أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّتِّينِ للسِّيرَةِ الذَّاتيَّة)















المزيد.....


الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّتِّينِ للسِّيرَةِ الذَّاتيَّة)


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1917 - 2007 / 5 / 16 - 11:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزمانة الأسبوع 24-30 أبريل 2007 (تأخر فى النشر)
(1)
تسبَّب انشغالي بأمر سفرة قصيرة إلى القاهرة ، للمشاركة في مؤتمر حول صورة دارفور في الاعلام العربي ، لا في تغييب (رُزنامة) الأسبوع الثالث من أبريل الجاري ، فحسب ، مِمَّا يستوجب الاعتذار والشكر لكلِّ الأصدقاء الأعزاء الذين لاحقوني بأسئلتهم المشفقة ، من داخل السودان وخارجه ، بل وفي الحيلولة أيضاً دون متابعتي لحلقات اللقاء الذي أجرته صحيفة (الوطن) ، أواسط الشهر نفسه ، مع اللواء (م) عمر محمد الطيِّب ، نائب النميري ورئيس جهاز أمنه السابق. وبعد عودتي راجعت اللقاء المذكور ، فلفتت نظري فيه ، بشكل مخصوص ، مسألتان:
أولاهما: دخول الرجل ، فجأة ، وبعد غياب استطال دهوراً ، على خط التخرُّصات الساذجة الكاسدة التي نشط في (التلميح) بها ، مؤخراً ، (بعض) عناصره السابقين ، زوراً وبهتاناً ، حولي وحول الزميلين الصادق شامي ومصطفى عبد القادر ، بأن ثلاثتنا كنا ، بسلامتنا ، (عملاء) لجهازهم القمئ ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم!
وثانيتهما: مغالطاته الفجَّة في أبرز حقائق الأفعال الاجراميَّة الدامغة التي تكشفت عنها ، بعد انتفاضة أبريل 1985م ، قضيَّة (ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل) ، والتي كان هو المتهم الأول فيها ، بينما كنا ، نحن الثلاثة ، أعضاء في اللجنة التي تولت التحقيق معه ، ثمَّ مثلت الاتهام ضده أمام المحكمة ، حتى صدور الحكم النهائي عليه بالإدانة والسجن!

(2)
المسألة الأولى لا تعدو كونها ، كما وصفناها بحق ، محض تخرُّصات وضيعة لا تستحق سوى مقابلتها بالاحتقار والاستهجان ، ليس مِنا فقط ، بل ومن كلِّ مَن حباه الله أيَّ قدر من الذكاء ، وذلك لأربعة أسباب لا نشكُّ في أن جميع المتابعين المدققين قد لاحظوها:
السبب الأول: أن الشجاعة لم توات ، مطلقاً ، هؤلاء المتقوِّلين المتخفين ، ولا حتى كبيرهم في حديثه المذكور ، كي يتجرَّأ أيٌٌّ منهم ، ولو بالخطأ ، على (التصريح) بأسماء من يتقوَّلون عليهم ، ويُسرسِرون شفراتهم الصدِئة يلوِّحون بها في وجوههم ، وإنما ظلوا حِراصاً ، دائماً ، على التزام (التلميح) الرخيص الحذِر ، من بعيد لبعيد ، إلى شخصياتنا ، مستخدمين الأوصاف الساذجة حيناً ، ومطلقين الألقاب السخيفة أحياناً ، ومتكِئين ، في هذا وذاك ، ولا بُدَّ ، على (استشارة قانونيَّة) معلولة ، تتذاكى وهي المدجَّجة حتى أسنانها بالغباء ، دَعْ فشلهم المعلن في أن يحاولوا ، مجرَّد محاولة ، ولو مرَّة واحدة ، إسناد ما يسوقون من افتراءات مجانيَّة ولو إلى حُجَّة واحدة مبلوعة للأسوياء ، أو برهان يتيم لا يلفظه العقل السليم ، وما ذلك لأيِّ سبب سوى لعلمهم اليقينيِّ ، كعلمهم بجوع بطونهم تماماً ، بأنهم محض قوم كذابين موتورين مكلومين ، تغلي دواخلهم حقداً وغلاً على ثلاثتنا ، كوننا ما نزال نمثل ، بالنسبة لهم ، اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا ، شبح الرمز القديم الذي ما ينفكُّ يقضُّ مضاجعهم ، ويذكرهم بالعار والشنار اللذين لحقا بهم في تلك الانتفاضة الباسلة التي قصمت ظهر دولتهم ، وأطاحت بكرسي عرشهم ، ومرَّغت أنف صولجانهم في الرغام ، وإن لم تكن قد حققت ، لحسن حظهم ، أكثر من ذلك! وكنا ، وقتها ، قد أدَّينا المهمَّة التي كلفنا بها وزير عدل الحكومة الانتقاليَّة ونائبها العام ، وذلك بأعلى مستوى من المهنيَّة ، وأقصى درجة من التجرُّد ، وأكبر قدر من الاخلاص والأمانة والشرف ، يشهد على ذلك عملنا الذى كان كتاباً مفتوحاً ، إلى حدِّ المبالغة ، أمام الشعب ، يوم كانت السهرات الأسريَّة تنعقد ، كلَّ ليلة ، حول أجهزة التلفاز والراديو التي أتاحت لها المحكمة أن تتابع وتنقل جلسات (الفلاشا) أولاً بأول ، ولأشهر طوال ، دون كلل أو ملل ، دَعْ المتابعة اللصيقة الوثيقة من مندوبي الصحف ووكالات الأنباء المحليَّة والاقليميَّة والعالميَّة ، الأمر الذي يُعتبر ، بطبيعته ، غير قابل للنسيان أبداً ، وما يومُ حليمةٍ بسِر!
لكن ، وعلى الرغم من رغبتهم الأكيدة في الانتقام منا ، كون كلُّ ذلك كذلك ، إلا أنهم ما يزالون على ديدنهم القديم نفسه ، ينتهجون ، حذرَ الوقوع في المحظور القانوني ، ذات أساليب الدغمسة واللولوة والتخفي المفضوح ، يرفعون عصا باليمنى ، ويدفنون أخرى باليسرى ، ويقولون الكلام ونقيضه في التوِّ والحين! لذا فإننا ننصحهم ، لوجه الله تعالى ، بأنه ما في كلِّ مرَّة تسلم الجَّرَّة! وأن الحذِر ، كما في المثل الحكيم ، إنما يؤتى مِن مأمنه! وأن عليهم أن يتذكروا جيِّداً أنهم حين غفلوا ، مرَّة واحدة ، عن حرصهم القديم ذاك ، طاشت حساباتهم بالاقتراب ، أكثر مِمَّا ينبغي ، من اسم أحدنا ، وهو مولانا الصادق الشامي ، مِمَّا اضطرَّهم ، أمام العدالة ، لبلع ألسنتهم الطويلة ، وتكبُّد موقف عصيب لا يُحسدون عليه ، ولم تخلصهم منه سوى الأجاويد والخضوع لتنفيذ شرط الشاكي المُذِل بتكرار اعتذارهم العلنيِّ ، في معنى اعترافهم الفصيح بمقارفة الكذب الرخيص ، وعلى الصفحة الأولى للصحيفة ذاتها التي كانت قد نشرت افتراءاتهم المغرضة ، فتقاسمت معهم تجرُّع كأس الحنظل الدِّهاق ذاك .. إن كان بميِّتٍ إيلامُ!
السبب الثاني: أنه لو كان في ما يتقوَّلون به علينا مثقال ذرة من الحقيقة أو الصِّدقيَّة لما كانوا قد صبروا عليه لأكثر من عشرين سنة حتى الآن ، بل لما كانوا قد استعصموا ، أصلاً ، بصمت القبور ، يوم وقفنا نواجه رأسهم الأكبر بالاتهام تلو الاتهام ، وبالبيِّنة تلو البيِّنة ، في محاكمة توفرت له فيها ، لو كان في مستطاعه ، أوسع الفرص لردِّ تلك التهم عن نفسه ، وبهيئة دفاع كاملة من أكفأ وأبرع وأشهر المحامين ، مثلما أتيحت فيها لأقلام الصحافة ، وكاميرات ومايكروفونات الاذاعة والتلفزة المحليَّة والعالميَّة ، أن تنقل كلَّ ما يدور في تلكم الجلسات المطوَّلة ، كلمة بكلمة ، وحركة بحركة ، بل نأمة بنأمة ، وهمسة بهمسة! فما الذي منعه ، وقتها ، من استثمار (مُولِد) وسائط الاعلام الزائطة تلك ، وأخرس لسانه عن الجهر ، عبرها ، على الملأ ، بما انقلب يتقوَّل به الآن ، بعد أكثر من عقدين من الزمان ، غمزاً وتلميحاً لا مواجهة وتصريحاً ، على غرار ما يقترف صغار ضباطه؟! لقد كان بإمكانه ، وقتها ، لو كان في ما يحاول أن يوحي به الآن أيُّ قدر من الصدقيَّة ، أن يتهمنا ، على أقل تقدير ، بأن عملنا ذاك لم يكن ، في (الواقع) ، غير (مسرحيَّة) أردنا من ورائها التضحية به ، و(بسمعته!) ، في سبيل التغطية على (حقيقة) أدوارنا كمحض (عملاء) سابقين له! فما الذي أخرسه ، يومها ، قبل ربع قرن ، عن أن يفجِّر في وجوهنا (فضيحة) بمليون دولار ، وقد أتيح له ذلك تماماً ، كما قد رأينا ، ومن أوسع الأبواب الاعلاميَّة؟!
السبب الثالث: أن بإمكان أصغر تلميذ ، بالتالي ، أن يتساءل عن حق: لماذا الآن إذن؟! ثمّ بإمكانه أيضاً ، في ما يتعلق بي شخصياً ، وأستميح الزميلين الموقرين الإذن لي بذلك ، أن يستنتج أن أنوف القوم قد ورمت ، أيَّما ورم ، لمَّا رأوني أكشف ، بالحُجج والبراهين والحقائق الدامغة ، لا بمحض الكلام المجَّانيِّ الساكت المُلقى على عواهنه ، وأعرِّي أمام من يريدون استغفالهم من الأجيال الشابَّة ، بالأخص ، ما كان من أمر مخازي (عميلهم الحقيقي) ، وأفضح ، لا ألوي على شئ ، ما كان ينفث في وجه الحركة الثقافيَّة من سُمٍّ زعاف ، فانقلبوا ، في حملة ساذجة وخطوة غير محسوبة ، يحاولون ابتزازي ، بقولهم: أنت ذاتك كنت من (عملائنا)! يرجون من وراء ذلك إرعابي ، بأساليب الدسِّ الرخيصة ، لأجل صرفي عن (عميلهم!) الحقيقي هذا ، ولجم قلمي عن الخوض في سِيَرته الشائنة ، ولكن .. هيهات هيهات! فطبعي (المعيب!) أنني رجل واضح كالشمس ، لا أخشى على سيرتي أو سريرتي ، والحمد لله ، مِمَّا يشين أو يستوجب الاستخذاء ، بل ربَّما كان أكبر ما يأخذ عليَّ جلُّ أهلي وأصدقائي من (عيوب!) هو هذا الوضوح ذاته الذي ما فتئوا يشفقون عليَّ منه ، كما يقولون ، ومن كلفته المبهظة ، وإنها لكذلك بالفعل! ومع هذا كله فإنني ، حين أستفتي قلبي ، لا أجد فيه ذرَّة استعداد لأن أكون غير نفسي ، مُصيباً كنت أم مخطئاً ، فذاك شأن آخر لا أستنكف أن أخضع فيه للجرح والتعديل إذا لزم الأمر ، لكنني أظلُّ ، بين الخطأ والصواب ، واضحاً في مواقفي ، أرى الحقَّ حقاً فلا أتوانى في الصدع به ، وألمح الباطل باطلاً فلا أتردَّد في المجاهرة بذمِّه ، أقول للصِّ لصَّاً في وجهه لا من وراء ظهره ، وأبصق للنمر بين عينيه وأنا معه في برٍّ واحد ، دونما أوهى لجلجة أو خوَر ، وأصيح ، يوم الكريهة ، بأقصى ما في (حنجرتي) من قوَّة ، ومن فوق أعلى المنابر: أن "البغلَ في الإبريق"! هذا ما كنته ، وما أكونه ، وما سأكونه ، لا ذهب المعزِّ يغويني ، ولا سيفه يرهبني! قد أجامل ، أحياناً ، في كلِّ ما هو دون الكرامة أو المبدأ أو الحق ، فلست من الحمقى ، والعياذ بالله ، حتى لا أفعل! ولعلَّ الكثيرين يشهدون بأنني من صنف الرجال الذين تستطيع ، من خلال التواصل الانسانيِّ الشريف معهم ، أن تأكل وتمسح كفك على أطراف ثيابهم بكلِّ يُسر! ومع ذلك ، فلعلهم يشهدون أيضاً بأنني ما تعوَّدت أن أجفل ، فرَقاً ، من ابتزاز ، أو أن أبهرج ، نكوصاً ، يوم دواس ، أو أن أتصاغر ، إذا ما حزبَ الأمرُ وادلهمَّت الخطوب ، عن مجابهة ما قد يحيق بي ، جراء مواقفي الواضحة هذه ، من مكاره ، وما أكثرها ، بالثبات والصبر الجميل ، وليشرب مِن البحر مَن لا يعجبه ذلك ، وليخبط رأسه في الحائط من ينتظر مني بارقة تضعضع أو انكسار ، و"الرهيفة التنقد" ، كما في المثل السائر!
السبب الرابع: أن جزاء (العمالة) يوزن ، في العادة ، كما هو معلوم للغاشي والماشي ، وللقاصي والداني ، بالوظائف والتسهيلات ورغد العيش ، إن كان في مثل (عيش) السَّجم هذا (رغد) أصلاً! فأيَّة (عمالة) يتخرَّص بها هؤلاء ، وهي لم تورث صاحبها ، يوماً ، بسبب رفضه المساومة بمبادئه ، وسمِّه ، إن شئت ، ضرباً من ركوب الرأس ، سوى الاعتقال والسجن والملاحقة والتشريد؟! أيَّة (عمالة) هذي التي تمنع إبناً من مقايضة مواقفه بنفقات علاج أب مشلول ، وما كان أيسر ذلك ، بل وأكثر منه بما لا يقاس ، لو كان أراد؟! وأيَّة (عمالة) هذي التي تجعل سجيناً يتشبث بقضبان زنزانة شائهة ، مشيحاً بوجهه ، في عناد صارم ، عن وريقة استرحام (صغيرة!) لطالما حاولوا إغواءه بتوقيعها ثمناً لإطلاق سراحه ، تاركاً وراءه زوجة وطفلين في منزل يسكنونه بالأجرة ، بينما الله وحده يعلم إن كانت أجرة الشهر القادم ستتوفر في موعدها أم لا؟! و ..
ربَّما يلزمني الكفُّ عن الاسترسال في هذا الكلام ، والاعتذار الجهير لقرَّائي الكرام الذين لم يسمعوا مِنِّي مثله مِن قبل ، رغم أن عُشرتي مع الكتابة والعمل العام تمتد إلى ما يربو على أربعة عقود حتى الآن ، بل انني نفسي لأنفر من هذه السِّيرة حتى في مؤانساتي مع خاصَّة أصدقائي ، لكنني وددت فقط أن أضئ بؤس المنطق المُعوَجِّ لدى هؤلاء السادة ، وما كنت لأحسبني أحيا إلى زمن أحتاج فيه لأن أقول ما أقول ، لولا أن القوم مفاليسٌ من أدنى ذرَّة حياءٍ إنسانيٍّ مرغوبٍ فيه ، ولولا أن "الحُرّ مُمتَحَنٌ" ، على قولٍ حكيم قديم لأبي الطيِّب!

(3)
الشاهد ، ولأن في رقص أهل الدار دلالة ، كما في المثل السائر ، على أن ربَّ الدار هو ضارب الدف ، فإنني لم أفاجأ بدخول رئيس الأمن المايوي ، القادم من وراء القرون ، على هذا الخط البئيس الذي يجرى (تنشيطه) ، هذه الأيام ، وبنفس الأسلوب البائر لرهطه السابق المكلوم ، بل بذات الألفاظ والتعابير المستهلكة ، استناداً إلى توهُّم الخراب في الذاكرة الشعبيَّة ، وتصوُّر الغرارة في الأجيال الحديثة التي لم تشهد مواجهاتنا الجسورة لهم خلال حقبتهم المعتمة تلك. واجهناهم في ساحات المحاكم ، دفاعاً عن أغلب متهمي الرأي في قضايا كان أخفها كفيلاً بأن يضع المحامي في مكان المتهم ، ولعلَّ أشهرها قضيَّة التجاني الطيِّب ، وقضيَّة صلاح المصباح ، وقضيَّة فاطمة أحمد ابراهيم ، وقضيَّة (الخليَّة البعثيَّة) التي سارت بذكرها الركبان ، وكم كان أسفنا عظيماً يوم أصرَّ الأستاذ الشهيد على تغليب فكرة الفداء رافضاً حتى الترافع عنه في قضيَّته. وواجهناهم في مسالك النضال اليوميِّ من خلال العمل العام الذي سدَّدنا فواتيره كاملة غير منقوصة ، إما بالتعرُّض للملاحقة في الأرزاق ، أو بسلخ أنضر سنوات العُمر في وحشة الزنازين وأقبية المعتقلات التي ظللت شخصياً ، ومنذ عودتي ، عام 1973م ، من الدراسة في الاتحاد السوفيتي السابق ، نزيلاً مداوماً فيها ، معتقلاً أو محكوماً ، وما أكثر ما كان يقع ذلك بسبب وشايات (عملائهم) الوضيعة ، على مرِّ السنوات اللاحقة: 1974م ، 1975م ، 1977م ، 1979م ، 1980م ، 1981م ، 1982م ، 1983م ، بل ويشرفني أنني أحد قلائل كانوا آخر من غادر سجونهم مساء السادس من أبريل 1985م! فبأيُّ (حساب) يكون ثمن (العمالة) كلَّ هذا العنت والعذاب؟! ومن ، تراهم ، يستغفلون بمثل هذا المنطق السقيم والحُجَّة الواهية؟! وهل نغادر الحقيقة ، قيد أنملة ، حين نرميهم باستسهال الكذب ، استسهالهم لشرب الماء؟!

(4)
وعلى ذكر (الكذب) ، ولكوننا نربأ بأنفسنا عن اطلاق القول على عواهنه ، فإننا نستأذن القارئ لننظر في المسألة الثانية التي سبق أن أشرنا إليها ، ولنتقصَّى حديث نائب النميري ورئيس جهاز أمنه فيها ، على النحو التالي:
(1) بدأ أولاً بتحديد مرمى نيرانه بعناية فائقة ، قائلاً: " تولى الاتهام ضدي عقائديون من خصوم سياسيين يتبعون لأحزاب بعينها ، وعلى رأسهم الصادق الشامي وكمال الجزولي ومصطفى عبد القادر"! ثمَّ أنحى باللائمة في ذلك التشكيل على عمر عبد العاطي ، وزير العدل النائب العام ، وقتها ، فلكأنه كان يريد أن يُستشار في تشكيل الهيئة ليجئ وفق هواه .. عجبي! غير أن اللافت للنظر ، بوجه مخصوص ، هو أنه لم يذكر ، على الاطلاق ، أن هيئة الاتهام كانت تضم أيضاً الزميلين أحمد ابراهيم الطاهر ، رئيس المجلس الوطني الحالي ، وصلاح أبو زيد ، المدعي العام الحالي! وليس لهذا الاستبعاد سوى أحد تفسيرين لا ثالث لهما: فإما أنه يقلل من قيمة مشاركتهما في تلك الهيئة ، أو أنه يريد أن يوحي بأنهما من حزب صديق؟! فإلى أيهما قصد (سعادة اللواء) يا ترى؟!
(2) ثمَّ قال: "ضباط الأمن الذين تحوَّلوا إلى شهود ملك كانت شهادتهم ضدي ، حيث قالوا: هو الذي أعطانا الأوامر"! لكنه لم يقل لماذا انقلب العقيد ، آنذاك ، الفاتح عروة ، والعقيد موسى اسماعيل والآخرون ، فجأة ، عليه ، بعد أن كانوا متشبِّثين ، حدِّ التصلب ، بكلام واحد لا يودي ولا يجيب! ولو كان هو قد تحلى بقليل من التماسك والثبات لجعل قضيَّتنا تضرب ، حتى الآن ، في أودية من بعد أودية من التيه والظلمات!
(3) كذلك لم يقل (سعادته) إن بيِّنة (شهود الملك) تلك لم تكن هي الوحيدة التي قدَّمناها واعتمدنا عليها في كسب قضيَّتنا ضده ، حيث كان قد شهد عليه أيضاً ، ولنفس السبب الذي سكت عنه في لقائه مع (الوطن) ، آخرون كثر ، على رأسهم العقيد هاشم أبو رنات مدير مكتبه ، والعقيد حسن دقنة مهندس جهازه ، واللواء عثمان السيد مدير مخابراته الخارجيَّة ، ولم يكونوا (شهود ملك) ولا يحزنون ، فلماذا ، يا ترى ، تعمَّد تفادي ذكرهم؟! أنا سأقول لكم ، بمناسبة حديثه عن (الكذب) ، لا رمياً ببهتان كما فعل هو في حقنا ، بل نقلاً مباشراً من محضر وقائع القضيَّة: لقد شهد حسن دقنة ، مثلاً ، وقد توليت استجوابه بنفسي أمام المحكمة ، بأن قائده الأكبر رئيس أمن مايو كان قد انتحى به جانباً ، داخل سجن كوبر ، عشيَّة جلسة الاستماع لشهادته ، وطلب منه أن (يكذب) في أقواله ، أمام المحكمة صبيحة اليوم التالي ، بشأن واقعة (مشروع النيل الأزرق) ، وهو الاسم الكودي لمبنى الجهاز الجديد ، آنذاك ، بتمويل من المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة ، وعندما ردَّ عليه حسن دقنة بأنه لا يستطيع ارتكاب ذلك الفعل لأنه سيدلي بإفادته على (اليمين) ، قال له رئيس الجهاز بالحرف الواحد: أنت ، يا حسن ، لا تعرف (الدين الاسلامي) مثلي ، لأن مَن يحنث بقسَمِهِ على (اليمين) من أجل إنقاذ (مؤمن) ، فلا تثريب عليه!
والآن ، أعتقد أن (سعادة اللواء) أذكى مِن أن يحاول مغالطتنا في صحَّة هذه الواقعة ، فبيننا محضر الدعوى طرف السلطة القضائيَّة ، وبيننا شريط الجلسة المصوَّر طرف إدارة التلفزيون القومي ، وبيننا شريطها المسموع طرف الاذاعة السودانيَّة ، وبيننا أرشيفات الصحف ووكالات الأنباء السودانيَّة والأجنبيَّة ، بل وبيننا ملايين المشاهدين والمستمعين الذين شاهدوا وسمعوا كلَّ شئ ، داخل وخارج البلاد ، وما زال أكثرهم أحياء يرزقون مثله تماماً ، أمدَّ الله في أيامهم وأيامه ومتعهم وإياه بالصحة والعافية!
(4) أما ما أثار دهشتي ، حقيقة ، فهو محاولته (المغالطة) في ثلاث وقائع أساسيَّة:
الواقعة الأولى: كنت رويتها ، في رزنامة سبقت ، حول ابتعاثه بعض كبار ضباطه إلى مندوبي وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة بسفارتهم بالخرطوم ليلة الجمعة الخامس من أبريل 1985م ، عشيَّة السقوط المدوِّي لنظامهم ، قائلاً بالحرف الواحد: إنها ، أي روايتي ، (فِرْيَة) أطلقها كمال الجزولي!
حسناً .. (الفِرْيَة) ، في لسان العرب ، هي (الكَذِبُ) و(الاختِلاقُ) ، وفي التنزيل العزيز: (أمْ يَقولونَ افترَاهُ) أي (اختلقهُ) ، وفي الحديث الشريف: (مِن أفرَى الفِرَى أن يُريَ الرجُلُ عَيْنَيْهِ ما لمْ تَرَيا) ، و(الفِرَى) جمع (فِرْيَة) ، وهي (الكَذبَة). وهكذا يرمينا (سعادته) بـ (الكَذِبِ) ، صراحة ، فيضطرنا للردِّ عليه بالمثل ، وكبير الجمل! إن الضابط الكبير الذي بعث به رئيس جهاز الأمن المايوي ، في آخر سويعات نظامه ، إلى مندوب المخابرات الأمريكيَّة ، بزعم توقع غزو ليبي للسودان خلال الساعات القادمة ، هو اللواء عثمان السيِّد. ومندوب المخابرات الأمريكيَّة الذي بعث به إليه هو المستر ملتون. وقد شهد اللواء عثمان نفسه بذلك ، بل ان تلك (الحدوتة) ما كانت لتنكشف ، أصلاً ، لولا أن رواها اللواء عثمان! واستطراداً ، فقد جرى ، بأمر لجنة التحقيق ، تسجيل شريط فيديو يحتوي على وقائع المواجهة العاصفة التي تمت بين اللواء عثمان ورئيس الجهاز ، وكنا نعتزم عرض ذلك الشريط كبيِّنة أمام المحكمة ، لولا أن المرحوم شدو اعترض عليه ، قائلاً إنه يمثل شكلاً قاسياً من أشكال الضغط المعنوي harassment على المتهم ، وقبلت المحكمة الموقرة اعتراضه!
الواقعة الثانية: هي التي زعم فيها كبير أمن مايو ، بكلِّ حُمرة عين ، أن المحكمة العليا ، برئاسة مولانا زكي عبد الرحمن ، أعادت النظر في قضيَّته و(برَّأته)! في حين أن الحقيقة الموثقة التي يستحيل أن تنتطح فيها عنزان هي أن محكمة الموضوع كانت قد (أدانته) في ست جرائم ، ثمَّ أحيلت الأوراق إلى المحكمة العليا التي استبعدت (الادانة) تحت مادتين فقط ، بينما (أيَّدت) بقيَّة (الادانات) في الجرائم الأربع الأخرى ، وإن كانت قد خفضت أحكام السجن إلى ما تقارب جملته ثلاثة عشر سنة! فأين (البراءة) في ذلك؟!
الواقعة الثالثة: هي التي دفعني (اختلاقه) فيها لأن أضع كلتا يديَّ على رأسي مذهولاً من هول الجرأة على الحق ، إذ قال بالحرف الواحد: "القاضي العادل وصاحب الضمير الحي مولانا زكي عبد الرحمن ظلَّ يتلو حيثيات (البراءة!) لمدة ساعتين ، وعندما تقاطعه هيئة الاتهام المكوَّنة من الصادق شامي ومصطفى عبد القادر وكمال الجزولي ، كان يحذرهم ويهدِّدهم"!
الكتلة! هكذا الكذب ولا بلاش! إن هؤلاء القوم لا يتورَّعون حتى من وضع أصابعهم العشرة بين عينيك الاثنتين ليغالطوك في إسمك ذاته ، إلى أن ترتجُّ عليك الأمور ، وتكاد تصدِّق ، بالفعل ، أن اسمك ليس اسمك ، فما بالك بشباب لم يحضروا زمانهم ، عندما يستهدفون عقولهم بتخرُّصات تزعم أن رجالاً أمثالنا كانوا مشمولين بلائحة (عملائهم) ، ليصرفوهم عن تصديق ما نحدِّثهم به عن مخازي (العملاء الحقيقيين) في الوسط الثقافي أو في غيره؟!
وهذا هو ، بالضبط ، ما حدث معي في تلك الواقعة ، إذ على الرغم من يقيني التام بأن هيئتنا لم تحضر ، البتة ، تلاوة حكم المحكمة العليا ذاك في مرحلة الطعن ، بل وعلى الرغم من يقيني ، بعد زهاء الثلاثين سنة في مهنة المحاماة ، بأنه ليس في ممارستنا القضائيَّة ، أصلاً ، ما يستلزم حضورنا تلك التلاوة ، إلا أن الأمر ، مع ذلك ، قد ارتجَّ عليَّ للوهلة الأولى! فاتصلت بمولانا الصادق شامي ، رئيس هيئتنا ، الذي استغرب المسألة مثلي! ثم قمنا ، كي تطمئن قلوبنا ، بالاتصال بمولانا زكي ، شخصياً ، وسؤاله عن جليَّة الأمر! فما كان من الرجل إلا أن أطلق ضحكة عالية ، وقال: هيئتكم لم تحضر تلاوة الحكم في مرحلة المحكمة العليا ، بل ولم أعلنكم حتى لحضورها ، لأنه ، كما تعلمون ، ليس ثمَّة ما يدعوني لذلك أصلاً!!!
...............................
...............................
تبقت ، في الختام ، مسألة واحدة ربما تبدو صغيرة من حيث الشكل ، ولكنها كبيرة من حيث المحتوى. فحتى لو كان كبير أمن مايو قد (صَدَقَ) في (زعمه) حضورنا حكم مولانا زكي عبد الرحمن ، الأمر الذي لم يحدث بتاتاً كما قد رأينا ، فإن (زعمه) الآخر بأن هذا القاضي كان (يهدِّدنا) يظلُّ محض (افتراء) بالباطل على تقاليد الممارسة القضائيَّة لتلك المحكمة التي ربما (تأمر) أو (تحذر) ، ولكنها ، بالقطع ، لم تكن (تهدِّد) ، وبالتالي فإن ذلك الزعم لا يبرح كونه مجرَّد (إسقاط) للعقل (المهنيِّ) الباطن لدى (سعادته)!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
- كانْ حاجَةْ بُونْ!
- إنتَهَت اللَّعْبَة!
- سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
- برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
- العَقْرَبَةُ!
- لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
- شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
- قصَّةُ بَقرَتَيْن!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) - ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
- دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي ...


المزيد.....




- ماذا قالت المصادر لـCNN عن كواليس الضربة الإسرائيلية داخل إي ...
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل
- CNN نقلا عن مسؤول أمريكي: إسرائيل لن تهاجم مفاعلات إيران
- إعلان إيراني بشأن المنشآت النووية بعد الهجوم الإسرائيلي
- -تسنيم- تنفي وقوع أي انفجار في أصفهان
- هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني - لحظة بلحظة
- دوي انفجارات بأصفهان .. إيران تفعل دفاعاتها الجوية وتؤكد -سل ...
- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّتِّينِ للسِّيرَةِ الذَّاتيَّة)