محمود عزت
الحوار المتمدن-العدد: 1910 - 2007 / 5 / 9 - 10:35
المحور:
الادب والفن
كان أكثر ما يضايقني من فترة هو الشعور بالضآلة المفرطة كلما فكرت في حجم ما أنجزته خلال 23 عاما , هم ثلث عمري لو قدّرنا أني سأصل لمتوسط عمر الرجل المصري , أتفهم الآن تشبث الجميع بفكرة الخلود , أن نكتب ما سيعيش و يبقى و يستمر..أن نكون حاضرين دائما , لا أعرف فيم يفكر نيتشة أو لوركا الآن..وبما أني لا أعرف إن كانا في الجحيم أم في الفردوس..أريد أن أعرف هل يشعران بإسميهما ثقيلين و مهمين كما هما هنا على ألسنة الجميع ؟
كثيرون يعلقون على الكتابة بالعامية أو الكتابة اليومية العادية بأنها لن تعيش , لن تخلد , لأن اللهجات تموت كما ماتت عاميات الأيام الخوالي و ها نحن الآن نتحدث لغة جديدة ...
أريد فقط أن أقول أن اللغات كلها تموت عاميتها و فصحاها , منذ شهور قررت أن أقرأ المعلقات كاملة بشروحها , حددت مجموعة لا بأس بها من الكتب الثقيلة المهمة في هذا الشأن و حين جربت أن أبدأ في تذوق الأبيات وحدي لم يكن هناك فرق بين عربية إمرئ القيس و طرفة بن العبد و بين السريانية على لساني..
بمشقة بالغة أتمت الموضوع و لم يرسب في روحي إلا القليل القليل من هذه المعلقات الشاسعة كصحراء الجزيرة..
أنا لا أنتمي لهذه اللغة , و لا أشعر بالصلة الحميمة التي تجعلهم أوثاني الطيبة , أنا فقط قرأتهم لأتجشأ في وجه من يشير بإنتقاص إلى قصائدي التي أكتبها بلغتي و لهجتي أنني قد قرأت المعلقات بشروحها و أحفظ ثلاثة أرباعها عن ظهر قلب..
هذا هو الصك الذي سيحميني حين أقرر كتابة قصيدة النثر أو حين أفكر في الكتابة بالعامية _اللتين لا تتوفر فيهما شروط الخلود _ و ذلك لأنني ببساطة أشعر بأني أضأل من أن أكتب ما أريد أن أقوله للناس في الطريق أو أنهم من حقهم أن يقرأوه...نحن جميعا ضئيلون بما يكفي كي نظل نكتب و نقرأ فقط ما إعتبره الخالدون القدامي جميلا و عظيما و جديرا الخلود..
لذلك فما لدي الآن هو إن كان الجميع يصرون على أن نكتب ما يبقى فأنا أشعر أن هذا الخاطر هو ما يفسد عليّ و على غيري مزاج الكتابة بشكل دائم
شعورنا بالضآلة هو الذي يدفعنا لتضخيم أصواتنا و التلويح بشكل مسرحي ّ في قصائدنا و نصوصنا , لنبدو مهمين و جديرين بالبقاء مهما كان ذلك غير حقيقي أو غير ملهم للكائنات الضئيلة من حولنا _ التي انصرفنا عنها في سبيل كائنات أضأل في المستقبل _ , هو الذي يجعلنا نكرس الكتابة لغرض واحد : أن يعبر ما نكتب للذين لن نراهم ولن نسمع تصفيقهم ولا صفيرهم , و برغم كل ما يحاول الجميع أن يقولوه عن أنهم يكتبون للمتعة الذاتية أو للفن أو إلى أخر هذه السخافة , فلم أر أحدا يقنعني أننا جميعا في هذه اللعبة المتبادلة : الكتابة , لا ننتظر التصفيق كما يهز الكلب ذيله أمام صاحبه في لهفة لإستحسانه..
لا أحد يكتب لذاته , فقط الخوف أحيانا يمنعنا من الجهر بنا و لأننا لا نريد أن نتهشم دفعة واحدة
بالإضافة إلى أن ثوب الكتابة للكتابة هذا يمنحك بعض العزة أو الإستغناء حين تُقرر أو صودف أن قرأ لك أحد , لتخبره بكبر أنك تكتب لذاتك ولا تنتظر الكثير من أي أحد..و هذه هزة ذيل حقيقية أو بديلة لنيل الإستحسان " قطعة من السكر" من يد القارئ الذي قد لا تعجبه ..
أحيانا أردد هذه المبررات السخيفة ...أكتب لذاتي أكتب لأم متعتي الشخصية ثم أتناول أفيونتي و أنام
يختلف ذلك عن الدافع ذاته , كثيرا ما أكتب لأنني أشعر بالرغبة في التنفيس عن ضغط ما , لا أكثر...لكن ما إن يكتمل أمامي " عمل " فهو يتحوّل إلى رسالة لابد أن ألقيها الآن في صندوق البريد
أما عن الخلود , يهمني الآن أن أضيف مجددا أنها أسخف فكرة يمكنها أن تسيطر على ذهن أي أحد , و أنني أفضل أن أكتب ما أريد أن أقوله الآن و لمن أريد أن يقرآوه الآن بلغتنا التي نتحدثها الآن , ثم يموت كل ذلك في النهاية بعد 4 سنوات على أن أظل أنحت في تماثيل ضخمة جديرة بالخلود لا تعنيني ولا تعني أحدا ممن حولي في سبيل أن يعبر أمامها القادمون في الزمن البعيد , الذين لا أعرفهم ولا أعرف إن كنت سأحبهم أو لا أو سيكونون حينها يتحدثون لغتي..
أريد في مساحة العبوة المتاحة "الستين أو السبعين عاما " أن أحب "سوسن" إلى أقصى حد و نتزوج و نسافر و نشتري لبعضنا هدايا صغيرة و نشرب الشاي وحدنا في كوخ على البحر , أكتب قصائد أحبها و تحبني و ترد عليّ , و يحبني الناس و يقرأون شعري و يسلمون علي في الطريق كصديق قديم و أقوم بكل المنجزات الصغيرة التي أفكر فيها الآن و التي ستموت بعدي أو تتلاشى كالدخان كما يتلاشى كل شئ..
هذا هو ما يهمني الآن فعلا
كما يهم ذكر نمل صغير يحب نملة طيبة في سرداب في أرضية الحجرة تحت قدمي الآن
#محمود_عزت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟