|
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1903 - 2007 / 5 / 2 - 10:47
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
1 مضى عام كامل ، على رحلتي الكردستانية ، الأولى . وأستعيد بعض وقائعها ، على وقع الذكرى العشرين للقصف الكيماوي لمنطقة " باليسان " ؛ المستهلة به حملة الأنفال ، المشؤومة . في الحلقة السابقة ، وصلتُ في سردي إلى ما كان من زيارتنا لمصيف " شقلاوة " ، الرائع . كان في خطط ذلك اليوم الجميل ، الربيعيّ ، أن نسترسل في جولتنا حتى شلالات " كَلي علي بك " ، الواقعة على مسافة نصف ساعة بالسيارة من بلدة " شقلاوة " . ولكنّ مهاتفة ، عبرَ الخليوي ، من مسؤول كبير ، جعلت رحلتنا تأخذ مساراً آخر . إذ أخبرنا المضيفُ ، الفنان سعيد غاباري ، أنّ عليه التوجه إلى ضاحية قريبة من البلدة ، لتقديم بعض الأغاني ، الوطنية ، بمناسبة ذكرى قصف المنطقة بالسلاح الكيماوي ، في نيسان 1987 . وبما أنّ الطريق إلى ذلك الملعب ، لا بد أن يمرّ من داخل " شقلاوة " ، فكان هذا فرصة لا تفوّت ، بالنسبة لي على الأقل ، لكي أتملى مناظرها . مرت مركبتنا بغيضة حور ، كثيفة ، فرحتُ أتأملها من خلال البللور ، وقد بدا تمثال " كاويس آغا " ـ المغني الشعبي ، الأكثر شهرة ـ كما لو أنه حارسها ، الخالد ؛ هوَ المنتصب بأبهة قامته ، المرمرية ، في دوار بمنتصف الطريق الرئيس . ثم ما عتمَ المشهدُ ، الساحر ، لبلدة " شقلاوة " أن راحَ يتوالى أمام عينيّ صورة بإثر أختها : جدول رقراق ، ينحدر مستقيماً ، ناصعاً ، من أعلى السفح ـ كخنجر كرديّ ، مفضض ؛ أجمة من كروم العنب والرمان والتين ، مُسَورة بألفة صديقةٍ لأشجار اللوز والكرز ؛ شجيرات قرطاسية ، ضاجة بألوانها البيضاء والليلكية والزهرية ، يُنبي وجودها بمعجزة المكان ؛ وبيوتٌ متشامخة بحسن عمرانها وساكنيها ، على السواء ؛ بفتنة فتياتها خصوصاً ، وهنّ على آخر موضة في الملبس والتبرج ، ما دامت الواحدة منهن ، على كل حال ، لا تعرف حجاباً !
2 وجدتنا بإزاء ملعب كبير ، حديث ، وقد أحدق بمداخله حرسٌ مسلحون . كانت كثافة الوجود المسلح ذاكَ ، تشي بحضور مرتقب لمسؤولين بارزين من حكومة الإقليم . بيْدَ أنّ هروع الكثير من الحرس لإستقبالنا والإحتفاء بنا ، أوحى لي ، إعتباطاً ، بكوننا الضيوف البارزين ، المنتظرين ! للحق ، فإنّ شعبية مطربنا ، الغاباري ، كانت كبيرة في كل مكان حللنا فيه ؛ وهوَ الذي كان آنذاك صاحب البرنامج الغنائيّ ، الفلكلوريّ ، المتميّز في فضائية " كردستان " . نلجُ إلى داخل الملعب ، فيتناهضُ بعضٌ من حضور الصف الثاني لإخلاء أمكنتهم لنا . رأيتني بجانب شخص متوسط العمر ، جرمه الضخم ملفوفٌ بلباس تقليديّ لمنطقة " شقلاوة " ؛ اللباس الفائق الأناقة ، فعلاً ، وخاصة غطاء الرأس ، المتشابكة في نسيجه الخيوط السود والخضر والزرق . النسوة والصبايا من حولنا ، كن بملابسهن القومية ، الزاهية ، الأكثر روعة ، بلا ريب : ها هنا أفراد عشيرة " خوشناو " ، العريقة ، المشهورون بالوسامة إناثاً وذكوراً ، كما سبق ولاحظ ذلك عديدٌ من رحالة الغرب ، في القرون الخوالي . إنهم أصحاب هذه الجنة الأرضية ، المنذورة اليوم لنهضة شاملة ، بعد كل ما عانته من ويلات الأنفال والقصف الكيماويّ ، البعثيّ . جاري هذا ، أخذ يحدّق فيّ بعينيْ نسر ، عميقتيْ الخضرة ، ثم ما لبث ان إبتدهني مستفهماً عن طبيعة عملي وسبب وجودي في الإقليم . بدوره ، قدّم الرجل لي نفسه ، بإسم " محمد بور " ، قائلاً بكثير من الزهو : " كنتُ بيشمرغة منذ عام 1964 . من أيام ملا بارزاني ، وحتى زمن قريب " . أعلمني أيضاً ، أنه جرح ثلاث مرات في مراحل الثورة ، المختلفة ، وأنه نزح خلالها كذلك إلى إيران وتركية . إنه من قرية " ملكان " ، التابعة لمنطقة " باليسان " ، والتي كانت أولى ضحايا القصف الكيماوي ، قبل عقدين من الزمن . لقد إستشهد هنا وقتذاك ـ كما ذكرَ لي محاربنا ، القديم ـ 122 شخصاً من الأهالي ، بينهم أقارب له . وعقب على معلوماته قائلاً ، أنّ بعثة من التلفزيون الفرنسيّ ، زارت المنطقة ذات مرة ، لإجراء تحقيق حول كارثة القصف الكيماوي ، وأنه شخصياً أدلى بشهادته أمام عدساتها .
3 ما كان عبثا ، أن تتوجه قنابل الحقد ، البعثيّ ، إلى " باليسان " ، بشكل خاص . فهذه المنطقة الجبلية ، المنيعة العصية ، كانت بحق بؤرة الثورات الكردية ، جميعاً : فمن خلف تلك الآكام ، المشكلة سفوح بلدة " شقلاوة " ، كانت السلاسل العملاقة لجبال " هندرين " ، " كاروخ " ، " آراس " ، و " برواشي " ، ظاهرة للعيان بكل هيبتها وجلالها وأنفتها ؛ وهيَ نفسها الشاهدُ ، الخالدُ ، على قصة كفاح سكان الإقليم ، والتي أضحت بالأسطورة أشبه . تبدو تلك السلسلة بقممها المحلقة ، المغمورة بالثلج ، كلوحة بيضاء منقطة بألوان الخمريّ والبنيّ والأخضر ؛ ألوان الصخور والقرى والغابات . وكما يتبجّس الماءُ من هذه التربة ، الكريمة ، كذلك الأمر في حياة الأهلين ، التي عادتْ أكثر إزدهاراً ودعة ووفرة ، إثر جلاء عهد الديكتاتورية الدموية ، المقيت . ثمة ، في السفوح المغمورة بوهج شمس الربيع ، الدافئة ، أكمَحَ الكرمُ تلوَ الكرم ؛ من الأعناب المشهورة بجودتها ، إلى الخوخ والأجاص والتفاح والجوز . إنها تجارة أهل المنطقة ، علاوة على ذلك . فضلاً عن وجود المنتجعات والمصايف ، الذاخرة بالمطاعم والمقاصف والمقاهي . بعيدَ تقديمه بعض الأغاني ، أرسلَ المضيفُ ، الغاباري ، من يعلمنا بضرورة التوجه إلى حيث المركبة بإنتظارنا . إنطلقنا على الفور ، بإتجاه الطريق المودية إلى " كَلي علي بك " . كان السائق إيزيدياً من أهل الإقليم ؛ مرحاً وعارفاً جيداً بجغرافية المنطقة . إنها منطقة بغاية الوعورة ، تكثر فيها الأنهار وتفرعاتها ، مما يزيد أيضاً من عدد الجسور ، المنصوبة فوق مجاريها ، الثرة . ما عاد من ضرورة للإلحاف على السائق بالأسئلة ؛ هوَ الكريم الخلق ، الواسع الصدر ، والمبادر في كل فينة واخرى لشرح طبيعة ما يحيطنا من أشياء ومعالم . على الأثر ، بدأنا رحلة إنحدار ، شديدة ، فما أسرع أن خلفنا القمم المخيفة خلفنا ؛ أين بدتْ السيارات كنقاط سود على الدرب الجبلية : " من هناك ، قدمنا للتو ! " ، أشارَ سائقنا إلى تلك الناحية ، الشاهقة .
4 " باليسان " ؛ هذا ما قرأته على لوحة صغيرة ، منصوبة على سارية حديدية ، مركونة على جانب الطريق العمومية . أرسلتُ طرفي بعيداً ، إلى حيث أشارَ دليلنا . كان ثمة رابية خضراء ، تتسلقها منازل طينية ، متبدية كرؤوس آدمية . فيما الصخور ، الناصعة ، مهينمة على الناحية ـ كخراف بيض . من هنا ، تستهلّ سلالة عشيرة " السورجي " ، الكبيرة ، القاطنة في قرى هذه الجبال الشاهقة ، المطلة على دربنا الأسفلتية ، كما لو أنها أسواره ، الصماء . ولكن ، ماذا تفعل تلك البقرة ، المسكينة ، على الدرب الخطرة : " ربما تمضي بحثا عن عجلها ، الضائع ؟ " ، يجيبني الإيزيديّ ، المرح ، وقد شابتْ لهجته رنة حزن ـ كأيّ ريفيّ متآلف مع مخلوقات الله تلك ، الضعيفة . مجدداً ، تنبسط الطريق . وما عتمت مركبتنا أن تهادت رخية ، مطمئنة ، في إختراقها لقصبة مأهولة ، مزدهرة . هيَ ذي بلدة " حرير " ، المسكونة من لدن غالبية من النصارى ؛ والذين لا يختلفون عن مواطنيهم المسلمين ، أو الإيزديين ، من ناحية اللغة والملبس والعادات . على جانبيْ الدرب ، ثمة أبنية حديثة ( أكثرها فيلات ) ، قيدَ الإنشاء ، ومحلات أنيقة ، تحمل بمعظمها أسماء مسيحية . تمضي مركبتنا قدماً ، إلى حيث المستديرة الصغيرة ، المنتصب في منتصفها تمثال مرمريّ ، مستدق ورهيف ، للسيدة مريم العذراء . تمثال آخر ، نصفيّ ، من المادة الرخامية ذاتها ، يطالعنا هناك في آخر البلدة ، ويجسّد رأسَ إبنها البار ؛ الشهيد فرنسوا حريري ، السياسيّ الكردستانيّ ، المرموق ، ومن أغتيل بأيدي متطرفين أصوليين من جماعة " أنصار الإسلام " ، الإرهابية . نتجاوزُ البلدة ولا نلبث أن نواجه ، مرة اخرى ، الوعورة الخطرة للدرب الجبلية . الجوّ متقلب بإستمرار ، كما هيَ حال الطبيعة الكردستانية ، المتنوعة . تغيب الشمسُ ، عندئذٍ ، وتكفهر السماء ؛ وكأنما لتزداد وحشتنا في هذه المنعطفات الكثيرة الإلتواءات والإنكسارات ، المحدقة بالوديان السحيقة ، المرعبة. ثمة قرية منعزلة ، ذات منازل طينية ، مالوفة ، مندسة ضمن تجويف صخريّ ، شاهق . إنها " كَولك " ، كما تنبينا لوحة مثبتة على طرف الطريق : لن يضيعَ أثركِ ، أيتها القرية المؤنفلة ، ما فتئتْ الجبال الصديقة شاهداً على الجريمة ؛ وما بقيتْ شواهدُ الدروب ـ من لوحات وأسهم ـ دليلاً لنا ، نحن العابرين لكِ وشقيقاتكِ ، في جبال الأزل ، هذه !
للرحلة صلة ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
-
كركوك ، قلبُ تركستان
-
سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
-
في مديح الخالة السويدية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة
-
أدبُ البيوت
-
مناحة من أجل حكامنا
-
حليم والسينما
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
-
السينما المصريّة وصناعة الأوهام
-
شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
-
كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
-
من معالم السينما المصرية : نهر الحب
-
نائبان ومجزرتان
-
نائبان وجزرتان
-
ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 2 / 2
-
حكايتي مع الحجاب
-
صورة وبقرة وقمر
-
كلمتان أمامَ ضريح الحريري
المزيد.....
-
-الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف
...
-
امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي
...
-
توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح
...
-
علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
-
بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم
...
-
مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير
...
-
رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ
...
-
تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار
...
-
عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
-
لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|