصراع، وهكذا ظهر إلى حيز الوجود "المطرقة" و "المؤتمر" و "الشعبى الديموقراطى".

        أما بالنسبة لـ 8 يناير فإن الخلاف الذى احتدم منذ بضعة سنوات حول بعض القضايا الفكرية والتنظيمية قد انتهى إلى وضع أكثر مأساوية عندما انفجر الحزب - أو بالأحرى التنظيم - إلى شظايا متناثرة تلاشت تقريبا حتى لو كان قد تبقى منها شظية أو شظيتان بلا فاعلية تذكر.

        قبل أن نختتم حديثنا حول الحركة الشيوعية المصرية ينبغى أن نذكر بعض الملاحظات العامة:

        وأول هذه الملاحظات هى : أن المنظمات الشيوعية تحت وطأة قمع الدولة البوليسى - وليس الفكرى والسياسى فحسب - قد لجأت للعمل السرى، ومن ثم فإن حديث اللائحة الداخلية الذى ينص على أن التصعيد للمستويات العليا ينبغى أن يتم عبر الانتخابات إنما كان حديثا معطلا، وقد أجادت القيادات الاستبدادية استخدام حجة السرية لتعطيل الانتخابات دائما حتى عندما لم تكن السرية المزعومة عقبة على أى نحو، وذلك فى أعقاب الضربات البوليسية المتعاقبة التى كشفت كل الناس أمام كل الناس.

        والملاحظة الثانية : أن المختلفين (أو أغلبهم على الأقل) الذين طردتهم المنظمات "الأم" - ونعنى بذلك المنشقين عن حزب العمال والحزب الشيوعى - قد بذلوا قصارى جهدهم فى سبيل وضع قواعد أكثر ديموقراطية فى إدارة الصراع فيما بينهم، بل وناقشت قيادة المؤتمر - فى سياق وضع برنامج سياسى - التعددية الحزبية فى ظل الحكم الاشتراكى، وانتهت - بعد مناقشة ضارية - إلى إقرار التعددية لأول مرة فى ظل الاشتراكية بدون قيود أو شروط كتعبير واضح عن التمسك بالديموقراطية منهجا ومبادئا بعد أن ظل الماركسيون عقودا طويلة - ومنذ ستالين بالتحديد - يعتقدون أن الديموقراطية رجسا من عمل الإمبريالية، وجدير بالذكر هنا أن ما وصل إليه المؤتمر من إيمان بالديموقراطية قد جاء قبل فترة طويلة من انهيار الاتحاد السوفيتى، وبالتحديد فى الفترة من مايو إلى سبتمبر 1980، ولكن الملاحظ أيضا أن هذه الجهود التى قام بها المنشقون والرامية إلى إرساء قواعد وتقاليد ديموقراطية قد أجهضت مع تعثر مسيرة هؤلاء المنشقين سواء نتيجة قمع الدولة البوليسى والفكرى والسياسى أو نتيجة أمراض الحركة الشيوعية نفسها التى انتهت بها الآن إلى ما نعرفه جميعا من انفراط عقدها ومن ضعف الفاعلية وتردى مستوى الأداء العام، وبالتالى فإنه مهما كانت نوايا العاملين فى الحركة الشيوعية الآن فإن قدراتهم وكفاءتهم ومستواهم لا يؤهلهم لتحقيق نواياهم الخيرة.

        داخل معسكر اليسار - أيضا - لا يستطيع أحد أن يتجاهل ما يحدث فى حزب التجمع، وبعيدا عن دلالات استمرار خالد محى الدين ومجموعة د. رفعت السعيد على رأس الحزب منذ عشرين عاما، فإن أساليب حصار المختلفين واضطهادهم وعزلهم هى أساليب مستقرة وتكاد تكون تقاليد راسخة فى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، ويكفينا فى هذا الصدد أن نذكر قصة واحدة.

        فى عام 1984 دارت فى مصر رحى انتخابات مجلس الشعب بالقائمة النسبية، الأمر الذى اضطر فرق اليسار - على اختلافها - إلى تحقيق قدر من الائتلاف والتضافر، وكان من الطبيعى أن يكون التجمع باعتباره الحزب الشرعى اليسارى القادر على خوض معركة الانتخابات هو الإطار الذى تتضافر فيه جهود اليساريين على اختلافهم من أجل قائمة يسارية موحدة، وأذكر فى هذا الصدد كيف بذلت قصارى جهدى مع الأستاذ وجيه عباس المحامى وآخرين من أجل لم شمل اليسار المتناثر بين الأحياء الخمسة : الدرب الأحمر، والجمالية، والسيدة زينب، ومنشية ناصر، وقصر النيل، والمشتت بين الماركسية (بتياراتها ومنظماتها المختلفة) وبين الناصرية (بتياراتها ومنظماتها المختلفة) وقد تعرضنا لصنوف من القمع والقهر والعنت من قبل بعض قيادات الحزب يتضاءل إلى جوارها التعذيب فى السجون، حيث كان بعض الموالين من معدومى الموهبة والكفاءة يتقدمون قسرا باعتبارهم رموزا ينبغى أن تحتل مراكز متقدمة فى قائمة الحزب، وكان مثل هؤلاء الأشخاص - مثلهم مثل العملة الرديئة - يطردون بـ "بجاحة" منقطعة النظير العناصر الفاعلة والنشطة، وفى كل هذه الصراعات لم يكن استبعاد فلان أو تصعيد علان فى سلم القائمة يخضع لمعايير الكفاءة أو الموهبة، بل كان يخضع فحسب إلى معيار واحد ووحيد وهو : قرب هذا الفلان أو العلان الفكرى و السياسى من قيادات الحزب.

        رغم كل ما بذلته بعض قيادات الحزب من جهود فى "تطفيش" المختلفين الذين ينحدرون فى الغالب الأعم من أصول يسارية أكثر راديكالية من التجمع، والذين بدأت رحلة تعاونهم مع التجمع بمناسبة الانتخابات بالقائمة، فإن المولى عز وجل قد ألهم هؤلاء الراديكاليين - وكنت واحدا منهم - الكثير والكثير من الصبر على أمل أن تنتهى بنا التجربة إلى تحقيق درجة ما من درجات وحدة اليسار التى ظلت على الدوام أملا لا يطال.

عندما انتهت الانتخابات التى قبلنا فيها الكثير من العنت والتعسف كانت المجموعة اليسارية التى دخلت التجمع فى القاهرة وحدها - والتى تنحدر من أصول راديكالية - تربو على المائة، ومن ثم فقد تراءى لنا أن نخوض انتخابات التجمع من أجل تصعيد بعض العناصر للجنة القاهرة، وفى سبيل ذلك التقيت - ممثلا لهذه المجموعة - بالدكتور رفعت السعيد وأطلعته على رغبتنا فى خوض الانتخابات ببرنامج محدد كمجموعة لها ملامح متميزة، وأطلعته على الترشيحات المقترحة من قبلنا، لكن د. رفعت قد فاجأنى بأنه لا يعترض على الأشخاص المقترحين من مجموعتنا لكنه يعترض على فكرة البرنامج والانتخابات على اعتبار أنه جرت العادة أن يكون هناك قائمة مقترحة من القيادة يتم التصويت عليها بالقبول أو الرفض، يعنى باختصار أوضح لى د. رفعت أن الانتخابات فى حزب التجمع تتم بـ القائمة المطلقة !! وهو نفس النظام الذى رفضه التجمع علنا بضراوة عندما حاولت الدولة فرضه وتطبيقه.

        ما جرى بعد ذلك كان بمثابة مهزلة سخيفة، وصلت إلى حد تدخل رئيس الحزب السيد / خالد محى الدين بكل ثقله ووزنه وتاريخه ضد منطق الانتخابات الديموقراطية، ووصلت الضغوط بنا إلى قبول نظامهم الانتخابى على أن تتضمن القائمة ثلاثة عناصر من مجموعتنا، ولكن عند إعلان القائمة المقترحة فوجئنا بإعلان اسمين فقط ، الأمر الذى أثار الشكوك والهواجس حول وجود مؤامرة، وانتهى الأمر بانفجار الاجتماع وتجميد عضوية العناصر التى اقترحناها وهى بالتحديد : د. أحمد عبدالله، وكاتب هذه السطور، وعمر مرسى، ورحمة رفعت.

        والجدير بالذكر أن هذا التجميد قد رفع - بدون أى تحقيق - بمجرد انتهاء أعمال المؤتمر العام للحزب !! على اعتبار أن التجميد كان يستهدف حرماننا من حضور المؤتمر العام فحسب.

        على الضفة الأخرى لليسار لا يبدو أن الحال أفضل بأية درجة، فالناصرية التى ولدت ونشأت فى أحضان الفكر الاشتراكى قد استندت، هى الأخرى إلى تراث ردىء فيما يتعلق بالديموقراطية؛ ذلك لأن الناصريين لم يعرفوا الفكر الاشتراكى إلا فى طبعته الستالينية المتواضعة للغاية من حيث المستوى والعمق، والمعادية بالأساس للديموقراطية منهجا ومبادئا؛ ولذا لم يكن غريبا أن يرفض الناصريون لسنوات طويلة فكرة التعددية ويقف بعضهم بصلابة ضد فتح المجال للتعدد الحزبى فى مصر، وبعيدا عن الفكر الناصرى فإن الممارسات نفسها تشى بالكثير، ويكفى للدلالة على ذلك - بدون إطالة - أن نعرف كيف أن أبرز الكوادر والقيادات الناصرية الوسيطة قد تعرضت لأبشع عمليات التنكيل والعزل والحصار عندما أصبح للناصرية حزب، ولكن ينبغى أن نلاحظ هنا أن القيادات الوسيطة والشابة فى صفوف الناصريين - مثلهم فى ذلك مثل الماركسيين - أقرب إلى الديموقراطية فكرا وممارسة، ربما لأنهم قد عانوا من القمع والاستبداد، وربما لأنهم لم يتورطوا فى أية ممارسة استبدادية للسلطة مثل الحرس القديم ، بل إنهم حتى لم يتورطوا بشكل مباشر فى تأييد ممارسات استبدادية مثلما تورط أغلب قدامى الماركسيين.

        يمكننا أن نستخلص - إذن - أن للقمع الفكرى فى بلادنا تراثا وجذورا وأنصارا، ويمكننا القول بأن رفع شعارات الديموقراطية لم يعد يغنى أو يسمن من جوع، وأننا فى حاجة إلى ممارسات ديموقراطية حتى نقتنع بأن فلانا ديموقراطى فعلا وليس قولا، ويمكننا القول أيضا بأن فرص القيادات الوسيطة والشابة فى تجاوز هذا الوضع المأساوى أفضل بكثير، لأنهم كانوا ضحايا القمع والاستبداد على مدى سنوات طويلة ليس من الدولة فحسب ولكن من تراثهم نفسه ومن ممثلى هذا التراث من شيوخهم ومدارسهم الفكرية والسياسية التقليدية.

        أخيرا : لا نستطيع أن نختتم هذا الحديث دون أن ننوه إلى أن الأوضاع الديمقراطية داخل الحركة الإسلامية أسوأ بكثير، ويكفى للدلالة على ذلك أن الاتجاه العام داخل هذه الحركة لا يزال يرى أن الديمقراطية كفر، وقد شاهدت بنفسى عن قرب الأساليب الاستبدادية المروعة التى تتعامل بها قيادات الحركة الإسلامية مع القواعد، وكيف أن القمع الفكرى هو الأسلوب المعتمد، وكلنا يعرف كيف أن حسن البنا كان يحرم - أى والله يحرم بدون مبالغة - فى وصاياه العشر (!) الجدل والحوار !!

        أما عن حزب الوفد فيكفى أن نذكر كيف أشاد جمال بدوى - الذى لم تعجبه أى ممارسات ديموقراطية فى مصر - بالديموقراطية السعودية !! لكى ندرك ما آل إليه حال الليبراليين المصريين !

        الطريق إلى مستقبل أفضل يبدأ بنقد الحاضر؛ لذا أرجو أن يكون النقد بلا هوادة وبلا مجاملات .. وألا يترك - فى نفس الوقت - أى مرارة فى النفوس.

--------------------------------------------------------------------------------

* قدمت هذه الورقة فى الملتقى الفكرى الخامس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان والذى عقد تحت عنوان "القمع الفكرى فى المجتمع المصرى" فى 1996 بنقابة المحامين.




#فريد_زهران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في نتائج انتخابات نقابة الصحفيين
- دعوة للحوار حول مبادرة تجديد المشروع الوطني - مصر
- لا للحرب . والاستبداد . والهيمنة . نعم للسلم . والديموقراطية ...
- مسيحى ما علاقتك بالانتفاضة


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - فريد زهران - القمع الفكرى داخل الأحزاب السياسية فى مصر