أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم مطر - فصل من سيرة عراقية: حكايتي مع الله .. صديقي الطيب الجليل















المزيد.....


فصل من سيرة عراقية: حكايتي مع الله .. صديقي الطيب الجليل


سليم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 1915 - 2007 / 5 / 14 - 05:56
المحور: الادب والفن
    


لا ادري يا اصدقائي، ان تتفقون مع الفكرة القائلة، بأن علاقة الانسان مع ربه متأثرة بعلاقته مع ابيه، لأن الاب هو اول رموز السلطة، وان الله هو أب الكون ورمز السلطة العليا.
بالنسبة لي، اقر هذه الفكرة، فأنا لو تتبعت تتطور علاقتي مع الله، منذ الطفولة وحتى الآن، فأنها تأثرت كثيرا بطبيعة علاقتي مع ابي.
في طفولتي الباكرة كنت مثل جميع الاطفال، لا عرف من آلهة غير الكبار اللذين حولي، من عائلتي، وبالذات ابي.
آه من ابي. لا ادري ماذا احدثكم عنه. كان نموذجا مثاليا للشخصية العراقية المتطرفة بازدواجيتها، شرا وخيرا. كان عندما يغضب، وحشا ماردا جبارا مرعبا يصرخ وينهال على جسدي لكما ورفسا وحرقا ويطردني امام الناس شتما واهانة لي ولجميع اسلافي، ويقذفني بالحجارة بلا رحمة كما لو كنت كلبا اجربا. وحينما يهدأ، يا عيني، يستحيل الى طفل وفراشة ونسمة عليلة وعسلا شهدا، يحن ويصالح ويعتذر ويغسل عني اقذار هزيمتي ويداوي جراحي ويغني لي تلك الالحان الجنوبية الحزينة، ودموع الحنين الى ماضيه الموجع تترقرق من عينيه، فأبكي انا معه معتذرا عن خطيئتي لأني اغضبته.
لهذا كنت في طفولتي اعبد ابي، لاني اهابه واحبه. وهكذا بالضبط عبدت الله، مهابة ومحبة. كان، الله وابي، جهنما حينما اهابه، وجنة حينما احبه.
في اول طفولتي، لم اكن اعرف بالضبط كنه الله، رغم اني سمعتهم يتحدثون عنه كثيرا، وخصوصا عن جنته وناره. كان وصف جهنم يرعبني، نيرانها التي لا تخمد وغرفها الحاوية على كل انواع التعذيب الخرافي، حتى اني اصبحت اخاف الموت، لأني اعرف نفسي مليئة بخطايا وجرائم الا تحصى، اخطرها اني لا اكف عن اغضاب ابي واجباره ان يعذبني، بالاضافة الى خطايا عديدة اقلها شتائمي لنفسي ولأصحابي. اما الجنة، آه الجنة، هنيئا لمن يبلغها. كنت اغمض عيني على وصف ابي، فأرى نفسي شابا وقورا جميلا يشع مني وهج الايمان، تتهادى من حولي حوريات من نور وبلور، ساحرات هائمات في عالم خصب وخضرة وانهار خمر ولبن وعسل.
لكن، ثمة شخصية مقدسة جبارة، كانت اول من جلب انتباهي في طفولتي الاولى ، وكادت ان تكون هي رديف الله. اتذكر ان اخوتي جميعهم، في اول ولادتهم، كانوا يحملون اسفل ظهورهم، بقعة زرقاء بحجم الكف، تختفي بعد فترة. وعندما سألت ابي عن مغزاها، قال انها أثر قدم(الامام علي). عندما تعسر الولادة لدى المرأة، تنخى الامام قائلة( احضر يا علي.. احضر..). فيأتيها الامام ويدخل بطنها ويرفس الجنين على ظهره فيخرج الى الحياة. ويبقى اثر قدم الامام على ظهر الطفل. والطريف اني هنا في جنيف لاحظت نفس هذه البقعة الزرقاء اسفل ظهر ابني(باسم) عندما ولد، رغم ان زوجتي سويسرية، وانا على يقين انها لم تنخ الامام علي، رغم معرفتها الجيدة به.
استحوذت علي شخصية هذا الامام الجبار. كنت اراه في الرسوم المعلقة على حيطان حوشنا، رجلا مهيبا وقورا اسمرا بعيون واسعة كحيلة، ومعه دائما سيفه(ذو الفقار)، ومحاطا بولديه الحسن والحسين، وزوجته المنقبة فاطمة البتول. كان ابي يسرد عنه حكايات وحكايات: هو ازلي لا يموت، عاش مع كل الانبياء، منذ آدم ونوح وموسى وعيسى حتى النبي محمد. له معجزات لا تحصى: كيف انه انتقل مرة من مكة الى الكوفة برمشة عين وبخطوة واحدة. وكيف انه شارك النبي، صحن تفاح الجنة الذي قدمه له الله عندما اسرى اليه. وكيف انه اقتلع بيد واحدة باب قلعة خيبر وحطم به جيش الاعداء. وكيف اكتشفت امه انه قد ظهر لها قبل ان تنجبه وانقذها من براثن اسد. وكيف ان الامام اختار ارض النجف ليدفن بها، في نفس قبر جدنا آدم الذي كان عملاقا بحيث ان الامام مدفون في عينه اليمنى!
لو تدرون، كم شغفت بالامام علي، وحسدته في سري لأنه كان يمتلك كل هذه القوى الجبارة. لكني بقيت مترددا بالايمان المطلق به، لاني كنت بحاجة الى رمز مثل ابي، فيه من الضعف والوجع مثلما فيه من القوة والجبروت. وقد وجدت هذا فيما بعد في حكايات النبي ابراهيم الخليل والنبي عيسى المسيح.
* * *
اما حكايتي الحقيقية مع الله فقد بدأت مع وعي الاول،عام(1962) في عمر السادسة. ذات فجر شتوي بارد، وانا نائم في بيتنا الطيني في (الشاكرية)، ايقظني ابي وهو يرش الماء البارد على وجهي، ويستحثني على التحرك للذهاب معه الى حانوته في منطقة السعدون بجانب دائرة الامن العامة. وعندما حاولت ان استعين بأمي لكي تحميني من قرار ابي الجائر، خيبت املي بخنوعها وحماستها لكي اخضع. اركبني ابي وراءه على الدراجة(البايسكل) وراح يشق دروب حي (الشاكرية) المعتمة عابرا حدود (كرادة مريم)، ثم ترجلنا من الدراجة وشرعنا نصعد(جسر الجمهورية) المقوس مشيا لصعوبته، ثم ركبنا مرة ثانيا الدراجة ورحنا نهبط بها سريعا حتى ساحة التحرير ثم ساحة الطيران ثم شارع النضال حتى (القصر الابيض) ثم (منطقة السعدون).
طيلة الطريق، ورغم ان كل هذه الدروب الليلية، كانت بالنسبة لي اكتشافات جديدة، الا ان هنالك بلاد عضمى اخرى قد جلبت انتباهي ليس لها اية علاقة بالارض كلها، لانها كانت هناك بعيدة بعيدة في اعماق الفضاء، الا وهي((السماء))! وانا جالس على الدراجة خلف ابي، كنت مشدوها ولأول مرة في حياتي بمشهد السماء، بأمتدادتها اللامتناهية ونجومها اللا محصية وهلالها المتوهج المتموج مثل تلك الفاكهة التي سمعتهم يسمونها(موز) والتي كنت قد رأيتها مرات ولكن لم اتمكن من تذوقها.
يقينا اني كنت اعرف السماء مثل كل الناس، فنحن ابناء الشاكرية مثل ابناء العراق، نمضي معضم ليالينا ننام تحت السماء ونغمض عيوننا على مرأى النجوم. لكني هذه المرة، لا ادري لماذا، وانا جالس على الدراجة خلف ابي اعانق ظهره النحيف الدافئ، اكتشفت لاول مرة جبروت السماء. هل هو العمر، ام رهبة صمت الفجر، ام قلق اكتشاف رجولتي الجديدة في عمر الاعوام الستة، ام لأن ابي جلب انتباهي الى تلك النجمة التي يستقيض عادة عند سطوعها في كبد السماء، والتي يسميها(نجمة الصبح) وهي كوكب الزهرة رمز (عشتار) ألهة الخصب الانوثي لدى اسلافنا القدماء. خلبني مشهد انعكاس الهلال والنجوم على صفحة مياه دجلة المرتعشة مثلي من البرد. منذ ذلك الفجر البعيد البعيد وحتى الآن وانا غارق في بحار السماء. امضي حياتي اطوف واسبح في مياه من نور، وامواج من نجوم، يداعبني نسيم من خيال، ويغمرني قمر وضاء مرتجف ينبض هنا في صدري:
ـ بويه.. منوا اللي خلق السماء..
سألت ابي مشدوها..
ـ الله.. الله يا أبني..
ـ وشلون ما توقع ؟!
ـ الله مثبتها بسلاسل من قدرته، يا ابني..
ـ وشنو فوق السماء؟
ـ يا ابني، هناك سبع سموات.. وفي كل سماء هناك ملائكة يعبدون الله ليل ونهار، وفي السماء السابعة هناك عرش الجلالة، مقر الله سبحانه وتعالى.
ـ ومنو اللي خلق الله.. بويه؟!
بعد صمت وهمهمة، قال ابي بصوت آسف منذر:
ـ تدري يا ابني سؤالك هذا يعتبر كفر. النبي موسى سأل ربه نفس هذا السؤال، فزعل عليه، وصرخ بيه(تأدب يا موسى)!، حتى وقع (مغشيا عليه) في جبل سيناء لمدة ثلاثة ايام.. الله قادر على كل شيء قدير، يا أبني..
ولم ارتح لجواب ابي، وبقيت متلكئا خائفا حائرا.. وعندما شعر بذلك، اضاف قائلا:
ـ اسمع ابني.. الله سبحانه وتعالى، قال في كتابه الكريم:( انا خلقت درة، ومنها اختلقت)..
لقد اعجبتني هذه الصورة حقا. تخيلت درة بلورية متوهجة في الكون، تفقس مثل البيضة ليخرج منها اله عجوز وقور جبار، كله بياض ببياض، ثوبه فضفاف وشعره فضي ووجهه طفولي جميل بلحية بيضاء ووجنتين وردتيتين تفاحيتين مثل وجه (بابا نوئيل) الذي سبق إن رأيت صورته لا ادري اين.
حينها شعرت بالطمأنينة فعانقت بقوة ظهر ابي وغرقت بتوهجات الهلال المتلألئ فوق عمارات بغداد، وهو يرافقنا بمسيرتنا، حتى غفوت.. ولم استيقظ الا على توقف الدراجة وصوت ابي يقول:
ـ وصلنا يا ابني..
* * *
امضيت دراستي الابتدائية(1963- 1969) في مدرسة (البتاوين) المجاورة للقصر الابيض. كان غالبية تلاميذها من السريان المسيحيين(كلدان وآثوريون) من المهاجرين من شمال الوطن. حتى اني تعلمت منهم بعض اللغة الكلدانية وخصوصا عبارات القسم والشتم. كان جميع اصدقائي تقريبا من المسيحيين: عادل بطو التلكيفي، ومهران جورج الارمني، وصبري الشقاوة الآثوري، ونمير كتو الكلداني.. وغيرهم الكثيرين.
اتذكر في درس الدين، كان غالبية التلاميذ يتركون الصف لأنهم مسيحيين ونبقى نحن الاقلية من المسلمين. هناك صديقي الفلسطيني(محمود محمد) والجنوبي(صلاح هاتف)والكردي(عادل حاجي). نقرأ الآيات القرآنية مع الاستاذ (عباس) الذي كان جافا قاسيا يتقن اللكم على الظهر واجبار التلاميذ على ضرب احدهم للآخر، بالاضافة الى ما كان يشاع عنه من ميول غريبة، لأنه كان يستخدم ابدان الطلبة الحلوين كلوحة يوضح لنا عليها سير المعارك الحربية التاريخية. فكان جيش الكفار ينطلق من الرأس وجيش المسلمين من الفخذ، ويسيران في المنحدرات حتى يلتقيان عند السرة!
في سنوات طفولتي تلك، رغم ان ابي قد بلغ الستين من عمره، الا انه لم يزاول بعد تقاليد الصلاة والصوم ولم يفكر ان يستحثنا على ذلك. بقيت علاقتي مع الله قائمة على اساس الايمان المطلق بقدرته وجبروته وتحكمه بمصير الكون وما فيه من كائنات حية. لكن ايماني هذا لم يأخذا بعدا طقوسيا يوميا. قد تستغربون ان اخبرتكم، بأني تعلمت الصلاة هنا في جنيف، بواسطة كتيب صغير. اما الصوم فأتذكر اني جربته في طفولتي من باب الفضول ومشاركة اخوتي، لكني لم اصبر اكثر من بضعة ساعات وسرعان ما كان يصيبني العطش فأفطر.
لكن حكايات ابي لعبت دورا كبيرا في توجهي نحو الله. كان ابي مثقفا شعبيا كبيرا والناس يأتون الى حانوتنا ليسمعوا حكاياته التي لا تنتهي عن الانبياء والاولياء والملوك والخلفاء والجن والطناطل وشيوخ الجنوب وأغوات الاكراد والاتراك وعسكر الانكليز، بالاضافة الى تجاربه الشخصية وطفولته في اهوار العمارة وحروبه في الجيش العراقي ومغامراته النسوانية.
كان يحكي ويحكي ويعيد الحكاية مرات ومرات ولكن في كل مرة هنالك اضافات جديدة وحركات تمثيلية مختلفة تمنح حياة جديدة لتلك الحكايات.
لا ادري لماذا حكايات الانبياء هي التي اثرت في اكثر من غيرها. حكاية آدم وحيرته مع حواء وغضبه منها عندما اخرجهم الله من الجنة، وفراقهما عن بعضهما لفترة اربعين عام، حتى التقيا عند جبل عرفات، ومارسا الحب من القوة والشهوة بحيث ان مياه خصبهما صارت بحيرة. حكاية مريم العذراء وهي تعاني الطلق تحت النخلة وكيف خرج ابنها عيسى من فخذها (وليس من بطنها) لكي تبقى باكرا، وكان الطفل واعيا ناضجا بحيث انه راح يطمئن امه ان ترجع الى اهلها وهو يتولى اقناعهم بطهرها وعفتها. وحكاية موسى ورميه في النيل وعيشه في بيت الفرعون.
حكايات عديدة عن انبياء وقديسين لا يحصى عددهم. لكن اكثر الحكايات التي اثرت في نفسي وطلبت سماعها مرات عدة، هي حكاية (النبي ابراهيم) الذي تمرد على اصنام اهله وشعبه وراح يبحث عن الله في السماء فاختار مرة الشمس ومرة القمر، حتى توصل اخيرا الى الله الكلي المطلق. وكيف بعد ذلك، قرر الملك عقابه على تمرده على ديانة شعبه، وحكم عليه بالحرق حتى الموت. تبلغ الحكاية ذروتها،عندما يصف ابي كيف كان ابراهيم الشاب الثائر مربوطا الى عمود وسط الحطب المحترق وهو يستغيث بألله:
ـ يا الهي انقذني.. يا الهي لا تتخلى عني وتشمت بي كفاري..
واذا بصوت الهي جبار يهز الفضاء بذلك القول الخالد :
( يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم وآل ابراهيم..)
فتسقط الامطار وتخمد النيران ويكتشف الناس صحة نبوة ابراهيم ويؤمنون بأن الله حقا هو الاوحد الاعظم لا شريك له.
لا ادري كيف ان هذه الحكاية بالذات جعلتني وانا في سن التاسعة اقرر ان اصبح نبيا مثل ابراهيم! اعتقدت بصورة يقينية بأني فعلا مهيأ للنبوة. رحت في ليالي الصيف وانا نائم على الارض في بيتنا الطيني في منطقة السعدون، امضي الساعات ارمق سماء بغداد الوضاحة الزاهية دائما بالنجوم، انتظر مجيء الملاك جبرائيل حاملا لي رسالة النبوة. كنت قد علمت ان الرب قد وضع ملاكان على كل انسان، احدهما على الكتف الايمن لتسجيل الحسنات، وألآخر على الكتف الأيسر لتسجيل السيئات. فرحت اغصب نفسي على ان اسلك سلوك الانبياء، فتجنبت الكلام البذيء والخصام مع الاولاد وعصيان اوامر اهلي واخوتي الكبار، ورحت اغتسل كل يوم وأنتظر بأدب قدوم الطعام، وعندما اسير في الطريق اراقب الارض وارفع عنها قطع الخبز لكي لا تدنسها الاقدام لانها(نعمة الله). كذلك ابعد قطع الزجاج لكي لا تجرح الاطفال الحفاة. لكني استغرب الآن ولا ادري كيف حصل اني نسيت حينها ان اقرأ القرآن واطبق فروض الصلاة. اتذكر فقط اني جربت الصوم في رمضان، لكني وجدت المسألة صعبة والعطش لا يقاوم، فأعتذرت من ربي طالبا منه ان يسامحني مؤقتا وسوف اعوضه مستقبلا عندما اصير نبيا.
كنت عندما اقوم بعمل حسن، اشعر بنوع من لمسة مداعبة على كتفي الايمن لأن ملاك الحسنات كان يطبطب مشجعا وهو يخرج دفتره ويسجل. وعند اقترافي لسيئة، كأن انظر الى بنت الجيران او اسرق أكل من المطبخ او ينزلق لساني فالفظ كلمة شتيمة، حينها يبدأ كتفي الأيسر يحكني واشعر بثقله لأن ملاك السيئات كان يتململ وهو يقرصني غاضبا. بل اني اسمع حتى أفأفته وتأنيبه لي وهو يسجل في دفتره خطاياي. فينتابني الأسف واستغفر ربي وابصق في عبي وانا العن الشيطان، واردد:
ـ امداي.. امداي... لعنة الله على الشيطان..( تبا لي.. تبا لي.. لعنة الله على الشيطان).
هكذا رحت امضي اول الليل انتظر وانتظر محدقا في السماء، وكلما مرق خفاش ليل او قدح شهاب، كنت اقفز من فراشي معتقدا بأنه جبرائيل. لكن الليالي تمر، وكلما استيقظت صباحا حزنت وغضبت لأني لم ازل بعد انسانا عاديا، ولم اصبح نبيا، فأردد مع نفسي بأن جبرائيل لا بد انه آت في الليلة القادمة. لكنه لا يأتي، ولا حتى كلمة اعتذار من ربي الكريم. راحت الليالي تمضي والسأم يتسرب الى روحي، حتى اني ذات صباح استيقظت غاضبا، ودون تفكير توجهت الى المكان الذي خبأت فيه مصيادتي، وتناولتها ورحت اطارد العصافير واشتمها بكل الكلمات البذيئة التي كبتها في اعماقي خلال أشهر. وطلبت من ربي ان يؤجل شغلة النبوة.
* * *
في نهاية اعوام الستينات دخلت سن المراهقة، وبدأت ثورتي على نمط الحياة القاسي والمهين الذي كان يفرضه علي ابي. لم اعد اخضع لجبروته وعقابه، كنت اصرخ واهرب، بل كنت اهدده، وبلغت بي الجرأة اني رحت اشتمه وانا اغص بصرخاتي الباكية حتى ينقطع صوتي واختنق، واهج بعيدا في الدروب، حتى يهدني التعب والجوع واعود الى الحانوت عندما يحل الظلام. والذي ساعدني على ثورتي، ان ابي بدأ يهرم وراح يفقد قواه وحيويته السابقة بعد ان عان من كسور اضلاعه ورجله في حوادث دهس عديدة، اولها بواسطة سيارة وثانيها بواسطة عربة بحصن ممن كانت سائدة في حارات بغداد.
بما ان علاقتي بالله كانت تستمد حيويتها من علاقتي بأبي، فأن ثورتي على ابي كانت هي نفسها ثورتي على الله. وقد اتى ذلك اليوم التاريخي الكبير الذي اعلنت فيه ثورتي السماوية الكبرى، صيف عام 1970. حدث هذا في عز مراهقتي، بسبب فشل حبي لمعبودتي(إيمان) تلك الفتاة الموصلية الشقراء سليلة الامراء والباشوات. انها حكاية طويلة سوف اسردها لكم في فصل قادم. كنت في سن الرابعة عشر، وقد مضى على حبي لايمان اكثر من اربعة سنوات، مليئة بعذابات الحرمان والغيرة القاتلة والمحاولات الفاشلة بالتقرب منها، حتى صرت اشبه بمخبول حائر متمرد. في ذلك اليوم المشهود، كنت جالسا وحدي في الحانوت، ينهشني الغضب والحزن، فرفعت ناظري الى السماء المبللة بدموعي وخاطبت ربي بصوت باك مبحوح شاك مهدد:
ـ يا الله.. ليش تعذبني هيـﭺ .. ارحمني يا ربي.. ساعدني يا الهي..خلي ايمان تحن علي وتتفهم حبي الها.. ارجوك يا ربي.. ترى بديت افقد صبري واخاف ان ايأس منك.. افهمني يا ربي .. ارحمني ياربي..

وكأنما اراد الله ان يتحداني ويجعلني في مواجهة الحقيقة التي كنت ارفض الاقتناع بها: ان اهجر أي امل بأيمان، لأن سعة الفروق الاجتماعية الاقتصادية بيننا تتعدى المسافة بين الارض والقمر.
وإذا بي قبل ان انهي دعائي، اسمع صوت الخادمة(خانزاد) تناديني عبر سياج القصر المطل على حانوتنا. كالعادة تريد تكليفي بشراء حاجة من السوق. وفي لحظة دخولي عبر بوابة قصرهم، رأيت بمواجهتي ايمان تشع بجمال عيونها الخضر وشعرها الذهبي ووجها الطفولي الوردي الضحوك، وقد نضجت بسرعة كأنها إمرأة كاملة وهي بالكاد تبلغ سن الخامسة عشر. كان بصحبتها شاب جميل قيل عنه انه سليل عائلة غنية معروفة، وهو احد الخطاب الواعدين. تحاشت ايمان النظر الي وقد توهج وجهها بحمرة تفاحية. ولم اكمل سيري، بل عدت بسرعة الى الحانوت لأني شعرت بأن حريقا، او قل قنبلة قد تفجرت في كياني، احالت روحي الى شضايا انتثرت في انحاء الكون، فرفعت رأسي الى السماء، وخاطبت الله بصوت ناري متشضي:
ـ يا الله.. ليش تعذبني هيـﭺ يا ربي.. تتنكر لي بعد كل صلواتي ودعواتي.. ياربي تتركني وحدي بهالعذاب.. وين رحمتك وعدالتك يارب.. وين .. انت طالق يا الهي.. انت لا تستحق ابدا لا إيماني بيك ولا حتى اعترافي بوجودك..
ثم بصقت نحو السماء وعاد الرذاذ منتثرا على وجهي مختلطا بدموعي..
ومنذ ذلك اليوم رحت اجاهر بالحادي ورفضي الاعتراف بالله. كنت ذئبا جريحا هائجا مكلوبا يريد الانتقام من صياد مجهول اسمه الله اصابني بطعنة غدر لا ترحم وعاد الى عرش جلالته في السماء السابعة. كل خيبتي من معبودتي ايمان، وكل نقمتي من ظلم الحياة، وكل تمردي على انفصامية ابي، تركزت على الله، ذلك الكائن الجبار الاعلى الذي كنت اخشاه واحبه واعبده، لكنه سخر مني ورحل!
رحت امضي جل وقتي في اعلان الحادي بالله. استغل أي فرصة حوار لكي احاول ان اقنع الناس بالتنكر لله. تبنيت طبعا تلك الحجة المعروفة:
ـ لو كان هناك فعلا اله، ما كان هذا الظلم وهذه الكوارث اللي تعاني منها البشرية.. حتى لو كان الله موجود فعلا، فأنه اكيد اله غير عادل وغير صالح للعبادة والتقديس..
والغريب اني ولأول مرة في حياتي، بدأت اسمع العديد من الناس يتهموني بـ(الشيوعية)! لأني على حد زعمهم، ( أحكي مثل الشيوعيين)!
وكانت هذا بداية دخولي في عالم السياسية، وهي حكاية طويلة. لكنني كنت اغضب من هذه التهمة وارد عليها بقوة. فأنا طيلة حياتي السابقة، لم اعاشر شيوعيا، بل ما كنت احمل عنهم غير فكرة سلبية. كان ابي وزبائن حانوتنا من شرطة الأمن، يقولون عن الشيوعية بأنهم سفكة دماء بلا اخلاق يفسقون مع امهاتم واخواتهم. صحيح اني كنت قارئا نهما منذ طفولتي، لكني ابدا لم اقرأ كتابا شيوعيا واحدا، بل جل قراءاتي كانت روايات عالمية ومصرية، وفي تلك الأيام كان (نجيب محفوظ) كاتبي الاول وكنت قد قرأت خلال عام واحد جميع رواياته.
كل هذا دفعني بأن ابحث عن الكتب الشيوعية، لكي اكتشف فيها اتفاقهم معي في محاربة الله. واحتجت الى بضعة اعوام من التردد والانتظار والحوار حتى وجدت نفسي قبل سن الثامنة عشر، عام(1973) صديقا في ذلك التنظيم الماركسي الفلسطيني المعروف بـ(الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جماعة جورج حبش)، ثم بعدها بأشهر عضوا في الحزب الشيوعي العراقي. كان اكتشافي للفكر الماركسي ثورة روحية وثقافية لم انتظرها، قلبت موازين حياتي بأكملها. رحت اقرأ بشغف جنوني كل ما يقع بيدي من كتيبات ومجلات ماركسية، وخصوصا تلك التي تتحدث عن الفلسفة المادية(التاريخية، والديالكتيكية). لو تعرفوا كم كان ممتعا وجميلا ومريحا ومنعشا ان اقرأ تلك السطور التي تتحدث عن التاريخ المتحرر من سيطرة الله والذي تقوده الطبقات الظالمة والمظلومة، وعن الكون العظيم الخالي من أي عقل مدبر واله جبار، بل هو يقود نفسه بنفسه وتتحكم به الصدفة وقوانين الطبيعة المجهولة.
آه يا اصدقائي، كم كنت حينها، احس بلذة الانتقام وانا اتخيل معبودي الله، وقد صار هرما منبوذا بلا تاج ولا عرش ولا ملائكة ترفرف من حوله، بل الها متقاعدا وحيدا مهجورا في زاوية معتمة من سمائه السابعة.
لكني رغما عني ومن دون ادرك، كنت قد تبنيت ارباب اخرى، حلت محل الله، بوجوه واسماء جديدة، على رأسها ذلك السيد الملتحي الجليل المدعو (كارل ماركس) ومساعده الطيب الحبوب (فردريك انجلس). اما ذلك السيد الاصلع الجبار المدعو (فلاديمر ايلتش لينين)، فقد شغفت به وقرأت معظم كتبه ودرست تفاصيل حياته حتى انه غدى في روحي سيد الانبياء والاولياء الذين شغفت بهم في طفولتي.
* * *
وانا الآن متحرر من حقد المراهقة وتمرد الشباب الاول، ادرك جيدا بأني في ذلك الوقت، كنت في اعماقي الحقيقية، حزينا على الله مثلما انا حزينا على ابي الذي كان يعاني الهرم وقد تجاوز السبعين، وامتلأ جسمه بجروح وكسور من حوادث شتى، وصار اعرجا حزينا يبكي من غدر العمر والزمان.
نعم يا اصدقائي، اعترف لكم الآن بأن استخفافي بألله، كان في جوهره استخفافا بأبي وبتاريخي كله. ان تنكري لابي ومحاولة تخلصي من ارثه واصله الوضيع المتخلف، هو دفعني ان اتنكر الى لله وابحث عن ارباب اوربية تقدمية لتحل محله!
والآن، بعد اعوام من البحث والحوار، وبعد ان اصبحت بعمر ابي، وتفهمت معاناته وانفصاميته، واستعدت ذكريات طيبته ومحبته، وسامحته على قسوته ووحشيته، تمكنت كذلك من التصالح مع الله وارجعته الى عرشه الاعظم في سماءه السابعة، واعترفت به، ليس فقط كجبارا جليل، بل جعلته صديقي الطيب الحميم. جنته راحة ضميري وجهنمه مشاعر اثمي.. اعيش في كيانه ويعيش في كياني..هو الشجرة وانا الورقة..هو البحر وانا الموجة..هو البدن وانا الخلية.. به ادرك وجودي وبي يدرك جبروته.. هو الخالد وانا الخالد ايضا معه.. احيا واموت واحيا مادام هو حيا..
علاقتي مع الله صارت مباشرة، بلا وسيط ونبي ورسول. اناجيه في كل مكان وزمان، في معابد جميع الاديان، في بيتي والبحيرة والغابة، في الحانة والمرقص والسينما، لأني اعرف في كل الاحوال اني عندما اناجيه يترك عرشه ويهبط هنا في اقدس بقعة من كياني، في لب قلبي..
لكني يا اصدقائي، بين حين وآخر، اشعر بأسف وحسرة لأني لا استطيع ان ارجع ابي الى الحياة، ليكون ايضا صديقي الطيب الجليل. رغم اني في اعماقي ادرك جيدا، ان ابي مثل الله، لا زال حيا في خبايا الكون، وعندما اناجيه، يهبط هنا في معبدي.. في لب قلبي..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 هذا فصل من كتاب سيرة ذاتية في طور الاعداد
www.salim-matar.com



#سليم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احياء الهوية الوطنية.. الخلاص الوحيد اما العراقيين
- مام جلال والنخب الكردية العراقية، والفرصة التاريخية التي لن ...
- السلطة الكردية وحملاتها ضد الكتاب العراقيين ومنهم الاكراد ال ...
- مقطع من سيرة عراقية: هنا ترقد الشاكرية.. بلادنا العابرة
- اليسار العراقي والموقف من نظام البرزاني والنظام التركي
- عقلية التدمير الذاتي العراقية والحنكة الامريكية الاسرائيلية
- سيرة عراقية/ سينمات بغداد.. جناني المفقودة
- بعد غيبة طويلة، حوار موسع مع سليم مطر حول الهوية الوطنية
- سلالة الحقد.. سلالة الحب..
- حلفاء امريكا في العراق يحرضون اطفال المدارس على قتل المسيحيي ...
- اعلان انبثاق تيار الضمير العراقي
- اليسار العراقي ومشكلة الدين والقومية
- نصيحة جادة صادقة لكل عراقي يبتغي ان يصبح سياسيا ناجحا
- محبة الوطن، تعني الارتباط بواقعه واحترام خصوصياته
- موقع مجلة ميزوبوتاميا: خمسة آلاف عام من الانوثة العراقية..
- من يريد طرد مسيحي العراق والشرق الاوسط؟
- هلموا قدموا عروضكم ايها العراقيون..مطلوب قادة للعراق
- نداء ضد الارهاب والمقاومة المسلحة ومن اجل الكفاح الشعبي السل ...
- .. خمسة آلاف عام من الانوثة العراقية: دعوة للمشاركة بالعدد ا ...
- نداء الى القيادات والنخب الكردية العراقية: نخلصوا من اسطورة ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم مطر - فصل من سيرة عراقية: حكايتي مع الله .. صديقي الطيب الجليل