أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - إدريس ولد القابلة - كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الأولى















المزيد.....


كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الأولى


إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)


الحوار المتمدن-العدد: 1892 - 2007 / 4 / 21 - 11:37
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


على سبيل البدء

كثيرون هم المغاربة الذين ظلموا وانتهكت حرماتهم وسلبت حرياتهم وأهدرت حقوقهم واغتيلت أحلامهم، وسيقوا إلى مخافر الشرطة أو الدرك ومراكز التعذيب والاستنطاق، العلنية منها والسرية، وفُرض عليهم بقوة التهديد والتنكيل، التوقيع على محاضر لفقت لهم التهم، وزج بهم في السجون العلنية والمعتقلات السرية، ومنهم من أزهقت روحه هناك بغير حق، والتهمة كانت على الدوام المس بالمقدسات أو بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي، أو التخطيط لقلب النظام. كان هذا سائدا فيما يُنعت حاليا بالعهد القديم، عهد دار المقري وتازمامارت ودرب مولاي الشريف و... آنذاك ساد ظلم خاص تفرعت عنه بشاعات استهدفت سحق الصفة الإنسانية والدوس على صفة المواطن، جملة وتفصيلا، باعتماد أساليب قمع شرسة وهمجية أحيانا وسلسة أحايين أخرى.
إن التطورات التي عرفها المغرب أكدت بما فيه الكفاية، على مسار التضييق المتزايد للحريات وتعميق تكريس القمع الأعمى على امتداد العقد السادس والسابع والثامن من القرن العشرين في ظل تمويه الطابع الفردي للحكم. وقد شهد عهد الملك الراحل الحسن الثاني مواجهات بين الملكية المطلقة وقوى شعبية معارضة، وكان الرد على الدوام هو القمع الممنهج.
لقد سبق للمفكر الفرنسي "جون جوريس" أن قال في مطلع القرن العشرين: "تأتي الثورات عادة نتيجة لغياب الإصلاحات، بل نتيجة لإحباط آمال الجماهير في الإصلاحات التي وعد النظام القائم بها"، وهذا ما حصل بالمغرب على امتداد عهد الملك الراحل الحسن الثاني. لذلك بعد وفاته، في نهاية القرن الماضي، تركزت جميع التطلعات على إجراء تغيير فعلي في شخص ابنه الملك محمد السادس الذي لقب بملك الفقراء منذ الشهور الأولى لاعتلائه العرش، وبدا أنه مستعد للقطع مع ميراث أبيه فيما يتعلق بنهج الحكم والتدبير، في هذا السياق خلع إدريس البصري وزار منطقة الريف وأقر بكشف حقائق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، آنذاك بدأ ثلة من المثقفين يحلمون بانتقال ديمقراطي على الطريقة الإسبانية، لكن الملك محمد السادس أكد في خطابه الثاني سنة 1999 بعد جلوسه على العرش أنه سوف يستمر في ممارسة سلطاته الدستورية كاملة غير منقوصة كما كان عليه الحال في عهد أبيه، وبذلك لم يدع أي مجال لأدنى لبس فيما يتعلق بذلك الحلم.
على امتداد سنوات طوال تضرر الكثير من المغاربة من الإرهاب الذي كانت تمارسه الدولة، عندما كانت تختطف الأبرياء وتعذبهم وتحاكمهم وتصدر في حقهم عقوبات الإعدام والمؤبد في محاكمات صورية، وكان آنذاك من غير الممكن التخلص من إرهاب الدولة هذا إلا بالإقرار بدول الحق والقانون، لكن لم يسبق الإقرار بها بالمغرب منذ 1956 إلى حدود التسعينيات، وأدى ذلك إلى عشرات الآلاف من المتضررين على امتداد هذه الفترة الزمنية.
لقد خلق الملك الراحل الحسن الثاني مغربا احتكرت فيه حفنة من الأفراد أغلب الثروات، شاع فيه البؤس والبطش و"إبادة" جملة من المناضلين المخلصين وحركاتهم من أجل غد أفضل، وذلك باعتماد موجات قمع متلاحقة.
آنذاك كانت الملكية تمر عبر سلسلة من الأزمات الخطيرة بفعل التحركات النضالية الجماهيرية والإضرابات الكثيفة، وعانت من محاولتين انقلابيتين 1971 (الصخيرات) و1972 (الهجوم على الطائرة الملكية).
تميز عهد الملك الراحل الحسن الثاني بكثرة الاحتجاجات والتمردات الشعبية، إذ كان لكل عقد من الزمن نصيبه، للخمسينيات نصيبها (عندما كان الملك الراحل وليا للعهد)، وكذلك الشأن بالنسبة للستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات أيضا. والراصد لهذه التمردات والاحتجاجات جراء تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومظاهرات المتضررين، يلاحظ أنها كادت أن تكون دورية على امتداد العهد الحسني رغم خنق مساحات الحرية المتاحة آنذاك.
من الأوصاف التي وصف بها الملك الراحل الحسن الثاني، صانع البساتين المحروسة، وقد سبق لأكثر من جهة ومصدر أن وصمت عهده بمرحلة التنكيل بالمغاربة بدليل وجود "آكل البشر" تازمامارت ومعتقل درب مولاي الشريف مرورا بمختلف المعتقلات السرية والنقط الثابتة وفيلات التعذيب والاحتجاز القسري، إذ لم يخل إقليم من أقاليم المغرب، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، إلا وكان يحتضن معتقلا سريا ومكانا للاحتجاز القسري.
يستعصي على المرء وصف مغرب الحسن الثاني، فقد يبدو مؤمنا إلا حد التطرف، ومنفتحا إلى حدود التغريظ، متعددا وأحاديا في ذات الوقت، لكنه ظل مطبوعا بالقمع، فكيف قمع الملك المغرب؟
أساليب القمع وقوانين على مقاس خاص
مسك النظام بعصا القمع لضرب كل من عارضه في نهج تدبير شؤون البلاد والعباد، ومن المفارقات التي طبعت المغرب على امتداد عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تصاعد القمع والتخويف والترهيب، ورغم ذلك ظلت التمردات الجماهيرية حاضرة على امتداد ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لأن امتصاص الثروات من طرف أقلية ظل سائر المفعول وانتشر الفساد والظلم والجهل.
وصمت مرحلة ما بين 1961 ونهاية الثمانينيات بسحق جميع أشكال الاحتجاج، وبقيت هذه الفترة الزمنية الطويلة مطبوعة بالاعتقالات المكثفة ضد المعارضين والمحاكمات الصورية والإعدامات على هامش القانون والموت البطيء الممنهج في المعتقلات السرية والتعذيب كأسلوب أساسي لمختلف السلطات الأمنية والاستخباراتية بالبلاد.
استغلال بشع، بطالة مستشرية، قمع خطير وبيع البلد للرأسمال الإمبريالي.. هكذا وصف جملة من المحللين الاقتصاديين مغرب العهد الحسني.
اشتدت الحملات على رجال الرأي والفكر والسياسة، اعتقالا وسجنا وتشريدا وقهرا واضطهادا وقمعا..
وعلى امتداد 38 سنة ظل النظام يذكر المغاربة بالنهج الاستبدادي المعتمد، بدءا من الستينيات إلى نهاية الثمانينيات، إذ أصر المخزن على إعادة اجترار الفترات التاريخية التي عاشتها بلادنا من 1961 إلى منتصف التسعينيات، إذ أن كل فئات الشعب وشرائحه واتجاهاته الفكرية والسياسية انكوت، بشكل أو بآخر، بترسانة أنواع القمع والتعذيب والتنكيل المعتمدة، وبذلك قدر بالآلاف من اضطهدوا وظلموا ونكل بهم.
على امتداد العهد الحسني خيم القمع الشرس على الوضع السياسي، إذ تكاثر عدد المعتقلين والمختطفين السياسيين، إذ كانوا يعدون بالمئات في صفوف اليساريين، علما أنه بالنسبة للمعتقلين الإسلاميين كان عددهم ضئيلا جدا، ولم يكن داخل السجن في السبعينيات إلا المتهمون في ملف اغتيال عمر بن جلون. وكان من بين المختطفين البارزين آنذاك المهدي بن بركة والرويسي والمانوزي، إضافة إلى المختطفين العسكريين الذي زج بهم في جحيم "تازمامارت" والمختطفين المدنيين الذين أقبروا في معتقلات سرية في مختلف ربوع البلاد. كما اضطر الكثيرون لمغادرة البلاد قسرا، إلى فرنسا بالخصوص، وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا أو إلى الجزائر، إنها فترة الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان بامتياز.
بلغت أساليب القمع والتنكيل المعتمدة على امتداد 38 سنة رعونة وبشاعة أقر بها الكثيرون حاليا.
لقد ساد القمع غير المنضبط، إلى حد أن بعض المحللين وصف أمن واستقرار المغرب آنذاك كاستقرار وأمن الفأر في جحره.
إن المتتبع لتصاعد أساليب القمع خلال هذه المرحلة وظروف عيش أغلب المغاربة، يستنتج بسهولة بأن حياة الإنسان المغربي – ذكرا كان أم أنثى، طفلا كان أو مسنا – هي أهون في نظر القائمين على الأمور من أي شيء آخر. فكم من مغربي راح ضحية للقمع والتنكيل، ولم تحرك أي جهة رسمية ساكنا؟ وكم من المغاربة فارقوا الحياة في معتقلات التجويع وزنازين التعذيب وسجون التأديب والمقابر الجماعية غير المكتشفة بعد؟ تظل هذه الأسئلة وغيرها قائمة باعتبار أن الحصيلة لم يكشف عنها رغم المجهودات التي قامت بها هيئة الإنصاف والمصالحة والفعاليات الحقوقية.
ومن تجليات صفة الإنسان في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الإهمال القاتل والفساد الفتاك..، إذ أن نصيب النفقات في المجال الصحي ظلت متدنية، قس على ذلك مختلف القطاعات الأخرى في المجالات الاجتماعية، وهذا حتى حينما كانت الحكومة تقر بأن اقتصاد البلاد بخير وأنه حقق نسبة عالية من النمو، إن الطابع الأساسي "للقمع الاجتماعي"، على امتداد هذه الفترة، تجلى في تهميش الإنسان المغربي وضرب حياته وجودتها، وتغييب التركيز على المشاريع والقرارات التي كان من المفروض أن تكون في خدمة الإنسان، وبذلك أصبحت الدولة والسلطة والمال أهم من حياة المغاربة منفردين ومجتمعين. لذلك نادى الكثيرون بضرورة قلب الآية ليصبح الإنسان المغربي، مفردا ومجتمعا، هو مركز الاهتمام ومحور النشاط لتصبح جميع الأمور الأخرى أداة لتأمين حياته وجودتها، لاسيما حق الإنسان في الحياة والصحة والعمل والأمن والآمان انطلاقا من القاعدة القائلة بأن "حقوق الإنسان" هي أصلا من واجبات الملك، إذ كان هذا هو السبيل الأجدى ليلتحق الإنسان المغربي بركب الحضارة التي يصبو اليوم للهجرة إليها، ولأنه ما لم تتغير جذريا نظرة الدولة إلى حياة الإنسان المغربي وجودتها سيظل "مستقبل المغرب نسخة طبق الأصل للماضي"، وربما أسوأ منه، فلا يمكن أن تظل حياة الإنسان أرخص بضاعة.
ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني تكرس الخوف، إلى أن أضحى منظومة حاضرة بآلياتها وسلوكياتها، وهذا ما نعته الدكتور المهدي المنجرة بالخوفقراطية المرتبطة بالذلقراطية والفقرقراطية. آنذاك كان الكثير من المغاربة لا يكشفون عن أفكارهم خشية أن تؤدي بهم إلى الاعتقال والتعذيب والسجن، العلني أو السري. آنذاك كان مجرد الخوض في السياسة مغامرة كبيرة. ولا زال سجناء الرأي في السبعينيات (سجن غبيلة) يتذكرون كيف كان ينظر إليهم سجناء الحق العام وإدارة السجن كأنهم اقترفوا جريمة ما بعدها جريمة، باعتبار أن مجرد الخوض في السياسة حينئذ كان مخاطرة كبيرة جدا بفعل القمع الممنهج والاستبداد.
كانت القاعدة هي البطش بالرأي المغاير، ووصلت درجة الاستبداد إلى حجز جريدة "المحرر" لمجرد أن أحد صحافييها استعمل عبارة "الجيش المغربي" عوض عبارة "القوات المسلحة الملكية"، وهذا ما دفع أحد المحللين السياسيين الغربيين إلى القول بأن إبداء الرأي في النظام الملكي بالمغرب يعتبر جريمة، وبالتالي هذا أمر مستثنى، جملة وتفصيلا، من منظومة حقوق الإنسان، لأن مغرب الحسن الثاني لم يكن يطيق مثل هذه الأفكار التي كان النظام يعتبرها خطرا عليه. هذا في وقت كانت فيه البلاد مشلولة بفعل الخوف لان الدولة أشاعت آنذاك مناخا من الرعب في صفوف المغاربة.
ومن أساليب القمع المعتمدة آنذاك إقامة خطوط حمراء في مختلف المجالات، ما إن يفكر المرء في تجاوزها حتى يتعرض للاختطاف أو التعذيب أو المحاكمة أو الاختفاء القسري الذي قد تطول مدته أو تقصر، حسب مزاج القائمين على الأمور. وظل هذا الواقع قائما إلى منتصف التسعينيات، ألم يعتقل الأموي بسبب تساؤله حول من يحكم المغرب؟ وجهره بالمناداة للإقرار بملكية دون سلطات؟ ومن قبله ألم يحاكم علي يعته على استعماله عبارة "الرفيق" التي اعتبرها القائمون على الأمور دلالة على اعتناق الشيوعية؟ واللائحة طويلة في هذا الصدد، فحدث ولا حرج.
لم تقتصر أساليب القمع على الشرسة منها، وإنما تم كذلك اعتماد أساليب لينة.
ففي سنة 1962 قدم الملك الحسن الثاني مشروع دستور على الاستفتاء لحسم مسألة السلطة التأسيسية للاستئثار بها، وفي الحقيقة فإن هذا الدستور جاء، للفصل النهائي في الصراع حول السلطة بين البلاط والحركة الوطنية، لكن في الانتخابات الموالية حصد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمعية حزب الاستقلال عددا متساويا من المقاعد مع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (فديك) برئاسة أحمد رضى كديرة كحزب حكومي، ولم تستطع هذه الأخيرة الحصول على الأغلبية المطلقة إلا باستقطاب اللا منتمين، لكن هذا الوضع عمق الصراعات الاجتماعية، وحاولت المعارضة إسقاط الحكومة عن طريق ملتمس الرقابة، لكنها ستفشل، غير أنها صوتت ضد مقترح مضاد كان أحمد رضى كديرة قد تقدم به لمواجهة تعديل من اقتراح حزب الاستقلال ينص على منع الأجانب من النشر في المغرب، في نفس اليوم لجأ الملك الراحل الحسن الثاني إلى تفعيل الفصل 35 من الدستور للإعلام عن حالة الاستثناء التي ستدوم أكثر من خمس سنوات حاول فيها النظام إعادة ترتيب أوضاعه عن طريق الاستئثار بالسلطة وترويض مؤسسات من شأنها عرقلة عمله.
وجاء دستور 1970 لمحاولة تقنين ودسترة حالة الاستثناء وتركيز السلطات في يد الملك. آنذاك دعت الكتلة الوطنية (الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) إلى مقاطعة الاستفتاء والانتخابات. وتلاه دستور 1972، وقاطعت المعارضة استفتاءه، ورغم ذلك كانت النتيجة 99.99 في المائة بنعم، وأجريت الانتخابات، لكن السلطة مورست خارج البرلمان الذي اكتفى بلعب دور مكتب الضبط أو صندوق البريد الذي تمر منه الحكومة للمصادقة على قوانينها لتضفي عليها طابع المشروعية القانونية. وقبل الإعلان عن تنظيم الانتخابات، عمل الملك على توفير الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتشكيل أرضية جديدة لإدماج بعض قوى المعارضة في "اللعبة السياسية"، وذلك عن طريق "المسلسل الديمقراطي"، وعلى المستوى الاقتصادي، عن طريق "المغربة" التي استفادت منها بعض الفئات.
كما سيستغل النظام مسألة الصحراء للمطالبة الفورية بالسلم الاجتماعي قصد تمتين الجبهة الداخلية وتشكيل الإجماع الوطني حول القضية الوطنية الأولى: الصحراء والوحدة الترابية.
وبعد ذلك جاء الدستور المعدل في 4 شتنبر 1993 لاحتواء المد النضالي والاحتجاجي الذي عرفه المغرب بخصوص المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية ولتلميع صورة المغرب على المستوى الدولي، هذا في وقت احتلت فيه مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني الصدارة على الصعيد العالمي.
ومن الأساليب اللينة المستعملة في القمع وسد الطريق على المعارضة ما حدث سنة 1981 عندما رفضت المعارضة تمديد عمر ولاية مجلس النواب، ولم يجد الملك الراحل الحسن الثاني ما يواجه به موقف المعارضة إلا سلطة "إمارة المؤمنين" ووصف خصومه السياسيين بأنهم أضحوا خارج الجماعة، إذ قال في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية إن ملك المغرب، بصفته أمير المؤمنين، يتبرأ من "أولئك الذين كانوا قاعدين هنا [أي البرلمان] وخرجوا من هنا مستخفين بقوانين الدولة، ومستخفين بنتائج الاستفتاء، ومستخفين بجماعة المسلمين، ومستخفين بكيفية نهائية بمستقبل المغرب كبلد منظم يعيش داخل قانون ودستور وديمقراطية...".
ففي العهد الحسني كرست الممارسة المخزنية مفهوما خاصا لإمارة المؤمنين يلفه الاستبداد، وقد خضع الكثير من العلماء آنذاك لأهواء المخزن في هذا الشأن، إذ قيل، إن الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، هو وحده الذي له حق الجمع بين الدين والسياسة، أما غيره، فعليهم إما بالدين وإما بالسياسة. آنذاك كان كبار فقهاء الفقه السلطاني يقرون أن الملك وحده هو الذي ترجع إليه الكلمة الأخيرة في أمور الناس الدينية والدنيوية، فهما واجتهادا وترجيحا وإفتاءا.
كان دائما الرد المخزني على المد الاحتجاجي الشعبي هو تحطيمه بالقمع في المهد منذ منتصف الستينيات.
ومع تصاعد هذا المد الشعبي في الثمانينيات بفعل برنامج التقويم الهيكلي، حيث اضطرت الملكية إلى منح بعض التنازلات، متمثلة ببعض الترميمات السياسية للتأقلم مع مستلزمات الإصلاحات الهيكلية في سياق العولمة الليبرالية المتوحشة، ولدرء انفجار شعبي محتمل بفعل تردي الأوضاع واتساع هوية التفاوت الاجتماعي وتحت ضغوطات السياق العالمي المطبوع بانهيار الكثير من أنظمة الاستبداد وتنامي المطالبة بالديمقراطية، هو الشيء الذي شجع المعارضة على التماس بعض التعديلات للدستور. هكذا أحدث الملك الراحل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في ماي 1990 ووزارة حقوق الإنسان، وأطلق سراح نسبة كبيرة من المعتقلين السياسيين سنة 1994 من السجون العلنية والمعتقلات السرية، وأدخل تعديلات على الدستور في سنة 1992 ثم في سنة 1996 وسمح باستعمال الأمازيغية في التلفزة وأشرك أحزاب المعارضة التقليدية في الحكومة في مارس 1998.
ومن المعلوم أن دستور 1962 تم تهييئه بمساعدة خبراء فرنسيين، وهو الدستور الذي منح للملك كافة السلط، فهو أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة، يعين الوزير الأول وباقي أعضاء الحكومة، يرأس مجلس الوزراء ويأمر بتنفيذ القانون، له حق حل البرلمان وحق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، يوقع المعاهدات ويصادق عليها، يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويعين القضاة.. لا فصل بين السلط، فهي كلها بين يدي الملك، علما أنه في عهد الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن تشكيل الحكومة يخضع لأغلبية برلمانية مهما كانت، بل الملك ينصب الفريق الحكومي الذي يريد القيام بوظائف معينة خلال مدة معينة حسب ما يقرره. أما بخصوص الجماعات المحلية، فإن قراراتها لم تكن قابلة للتنفيذ إلا بعد المصادقة عليها من طرف وزارة الداخلية، أم الوزارات آنذاك، وكل هذه الإجراءات تنم على مظاهر تدبير استبدادي للأمور.
أما الانتخابات، فكان يتم التحكم في نتائجها بواسطة قانون الانتخابات والتقطيع الانتخابي والتسجيل في اللوائح الانتخابية وتلاعب وزارة الداخلية في رسم الدوائر الانتخابية كي تضمن النتيجة التي تريد. وظل التدخل القوي لوزارة الداخلية، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، في العملية الانتخابية، من أولها إلى آخرها، ينزع الصدقية عن النتائج المعلنة والتي هي في آخر المطاف تعبير عن إرادة جهة معينة غير إرادة الشعب الفعلية.
يقول أحد المحللين السياسيين.. كلمة واحدة تصف وتصور أساليب ونهج التعامل في مغرب العقدين السادس والسابع وجزءا كبيرا من العقد الثامن من القرن العشرين، إنها كلمة "بطش"، قبل أن يعلن الملك الراحل الحسن الثاني أن "المغرب مهدد بالسكتة القلبية"، وبعد أن أضحى أغلب سكان المغرب حانقين بفعل عقود طويلة من سياسة التهميش والإقصاء وتكريس تردي الأوضاع، آنذاك تغير الخطاب الرسمي لأن القائمين على الأمور خشوا أن يكون القمع الشرس والممنهج المعتمد بمثابة زيت على نار.
وعموما فعلى امتدا 38 سنة، وبفعل هذا القمع الممنهج ظلت أغلبية الشعب المغربي ترزخ تحت التخلف عقودا، وتمت إبادة أجيال من المناضلين والمعارضين، الذين كان ذنبهم هو الحلم بمغرب جديد يصون كرامة المواطن ويضمن له شروط عيش كريم، وصادر مستقبل شباب أكثر من جيل.

العهد الحسني بعين أخرى

إن عهد الملك الراحل الحسن الثاني ارتكز على خلفية تاريخية أسست المغرب المعاصر. فمنذ عودة والده، الملك الراحل محمد الخامس من منفاه للإعلان عن استقلال المغرب سنة 1956، تأسست التعددية الحزبية وسنت القوانين الضامنة للحريات العامة، ثم خلفه ابنه، الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1961 ليشهد المغرب نزاعا قويا بين البلاط وأحزاب الحركة الوطنية التي سرعان ما أصبحت في صف المعارضة. واتسمت المرحلة بمحاولات انقلابية فاشلة ومؤامرات استهدفت الراحل الحسن الثاني، وليا للعهد وملكا، واغتيالات ومحاكمات سياسية ومتابعات لزعماء المعارضة وصور متعددة للقمع وانتهاكات واسعة للصفة الإنسانية وحقوقها.
عاش الملك الراحل الحسن الثاني عصر الحداثة والتقدم، لكن الأساليب التي حكم بها ودبر بها سدة الحكم هي أساليب قروسطية لم تكن تتماشى مع روح العصر، وتمحورت في عمومها حول السعي نحو ترويض المجتمع وقهره.
وعلى امتداد العهد الحسني، الذي دام 38 سنة، ظلت سمات الانفجار الاجتماعي واردة في أي وقت وحين، تنتظر الشرارة، وهذا ما تأكد بجلاء على امتداد عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. فحكم الملك الراحل الحسن الثاني تأسس على الاستفراد بالسلطات في ظل سيادة علاقات ذات طابع اقطاعي وقوى الفساد الإداري والمالي وتقوية حظوظ الفاسدين في نيل مقاعد بالبرلمان والمناصب العليا بسهولة، وإحداث أحزاب سياسية كارتونية.
عموما طغى الوضع المتأزم وظلت تقارير البنك الدولي تسطر على تراجع الاستثمارات الخارجية وبطء وضعف النمو الاقتصادي وتفاقم العجز التجاري، فضلا عن العبء الذي تحمله الاقتصاد الوطني نتيجة اتساع مدى المديونية الخارجية، وما ترتب عنه من عدم الوفاء بمستحقاتها، هذا إضافة إلى ملفات الفساد الإداري ونهب المال العام، حيث قدرت قيمة الاختلاسات التي انفضح أمرها بما يفوق 20 مليار درهم (2000 مليار سنتيم)، فيما ظل القطاع الصناعي يشهد جمودا حادا قبل أن يبدأ في التقهقر.
تلك من الأسباب التي أدت إلى تدهور المستوى المعيشي، وارتفاع معدلات الفقر الذي طال ما يناهز 50 في المائة من ساكنة المغرب، وعاش أكثر من 5 ملايين منهم تحت خط الفقر المدقع بدخل يومي لا يتجاوز 10 دراهم، وبلغت الأمية أكثر من 55 في المائة وسط السكان.
ظل الجيش دوما مجال اختصاص الملك منذ أن كان الملك الراحل الحسن الثاني وليا للعهد، فيما وظفه في مهام مدنية وأخرى قمعية لتصفية أو تجميد الحياة السياسية وتقزيم الأحزاب السياسية، لاسيما المعارضة منها. غير أن بعض عناصر هذا الجيش انخرطوا في محاولتين انقلابيتين فاشلتين، ثم أصابه ما أصاب البنى الإدارية للدولة من فساد. فبعد الانقلابين الأخيرين منح الملك الراحل الحسن الثاني للضباط السامين عدة امتيازات، ومع قضية الصحراء، تكاثرت هذه الامتيازات فأصبح ضباط كبار رجال أعمال بدون وجه قانون، ولم يكن ليتأتى لهم هذا لولا استغلال مواقعهم واستشراء الفساد بالمؤسسة العسكرية، وبذلك أضحت ثلة من الجنرالات تُشكّل قوة اقتصادية أسست لوبيات ضاغطة اخترقت دوائر صناعة القرار والمجال السياسي، وهي التي تشكل الآن جيوب مقاومة التغيير وإفشاله.
كما أن مثقفي النخبة الموالية ظلوا عديمي القدرة على الخروج عن المألوف مهما كان هذا المألوف يائسا لا حياة فيه، وأقصى ما وصلوا إليه هو المدح والوعظ دون امتلاك القدرة على التغيير أو الحض عليه عند الضرورة.
وبخصوص الديمقراطية، كثر الحديث عنها على امتداد العهد الحسني، لكن كآليات انتخابية وإجراءات دورية يمكن تبنيها لإيصال أشخاص ألى أماكن المراد إيصالهم إليها، وما على الشعب إلا المباركة والتصفيق. وبذلك ارتبطت الديمقراطية الحسنية بخصوصيات الثقافة المغربية التي لم تفعل سوى تكريس استبداد الشعب بمسوغ الدفاع عنه وعن مصالحه حيث ظل الخطاب السائد آنذاك يتمحور حول الفكرة القائلة بأن المجتمع المغربي لديه عادات وتقاليد وأنماط وأعراف اجتماعية وسياسية خاصة به، وبالتالي لم يكن معنيا بممارسة الديمقراطية في ظل قناعته بنظام حكم يعيش في كنفه.
بذلك، وعلى امتداد العهد الحسني، بقي البحث عن الديمقراطية بالمغرب مشروعا مفتوحا على جميع الاحتمالات وصيرورة قابلة للتوجه في مختلف الاتجاهات.
ومن الأمور التي لم يستسغها الكثيرون في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، إثقال كاهل الشعب لبناء أكبر مسجد في العالم بالدار البيضاء، والذي بلغت كلفته 10 ملايير درهم (1000 مليار سنتيم)، هذا في وقت كان من الأولى استثمارها من أجل خلق فرص للشغل للحد من معضلة البطالة أو لتمكين الفقراء من سكن لائق. في حين إن جميع المحللين الاقتصاديين ظلوا يقرون بأن الأزمة الاجتماعية هي أزمة فوارق اجتماعية في ظل اكتساب السلطة الاقتصادية من التعامل مع الدولة ومن خدمة الدولة ومن استغلال الدولة وليس من استثمار الرأسمال الخاص.
وفي بداية العهد الجديد، وخوفا من انكشاف الحقيقة كاملة بخصوص التجاوزات الكبيرة، قام الوزير المخلوع، إدريس البصري بتسخير عصابته لإضرام النار في أرشيف المخابرات (الديسطي) لدفن أسرار الإجرام في حق الشعب المغربي على امتداد 38 سنة، وحسب نتائج التحقيق تبين أنه تم استعمال مواد شديدة الاحتراق تقضي بسرعة على الورق، خلال عملية إضرام النار، وبذلك أتت النار على كل مستندات أرشيف الديسطي، وهكذا تم إقبار أسرار متعلقة بانتهاكات خطيرة واختلاسات كبيرة وتجاوزات جسيمة وتلاعبات ماكرة تتعلق بتسليح الجيش الملكي، ضبطت في حق جملة من الجنرالات عملوا بالصحراء ومعلومات خطيرة عن الفساد في أعالي البحار وأساطيل الصيد البحري وتهريب الأموال والرمال والجمال... وقد تسربت معلومات تفيد أن من بين المستندات التي أكلتها النيران وثائق وحجج تدين ما يناهز 160 شخصية وازنة في المغرب احتلت مواقع هامة على امتداد العهد الحسني، ومنهم من لازال يحتل مواقع حساسة إلى حد الآن.



#إدريس_ولد_القابلة (هاشتاغ)       Driss_Ould_El_Kabla#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حسن أبوعقيل – صحفي
- أحمد رامي / معارض مقيم بالسويد
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الرابعة
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الأخيرة
- ماذا ينتظر المغاربيون من أوروبا؟
- بن لادن يهدد المغرب بالبوليساريو
- قمة عربية وقمة تردي الأوضاع
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الأولى
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الثانية
- كم يكلف البرلمان المغربة؟ الحلقة الثالثة
- من معضلات البرلمان المغربي
- تدبير الأزمات المركبة فن لا يتقنه الجميع
- ماذا عساي أقول ..؟
- عودة الإرهاب إلى المغرب
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الأولى
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الثانية
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الثالثة
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الرابعة
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة الخامسة
- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا الحلقة السادسة


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - إدريس ولد القابلة - كيف قمع الحسن الثاني الاحتجاجات؟ الحلقة الأولى