أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد المدلاوي-المنبهي - على هامش أعمال الإرهاب في الدار البيضاء - الدلالات الثقافية لطقوس الرعب الدموي















المزيد.....


على هامش أعمال الإرهاب في الدار البيضاء - الدلالات الثقافية لطقوس الرعب الدموي


محمد المدلاوي-المنبهي

الحوار المتمدن-العدد: 1894 - 2007 / 4 / 23 - 12:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قبل ثلاث سنوات
قبل ثلاث سنوات إلا شهرا، وعلى إثر إرهابيات 16 ماي 2003 االمشئومة التي باغثت المغاربة وهم في لجاجة صحفية حول الغاية من اختلاق قصة "الخلايا النائمة" لمنظمة القاعدة على إثر اعتقال عناصر سعودية بالدار البيضاء؛ وعلى هامش معالجتي للدلالات السياسية لتلك الإرهابيات من خلال مقال مطول نشر بجريدة الأحداث المغربية، أوردتُ إشارة عابرة تتعلق بالكيفية التي تعاملت بها الصحافة مع الصور القذرة للرعب الدموي في مقارنة مع ما الصحافة الغربية في عمومها، فقلت ما يلي:
«وإذا كان من وجه تبُــزُّ فيه مجازر الدار البيضاء غيرَها في وجوه الفظاعة، فهو ذلك التكالب الذي أبدته الصحافة المغربية بروح "حمدوشية" "عيساوية" على التقاط ونشر أبشع صور الجزارة البدائية للجثث الآدمية المعروضة على الرصيف، بدعوى أن الإقناع عندنا بوجود الإرهاب فعلا وحقيقة – عكس ما كان يقال بشأن مجرد اختلاق قصة "الخلايا النائمة" – إنما يكون بــ الدبزة وليس بــ الغمزة . إنه تكالب لم نُشاهد له مثيلا في صحافة الغرب "المادّي"، التي تتعفف، في هذا الباب، كلــّـما ابتُلي أهلُ ذلك الغرب المادي وجمهورُه الذي ليست له ثقافةُ حمادشة أوعيساوة، والذي يكتفي بالكلمة في الإقناع والاقتناع بوقوع الوقائع، في زمن السلم على الأقل، لأن للكلمة لديه وزنا؛ ولأنه في البدء كانت الكلمة كما استهل بذلك يوحنـّا بشارةَ إنجيله» (مقال نشر في حلقتين بيومية الأحداث المغربية؛ عدد 1599؛ 09/ 06/ 2003 وعدد 1600؛ 10/ 06/ 2003).
أما اليوم، وبعد ثلاث سنوات تخللتها أحداث متفاوتة الخطورة من الناحية الأمنية، من سلسلة سرقات الأسلحة، إلى تفكيك خلية "أنصار المهدي" وارتباطتها بأوساط الجيش والطيران بعيدا عن كليشيهات أوساط الفقر والتهميش، وانتهاء بوقعة الحادي عشر من مارس 2007 بمقهى الانترنيط بالبيضاء، فالحرب القذرة ليوم العاشر من أبريل بحي الفرح، ثم بعد ذلك بشارع مولاي يوسف بالبيضاء كذلك، فقد سلّم جميع المشككين بأن الإرهاب واقع والواقع لا يرتفع، وأنه لم يعد بالإمكان تقديمه كمجرد اختلاقات ة وساوس تُـروّج لها جهات خفية قصد الحصول على مفعول سياسي معين، فاضطر المُشكـّكة إلى نقل مذهب الشك من حيز دائرة الوجود، وجود أو عدم وجود الإرهاب، إلى حيز مسببات أو دلالات وجود ذلك الإرهاب.

الدلالات السياسية لدى المشكّـكة
ولقد ترواح تفسير الأسباب ما بين (أ) ردّ الفعل الداخلي والخارجي ضد "الانخراط الرسمي في الخطة الأمريكية العامة" من خلال التنسيق الأمني من معتقل تمارة إلى معتقل كَوانتانامو، ضدا على واجب التضامن مع قضايا فلسطين، والعراق، وافغانستان، والشيشان، والسودان، والصومال، وكل من تضامن مع المغرب ومن لم يتضامن معه في محنه وابتلاءاته من قضية الصحراء، إلى واقعة جزيرة تورا إلى الضربة الإرهابية للسادس عشر من ماي 2003، مع من اقتنع بأن التاريخ قد حسم في قيام المغرب ككيان وهوية ومع من يعتبره أرض فتح دائم (على غرار الثورة الدائمة) تارة باسم محاربة الردة، وتارة باسم قومية تبشيرية، وتارة باسم إصلاح سلفي للبعث الخلافة، (ب) مظاهر الفقر والحرمان في الأحياء الهامشية، و(ج) أساليب التعذيب والقسوة في السجون التي ولدت لدى من مروا بها مشاعر النقمة ورغبة في الانتقام نظرا لعدم توفر شروط حقوق الانسان في فضاءاتها غير المصنفة، ولعدم الاستجابة لفتح حوار مع قادة المعتقلين، الخ.

أما الدلالات لدى المشكـِّـكة من الناس، فإن أفصحها أدبيا وأجمعها تلخيصا هو قول إحدى الافتتاحيات ما يلي: «ومن حسن الحظ ... أن الانتحاريين لم يكونوا منفذين لأوامر، وإنما هم شبان من فصيلة أولئك الذين يرمون بأنفسهم في البحر تقليدا للذين سبقوهم إلى الموت طبعا، ومن فصيلة الشبان العشرة الذين حاولوا الانتحار يوم الاثنين السابق لانتحارات الدار البيضاء، فشربوا سم البرغوث بباب وزارة المالية لينتحروا... »، بدليل أن أحد الانتحاريين قال لأحدهم "سير ولاّ نتـّـفركَـع على دين مُّــك". وبذلك، «يظهر جليا - تضيف الافتتاحية - بأن ارتباطات هذه النماذج البشرية بالتنظيمات الأجنبية مثل القاعدة أو غيرها منعدمة، وليست على مستوى تنظيمات الجزائر حيث التفجيرات لها معنى سياسي، مقارنة مع أربعة شبان في حي الفداء فجروا أنفسهم خوفا من مواجهة الشرطة» (افتتاحية الأسبوع الصحفي عدد 13 أبريل 2007). «فيمكن تفسير تشكل هذه المجموعات بالإحالة على مجموعة من العناصر، أولها يرتبط بالأوضاع التي عاشها عدد من المعتقلين في إطار تفجيرات 16 ماي 2003 والتي أنتجت أفرادا تتملكهم نفسية الانتقام وإعادة الاعتبار لذواتهم (...) وهذا شبيه بما حصل في الستينات للجماعة التي عرفت باسم التكفير والهجرة في مصر (...). وكان ينبغي إجراء حوار مع القيادات داخل السجون (...) بين شخصيات وعلماء وازنين مع هذه القيادات (...) لأن هناك توجهات متطرفة جدا تكفر المدتمع لكن هناك أخرى أعلنت رفضها قتل المسلمين» (مصطفي الخلفي، جريدة التجديد؛ عدد 12 أبريل 2007؛ ص:3).
هكذا إذن يتم التشكيك في حقيقة الإعداد للإرهاب بعد اعتقال السعوديين. ولمّا ضرب الإرهاب وأثبت وجوده بالقتل (the proof of the pudding is the eating) يتم التشكيك في دلالاته الحقيقية بإسناد جوهره إلى الفقر؛ ولما عاود الضرب، وتورطت فيه بشكل مباشر أطر وأشخاص ليس بينهم وبين الفقر إلا الخير والإحسان يتم إسناده هذه المرة إلى سوء معاملة المتورطين الأولين أثناء التحقيق وفي السجن، وهذا عين ما يسميه الكلاميون بعيب بالدور في منطق السببية، وهو عندهم محال استحالة عيب التسلسل فيها.

وهكذا إذن، فلا حملات سنوات من الشحن عن طريق التشنيع، والتفسيق، والتكفير، والتعميل (تهمة العمالة للأمريكان والصهيونية) للأفراد، وللمؤسسات، وللمجتمع، من أعلى المنابر، وعلى صفحات الجرائد، وفي فصول الدراسة، وفي الحافلات، وحتى تحت قبة البرلمان، وفي الأعراس والمآتم، وكذا إيغار صدور الناس ضد السياحة وضد السينيما، وضد الاحتفالات العمومية، والمهرجانات الفنية التي تصور جميعا في ذلك الخطاب كمجرد فضاءات بغاء وعربدة، كلها أمور لا دخل لها في إعطاء معنى سياسي، ولا جيو-سيساسي، ولا أيديولوجي وفكري وتربوي لما حصل من كوارث مخزية خلال السنوات الثلاث الأخيرة بدأت بالمسيرات والشعارات الإقصائية قبل أن تدشن موسم إراقة الدماء. كما أن شبكات تدريب ما يمكن اليوم تسميته باللفيف المغربي وتجنيده للجهاد المقدس في البوسنا وفي أفغانستان وفي الشيشان، وفي العراق، وفي غيرها، وكذا احتلال المغاربة لصدارة بوديوم الإرهاب العالمي في أمريكا، وألمانيا، وهولندا، وأنجلترا، وأسبانيا، وكدا الإعلان عن تأسيس "القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي"، إما أنها أمور من اختلاق أجهزة الموساد أو السي-أي-إي من أجل الإساءة للإسلام، وإما أن أبطالها إنما هم بدورهم من فصيلة متجرعي مسحوق البرغوث أمام وزارة المالية، أو من فصيلة أمثالهم ممن قضوا أشهرا بمساعدة أطر عليا في الكيمياء، وبدعم من تجّار ذهبٍ لا يأتيهم الفقر لا من بين أيديهم ولا من خلفهم، لاقتناء المواد الكيميائية وضبط مقادير مزجها قصد صناعة أحزمة ناسفة كان يكلف الحزام منها ما يناهز ثمن "مضمة" مغربية، ربما كانوا يعدونها كمفرقعات لمجرد تسلية الأطفال في حفلات عيد المولد على الطريقة المغربية لو لم تفاجئ الشرطة صنائعهم البريئة فينفجروا كانتحاريين، وينتحروا كانفجاريين بفعل الفزع من بطش أساليبها اللا-إنسانية، «حتى لا يقعوا في يد رجال الأمن لأن هذا أسوأ من الانفجار نظرا لشدة التعذيب في أقبية السجون؛ وأكثر من هذا فإن تصريحات المسجونين والروايات التي تروج بين أعضاء السلفية الجهادية تقول بأن أدوات التحقيق في معتقلات الأمن لا تستثني أية وسيلة، وفي مقدمة هذه الوسائل الاغتصاب» (افتتاحية جريدة المســاء عدد 178 ليوم 16 أبريل 2007 بقلم رئيس تحريرها، توفيق بوعشرين) كما تبين ذلك شهادة الانفجاري المنتحر، «عبد الفتاح الرايدي الذي خلف لنا رسالة يروي فيها بتفصيل ممل ما تعرض له داخل السجن من تعذيب وانتهاك لكرامته، واغتصاب لرجولته، وإهانة لإنسانيته، لكن لا أحد استوعب الرسالة التي حملت بين طياتها وعدا بالانتقام لم يُـخـْلِفه عبد الفتاح» (عمود "الرأي الآخر" علي أنوزلا بنفس العدد من جريدة المساء). وإذا ما تجاوز البعض التشكيك في الدلالات السياسية بدورها فلكي ينتقل من التشكيك إلى ما يشبه التبرير السياسي فيقول مثلا "هناك عوائق تقف أمام انخراط الاسلاميين في الحياة السياسية في المغرب؛ فالأحزاب السياسية ترفض خروجهم وانضمامهم للحياة الحزبية؛ كما أن السلطة هي الأخرى تضطهدهم خوفا من علاقاتها مع الغرب أو من الإضرار بالمصالح الاقتصادية للمملكة" (تصريح لفضائية العربية، أوردته أسبوعية أكراو أمازيغ؛ عدد 15 أبريل 2007؛ ص:3 مسندا إلى من أسمته "عبد العزيز قوقز" الذي وصفته بالخبير في شؤون الجماعات الأسلامية).

الدلالات الثقافية للتصرف إزاء مشهد الإرهاب
ما يستوقفني اليوم في باب الدلالات المتعددة للأحداث الإرهابية الدموية التي عرفها المغرب ليس هو الدلالات السياسية كما أراها والتي سبق لي أن أسهبت فيها الحديث قبل ثلاث سنوات في المقال المشار إليه أعلاه والذي لم تزده السنون إلا راهنية. إن ما أود الوقوف عنده هذه المرة لألفت نظر المختصين إلى أمره بشكل جدّي هو ما استهللت به المقال الحالي من خلال المقتطف المستعار حول علاقة ثقافة المجتمع المغربي في عمومه بعنصر الدم كأقصى تعبير عن النزعات العدوانية والميولات الفنائية النيكروفيلية. السؤال هذه المرة ذو بعد أكاديمي في ميدان التربية وعلى ضوء العلوم الانثروبولوجية والاجتماعية والسيكو-اجتماعية. إن عودة الصحافة من جديد، وبشكل مرَضي حادّ، إلى التسابق على عروض التشهير بمظاهر جزارة الرعب والقذارة (صور تقسيط الأحشاء، الأطراف، الجذوع، الرؤوس، القلوب)، منقولةً من الأرصفة والسطوح التي شهدت البشاعة لتنشر على كل واجهات الأكشاك ونقط البيع على الأرصفة عبر البلاد وأمام أعين الصبية وغير الصبية، وبإلحاح في الزمن فاق أسبوعا مع وتنبيه بعضها على أن له حق الانفراد نشر بعض الصور، لهو أمر يستحق أن تطرح بشأنه أسئلة جدية عن الحالة الصحية للتوازنات التربوية والثقافة والسيكو-اجتماعية للمجتمع المغربي ككل. فلم يعد يتعلق الأمر بمجرد ذلك النصيب المعزول من الهامشيين الذين يفرزهم المجتمع مضطربين في توازناتهم إزاء قيم الجرم والعدوان، والموت والحياة، وإزاء المشاهد المرضية المرتبطة بدوافع الفناء وبالثقافة النيكروفيلية. ذلك أن صنفا من الصحف كان قد أثبت بأن سوق صور الرعب، والدم، وبشاعات جرائم الحق العام، كان نافقا في المجتمع المغربي وذلك مند أن اكتسب البعد التجاري للصحافة شرعيته في التقاليد الصحفية المغربية، وهو الأمر الذي فطن إليه الصنف الآخر من الصحافة المغربية بالرغم من امتناعه من الاستسلام لقانون العرض والطلب، وذلك باسم ميثاق أخلاقيات المهنة (انظر تغطية للنقاش حول الأمر في القدس العربي؛ عدد 5561؛ ص:7). إلا أنه ما أن يتعلق الأمر ببشاعات الإرهاب، التي أصبحت اليوم دورية في البلاد، حتى تتحرر تلك الفصيلة الزاهدة في الإثارة بدورها من قيود الميثاق الأخلاقي بدعوى "كشف الوجه البشع للإرهاب"، وذلك لإشفاء غليل صحفييها وزبنائها المشاهدين (هم في هذا الباب مشاهدون أكثر منهم قراء) في مستنقع بشاعة الرعب الدموي المصور والمدعم بنوع أدبي جديد في وصف انتثار الأشلاء الآدمية، وبأسلوب يزيد - من خلال إلحاحيته على أدق التفاصيل الوصفية لكيفية انـتـثار الأحشاء والأشلاء - في تأكيد وجاهة التساؤل عمّا إذا لم تكن ظاهرة التعطش لصور الرعب الدموي عندنا من أعراض حالة مرَضية جماعية على مستوى الأسس الثقافية للتربية.
فلقد تذكرت، وأنا محاصر أمام الأكشاك بصور الرعب تتغول عليّ من كل صوب، تلك الجارة التي أبطأ عليها الجزار صبيحة عيد الأضحى المنصرم، فاقتحمت علينا فناء المنزل حيث تحلـّق الجميع صبيةً وشيوخا حول المعالجة الجماعية لكبش الأضحية في حالات سيكو-اجتماعية عُـصابية هي خليط غير مندمج من مشاعر الإشفاق من مشهد الدم، ومن الثوران الهستيري للأعصاب في نفس الوقت بفعل نفس المشهد، ومن "هوائش" الغرائز الافتراسية البدائية التي تستعجل الأمر وتستوهم روائح الشيّ والقـُـتار. لقد اقتحمت تلك الجارة العجوز على الناس فناء الدار مصرحة بأن تأخر الجزار جعلها تعاني من وجع الرأس بسبب "الهوائش" والحاجة إلى رؤية الدم المراق وإلى استنشاق روائح قـُتار الشحم المحترق، حتى إنها كانت تعمد إلى إحراق نـُتـف من صوف الكبش فتستنشق قتارها للتخفيف من ألم الهوائش الذي ألمّ بأعشار رأسها. لم تسترد العجوز "توازن" راحتها وخفة رأسها حتي تطوع الناس بتقديم ذبح كبشها أولا حيث بادرت شخصيا إلى استقبال كمية من دمه الفائر في إناء من البلاستيك لاستعمال لم نعرف عنه شيئا. وما أن تم سلخُ الحيوان الضأني، وبقـْرُ حُـشوته، واقتلاع وكشط شحم أحشائه حتى تلقفت العجوز رداء شحم حشوته ("الضوارة") فتأزرت به ملفـّعةً به كتفيها كما يـُفعل بالشال، ثم أخذت تتبختر في اختيال وانتشاء "حمدوشييـن" (نسبة إلى فرق الحمدوشيين). تذكرت هذا المشهد الديابوليكي الشيطاني المركّـز والكاريكاتوري لما هو متقاسَم في الحقيقة بيننا بدرجات متفواوتة من الظهور والإخفاء حسب التربية، وربطت ما بينه وما بين تقاليد الإشباعات الهائجة للفرق الحمدوشية حيث يفترس آدميون مغاربة راقصين جديانا حية يتماشقونها كالسباع في مشاهد تحيل على مرجعيات ثقافية موغلة في الأزمنة البدائية (انظر وصفا للموسم الحمدوشي الأخير بمكناس بمناسبة المولد النبوي في عمود رشيد نيني بجريدة المساء ليوم 10 أبريل 2007). كما ذكرتني تداعيات الأفكار، من خلال استحضاري لقصة العجوز التي امتلكتها "الهوائش" يوم عيد الأضحى، والتي استقبلت دم الخروف في خشوع حمدوشي وهو يفور، بدراسة كنت قد بينتُ من خلالها كيف تمّ، على المستوى الانثروبولوجي، استرداد واستدامةُ طقس من الطقوس اليهودية- المسيحية شبهِ الوثنيةٍ في شمال إفريقيا، هي طقس خروف عيد الفصح (agneau pascal) المسمى بالأمازيغية "تافاسكا" نسبة إلى الآرامية "فاسْــقا"، أي "الفِصح"، والذي يربطه نص التوراة بمعجزات خروج بني إسرائيل من مصر، وذلك من خلال المزج الوظيفي في هذه البلاد الشمال-إفريقية، بين شكل ذلك الطقس في ثوب يهوديته الأولى، وبين المرجعية الإسلامية لشعيرة عيد الأضحى بعد دخول الإسلام الذي يحيل فيه رمزية هذه الشعيرة على مرجعية أخرى هي قصة إبراهيم عليه السلام (سورة الصافـّات 102-107). فقد ورد في سفر الخروج من التوراة (12: 3-7) ما يلي: «في العاشر من ذلك الشهر يـؤخذ خروف لكل بيت (...) ويكون خروفا سالما من العيوب، ذكَرا وابنَ حوْلٍ كامل، خروفا أو جديا (...) ويقوم الملأ من بني إسرائيل بذبحه أضحيةً، فيؤخذ من دمه ويـُهرق منه على قائمتي الباب وعارضته» (ترجمتنا الخاصة عن النص العبري). فنلاحظ هنا إذن أصلَ عادةٍ ما تزال جارية في بعض البوادي المغربية وتتمثل في استقبال القوم لبعض دم الذبيحة، كما فعلت العجوز، وإهراقهم إياه على عارضة باب المنزل، وهو أمر كان جد منتشر، حتى إن الهوزالي اضطر إلى النهي عنه في أرجوزته "تنبيه الإخوان على ترك البدع والعصيان"، باعتبار ذلك، في اعتقاده، بدعة مستحدثة، حيث قال:
ولطخُهم بالدم فوق الباب * من بدَعٍ ليست من الصواب

وقد تنبه بعض شراح الأرجوزة إلى الأصول اليهودية لهذا الطقس فقال «وأخبر بعض الفقهاء أن صاحب "المعيار" ذكر أنهم اتبعوا في ذلك أهل الكتاب. فكيف يرضى من له غيرة في الإسلام أن يقتدي باليهود في أفعالهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم لما في ذلك من التعظيم لدينهم».

تساؤلات وخلاصة
فهل المواسم الحمدوشية في المولد النبوي، وفي كل مظاهر الغليان المحموم في التعامل الجماعي مع الأغنام، وفي مباشرة وشحذ السكاكين والمقدات من جميع الأحجام، في الأسواق، وعلى الأرصفة، وفي الساحات، وكل الظواهر السيكو-اجتماعية التي ترافق الإعداد للأضحية، تصعيداتٌ سيكولوجية من وظائفها تفريغُ الشحنات العدوانية على المستويات الفردية والجماعية، أم أنها تعبير مقنّـع وتنمية مهرّبة - تحت قناع الشعائر – تنمّي تلك الميولات العدوانية الدفينة عن طريق ابتذال مشاهد الفظاعة وجعلها عادية يستأنس إليها الفرد والجماعة؟ ثم ما هو الرابط الممكن - فيما يخص علاقة الأحاسيس والميولات والسلوكات بطبيعة الزاد التربوي للفئات الاجتماعية المختلفة – ما بين ارتفاع الطلب على مشاهد الرعب الدموي لدى زبناء الصحافة المكتوبة بلغة دون أخرى، كما يمكن أن يلاحظ ذلك الجميعُ في المقارنة ما بين سلوك الصحف العربية من جهة والفرنسية من جهة ثانية في الأكشاك المغربية في التعامل مع صور الدم، بما أن الصحف تساير أذواق زبنائها ؟
المتخصصون في علوم الاجتماع والانثروبولوجيا وأسس التربية هم وحدهم المؤهلون للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، التي لم يعد بالإمكان اعتبار طرحها ترفا في مثل الأحوال التي أصبحنا نعيشها. وإلى أن يعالج أولئك المتخصصون - إذا ما كان هناك متخصصون - أمثال تلك الأسئلة ويوردوا بشأنها أجوبة أو فرضيات على الأقل، فإن من الأحسن أن تريحنا الصحافة من الاتجار بصور الدم والرعب بدعوى "كشف الوجه البشع للإرهاب"، الذي لم يـحتج يوما إلى عدسات التكبير لكي تبرز بشاعته؛ ذلك أن فظاعة الإرهاب تدرك أخلاقيا وعقلا، لا بالإباحية الفرجوية أو ما سماه السيد لحسن حداد في مقال متألق له بجريدة المساء؛ عدد:182 (20-04-2007؛ ص:17) "بورنوغرافية الإرهاب". كما أن تلك البشاعة ليست بأمر من أمور الغيب يُحتاج إلى اجتهاد فقيه يبين من خلاله مدعوما بصورته الشخصية العملاقة في الصفحة الأولى لجريدة المساء (نفس العدد) لأناس امتُـحنوا في حقهم في الحياة بأن "ما قاموا به [أي الانتحاريون] لا أساس له في شرع ولا في عقل؛ فقد نختلف حول ذلك في حالة مقاتلة الأعداء، وهل يجوز أم لا يجوز؛ أما حين يتعلق الأمر بداخل جسم الأمة، وداخل المجتمع، فهذا هو الحرام مائة مرة". كل ذلك، في انتظار دعم ميثاق الأخلاقيات بقوانين زجرية تحمي الأشخاص من عبث من تنقصه الكفاءة في المعالجة الاحترافية للحدث نشكل يحوز القدرة على الإقناع، فيلجأ إلى تعويض ذلك النقص بالإثارة الإباحية، وفي انتظار دعم الكل بخطة إصلاح ثقافي وتربوي نظامي يساعد على بروز فلسفة للأخلاق تخرجنا من عصور العقلية الحمدوشية ومن عقلية من يستفتي كاهنا أو فقيها ليحدد له متى يكون قتل الأبرياء حراما، ومتى يكون مباحا أو مختلف فيه.



#محمد_المدلاوي-المنبهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد المدلاوي-المنبهي - على هامش أعمال الإرهاب في الدار البيضاء - الدلالات الثقافية لطقوس الرعب الدموي