أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - فريد زهران - مقدمة تقرير مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط















المزيد.....



مقدمة تقرير مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط


فريد زهران

الحوار المتمدن-العدد: 1901 - 2007 / 4 / 30 - 11:46
المحور: المجتمع المدني
    


"مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط"
مدخل

بدأت رحلة مصر مع التحديث بعد صدمة الحملة الفرنسية، وحاول محمد على أن ينجز هذه المهمة من خلال نفس الآليات القديمة المستندة على دولة مركزية قوية وما عرف بـ ثقافة "الاستبداد الشرقي" الموروثة، ولكن بعد تآمر القوى الدولية فى ذلك الوقت على محمد على، وهزيمته فى موقعة "نفارين" البحرية تراجع مشروع التحديث المصرى لسنوات طويلة، وهكذا واجهت مسيرة القوى الوطنية المصرية في اتجاه التحديث والمقرطة عقبة الاستعمار الذى بدأ دخول البلاد من بوابة القروض الأجنبية، بالإضافة إلى عقبة التخلف الموروث، ولذلك لم يكن صدفة أن تبلور الحركة الوطنية المصرية مع الوقت شعار "الدستور والاستقلال".
وفى وقت لاحق سعت بعض أجنحة الحركة إلى التحديث وكأن العقبة الوحيدة هى التخلف الموروث، بينما سعت أجنحة أخرى من الحركة إلى التحديث وكأن العقبة الوحيدة هى الاستعمار.
لكن الملاحظ أن المشروع التحديثى الليبرالى الذى قاد الحركة الوطنية – والمزاج العام – ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين - أى ابتداءً من الثورة العرابية وحتى ثورة يوليو – كان قد رفع رايات ليبرالية وجمع بين العداء للاستعمار وبين السعي نحو بناء دولة حديثة وديموقراطية.
إن هذا الاتجاه التحديثى الليبرالى حد من وجود الاستعمار ونفوذه إلى حد كبير، ورغم كل النجاحات التى حققها، ورغم أنه قطع شوطاً كبيراً فى اتجاه المقرطة؛ إلا أنه بدا أمام الرأى العام والطبقات الاجتماعية الصاعدة عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية وكأنه يسير بتباطؤ لا يتسق مع طموح هذه الطبقات وتطلعاتها، ولا يتسق أيضاً مع المتغيرات الدولية العاصفة التى اجتاحت العالم فى هذه الفترة.
وعندما جاءت ثورة يوليو اعتبرت أن طرد الاستعمار والتنمية الاقتصادية سيقودان البلاد إلى التحديث واللحاق بركب العصر، ولكن هذا المشروع الوطنى "القومى" الذى حرص فى بداياته على مد أواصر التعاون مع الاتجاهات الإسلامية ـ وعلى رأسها الإخوان المسلمين ـ قد انتهى بهزيمة 1967 التى أيقظت شعبنا على حقيقة أن مصر لم تتمكن فى ظل هذا المشروع القومى ـ الإسلامى من بناء دولة عصرية حديثة.
ويمكننا القول بصفة عامة أن نقد هذا المشروع "القومى ـ الإسلامى" سار فى اتجاهين : الأول اعتبر أن فشل مشروع يوليو يرجع أولاً وأخيراً إلى إهمال الديمقراطية، والثانى انطلق من أن نقص الإيمان الدينى لهذا المشروع هو سبب فشله، وانتهى الراديكاليين من أنصار الاتجاه الأول إلى أن إهمال المشروع "القومى الإسلامى" للديمقراطية لم يكن أمراً عارضاً بل كان خللاً فى جوهر مشروع يوليو بكل ما يعنيه ذلك من ضرورة طرح مشروع وطنى جديد الآن يجمع بين التصدى للهجمة الاستعمارية الأمريكية الجديدة، وبين بناء دولة حديثة وديمقراطية جنباً إلى جنب مع توفير قدر مناسب من العدل الاجتماعى والتنمية المستديمة، أما الاتجاه الثانى فقد انتهى غُلاته إلى اعتبار أن بناء دولة إسلامية هو الهدف وليس التحديث الذى اتُهم بأنه غربى وكافر وليس غير ضرورى فحسب ـ مثلما نادى معظمهم فى البداية ـ لكنه ليس مرغوباً أيضاً.
نقد يوليو الراديكالى الدمقراطى قدم فى الممارسة سلسلة من الانتقادات الشعبية الواسعة التى وضعت التحرر من الهيمنة ومواجهة الأخطار الاستعمارية ـ الصهيونية هدفاً إلى جوار الإصلاح الديمقراطى وعرفت مصر حركة الطلاب فى 1968 وانتفاضة الطلاب فى 72 ـ 1973 وانتفاضة 18 و19 يناير 1977 الشعبية.
وأخيراً عرفت مصر فى السنوات الأخيرة إعادة إحياء هذا الاتجاه اليسارى ـ الديمقراطى بعد طول غياب من خلال مبادرات ولجان منها : "مبادرة تجديد المشروع الوطنى" و"اللجنة الشعبية لدعم انتفاضة الشعب الفلسطينى" و"الحملة الشعبية من أجل التغيير"، ويمكن أن نعتبر حركة "كفاية" جزء من هذه المبادرات.
وفى المقابل قدم نقد يوليو الإسلامى – الراديكالى ممارسات جد مختلفة، حيث قام بإحراق نوادى لفيديو والاعتداء على الكنائس والهجوم على الفنية العسكرية واغتيال ـ أو محاولة اغتيال ـ رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشعب وبعض وزراء الداخلية ... إلى آخر هذه العمليات الإرهابية التى ترافق معها انسحاب السياسة من الشارع وانتعاش التعبئة داخل المساجد للحرب فى أفغانستان أو للقيام بعمليات إرهابية فى الداخل أو ـ فى أكثر الطبعات اعتدالاً ـ من أجل الإستيلاء على النقابات المهنية وتحويلها إلى زوائد للتيار الإسلامى.
وفى الأثناء، وكسبب - وربما كنتيجة فى نفس الوقت - للصراع السياسى الدائر بين نقاد النظام وبين دعاة استمراره، كانت تغيرات هامة تدب فى الهيكل الاقتصادى – الاجتماعى وتُعيد صياغة القوى الاجتماعية ابتداءً من الهجرة إلى بلاد النفط وانتهاءً بتطبيق سياسات التكييف الهيكلى وإملاءات صندوق النقد الدولى، مروراً بظهور طبقة جديدة من رجال الأعمال، وتعميم الفساد والوصول به إلى قاعدة الهرم الاجتماعى، وهكذا وفى هذا المناخ بالتحديد وصلنا إلى 11 سبتمبر 2001 وبدأت موجة جديدة من المطالبة بالإصلاح السياسى والمقرطة فى بلادنا.
ولكن وبما إننا سنعرض فى هذا التقرير بشئ من التفصيل لمشروعات الإصلاح التى طرحت فى السنوات الأخيرة ومنذ أن أطلقت الولايات المتحدة مبادرة الشرق الأوسط وحتى الآن، فإننا سنكتفى فى هذه المقدمة بالتوقف، بشئ من التفصيل، عند الأوضاع الديمقراطية فى مصر، وطبيعة القوى التى يمكن أن تدعم الإصلاح المنشود وكذا القوى التى يمكن أن تعيقه حتى يتسنى لنا أن نعرف إلى أى حد يتوفر لهذا المشروع أو ذاك فرصة التحقق.

الأوضاع الديمقراطية فى مصر
(1) قانون الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات :
يبدو إن أبرز ما يميز الأوضاع الديموقراطية فى مصر – والعالم العربى - هو استمرار حالة الطوارئ تقريباً فى كل هذه البلدان مع فترات انقطاع جد محدودة وعارضة، ورغم كل ما تردده الدولة فى مصر من أن تطبيق قانون الطوارئ لم يتم إلا فى مواجهة الإرهاب فقط فإن الوقائع الحية تنفى ذلك إذ تتعرض العديد من الشخصيات والقوى السياسية لبطش قانون الطوارئ دون أن ينهض دليل على استخدام هذه القوى والشخصيات للسلاح، بل ودون حتى اتهامها بذلك، وتتسع الدوائر المضارة من قانون الطوارئ لتشمل الآلاف، بل وعشرات الألوف، من المواطنين الذين يتم احتجازهم بتهمة الاشتباه لعدة أيام فى أقسام البوليس؛ حيث يتم معاملتهم بصورة جد سيئة، والأدهى والأمر أن قانون الطوارئ يفسح المجال أمام ضباط الشرطة، للتنكيل بالمواطنين – احتجازاً وتعذيباً – من أجل مصالح شخصية أو حتى خدمة لبعض أصدقائهم أو أقاربهم، ويترافق مع استمرار قانون الطوارئ انتهاج التعذيب كأسلوب ثابت لانتزاع الاعترافات ومعاقبة المعارضين والمتهمين أيضاً، ورغم استمرار العمل بقانون الطوارئ فإن ترسانة من القوانين المقيدة للحريات تعمل جنباً إلى جنب مع قانون الطوارئ بحيث تصبح هذه القوانين الاستثنائية خط الدفاع الأخير عن – أو بالأحرى استمرار - أمن النظام فى حال ما إذا اضطر إلى رفع حالة الطوارئ، وفى هذا الإطار تعرف مصر قوانين مثل "العيب"، و"الوحدة الوطنية"، و"المدعى العام الاشتراكى" ... الخ.
الأدهى والأمر أن التعديلات الدستورية المقترحة - الآن وهى التعديلات التى غالباً ما ستنجح الدولة فى إقرارها وتمريرها – ستجعل من حالة الطوارئ فعلياً حالة دائمة ودستورية !!!

(2) حرية تكوين الأحزاب والعمل الحزبى :
منذ هزيمة 1967، وهناك وعود بالانتقال إلى الديمقراطية، وهناك إصرار من قبل دوائر الحكم على أن يكون هذا الانتقال تدريجياً، وقد لاحظنا أن هذا التدريج لم يتمكن من إنهاء حالة الطوارئ مثلا !!! لكن الوعود لم تنقطع، وبالذات مع تزايد المطالبة بالإصلاح السياسى والديموقراطية، ففى مواجهة مظاهرات الطلبة والعمال في 1968 التى طالبت بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة جنباً إلى جنب مع المطالبة بالديمقراطية ـ فى مصر ـ أعلن عبد الناصر عن وعود بالإصلاح السياسى فى ما عرف بـ "بيان 30 مارس "، وفى مواجهة الحركة الطلابية فى السبعينيات، التى اندلعت بين عامى 1972 و1973 ـ والتى رفعت شعار "كل الديمقراطية للشعب .. كل التفانى للوطن" ـ أصدر السادات ـ بعد أن ثبتت حرب أكتوبر مشروعيته ـ ورقة أكتوبر التى حملت هى الأخرى وعوداً ديمقراطية، وقد تمخضت مسيرة الوعود، منذ بيان 30 مارس وحتى ورقة أكتوبر وما أعقبها، عن بداية ما عرف بالتعددية المقيدة فى مصر، وهى رغم وصفنا لها بالتعددية المقيدة إلا أنها أكثر جدية واقتراباً من التعددية السياسية من الحالة السورية مثلاً التى تعرف مجموعة من الأحزاب المنخرطة فى إطار ما يسمى بالجبهة الوطنية والعاملة تحت إشراف وفى حدود حزب البعث الحاكم، وهى مختلفة أيضاً عن الحالة اللبنانية التى لا زالت التعددية فيها مرتبطة بأبعاد طائفية تستند على أوضاع وتوازنات إقليمية ودولية متعددة.
وإذا كانت التجربة المصرية لهذه التعددية المقيدة قد بدأت بمنابر ثلاث فى إطار الاتحاد الاشتراكى فإنها الآن قد وصلت إلى 24 حزباً وذلك مع إجراء بعض التعديلات فى 2004 على اللجنة المنوط بها الموافقة على التصريح بقيام الأحزاب حيث ضم إليها شخصيات ـ قيل أنها مستقلة ـ الأمر الذى أدى إلى ظهور حزبين ـ لأول مرة ـ بموافقة من لجنة الأحزاب ودون اللجوء إلى القضاء فى نفس العام، وهما : حزبا "الغد"، و"الدستورى الاجتماعى"، لكن نفس هذه اللجنة وفى بداية 2007 رفضت السماح بتأسيس 13 حزب جديد من بينهم حزبى : الكرامة، والوسط، رغم ما تردد على لسان بعض كبار الكتاب ـ وثيقى الصلة بالدولة ـ من أن التصريح لهذين الحزبين قد بات ضرورياً لإثراء الحياة الحزبية.
عند استعراض هذه الأحزاب ـ الـ "أربعة والعشرون" المصرية ـ نجد أن من بينها ثلاثة أحزاب تآمرت الدولة على تخريب آليات عملها من خلال افتعال خلافات داخلها، وهي "مصر الفتاة"، و"العمل الاشتراكى"، و"الوفاق"، وهناك حزبان جديدان أحدهما وهو "الغد الاجتماعى الديمقراطى" (ليبرالى)، والآخر "الدستورى الاجتماعى" (وطنى علمانى)، بالإضافة إلى حزب "الجيل" الذى يحمل توجهات قريبة من "الدستورى الاجتماعى"، وكلاهما يتزعمه كوادر وسيطة نشطت فى حزب العمل من قبل، ثم هناك 4 أحزاب رئيسية هما "الوطنى الديمقراطى" ـ الحاكم ـ، و"التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى" اليسارى، و"العربى الناصرى"، و"الوفد"، أما بقية الأحزاب وعددها خمسة عشر فهى أقرب إلى جماعات مصالح وشلل، وواحد من هذه الأحزاب رئيسه يُحاكم بتهم جنائية تتعلق بالابتزاز والفساد!!
وفى ظل قانون الطوارئ تبدو المساحة الوحيدة المتاحة لعمل هذه الأحزاب هى إصدار الصحف وتنظيم الاجتماعات الحزبية فى مقار الأحزاب بالإضافة إلى بعض المؤتمرات التى قد يسمح بها أحياناً فى قاعات مغلقة، كما يُسمح لهذه الأحزاب بخوض معركة الانتخابات البرلمانية ضمن قيود عديدة تنتهى بها فى الأغلب إلى الحصول على مقاعد أقل مما يمكن أن تحصل عليها فى ظل مناخ سياسى وانتخابى أكثر ديمقراطية، ونحن هنا نتحدث عن الأحزاب الحقيقية وليس عن الأحزاب التى يكتفى قادتها بـ "البزنسة" من خلال وسائل عديدة من بينها ـ ولعله أفضلها ـ تنظيم بعثات الحج!!
وكنتيجة لهذه القيود فإن قوى وتيارات سياسية هامة محرومة من الوجود الشرعى، ومن بين هذه القوى الإخوان المسلمون الذين لم يتقدموا أصلاً للحصول على ترخيص بممارسة النشاط كحزب سياسى إلا فى إطار مناورة قد تنتهى بتأسيس حزب والاحتفاظ بالجماعة (!!) مثلما فعلوا فى الأردن من قبل، وهى مناورة دفعتهم لها دفعاً ما وجهته لهم الدولة من ضربات متتالية عقب ما أصاب الرأى العام من صدمة جراء الاستعراض شبه العسكرى الذى قاموا به فى جامعة الأزهر مؤخراً، وهو ما اعتبر تتويجاً لإحساسهم المبالغ فيه بقوتهم بعد أن حصلوا على 88 مقعداً فى آخر انتخابات برلمانية، رغم أن هذه النتيجة لم تعكس ـ لاعتبارات يطول شرحها ـ موزاين القوى الحقيقية داخل الشارع المصرى.
ومن بين الأحزاب المحجوب عنها الشرعية أيضاً حزب الوسط الذى ينحدر من أصول إخوانية ـ والذي رفضت لجنة الأحزاب منحه ترخيصاً بالعمل كحزب سياسي ثلاث مرات ـ، وحزب الكرامة الناصرى، إضافة إلى المنظمات الشيوعية واليسارية التى انفرط عقد بعضها وانصرفت بعض كوادرها للعمل الأهلى، بينما استمر بعضها الآخر فى العمل السرى، وهناك أخيراً عدد من الجماعات القومية والليبرالية التى لم تتسع لها الأحزاب القومية والليبرالية القائمة، ولكن يمكننا القول إجمالاً أن التيار المرفوض بكل قواه واتجاهاته هو التيار الإسلامى، بينما ترفض الدولة الجماعات اليسارية والقومية الراديكالية فقط على الأغلب من التيارات الأخرى.

(3) النقابات العمالية والمهنية :
نجحت ثورة يوليو فى تحويل الحركة النقابية ـ وبالذات العمالية ـ إلى مؤسسات شعبية حكومية وتحت شعار وحدة العمل النقابى جرى تشويه الدعوة إلى مراكز نقابية متعددة، وأصبح الحديث عن التعددية النقابية يُتهم بأنه يفتت وحدة العمل النقابى، ومع إعطاء كل السلطات للنقابات العامة تم تغييب نقابة المصنع التى انحصر دورها فى انتخاب النقابة العامة التى تكون عادة تابعة تماماً للدولة وحزبها ... وأجهزتها الأمنية.
فى النقابات المهنية نجح التيار الإسلامى – والإخوان المسلمون تحديداً- فى عقد الثمانينات من القرن الماضى فى قيادة أكثر من نقابة مهنية كبيرة أو على الأقل المساهمة المؤثرة فى قيادة بعضها الآخر، وقد اعتبر البعض أن وصول الإخوان إلى هذه المكانة لا يتعلق بقوتهم فى المجتمع - مع كامل الإقرار بذلك - وإنما قد يعكس أيضاً أن هناك اتفاق ضمنى ـ أو حتى ربما صريح ـ بين التيار الإسلامى والدولة أفسحت بمقتضاه الدولة مكاناً فى النقابات المهنية، وربما تم ذلك بهدف استيعاب حركتهم تحت السيطرة، وفى هذه الحدود، وربما بهدف إفساح المجال لهم للعمل فى هذه الحدود الهامشية والجزئية كجزء من التحالف الضمنى ـ وربما المعلن ـ فى بعض الفترات وعلى بعض المستويات، مثلما حدث فعلاً وافتضح أمره بين وزير الداخلية عبد الحليم موسى المعروف بـ "شيخ العرب" !!، وبين الجماعات الإسلامية فى الصعيد، وقد استهدفت هذه التحالفات أساساً حشد وتعبئة الأنصار لحساب المجاهدين الأفغان والولايات المتحدة الأمريكية فى معارك الحرب الباردة التى دارت ضد الاتحاد السوفيتى.
انتهت الحرب الباردة بانتصار الولايات المتحدة كما هو معروف، ولأن الاتحاد السوفيتى نفسه انهار عقب ذلك، فقد كان من الطبيعى أن ينتهى شهر العسل بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب وبين التيارات الأصولية من جانب آخر - على الأقل لحين "إشعار آخر" يدفع هذين الحليفين إلى تجديد تحالفهما مرة أخرى !!! - وهكذا كان من الطبيعى أن تطيح الدولة بهذه السيطرة الإخوانية على النقابات فى مصر تماماً مثلما كان من المنطقى أن تلقى السلطات الأمريكية القبض على عمر عبد الرحمن بعد أن برأته محكمة عسكرية مصرية فى قضية اغتيال السادات وهو الذى أفتى بقتله وبعد أن عاش بعد ذلك لسنوات طويلة بين مصر وأمريكا يحشد القوى ويعبء الشباب للحرب الأفغانية، وكان من الطبيعى أيضاً أن ينتهى شهر العسل بين المجاهدين الأفغان والولايات المتحدة، وأخيراً كان من الطبيعى أن ينتهى شهر العسل بين الدولة والجماعات الإسلامية فى مصر بعد أن كانوا قد أعلنوا بالفعل عدة جمهوريات إسلامية فى إمبابة والمنيا وغيرها تحت سمع وبصر ـ بل وتواطؤ فى كثير من الأحيان ـ أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية !!
تتوزع النقابات المهنية فى مصر بين نقابات موالية للدولة بالكامل مثل نقابة المعلمين مثلاً، وبين نقابات تتقاسم الدولة مع الإخوان قيادتها مع إبقاء الكلمة الأخيرة – وبالتحديد موقع النقيب الذى تتركز فى يده سلطات كبيرة – للدولة وهو حال نقابة الأطباء الآن مثلاً، وبين نقابات تتقاسم قوى المعارضة الإسلامية والقومية قيادتها ـ مع بقاء منصب النقيب فى أيدى القوميين ـ مثلما هو حال نقابة المحامين والصحفيين، وهى سابقة تضع جميع الأطراف على المحك وتطرح تساؤلات جادة حول مدى قدرة الدولة على تحمل هذا الوضع مثلما تطرح تساؤلات أخرى هامة حول قدرة المعارضة على قيادة دفة الأمور بحذر بحيث لا ينتهى الأمر إلى صدام مع الدولة يُجمد الأوضاع النقابية ويصادرها بالكامل مثلما هو حال نقابة المهندسين التى وضعتها الدولة تحت الحراسة منذ سنوات طويلة.
أخيراً يجب أن نرصد أن النقابات المهنية مكبلة بالقوانين سيئة السمعة (مثل القانون 100 لسنة 1993) وأن القوانين التى يتم مناقشتها وإعدادها فى كواليس الحزب الوطنى عليها هى الأخرى مآخذ كثيرة وربما تكون أسوء من القانون الحالي .

(4) النشاط الأهلى والمنظمات غير الحكومية :
مع تأميم النشاط السياسى والنقابى نجحت ثورة يوليو فى تأميم النشاط الأهلى أيضاً، وانتهى ما يمكننا وصفه بـ "القطاع التقليدى" داخل المنظمات غير الحكومية، الذى يشكل الأغلبية الساحقة من هذه المنظمات، إلى نوع من التبعية المستكينة للدولة حيث أصبحت أغلبية هذه المنظمات مجرد تجمعات إثنية دينية (أو مذهبية) أو جهوية تسعى إلى تقديم خدمات لأعضائها بالتعاون مع الدولة التى تعتبر فى نظرهم كلية القدرة والجبروت، ومصدر للإعانات والمعونات.
وعندما ظهرت فى العقود الأخيرة المنظمات الحديثة وبالذات منظمات حقوق الإنسان وتزايد اعتماد هذه المنظمات فى نشاطها على الدعم الخارجى بدلاً من دعم الدولة بدأ ما يمكننا اعتباره محاولة لتحديث النشاط الأهلى فى مصر، وتحاول الدولة أن تقطع الطريق أمام احتمالات هذا التحديث أو كبح جماحه، وهناك – بالطبع - ضغوط خارجية تحاول منع الدولة من إعاقة هذه المنظمات، وتواجه الدولة فىالمقابل هذه الضغوط باسلوب مزدوج يجمع بين ترك هذه المنظمات تعمل ولكن فى حدود معينة ترسمها الدولة بعناية فائقة بحيث تضمن أن تظل هذه المنظمات معزولة، معتمدة فى ذلك على ضعف هذا القطاع "المُحدث" إلى الحد الذى تراهن فيه على استيعابه وتدجينه وتحجيمه، وفى نفس الوقت تحاول خلق منظمات "مُحدثة" تابعة لها تستطيع أن تتعامل وتتفاعل مع لغة وآليات وأجندة "الأجانب" وضغوطهم المزعجة ـ وتلتزم بتوجهات الدولة وأجندتها فى نفس الوقت ـ، وفى هذا الإطار يأتى قانون الجمعيات الجديد الذى يسعى إلى إخضاع المنظمات غير الحكومية إلى إشراف بيروقراطى محكم مما قد يساعد مستقبلا على تحجيم المغضوب عليهم بنفس القدر الذى سيساعد على إطلاق طاقات المرضى عنهم.

(5) الانتخابات والقوانين المنظمة لها :
فى ظل حالة الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات، وفى ظل التعددية المقيدة وتحجيم النشاط الأهلى والنقابى، من الطبيعى أن تدور رحى المعارك الانتخابية فى مناخ غير مواتى، ولكن ذلك وحده لا يضمن للدولة نجاح مرشحيها فى انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية والمهنية والمحليات والبرلمان، ولذلك فإن شطب المرشحين ـ فى انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية مثلاً ـ يسير جنباً إلى جنب مع تزوير إرادة الناخبين بعدة أساليب وطرائق وصلت فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة – ومع إشراف القضاة على الانتخابات – إلى حد منع الناخبين من الوصول إلى مراكز الاقتراع !!
وإذا كانت المعارضة – رغم كل إجراءات الدولة الاستبدادية - تنجح فى الوصول بعدد من أقطابها إلى مقاعد البرلمان، فإنها تعجز عن تحقيق أى مكاسب تُذكر فى انتخابات المحليات التى تحرص الدولة على أن تُمسك بخيوطها كاملة لما لها من احتكاك مباشر بمصالح الناس اليومية.
أما بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية فإن الإستجابة لضغوط المعارضة لتغيير الدستور ـ بحيث يصبح اختيار رئيس الجمهورية من خلال الانتخاب الحر المباشر بين أكثر من مرشح بدلاً من ترشيح ثلثى البرلمان لمرشح يتم استفتاء الشعب عليه ـ قد انتهى إلى تعديل المادة 76 من الدستور فى استفتاء شابته الكثير من التجاوزات والانتهاكات والتعديل الذى تم بالفعل أدى إلى تفريغ التعديل المرجو والمنشود من مضمونه عندما وضعت المادة شروطاً تكاد تكون مستحيلة لترشيح أيٍ كان باستثناء مرشح الدولة، وأضافت مخرج خاص بحق الأحزاب ـ المعترف بها رسمياً ـ فى ترشيح أحد قادتها وفقاً لشروط محددة وبصفة مؤقتة لدورة واحدة وهى الدورة التى تمت بالفعل فى 2005 عندما خاض الانتخابات 10 مرشحين كان أبرزهم مرشح الحزب الوطنى حسنى مبارك ، ومرشح حزب الوفد نعمان جمعة، ومرشح حزب الغد أيمن نور.
لقد دفع هذا التعديل القاصر الدولة ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى إعادة طرح هذه المادة مرة أخرى إلى جوار تعديلات أخرى تهدف إلى إرساء دعام استمرار حالة الطوارئ إلى الأبد وبنصوص دستورية، حيث بات واضحاً أن الانتخابات الرئاسية القادمة لن يتقدم لها سوى مرشح الحزب الوطنى ما لم تحدث استثناءات مرة أخرى للأحزاب لدورة أو دورتين ... وبعد ذلك ؟!... يبدو أن رجال الدولة وأجهزتها يتعاملون مع الموضوع على طريقة "بعد كدة ؟! ... بعد كدة يامين يعيش! ... أنا ومن بعدى الطوفان !".

العقبات التى تواجه التطور الديمقراطى فى بلادنا :
أبرز ما يواجه عملية التحديث فى بلادنا من عقبات هو قوة وصلابة القوى المحافظة والرجعية من جانب، وضعف القوى الداعية للتغيير والإصلاح من جانب آخر.
الدولة تُعبر عن بيروقراطية عريقة ومستبدة وواسعة ومنفتحة وقادرة على تجديد نفسها ودمائها ونسج أواصر الصلات المتميزة مع حلفائها من الرأسماليين والقطاع الرأسمالى، ورجالات الدولة لهم من الجبروت والقوة ما يمكنهم من السيطرة على أعداد هائلة من رجال الجيش والبوليس والمحافظين ورؤساء المدن والمجالس المحلية وكبار الموظفين فى الإدارات الحكومية المركزية والمحلية ... الخ، بالإضافة إلى سيطرة شبه مطلقة على كبار ملاك الأراضي والرأسماليين الكبار والمتوسطيين، وهذه الدولة بكل ما تمثله اجتماعياً من مصالح متماسكة ومتشابكة للبيروقراطية وحلفائها من كبار ملاك الأرض والرأسماليين تسعى إلى الإستمرار بالوضع الراهن إلى ما لا نهاية ومن ثم فهى محافظة وغير راغبة فى أى إصلاح ويوحدها هذا الهدف إلى حد كبير، رغم كل الصراعات داخلها.
العمق الاستراتيجى لمحافظية الدولة ورجعيتها هو قوة التيار الإسلامى وهو تيار محافظ تقليدي لا يرغب في تحديث الجتمع بل على العكس يعلن على الدوام رفضه لكل ما هو حديث باعتباره بدعة أو تقليد للغرب الكافر الصليبي..إلخ وهو بالتالي لا يقر بالديمقراطية فعلاً ولا يطرح فى التحليل الأخير "نظاماً" مختلفاً من القيم والأعراف والآليات، أى ببساطة لا يطرح الديمقراطية كأداة للإدارة والحكم وإنما يتشبث بها أحياناً باعتبارها وسيلة للوصول للسلطة، والتغيير عند هذا التيار هو استبدال "المجموعة الحاكمة" بمجموعة حاكمة جديدة بكل ما يعنيه ذلك من القضاء على الفساد الحالي وفتح الطريق أمام نمو فساد جديد مع المجموعة الجديدة فى ظل استمرار الاستبداد.
وإذا كان النظام يُعبر أساساً من الناحية الاجتماعية عن طبقة أو فئة متماسكة ونعنى بذلك بيروقراطية جهاز الدولة وحلفائها، فإن التيار الإسلامى يُعتبر المظلة التى ينضوى تحتها مئات الألوف من سكان المدن الفقراء المنغمسين فى الفساد أو المقهورين إنسانياً فى بلاد النفط وهؤلاء ينشدون الخلاص الفردى بعد أن جرمت الدولة وحرمت العمل الجماعي الحزبي والنقابي والأهلي، ويستقطب هؤلاء المقهورين العمل الإسلامي الخيرى الدينى كتعبير عن التطهر، أو يستقطبهم العمل الإسلامي الراديكالى كتعبير عن يأسهم من التغيير؛ فمن بينهم من يحمل السلاح فى أفغانستان أو العراق أو فلسطين للقيام بـ "عمل" "ملموس" و"ناجح" ويائس فى نفس الوقت، ومنهم من يتبرع للمؤسسات الخيريةالإسلامية هنا وهناك ـ وهي التي تصب في تيار جهادى أو موصوف بالاعتدال مثل الإخوان المسلمين في النهاية ـ للتكفير عن ذنوب ارتكبها أو على الأقل يشك في أنه قد ارتكبها بعد أن أحلت بعض الفتاوى لبعض مشايخ هذا العصر تقاضي الرشوة أو العمولة لأنها "سعي أحله الله"، وهي فتاوى لا تقنع من يتبناها ـ ويقوم بتنفيذها ـ اقتناعاً عميقاً وصادقاً، ومن ثم فإنها تدفعه لغسل هذه الأموال بـ "الدروشة" وضخ المال إلى طاحونة التيار الإسلامي.
وكلاهما ـ الدولة والتيار الإسلامى ـ محافظ ولا يعترف بالنظم والقوانين التى يختارها الناس ولا بالعمل الجماعى ولا بالتغيير التدريجى ولا بصناديق الانتخاب حتى لو آمن فريق منهم "بالتغيير"، ذلك أن التغيير سيعني ـ مرة أخرى ـ استبدال مجموعة بـ مجموعة أخرى.
أما عن ضعف القوى الداعية للتغيير فبعيداً عن الدولة، ومظلة التيار الإسلامى التى تجمع أنصار الحل الفردي وتسعى لتأطيرهم اجتماعياً، يمكننا القول أن هناك ميوعة وسيولة اجتماعية كاملة تعيث تدميراً فى بقية الطبقات والفئات الاجتماعية وذلك جراء ثلاث أسباب رئيسية : الأول هو الهجرة إلى بلاد النفط والثانى هو انقسام المجتمع بين حكومة وقطاع أعمال وقطاع خاص وقطاع أجنبى ... الخ، مع انقسام موازى فى التعليم إلى تعليم حكومى وتعليم خاص وتعليم أجنبى ... الخ، والثالث هو استشراء الفساد إلى حد غير مسبوق أعلى الهرم الاجتماعى وأسفله فى نفس الوقت. وبمقتضى هذه الأسباب الثلاثة فإن الفئات الاجتماعية فقدت تماسكها وتجانسها الاجتماعى حيث يتفاوت دخل ومزاج وتوجهات وسلوك الناس لا تبعاً لوظيفتهم الاجتماعية (عامل – فلاح – مُدرس ... الخ) وإنما تبعاً للإطار الذى يقومون فيه بهذه الوظيفة نفسها فمثلاً هناك فرق بين مدرس يعمل فى بلاد النفط وآخر ناجح فى الدروس الخصوصية وثالث يعمل فى الأقاليم ورابع يعمل فى مدارس أجنبية ... الخ، ومن الطبيعى إذن وقد فقد هؤلاء المدرسين تجانسهم أن يفقدوا تماسكهم الاجتماعى كفئة اجتماعية كان من الممكن أن يكون لها مصالح محددة تتبناها قوى سياسية محددة، وهكذا فقدت القوى السياسية المطالبة بالإصلاح والتغيير السند ـ أو العمق ـ الاجتماعى القادر على تعزيز هذه المطالبة وأصبحت القوى السياسية ـ على اختلافها ـ معلقة فى الفراغ وضعيفة وهشة وعرضة للعزلة والتشرذم.
وخرج من الطبقة العاملة أيضاً من خرج إلى المعاش المبكر، وما تبقى منهم داخل قطاع الأعمال انقسموا ما بين عاملين في صناعات ومصانع منهارة مثل صناعة النسيج وبين عاملين في قطاعات ناجحة وتدر دخل عالي مثل قطاع البترول، وأخيراً فإن من يعمل من العمال الآن في مصانع المدن الجديدة في العاشر من رمضان أو أكتوبر ـ في غياب أي نقابات أو تقاليد نضالية ـ مختلفين كلية عن عمال المعاقل القديمة في حلوان والمحلة..إلخ.
ولعل الاستثناء الوحيد فى حالة الميوعة الاجتماعية التى نرصدها هنا هو رجال الأعمال الجدد والقطاع الخاص الصاعد، ومن بين الألوف من نشطاء هذه الطبقة الاجتماعية المتجانسة والمتماسكة اختارت قلة قليلة منهم أن تنشط فى المجال السياسى بسبب تعارض مصالحهم ولو جزئياً مع الدولة وجهازها البيروقراطى، والسبب في أن قلة قليلة منهم تهتم بالشأن العام رغم دوافعهم الواضحة هو خوفهم من التضحيات التى قد يدفعونها ثمناً للاهتمام بالسياسة، ولذلك لم يكن صدفة أن ينخرط العدد الأكبر منهم فى الحزب الوطنى نفسه على اعتبار أن تشكيل ما يشبه جناح ضاغط داخل الحزب الحاكم هو أكثر أمناً من أى خيار آخر، أما الأعداد الأكثر قدرة على التضحية والتى تبنى الليبرالية كمفهوم سياسى ولا تعمل في القطاع الاقتصادى، فلقد انصرفت إلى حزب الوفد تقليدياً، وأخيراً فقد استقطب حزب الغد الاجتماعى الديمقراطى الكثير منهم والذات من الشباب قبل أن يتعرض زعيم الحزب أيمن نور نفسه إلى ضربات أمنية متلاحقة عقاباً له على ترشيح نفسه ضد مبارك بطريقة توحي بأنه بديل ممكن.
ولكن رغم هذا النشاط الملحوظ لرجال الأعمال فى الحياة السياسية بصورة مباشرة فإن تأثيرهم غير المباشر في المجال العام يعتبر أكبر من ذلك بكثير حيث ينخرط الكثير منهم فى جمعيات رجال الأعمال المنتشرة جغرافياً، بالإضافة إلى تراصهم داخل الغرف التجارية المصرية، والمصرية – المشتركة (المصرية – الأمريكية، والمصرية - الألمانية، والمصرية – الفرنسية ... الخ) ولكن رغم قوة هذه الطبقة وصعودها الملحوظ إلا أن ضغوطها هى الأخرى في سبيل الإصلاح والتغيير اللديمقراطي ضعيفة، ويعود ذلك أساساً إلى سببين، الأول هو خوف أصحاب المال التقليدى من المخاطرة السياسية فى بلد استبدادى، كما يعود أيضاً إلى قدرة جهاز الدولة على استخدام ذهب المعز وليس سيفه فحسب مع قيادات ورموز هذه الطبقة بالذات، والذهب هنا يبدأ "بالنفوذ" من خلال التدجين السياسى فى الحزب الوطنى أو مجلس الشعب أو "بالفلوس" من خلال أن تقوم الدولة بإسناد أعمال كبيرة لهذا المستثمر أو ذاك حيث لا زالت الدولة أكبر مستثمر ورأسمالى فى مصر، أما السبب الثاني لضعف ضغوط رجال الأعمال في اتجاه الديمقراطية فيتعلق بعدم رغبتهم العميقة في دفع الثمن الاجتماعي المطلوب لهذه العملية، فالمفروض أن مقرطة المجتمع ستؤدي حتماً إلى تحرك الطبقات الفقيرة من خلال الأساليب الديمقراطية التقليدية من أضراب وتظاهر واعتصام ... الخ بغرض الحصول على مطالبها المتوضعة في حياة كريمة، وهو ما سيؤدي حتماً إلى إعادة توزيع الثروة والسلطة، الأمر الذي يرفضه أغلب رجال الأعمال الجدد ابتداءً؛ ومن ثم فإننا لن نجافي الحقيقة إذا ذهبنا إلى أن المصالح العميقة لرجال الأعمال الجدد لا تجعلهم دعاة إصلاح ديموقراطي بالفعل وغاية ما يطلبونه جراء رفع هذه الشعارات هو إعادة توزيع "السلطة" ـ ومن ثم الثروة ـ بينهم وبين البيروقراطية، ومن ثم فإنهم في ذلك مثلهم مثل الإخوان المسلمين يطالبون بالديموقراطية والإصلاح الديموقراطي حتى يتسنى لهم تحقيق مصالحهم الطبقية في إعادة توزيع الثروة والسلطة بينهم وبين "الأوليجاركية الحاكمة" أو "الفئة البيروقراطية الحاكمة"، وهم بهذا المعنى لا يسعون إلى إرساء الديمقراطية كوسيلة لإدارة البلاد، بل يكرسون استخدامها كوسيلة للوصول للسلطة، ومن ناحية أخرى فإنهم حتى لا يريدون على أن يكون وصولهم للسلطة وسيلة لإعادة توزيع الثروة والسلطة بين كل طبقات وفئات المجتمع ولكن فقط أن يكون هذا الوصول وسيلة لتوزيع الثروة والسلطة بينهم كـ "أوليجاركية جديدة" وبين "الأوليجاركية الحاكمة" فقط.

من كل ما تقدم نستنتج أن القوى المحافظة وغير الراغبة فى الإصلاح، والتي يتربع على قمتها جهاز الدولة والتيار الإسلامى، هى الأقوى اجتماعياً وسياسياً، فيما تعتبر القوى السياسية الراغبة فى الإصلاح ضعيفة بسبب عدم وجود سند اجتماعى لها جراء الميوعة التى تعيشها التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المصرية ـ نتيجة التغيرات الاجتماعية التى جرت ولا زالت تجري ـ وما ترتب على ذلك من ضعف ملحوظ للطبقات الشعبية صاحبة المصلحة الجذرية في التغيير والإصلاح، وبسبب خوف رجال الأعمال أيضاً ـ وهى أكثر الطبقات الاجتماعية تجانساً وتماسكاً ـ من الاستبداد والبطش، فضلاً عن عدم رغبتهم العميقة في إصلاح جدي.
هل يمكن أن يقوم النشاط الأهلى والمنظمات غير الحكومية بدور فى هذه الظروف؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال بأن هذه المنظمات تعانى مما تعانيه الأحزاب السياسية من العزلة والافتقار إلى العمق الاجتماعى، ولكن التحديات والمهام المفروضة على هذه المنظمات قد تكون مختلفة وحساباتها السياسية قد تكون أقل، ومن ثم فإن قدرتها على أن تلعب دوراً تنويرياً قد تكون أكبر لكنها مع ذلك لن تستطيع أن تكون قوى ضاغطة يُعتد بها.
العقبة الثانية أمام الإصلاح فى بلادنا تتعلق بطبيعة وتوجه الضغوط الخارجية، فعلى العكس ما يراد لنا أن نصدقه قدمت الدوائر الغربية الحاكمة – وبالذات الأمريكية – كل الدعم والمساندة للحكومات الاستبدادية فى المنطقة وجرت كل وقائع الاستبداد تحت مظلة الهيمنة الأمريكية، وعندما قيل أن ذلك كله قد تغير بعد 11 سبتمبر 2001 فإن ما حدث عملياً هو أن هذه الهيمنة قد انتقلت إلى التدخل العسكرى المباشر فى أفغانستان والعراق لكى تقدم لهذه الشعوب صنوف من المذلة والمهانة أسوء من ما ادعوا أنهم قد دخلوا لمحاربته. وهكذا رأينا جميعاً كيف لم تقاوم اعداد كبيرة من الشعب العراقى القوات الأمريكية – بل ورحب بعضهم بها – لا حباً فيها ولكن كرهاً لنظام صدام حسين الاستبدادى، ولكن وبعد الاحتلال بفترة وجيزة سرعان ما انضمت اعداد كبيرة من الشعب العراقي للمقاومة بعد ان هالها سلوك الإدارة الأمريكية الجامع بين توظيف وتنصيب أحمد الجلبى كواحداً من حكام العراق، وهو الذى كان يتقاضى علناً 340 ألف دولار شهرياً من المخابرات المركزية الأمريكية، وبين تعذيب المشتبه بهم فى سجن أبو غريب على نحو يشى بأن الجنود لم يكونوا حتى بصدد تنفيذ مهمة نزع اعترافات، بل كانوا بصدد التسلية، وهو ما يؤكد أن هؤلاء الجنود قد جرى حشدهم وتعبئتهم على أسس عنصرية تماماً.
كانت أصوات عديدة داخل النخب الأمريكية تؤكد أن ما قامت به أمريكا من دعم لحكومات مستبدة ومتخلفة إلى جوار تحالفها مع الإسلاميين في أفغانستان وفي العالم أسره في حربها ضد الشيوعية قد أدى إلى تعاظم شأن الإرهاب ومن ثم دفعت أمريكا نفسها ثمن ما ارتكبته يداها في 11 سبتمبر، وهو ما دفع تلك الأصوات إلى المناداة ـ بل والتبشير أيضاً ـ بسياسة أمريكية جديدة تحارب الإرهاب بصورة مباشرة ـ من ناحية ـ وتدعم عملية الإصلاح والمقرطة في المنطقة من ناحية أخرى.
وقد تبنت إدارة بوش هذه الأطروحات لتبرير حروبها العدوانية غير المبررة والتي استندت ـ في حالة العراق مثلاً ـ على أكاذيب فجة، وأصبح الحديث الأمريكي عن الإصلاح والديمقراطية في المنطقة ـ كما كان طوال الوقت ـ مرتبط بمدى رضا الإدارة الأمريكية عن حكومة هذا البلد أو ذاك وفقاً لأجندة خفية وغير معلنة تتعلق بمدى توافق هذه الحكومة أو تلك مع المصالح أو بالأحرى مع الأوامر الأمريكية، فمثلاً تشيد الإدارة الأمريكية طوال الوقت بديموقراطية حكومات إقليمية تعتمد نظام الكفيل في معاملة العمال الوافدين المقيمين بها، وهو نظام أقرب لنظم الرق و"الأقنان" في العصور الوسطى لمجرد أن هذه الحكومات تستضيف قواعد عسكرية أمريكية أو تستضيف القوات الأمريكية في المنطقة أو تسمح باستخدام أراضيها وأجوائها لإمداد إسرائيل بالسلاح والمعدات أثناء عدوانها على لبنان!!
طبعاً هناك دوائر حقوق الإنسان ومناهضى العولمة وداعمي الديمقراطية وهؤلاء جميعاً فى أوروبا وأمريكا مع إصلاح المنطقة حتى لا تصبح بؤرة لتصدير الإرهاب والإرهابيين على الاقل، لكن – وبكل أسف – الإدارة الأمريكية لا يعنيها ذلك وإن استخدمت هذا السبب – الحرب على الإرهاب – لتبرير عدوانها هنا وهناك، وغاية ما تطمح فيه هو فرض الهيمنة وتحقيق السيطرة المباشرة تحقيقا لمصالح الصناعات المرتبطة بالسلاح والنفط، وبعيداً عن هذه الدوائر الضيقة فإن أصحاب النوايا الحسنة فى أمريكا تحديداً ليس لهم صوت مؤثر مسموع وواضح ومتميز، والأدهى والأمر أن الدول الأوروبية، وكانت قد حاولت التقدم بمشروع إصلاح مستقل للمنطقة والتحرك على نحو منفرد ومستقل قد رضخت في النهايةً للضغوط الأمريكية وقبلت صيغة قمة الثمانية التى قيل أنها صيغة وسط رغم أنها تحمل الكثير من ملامح وتوجهات "مشروع الشرق الاوسط الكبير" الأمريكي.
باختصار يمكننا القول أن الضغوط الأمريكية – والدول الأوروبية ترضخ لها عادة فى النهاية – لا ترمى إلى الإصلاح والمقرطة لأن لديها على الدوام أجندة خفية بمقتضاها من الممكن أن تغض الطرف عن الانتهاكات أو تخلع على نظام ما صفة الديمقراطية لمجرد تحقيق مصالح إسرائيل فى المنطقة سواءً من خلال اعترافه بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها أو من خلال توطين الفلسطينيين فى بلاده أو من خلال التورط فى حفظ الأمن بغزة ... الخ.
وهكذا فإن الضغوط الخارجية الراغبة فعلاً فى الإصلاح هى ضغوط القوى اليسارية والديموقراطية في العالم بالإضافة إلى بعض الضغوط الأوروبية التي تحجمها مصالح أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفى ظل ضعف المجتمع المدنى والقوى السياسية فى مصر والمنطقة فإن هذه الضغوط الخارجية لا تجد شركاء أقوياء في الداخل مما يزيد من ضعف تأثيرهم وضغوطهم كما أن فكرة إقامة علاقة تعاون مباشر بين قوى داخلية وخارجية من أجل الضغط على الدولة هو أمر غير مستساغ أو مقبول بصفة عامة من النخب المصرية على اختلافها لاعتبارات متنوعة ومعقدة بعضها إيجابي يتعلق بالحرص على استقلال الإرادة الوطنية والإبتعاد بها عن ما يمكن أن يشوبها من تأثيرات خارجية قد تكون مشبوهة أو مثيرة للشبهة وعرضة للنقد أو ذات توجهات ضارة بمصالح البلاد، وبعضها سلبي يتعلق بنمو مشاعر "قومية ـ إسلاموية" معادية للأجانب تغذيها الدولة التي ترى أن أفكار حقوق الإنسان ـ مثلما كانت ترى من قبل الأفكار اليسارية ـ أفكار مستوردة يتم التمسك في مواجهتها بالخصوصية الثقافية وكأن تعذيب الناس أو منعهم من التعبير عن أنفسهم أو اضطهادهم لأنهم يعتنقون ديناً ما أو مذهباً ما هو ثقافتنا الأصيلة التى ينبغى أن نعتز بالدفاع عنها !!
فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق ذكره من العقبات الداخلية الأخرى التي تواجه المقرطة والإصلاح وعلى رأسها قوة القوى المحافظة – فى الداخل – وهيمنتها واستبدادها وضعف القوى الراغبة فى التغيير نكون قد حددنا بذلك العقبات الرئيسية التي تواجه التحديث والاصلاح والمقرطة في مصر والمنطقة.


جوانب التقدم التى يمكن رصدها بين التفاؤل والتشاؤم :
على ضوء هذا التأمل فى الوضع الحالى وهذا الرصد السريع للعقبات الرئيسية التي تواجه التحديث والاصلاح والمقرطة في مصر والمنطقة سنحاول أن نقدم هنا وفى عجالة سريعة بعضاً مما كان يمكن أن نعتبره مؤشرات على حدوث قدر من التقدم المثير للتفاؤل وكذا التطورات التي تسارعت لتؤكد إجهاض التقدم الذي يتحقق أولاً بأول!!.
على الصعيد الحزبى أجريت بعض التعديلات على تركيبة اللجنة المنوط بها الترخيص للأحزاب الجديدة، وبمقتضى هذه التغيرات ـ التى أتت بالطبع كجزء من تعليمات أشمل ـ منحت اللجنة ترخيص بالعمل لحزبين، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يرخص فيها لحزب بعيداً عن ساحة القضاء، ولم يكن هذا منبت الصلة بمقال شهير أعلن فيه أحد الكتاب المقربين من السلطة أن هناك طلبات لأحزاب من الممكن أن تشكل الموافقة عليها دفع لدماء جديدة إلى الساحة السياسية وكان من بين هذه الأحزاب حزب الغد الذى تمت الموافقة عليه بالفعل وحزب الكرامة (ذو التوجهات القومية ـ الناصرية) وحزب الوسط الذى يعتبر طبعة أكثر اعتدالاً من الإخوان المسلمين، وإذا كان هذا الكاتب ـ كما يشاع ـ لا يكتب ما هو متوقع وإنما ما هو مقرر فإن الموافقة على الكرامة والوسط كان من المقرر أن تتم في وقت لاحق،لكن الأمر الذي صدم الرأي العام وأكد أن الدول تتراجع عن الكثير مما وعدت به لم يكن رفض اللجنة فحسب لحزبي الوسط والكرامة ولكن كان رفض القضاء أيضاً لهما!!.
فى إطار التقدم الذي أثار بعض التفاؤل أيضاً وعلى الصعيد النقابى سنلاحظ أن نقابة الصحفيين بمجلسها المتعدد والمعارض فى مجمله ورئيسها المعارض أيضاً، ومثلها فى ذلك مثل نقابة المحاميين، قد أصبحا قوة لا يستهان بها فى خوض المعارك الرامية إلى إحداث تقدم ملموس فى القوانين المنظمة للعمل النقابى حتى أن البعض يرجع تراجع الدولة عن إقرار قانون جديد يهدف إلى تحجيم العمل النقابى إلى ما قامت به نقابة المحاميين من احتجاجات واسعة لمجرد أن هناك أنباء ترددت حول هذا الموضوع ولم تنتهى موجة الاحتجاجات إلا عندما أعلن كبار المسئولين فى الحزب الوطنى أن شيئاً لن يقر إلا بعد الرجوع للنقابات وأخذ رأى القيادات النقابية بعين الاعتبار لكن انتخابات النقابات العمالية وما صاحبها من شطب للمرشحين وإجراءات متعددة استهدفت تزوير إرادة الناخبين انما يؤكد أن الدولة لا تريد أن يتكرر ما حدث في انتخابات نقابة الصحفيين مرة أخرى!!.
في مقابل مواقف الدولة وإجراءاتها الرامية إلى إجهاض أي تقدم ممكن فإن النشاط الملحوظ الذى تقوم به بعض الجماعات الديمقراطية والمنظمات غير الحكومية داخل النقابات المهنية والعمالية لا يحول ـ فحسب ـ دون تحجيم النشاط النقابى ولكنه يساهم أيضاً بصورة ملحوظة فى تشديد وتعزيز المطالبة بالإصلاح والديمقراطية، ونحن نعنى بذلك جماعات مثل : لجنة الحريات بنقابة المحامين، وجماعة المحامون الديمقراطيون فى نقابة المحامين، ولجنة الحريات بنقابة الصحفيين، والمحامون الديمقراطيون بنقابة المهندسين ودار الخدمات النقابية واللجنة التنسيقية العمالية.... الخ.
أما على صعيد العمل الأهلى فإننا نلاحظ بصفة عامة أن المشاكل التى واجهت تكييف منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الديمقراطية المحدثة لأوضاعها القانونية تمشياً مع القوانين الجديدة قد مر بسلام رغم بعض الانتهاكات والتجاوزات من الدولة فى بعض الحالات، وفى إطار ما يمكن أن يكون مثيراً للتفاؤل أيضاً أسست الدولة المجلس القومى لحقوق الإنسان وضمت فى عضويته عناصر كثيرة عرفت بجديتها وديمقراطيتها واحترامها فى الأوساط السياسية من بينهم اثنان يعتبراً من أقطاب حركة حقوق الإنسان فى مصر، ومجلس بهذه التركيبة كان وفقاً لعديد من التقديرات لن يكون ـ على الأقل بسهولة ـ مجرد أداة فى يد الدولة، وهو ما حدث بالفعل عندما خرج المجلس عن ما هو مرسوم له وأصدر تقريراً معقولاً عن حالة حقوق الإنسان في مصر إلى جوار بعض التصريحات التي تنتقد حالة حقوق الإنسان في مصر لأمين المجلس، الأمر الذي دفع الدولة إلى استبعاد الأمين العام من موقعه وكذا استبعاد اثنين من العناصر مثيرى القلق بحجة أنهما اعتذرا عن الاستمرار رغم ما تردد من أنهم استبعدا سلفاً.
يضاف إلى قائمة ما يمكن أن يكون مبعث على التفاؤل ما قررته المحكمة الدستورية مؤخراً عندما أقرت ضرورة الإشراف القضائى على الانتخابات العامة، وكذا ارتفاع أصوات عديدة – بعضها محسوب على الدولة والحزب الحاكم – تطالب بإلغاء حالة الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات وهو ما تبلور على نحو غير مسبوق فى الوثيقة التى انتهى إليها مؤتمر الإصلاح الذى عقد بمكتبة الإسكندرية بحضور حكومى حاشد.
لكن كل ذلك جرى إجهاضه بصورة واسعة عندما ألقت الدولة القبض على أيمن نور وأثارت الفتن والقلاقل داخل حزب الغد، وذلك بغرض استبعاد القوى الليبرالية الرئيسية ـ بعد أن أصاب حزب الوفد ما أصابه من ضعف ملحوظ في ذلك الوقت ـ من خوض غمار الانتخابات البرلمانية، ومع ضعف اليسار والقوى القومية ـ وهو ضعف كانت الدولة هي السبب فيه أيضاً بسبب ما تعرض له هذان التياران من قمع لعشرات السنوات-، دارت رحى الانتخابات البرلمانية على أرضية استقطاب حاد بين مؤيدي الدولة ومؤيدي الإخوان المسلمين كتعبير عن استقطاب بين مؤيدي الدولة ومؤيدي المعارضة أو بالأحرى كتعبير عن استقطاب حاد بين مؤيدي الدولة وكاريهيها، وهكذا حددت الدولة من خلال سلسلة متلاحقة من الإجراءات والأساليب أن يفوز الإخوان بـ 88 مقعداً ليوضع الرأي العام المصري والإقليمي والعالمي أمام خياران: إما أن يتعاطف مع الإخوان كرهاً في الدولة، أو يتعاطف مع الدولة كرهاً فى الإخوان وهو تكتيك استهدف حشد كل التأييد الممكن للدولة - بالذات من الأوساط الخارجية - من كل هؤلاء الذين يخشون من تزايد قوة الإخوان واحتمال وصولهم للسلطة بعد أن نجحت الدولة في اسبعاد الجميع من الساحة والإبقاء على الإخوان وحدهم، ولم يعد من الصعب بعد ذلك توجيه ضربات للإخوان أنفسهم خاصة بعد أن تركت لهم الدولة ـ ربما عمداً ـ الحبل على الغارب لكي يتورطوا في مواقف وممارسات استنفرت واستفزت كل القوى السياسية والمدنية كان أبرزها بالطبع الإستعراضات شبه العسكرية التي تباهو بها في ساحة حرم جامعة الأزهر.
قبل ذلك كله كان لدى المراقبين مآخذ كثيرة حتى على القدر اليسير من الإجراءات والوعود التي أثارت بعض التفاؤل وكان أبرز هذه المآخذ تراجع الدولة عن إلغاء حالة الطوارئ بعد أن طالبت بذلك وثيقة مكتبة الإسكندرية وبعد أن أعلن المجلس القومى لحقوق الإنسان أنه يتدارس رفع توصية بهذا الشأن للسلطات المعنية، بل وبعد أن أعلن وزير الداخلية بنفسه أنه لا مانع فى إلغاء حالة الطوارئ، وأعقب هذا التراجع المثير للإحباط أن أقطاب الاتجاه الذى يتباهى بليبراليته داخل الحزب الوطنى الحاكم أعلن ممثليه داخل مؤتمر الحزب في 2004 أنه لا توجد أولوية للإصلاح السياسى فى اللحظة الراهنة وهكذا انحسرت ليبراليتهم في مجموعة من الإجراءات الاقتصادية الكفيلة بإفقار السواد الأعظم من أبناء الشعب المصرى!! وتأكد لكل من يريد أن يفهم أن هذا الاتجاه بصفة عامة لا يستطيع ـ ولا يرغب أيضاً ـ في دفع أى ثمن اجتماعي أو سياسي في مقابل تحقيق أي تطور ديموقراطي.

الخلاصة :
بعيداً عن منطق التفاؤل والتشاؤم فإننا لا نستطيع أن نتعامى عن ما نعتبره تقدم فى مسيرة الديمقراطية والتحديث فى مصر فى السنوات الأخيرة بالذات وأن هناك اتجاهات داخل النخب الحاكمة نفسها قد ترى أنه من غير المناسب أن يستمر هذا النظام بنفس الآليات والأساليب خدمة لمصالح جماعة محدودة تحتكر السلطة والثروة معاً وتستند إلى الفساد جنباً إلى جنب مع الاستبداد، وهو ما قد يهدد بانفجار الأوضاع والعصف بمصالح كل دوائر وجماعات النخب الحاكمة وليس دوائر جماعة المجموعة الضيقة الحاكمة فحسب.
وهكذا تتسع دوائر المعارضة التى تطالب بالتغيير والكثير منها جاد في مطالبه بالإصلاح والديمقراطية، وتتسع بالتالى دوائر حركتها وقدرتها على الحشد والتعبئة والضغط، وتتزايد مع الوقت الاحتجاجات والتضحيات فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن الدولة تستجيب ولو جزئياً إلى الضغوط الخارجية فإننا يمكننا القول أن الأمور تتحرك فى مصر فى اتجاه المزيد من المقرطة وأن الدولة قد لا تستطيع أن تحكم قبضتها على مقاليد الأمور مثلما كان الأمر من قبل، ومن ثم فإن التراجعات الجزئية والمناورات واتخاذ بعض الإجراءات بهدف تجميل الوجه، كل ذلك قد يخلق أوضاعاً جديدة سرعان ما تخلق بدورها أوضاعاً جديدة وفى خضم هذه العملية التى تسير بكل أسف ببطء شديد تحدث تطورات هامة وحقيقية فى اتجاه التحديث والديمقراطية ... ولا يضيع الله اجر من يبذلون قصارى جهدهم من اجل التحديث والاصلاح والمقرطة.
فـريـدزهـران
المقطم - يناير 2007
مقدمة تقر ير "مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط"
الصادر عن وحدة البحوث بمركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات.



#فريد_زهران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والإيمان الدينى
- فى رثاء مصطفى وعزت وعبد الباسط جيل السبعينات يواصل العطاء
- رفع حالة الطوارئ أو معركة التحديث ومسؤولية القوى السياسية
- القمع الفكرى داخل الأحزاب السياسية فى مصر
- قراءة في نتائج انتخابات نقابة الصحفيين
- دعوة للحوار حول مبادرة تجديد المشروع الوطني - مصر
- لا للحرب . والاستبداد . والهيمنة . نعم للسلم . والديموقراطية ...
- مسيحى ما علاقتك بالانتفاضة


المزيد.....




- جندته عميلة أوكرانية.. اعتقال المشتبه به الثالث في محاولة اغ ...
- الحكومة اليمنية تطالب الأمم المتحدة بإعادة النظر في التعامل ...
- الأمم المتحدة تدعو إلى إجراء تحقيق دولي بشأن المقابر الجماعي ...
- مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: نحاول إعادة تشغيل مستشفى الأ ...
- الأمم المتحدة: توزيع مساعدات على نحو 14 ألف نازح حديث في الي ...
- خطة ترحيل اللاجئين إلى رواندا: انتقادات حقوقية ولندن تصر
- حملة -تطهير اجتماعي-.. الشرطة الفرنسية تزيل مخيما لمهاجرين و ...
- الأمم المتحدة تطلب فتح تحقيق دولي في المقابر الجماعية في مست ...
- أرقام صادمة.. اليونيسيف تحذر من مخاطر -الأسلحة المتفجرة- على ...
- أهالي الأسرى الإسرائيليين يحتجون في تل أبيب لإطلاق أبنائهم


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - فريد زهران - مقدمة تقرير مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط