أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سليم مطر - مقطع من سيرة عراقية: هنا ترقد الشاكرية.. بلادنا العابرة















المزيد.....


مقطع من سيرة عراقية: هنا ترقد الشاكرية.. بلادنا العابرة


سليم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 1889 - 2007 / 4 / 18 - 12:29
المحور: سيرة ذاتية
    


يا اصدقائي لعلكم تتفقون معي، بأن بلاد الانسان الاولى هي مرابع طفولته، لأن وعي الطفل لا يدرك من الوجود غير ما يراه بعينيه ويعيشه في حياته اليومية، فبلاده بالنسبة له، لا تتعدى حارته او قريته.
انا، كانت(الشاكرية) هي بلادي الاولى، اذ ولدت وعشت فيها حتى سن السابعة. هي مدينة فقيرة نبتت مثل الفطر، في اواسط القرن الماضي، عند اطراف حي بغدادي غني ومعروف اسمه(كرادة مريم). آلاف العوائل نزحت من الجنوب، وبالذات من ريف العمارة، وبنت بيوتها على عجل من طين وتبن وسعف وبواري(حصر قصبية).
لعل ذكرياتي الاولى عن الشاكرية تعود الى سن الرابعة(1960). كنا نحن زمرة الاطفال الحفاة، في طريقنا الى ضفاف دجلة(الشط)، نضطر الى إجتياز منطقة (كرادة مريم) المحاذية، بوجل وعجل، كما يجتاز الكبار حدود البلدان الاجنبية. كنا نشعر بأننا نجتاز بلاد اخرى، بقصورها الفارهة وكنيسة الارمن الكبيرة الخلابة وسياراتها النظيفة، ورجالها مدنية تقدمية افندية بثياب عصرية، ونسائها سافرات انيقات بيضاوات حمروات صفراوات مثل حوريات الجنة. يختلفون عن أهالينا الشرگاوية(من جنوب شرق العراق) التعبانين، وآبائنا المعـگلين (لابسي العقال) المتخلفين،وامهاتنا اللواتي مهما كن جميلات او بيضاوات فأنهن يبدون بعيوننا ملحات كالحات شاحبات لأنهن مبقعات بحزن وفقر وسواد. وعندما سألت اخي الاكبر(قيس) عن سر البشرة الرقيقة البيضاء اللتي يتميز بها هؤلاء المدنية، قال لأنهم يغسلون يوميا بالحليب. فعاهدت نفسي، عندما اكبر وتصير عندي فلوس، سأغسل يوميا بالحليب. وكم اصبت بالخيبة عندما بلغت اوربا فوجدت الناس، على العكس، يدفعون الفلوس لكي تكتسب بشرتهم الاسمرار بأشعة شمس طبيعية وصناعية!
نحن اطفال(الشاكرية) كنا نقتنص فترات الظهيرة حين يهجع ابناء (كرادة مريم) الى قصورهم، لكي نجتاز بلادهم بسرية وخوف ونحن حفاة راكضين، بحثا عن ضفاف دجلة. نجتمع تحت (جسر الجمهورية) في المكان التي تحول فيما بعد الى وزارة التخطيط، ونطلق الصرخات لكي يرجع لنا صداها، ونقذف طيور الماء بالحجارة، وننتسلق اعمدة الاسس العملاقة، ونبحث في المزابل عن لقي نادرة تخلى عنها الاغنياء سهوا، فنعثر على دگم(ازرار) مذهبة تضعها امهاتنا في ثيابنا المرقعة، وادوية طيبة المذاق نشربها ونأكلها كقطع حلوى، وجنين طفل نغل(لقيط) بعناه بخمسين فلسا لساحرة عوراء تصنع منه تعاويذ اخصاب لعذارى في ليلة عرسهن.
كنت عموما منسجما مع حياتي في ( الشاكرية) بلادي الصغيرة. كنا جميعا نتشابه في حياتنا، ولم اشعر بأني انا وعائلتي كنا بائسين، لأني كنت اشاهد الجميع يعيشون نفس البؤس، ولهذا لم اعرف انه كان بؤسا. كنا جميعا نسكن في بيوت من طين يصنعها اهلنا أمامنا من نفس الارض التي نسكن عليها، وقد شاركت ابي بضعة مرات في اعداد خميرة الطين والتبن من اجل تعمير حوشنا(بيتنا) وتصليحه. كان حوشنا يتكون من حجرتين، واحدة تقوم بمهمة مخزن اغراض ومطبخ وحمام ومنام اختي الكبيرة ليلى وحبوبتي (جدتي)روبية حينما تزورنا بعد تجوالها على بناتها الثلاثة عماتي الشهيرات (نوعية وصبرية ومكية). اما الحجرة الثانية فكانت لحياتنا كلها ليلا ونهارا، نعيش فيها وننام جميعا، امي وابي على ﭼربايا(سرير) في طرف الحجرة، ونحن الاخوة الخمسة ننام لى الارض فوق بساط واحد وغطاء واحد.
نحن اطفال الشاكرية كنا جميعا نحمل في ابداننا النحيفة اكوام من امراض العالم الثالث: البلهارزيا والملاريا والتيفوئيد، وامراض عابرة تحل فينا وترحل عنا دون ان ندري بها. اصابتني جميع هذه الامراض، واجتزتها بنجاح باهر. وعندما كان يستعصي شفاءنا، تأخذنا أمهاتنا الى(الامام الكاظم) لكي يلف السيد على معاصمنا علگ (خيط )اخضر من راية الامام الحسين، لكي يحمينا ويشفينا.
وكان عزرائيل ملاك الموت يأتينا ضيفا عاديا بين حين وآخر، فكانت امهاتنا ينجبن الاطفال في كل عام مثل البزازين(القطط)، ومثل البزازين ايضا كان يموت الكثير منهم. امي انجبت (13) طفلا، مات منهم خمسة، عدى الكثيرين الذين اسقطوا قبل الاكتمال، وبقينا نحن الثمانية: ليلى وقيس وراضي وانا الاصغر حينذاك، قبل ان يأتي فيما بعد اخوتي الاربعة، احلام وطارق وليث ثم بعد سنوات طويلة وقد تجاوز عمر ابي السبعين اتانا بزر الگعدة(آخر العنقود) اخي قائد. وقد شاهدت بعيني لاول مرة في حياتي وانا في سن الخامسة موت اختي الرضيعة(انعام) الجميلة التي كنت الاعبها بمحبة بديلا عن دمية لم احصل عليها. قد يكون (قلق الموت) الذي رافقني طيلة حياتي، قد بدأ عندما شاهدت امي تمرغ نفسها في التراب وتطلق نحيبها الذي يفطر القلب واختي ليلى تحتضن انعام. ثم مشهد ابي يبكي وهو يحمل الرضيعة مكفنة بين يديه محاطا بأبناء الحارة وعويل امي واختي، ليدفنها بعد سكة القطار في(مقبرة مريم) عند الجتة (مزرعة الجت). حتى الآن وانا في جنيف يخيل لي احيانا رؤية ملامحها الرقيقة الطيبة في وجوه بعض الصغيرات.
وعندما كنا ننجو من تلك الامراض، كان ملاك الموت يجذبنا الى اماكن عديدة كثيرة لكي يقبض ارواحنا: مستنقعات المياه الآسن التي كنا نسبح بها مع الكلاب والجواميس، والشاحنات والقطارات المارقة، كذلك في نهر دجلة القريب. حتى الآن وسوف تظل الى الابد صورة(ام فلاح) تلك الام الجنوبية ذات العيون الزرق وهي تعول وتبكي بحثا عن جثة ابنها(صلاح) الذي ابتلعه النهر. صديقي (صلاح) ذلك الطفل الابيضاني الجميل. كنا في الصباح قد تسللنا خفية بعيدا عن عيون امهاتنا الى الشط. نبحث عما يجلبه لنا النهر من حاجات طافية. فجأة انتبهنا الى صلاح وهو يستغيث بنا، ولا احد يعرف كيف انزلق في النهر. كنا مندهشين متجمدين لا نعرف ماذا نفعل، ونحن نشاهدالخوارة (دوامة الماء) تبتلع صديقنا صلاح. بقينا نبكي ونستغيث بالله والناس حتى غاب عنا صلاح الى الابد. بقيت(ام فلاح) تجول هائمة عند ضفاف النهر لايام وايام تنادي ولدها المفقود، حتى تمكن غواص من العثور على جثته في زاوية من النهر.
كان آباءنا يذهبون صباحا الى اعمالهم، شرطة وفراشون ومنظفون وبنائون، كذلك عسكر يموتون في حروب تحدث في اماكن مجهولة بعيدة. وكنت اسمعهم احيانا حينما تأتي جثة عسكري قتيل، يرددون اهزوجة شائعة: طرگاعة لفت برزان، بيس بأهل العمارة.( مصيبة تقع على برزان، قسى على اهل العمارة). وكان من الطبيعي جدا ان يتقاتل آبائنا فيما بينهم، فنسمع كل ليلة اطلاقات نارية، قد تكون لطرد اللصوص او لاغتيال شخص ما.
رغم المحبة والتعاطف والتعاضد بين الناس، هنالك ايضا خوف وحذر. فأول شيء تعلمته مما يسمى بـ(النضال السري)، عندما اخبرني اهلي بأن اخفي سر انتمائنا الى عشيرة(الحلاف)، لأن في ذلك خطر علينا. فعشيرتنا المنتشرة في جنوب العراق، هي مثل كل عشائر الوطن لها ثارات معروفة ومجهولة. ففي الشاكرية، كثيرا ما كان يحدث ان يتم اغتيال شخص ما لمجرد انتمائه للعشيرة الفلانية، لأن احد ابناء عشيرته قد ارتكب جريمة ضد احد ابناء عشيرة اخرى تقطن في الجنوب.
نحن اطفال الشاكرية، كنا نجتمع مع امهاتنا عند حنفية الماء الوحيدة التي تتغذى على مائها مئات العوائل. نغسل الابدان والثياب والاواني قرب الحنفية. وكنا ايضا جميعا نجتمع عند سكة حديد خط البصرة، لكي نلوح بأيادينا الى ركاب القطارات المارقة، ونضع قطعة الفلس الاحمر على السكة، لكي تتمدد وتكبر بعد مرور القطار عليها. ونتبادل الاتصالات عبر بوريات(انابيب)النفط العملاقة التي يعادل قطرها حجم طفل، والممتدة على طول السكة. وحينما نمل، نضع التبن والبيض على السكة آملين ان ينزلق القطار. لكن القطار لا ينزلق، ونحن لا نفقد الامل، فنعود لسرقة البيض والتبن لنضعه على السكة، وحينما يمرق القطار نغمض عيوننا واكفنا على قلوبنا الهلعة وننطوي على ابداننا المقشعرة من خوف وترقب ونطلق صرخات نشوة جنونية تمتزج بهدير وصرير القطار المارق، ونحن ندعوا الله ان ينقذه هذه المرة ايضا، فنفرح عندما نكتشف انه قد استجاب لدعواتنا.
نعم يا اصدقائي، الشاكرية جذوري وطفولتي وبلادي الاولى، وكثيرا ما يحدث وانا في عمري الحالي، ان اهرب الى ذكرياتها عندما اشاهد تعلق الآخرين بأوطانهم. منذ فترة، كنت اتمشى عصرا في ازقة مدينة(جنيف) القديمة، فوجدت نفسي امر بموكب كبير لمحتفلين بأحد الاعياد الوطنية، كبار وصغار مبتهجين صارخين وسط غناء وموسيقي عسكرية. ثمة شمس غاربة وعتمة شرعت تتخلل الازقة، وعبقت في الجو رائحة مساء، فشعرت فجأة برعشة خفيفة من كآبة وقلق، وعادت لي مثل حلم باهت ذكرى بعيدة يوم تهت في الشاكرية. ربما في الرابعة من عمري، كنت مع(سكينة) ابنة عمتي التي بعمري، وجدنا انفسنا ذات عصرية نسير خلف (موكب عزاء الشاكرية). نركض وراء الحشود ونهزج معهم بنداءات عاشوراء ونضرب صدورنا مع قرع الطبول ( وا حسيناه .. وا شهيداه..)، دون ان نفهم بالضبط من هو المقصود، معتقدين بأنه احد شيوخ عشائر الشاكرية. انتبهنا لانفسنا تائهين وسط الازقة المجهولة والظلام الذي خيم. تهيأ لنا بأنا تهنا في عالم آخر غريب وخطر وليس ثمة امل بالعثور على اهالينا. رحنا نبكي ونستغيث بالله واولاد الحلال بحثا عن المنقذ. لكن الناس كانوا يتغاضون عنا معتقدين بأنا نبكي على الحسين. ولم يصدقونا الا بعد ان راحت(سكينة) تتمرغ على الارض صارخة بالله والاهل. اغاثنا الناس وحملونا الى اهالينا. لا زالت حتى الآن ثمة أحاسيس قلق من ضياع تأتيني في المواقف المشابهة.
كنا منسجمين تماما مع حياتنا، لأننا كنا نعرف كيف ننتقم من بؤسنا. نتقبل بكل طيبة عقوبات امهاتنا اللواتي بعد ان يتعبن من ضربنا بنعلهن البلاستيكية السوداء، يشكين الىآبائنا لكي يكملوا حفلات الرعب بعد عودتهم مساءا. وعندما يتراكم الغيض فينا، كنا نبحث عن اية وسيلة لتفريغه. كنا مثل جميع اطفال الارض نعشق الحيوانات.. حتى الموت! وكنا نطبق على اصدقائنا الكلاب والقطط ، ذلك المثل المعروف( من الحب ما قتل). اكتشفنا تسلية رائعة. كنا نغافل اهالينا وننصب طشوت الغسيل كشراك للقطط. نصطادها ونشرع بكل براءة ورقة طفولية بتعذيبها وتكسير اطرافها بـالهيم الحديدي(المكسار) ونحن نتصارخ بعبث ونتضاحك ببراءة وفرح لا يمتلكها حتى غلمان الجنة. وكنا نكمل طقوسنا الجهنمية هذه بالهجوم على الكلاب، نحيطها من كل جانب، ننهال عليها بالحجارة والعصي وهي تنبح وتعول مستغيثة بآلهتها الخاصة بها التي لم تكن اقل منها حيوانية وسخرية، حسب اعتقادنا. كنا ندفعها ونحن نتضاحك ببرائة الى مستنقعات مياه الآمطار الآسنة التي سبق وان غرق فيها الكثيرين منا.
بعدها ان نفرغ من جنونا البدائي، نعود الى اهالينا الغاضبين من قسوتنا والمعتذرين لله عن جرائمنا التي لا تغتفر، لكي نتعرض لعقوبات بدنية قبل النوم، وعقوبات روحية اثناء النوم على شكل كوابيس رعب تفترسنا خلالها مرات ومرات تلك القطط والكلاب التي عذبناها وغدرنا بها.
حينما اتذكر حكايتي مع القطط، احس بالعار لأني كنت ناكرا للجميل لجنس القطط الذي انقذني من موت محقق. لا ادري إن كنت اتذكر حقا تلك الحكاية، وهذا امر غير معقول، ام اني سمعتهم يحكونها لي فانطبعت في ذاكرتي: كنت راقدا في الكاروك(المهد) واذا بثعبان يتجاوز طوله ذراع، ابيض مرقط، يزحف على عمود محاذي. وفي اللحظة التي كاد فيها ان يبلغني واذا بقط يهجم عليه وينهشه، وقد هبت امي وجدتي على صوت بكائي.
الغريب ان قسوتي الوحشية هذه ضد الحيوانات، لم تترك في نفسي غير اثرا معاكسا تماما. اصبحت فيما بعد وحتى الآن، بالغ الرقة والحساسية، بحيث اني لا اتحمل مشهد عنف ودم حتى في الصور والسينما. هنا في جنيف، كم من مرات تركت قاعة السينما وسط العرض بعد إن فوجئت بمشاهد عنف ودم اتتخلل الفلم. وعندما اجلس احيانا للتبرع بالدم، اغمض عيني تجنبا لرؤية الابرة وهي تسحب دمي. لعل حساسيتي هذه تعود اساسا الى اني انا شخصيا كنت مثل تلك القطط، عانيت ايضا من عنف وقسوة من الكبار. كذلك شاهدت بعيني فيما بعد، كيف يعذب الرجال في سجون دائرة الامن، إذ لا زالت اصوات المعتقلين الشاكية الباكية الطالبة للرحمة تصدح في روحي ممتزجة بصراخ ضحايا طفولتي من كلاب وقطط!
في الشاكرية شاهدت لأول مرة إمرأة تنجب. لم تكن أمي، رغم انها انجبت بعدي العديد من الاطفال. بل جارتنا (لعلوية العميا) وهي شابة عمياء رقيقة حلوة بيضاء، ومن سلال الامام علي. ذات صباح ونحن نلعب في الزقاق، دون ان نهتم بضجيج وزحام اهالينا حولنا، واذا فجأت ينطلق صراخ من بيت(العلوية)، فركضنا نحن الاطفال خائفين منتظرين كارثة ما، واذا بالكبار يقفون بوجهنا ويمنعونا من دخول الغرفة التي تجمعت النساء داخلها وعند بابها. لا ادري كيف تمكنت من مغافلة الحارسات وصعدت الى الرازونة(النافذة) ورحت اتمعن بذلك المنظر الذي لم اشاهد مثيله من قبل ولا من بعد. حتى هنا في جنيف عندما اجبروني في المستشفى عام 1990، حسب التقليد الحديث، ان احضر عملية انجاب زوجتي (مارگريت) لولدي(باسم)، اغمضت عيناي وانا اقف جنب زوجتي امسك كفها وكتفها واستحثها الشجاعة والصبر وهي تصرخ من الوجع. لكني في ذلك اليوم في الشاكرية كنت فاتحا لعيني اقصى ما يمكن، فرأيت القابلة (ام جاسم) تخرج جنينا من من العلوية العمياء. كنت على يقين انها كانت دمية صغيرة، لم افهم ابدا لماذا كانت مخبئة في داخل العلوية. زاد عجبي عندما رأيت الحجية تمسك الدمية من قدميها وتضربها عدة ضربات على ظهرها فتنطلق بصرخات مثل طفل حقيقي! وقبل ان افهم ما يحصل، واذا بي اشعر بقبضة جبارة تمسكني من ثوبي وترفعني بحيث يتدلي رأسي نحو الارض واقدامي فوق. وانا في حيرتي والارض تدور احسست بصفعات خفيفة على ظهري ولعنات ابي، فانطلق من حنجرتي عويل صارخ امتزج بعويل الجنين الذي رأيته يخرج من العلوية.
في الشاكرية عرفت لاول مرة السينما، ربما عام 1961. حتى الآن اتخيل مشهدي في اول يوم العيد مع اخي وابي اختال فرحا فوق جسر الجمهورية لأني ارتدي بدلة ملوكية زرقاء كلها زراكش ونجوم مذهبة. سمعتهم يقولون انها على نمط بدلة الملك غازي، قد حصل عليها ابي منذ سنوات طويلة من عطايا احد الاغنياء، وقد ارتداها اخوتي قبلي في العيد عندما كانوا بحجمي. اتذكر جيدا كيف اني جلست في حضن ابي في سينما ميامي قرب ميدان الباب الشرقي، لأشاهد لاول مرة في حياتي فلم (طرزان في الغابة).
في الشاكرية كذلك عرفت لأول مرة المدرسة. في عمر السادسة سجلوني في مدرسة(كرادة مريم). اصابني الرعب عندما تركتني امي ورحلت. احسست كأني وحش غاب تركوه وسط زحام مدينة عامرة. ارهبني مشهد هذه الجموع العظيمة من فتيان يتراكضون ويتصارعون ويتمازحون في باحة المدرسة. رحت ابكي واردت العودة الى بيتي وحارتي واصحابي. لكن رؤيتي لابتسامة الاستاذ (ادور) الحنونة المرتسمة على وجهه الجميل، وصوته الدافئ قد هدأ من روعي وبعث الطمأنينة في روحي. كان اخي راضي في نفس المدرسة ولكنه في الدوام الآخر. رغم انه يكبرني بعامين لكني كنت اضاهيه في حجمه، لهذا كنا نلبس نفس الثياب، فكنت انتظره في الطريق لكي يعطيني البنطلون ويأخذ دشداشتي، او العكس. لا ادري بعد كم من الايام، اصبت بحادث في قدمي عندما كنت راكبا الدراجة(البايسكل) خلف اخي قيس. كان هذا الحادث حجة لكي اتمارض واقنع اهلي بترك المدرسة ذلك العام.
في الشاكرية اكتشفت التلفزيون، عند جيراننا(بيت ام فلاح). كنا بين حين وآخر نذهب عندهم لنشاهد برنامج(قرقوز) تلك الدمية المضحكة التي تخاطب الاطفال. لكن الذكريات الاولى للتلفزيون ارتبطت بذلك المشهد الذي بقي حيا في ذاكرتي. ذات ليلة من شتاء 1963 صحوت على ضجيج اهلي واناس الحارة ودوي اطلاقات تصدح في السماء. كانوا يتراكظون فتبعتهم الى بيت(ام فلاح). لا ادري كم الناس، عشرات او مئات مجتمعين حول التلفزيون. بعد ملحة وصعوبة سحبتني اختى ليلى لكي اتمكن من رؤية ذلك المشهد الذي جعلهم ينحبون الما وحزنا: ثمة رجل بقميص عسكري جالس على كرسي ورأسه منكس والدم ينزف منه. واذا برجل واقف يقبض على شعره ويرفع رأسه لنكتشف انه كان ميتا. بلغ المشهد ذروته عندما رأينا الرجل الواقف يبصق بوجه الرجل الميت. قالوا انه الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اطاح به البعثيين وجلبوا جثته الى التلفزيون ليكشفوها الى الناس. كم بدت لي واضحة ملامح ذلك الزعيم وعيناه المغمضتين ووجهه الذي ظل رغم الموت محتفظا بأبتسامة طيبة.
نحن اهل الشاكرية لم نصدق موت الزعيم. قلنا ليس هو الذي ظهر في التفزيون بل ممثلا يشبهه. اما زعيمنا الحقيقي، فقد رحل الى القمر(كما كان يقول اسلافنا العراقيون القدماء عند موت تموز اله الخصب الذكوري كل عام). فبقينا ننتظر بشوق اكتمال البدر لكي نمضي الليل ونحن نفتش فيه عن وجه الزعيم. صدقوني اني شاهدت بعيني وجه الزعيم على سطح القمر، لكني خفت ان ابوح للناس بذلك، لأنه كان ذات الوجه الجريح الميت المبتسم الذي شاهدته في التلفزيون!
حتى الآن وانا في جنيف، انتظر ليلة اكتمال البدر لكي اخرج وحيدا الى شاطئ البحيرة أتأمل وهجه في السماء وانعكاسه في الماء. دون ان ادري ارى ملامح الزعيم ترتسم على سطح القمر، وهو لم يزل جريحا يبتسم، فاتلفت حولي بحثا عن اهلي واناس الشاكرية، فلا اجد غير صمت وعتمة.
ذكريات وذكريات لا تحصى لا زالت حية في روحي عن الشاكرية:
اتذكر عندما تمكن حرامي(لص) من التسلل ليلا الى حجرة حبوبتي وسرق الـ(20) دينارا التي كانت هي كل ثروة ابي، مع ماكنة الخياطة التي كانت تستعملها اختي لخياطة دشاديشنا(ثيابنا).
اتذكر عندما كاد اخي راضي يغرق في حوض الساقية الواقعة بعد السكة، وانقذته اختي ليلى، ثم اصيب بالتيفوئيد وقال عنه الطبيب انه سوف لن يعيش حتى غدا، لكنه ظل حيا حتى الآن!
واتذكر بيت(زهرة الحواس) تلك الفلاحة القاسية التي تقطن في مزرعة الجت، والتي قيل عنها انها قتلت ابنتها ودفنتها سرا، بعد ان علمت انها كانت حامل سفاحا.
واتذكر بيت اهل النگرة(اهل الحفرة)، اللذين مثل سكان الاهوار، بنو بيتهم وسط (الحفرة) ذلك المستنقع الآسن وتركوا جواميسهم تعيش في الماء حولهم.
اتذكر نفسي اول طفولتي ببدن سمين ووجه منتفخ مثل اهل الصين، وانا ارقص في مزرعة الجت على تصفيق اخوتي وغنائهم لي: بديبود يرقص بالجتة.. بديبود يرقص بالجتة..
ذكريات الشاكرية لا تنتهي، فهي مرابع طفولتي وبلادي الاولى..
اواه يا اصدقائي لو تعرفوا كم انا مشتاق لها، لاطفالها الحفات واهلها الطيبين القسات، واحواشها الطينية ومزرعة جتها الخضراء ومستنقعاتها العفنة وسكة حديدها وانابيب نفطها وضفاف دجلتها، وكل ذكرياتها، النيرة منها والمظلمة. لكنها يا للحسرة، رحلت واندثرت مثل مدن عالم قديم غيبها الله في اعماق الارض. مهما فتشتم عنها سوف لن تعثروا عليها في خارطة ولا في اية بقعة من انحاء العراق. مع ذلك هي ليست من نسج خيال، بل هي مدينة عابرة كونها اناس عابرون.
عندما زرت بلادي عام 2003 بعد غياب اعوام واعوام، ذهبت لرؤية الشاكرية، او قل لذكراها، لأني اعرف ان الحكومة قد امرت بهدم بيوتها وترحيل اهلها منذ اوائل الستينات عندما وزع الزعيم عبد الكريم على سكانها اراضي (مدينة الثورة) مشترطا ان يبنوا بيوتهم من طابوق. وكانت عائلتنا آخر المقاومين، حيث صمدنا حتى نهاية عام 1963.
قلت لعلي اعثر على بقايا مندثرة واشاهد ذكريات منسية، او على الاقل امشي على ارضها واضع الفلوس والبيض والتبن على سكة حديدها، وابعث اشارت محبة لاصدقائي الذين غابوا عبر بواري نفطها، واصلي لأله الكون في كنيسة ارمنها.. لكن الصدمة كانت بأنتظاري، عندما لم اتمكن حتى من الاقتراب منها، لأنها كانت محاطة بأسوار وحواجز حربية مدججة بسلاح وحراس. منذ ايام صدام، المنطقة بأكملها اصبحت جزءا من مقر القيادة القومية لحزب البعث والقصر الجمهوري. وبعد الاحتلال اصبحت جزءا من المنطقة الخضراء، مقر الامريكان واتباعهم.
نعم يا اصدقائي، بلادي الشاكرية صارت أرض حرام اسطورية لا تستطيع بلوغها الا تلك الكائنات المختارة المدججة بسلاح وقوانين عليا.
احيانا يخطر في بالي امرا خياليا طريفا، لا ادري هل اعيش حتى اليوم الذي اراه يتحقق فيه. ان نبادر نحن بعض ابناء الشاكرية، بأختيار اية بقعة صغيرة من ارض الشاكرية القديمة، ونضع فيها نصبا تذكاريا، عبارة عن حوش طيني من تلك الحقبة، ونكتب عليه: هنا ترقد الشاكرية.. بلادنا العابرة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 هذا مقطع من كتاب سيرة ذاتية في طور الاعداد
http://www.salim-matar.com



#سليم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار العراقي والموقف من نظام البرزاني والنظام التركي
- عقلية التدمير الذاتي العراقية والحنكة الامريكية الاسرائيلية
- سيرة عراقية/ سينمات بغداد.. جناني المفقودة
- بعد غيبة طويلة، حوار موسع مع سليم مطر حول الهوية الوطنية
- سلالة الحقد.. سلالة الحب..
- حلفاء امريكا في العراق يحرضون اطفال المدارس على قتل المسيحيي ...
- اعلان انبثاق تيار الضمير العراقي
- اليسار العراقي ومشكلة الدين والقومية
- نصيحة جادة صادقة لكل عراقي يبتغي ان يصبح سياسيا ناجحا
- محبة الوطن، تعني الارتباط بواقعه واحترام خصوصياته
- موقع مجلة ميزوبوتاميا: خمسة آلاف عام من الانوثة العراقية..
- من يريد طرد مسيحي العراق والشرق الاوسط؟
- هلموا قدموا عروضكم ايها العراقيون..مطلوب قادة للعراق
- نداء ضد الارهاب والمقاومة المسلحة ومن اجل الكفاح الشعبي السل ...
- .. خمسة آلاف عام من الانوثة العراقية: دعوة للمشاركة بالعدد ا ...
- نداء الى القيادات والنخب الكردية العراقية: نخلصوا من اسطورة ...
- الحل الوحيد لخلاص العراقيين: المصالحة ثم المصالحة ثم المصالح ...
- سلام وتهاني
- مقالات في الهوية
- من اجل مفاهيم حياتية جديدة: علاقة البدن بالعقل كعلاقة الشعب ...


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سليم مطر - مقطع من سيرة عراقية: هنا ترقد الشاكرية.. بلادنا العابرة