أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - برشمان أنيس الرافعي مجموعو قصصية















المزيد.....



برشمان أنيس الرافعي مجموعو قصصية


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 1886 - 2007 / 4 / 15 - 11:46
المحور: الادب والفن
    




البرشمان

(( مجموعة قصصية للكاتب المغربي الأستاذ أنيس الرافعي .
الناشر : الشاطئ الثالث ، دار القرويين ، البيضاء ، الطبعة ألأولى
2006 )).

سفسطة نظرية

ضمَّ كتاب " البرشمان " الذي أهداه إلى جدته ، ست قصص قصيرة أسماها ( ملاحظات )... مع مقدمة تعريفية بفن وأسلوب الكاتب وفلسفته في كتابة القصة أسماها ( بروتوكول قصصي يمكن الإستغناء عنه ) ... ثم ثلاثة إقتباسات قصيرة جميعها تؤكد فلسفته في القص وتقوي مواقفه وقناعاته من قبيل [[ إنَّ ما شغلني على الدوام في الأشياء ذات الداخل والخارج هو أنْ يظهرَ في الداخل شئ مختلف عمّا نتوقعه نحن الموجودون في الخارج / إقتباس من خوان خوسيه مياس ]] . وهذا عين ما أسس له القاص السيد أنيس بقوله في " بروتوكوله " آنف الذِكر : [[ تُدين الملاحظات القصصية الست المشكّلة لهاته المجموعة لولع فائق بملاحقة موضوعة " الداخل والخارج " ، موضوعة جدلية بإمتياز تتُيح الدخول والخروج في الحكي، سريان الحبكة وتنافذ الأحداث من خارج عالم الأشياء إلى داخلها أو من داخل عالم الأشياء إلى خارجها // الصفحة التاسعة ]].
هذا هو مفتاح وباب الدخول إلى عوالم أنيس الرافعي القصصية إذاً . فهل تُرى من عَلاقة بين قصص الرافعي ، كخارج موضوعي ، تنفصل عنه بعد كتابتها ونشرها ... وبين الكاتب نفسه ، دخائل الكاتب ، كعالم داخلي محض ؟ لم يتطرق القاص إلى هذا الموضوع البتة... وليس مطلوباً منه أو مفترضاً فيه أن يتطرق إليه ، إنما هي موضوعة تشغل ويجب أن تشغل بال القرّاء عامةً والنقّاد على وجه الخصوص .
ما يخرج منا لا يعود إلينا أبداً . نلفظه كما تتقيأ المعدة ما فيها من طعام مثلاً ، أو كالدم النازف من عروقنا ... لا رجعة له ثانيةً إلى هذه العروق التي نزفته . نعم ، نتفاعل مع ما سيخرج منّا ... نعتبره داخلاً حتى لحظة أن يغدو في الخارج زماناً ومكاناً . هو منا وفينا ويتفاعل معنا لكن فينا لا خارجنا . فإذا خرج إنفصل فلا من جامعٍ يجمعه بنا . يتغير هو عند ذاك كما نتغير نحن... العالمان يتغيران . طريق ذو ممر واحد . وإذا ما إفتقد هذا الجامع أو الرابط فقد القدرة على التفاعل مع ما في داخلنا ، أي فقد حرارة وحيوية وشرط التفاعل ، وتلك عناصر وحواضن قطبي التداخل والصراع من أجل بقاء الأصلح والأقوى والأفضل . بكلمة ... ستموت شروط جدلية التناقض ما بين الداخل والخارج . هكذا تقول القلسفة إلآ إذا كان للقاص الكاتب أنيس الرافعي فلسفة أخرى خاصة لها شروطها التي تختلف عما وضعته الفلسفة من شروط لجدلية الداخل والخارج ... وتلكم مسألة أخرى خاصة به فله دينه ولنا دين . أي لا وحدة جدلية تقوم بين الداخل والخارج في فلسفة أنيس . قطبا الداخل والخارج متحركان / ثابتان ... يدخل الخارج متى شاء ويخرج الداخل متى ما يشاء . لا تغيير يصيب أياً منهما لكأنَّ الزمن واقف ثابت ميت وهو أمر يخالف قوانين الطبيعة وناموس الوجود وجوهر الزمن . قال انيس في بروتوكوله [[ ... موضوعة الداخل والخارج موضوعة جدلية بإمتياز ، تتُيح الدخول والخروج في الحكي ... ]] . ما الذي يتغير وهل ثمّة ما يتغير خلال عملية الدخول والخروج هذه ؟ ما مردود ذلك على حصيلة الكتابة كنشاط إبداعي جليل القيمة والمسعى ؟ هل يراقب الكاتب نفسه إثناء عمليتي الدخول والخروج ؟ هل يُحس بأنَّ شيئاً ما يتغير في داخله هو ، أو في شخوص قصصه ... سلوكهم... أنماط تفكيرهم ... رؤاهم ... ملابسهم ... نظرتهم إلى الحياة عامةً ... طرائق تفاعلهم معه وطرائق تعامله معهم ... فن وأـساليب تحريك هذه الشخوص ... كيف سيسيطر عليها لكي يحركها إذا إنفصلت عنه ... تركت داخله إلى حيث ُ خارجها ؟ هل يستطيع مسَّ أو تحريك نجمة معلّقة في السماء ؟؟ هل يستطيع وهو في الدار البيضاء أن يصافحني وأنا في مدينة ميونيخ ؟؟ مستحيل . أبطال القصص كائنات بشرية حية وليست إسطوانات مكائن الإحتراق الداخلي
Pistons
التي تتحرك شاقولياً صعوداً ونزولاً حركة مكررة تحت قوة ضغط بخار البنزين داخل هذه المكائن . الدخول والخروج الساكن هو تماماً مثل حركة هذه الإسطوانات الفولاذية . التغيير الوحيد الذي يصيب هذه الإسطوانات هو تآكل سطوحها الخارجية جرّاء السرعة والحرارة العاليتين .
فما الذي يعتور شخصيات أنيس من تغييرات أثناء أوبعد خروجها ودخولها ؟ لم أجد فيما قرأت للرافعي في هذا الكتاب من تغييرات إلاّ الكثير من الألفاظ المتشابهة والقليل من الأفعال المتغايرة .

دانتي والجُدران /
أنيس والنوّاب والمعلم السكير
دردشة مع أنيس ... بعيداً عن الفلسفة والتنظير

عذراً أنيس ... يا أنيس وصديق القساوسة الملحدين وزعيم المَرَدة المشاكسين ... كان قراري الأول أن أبدأ دراستي بقصة ( ملاحظات حول الصور الفوتوغرافية / مُدخل أولي لدراسة دانتي أليغري ) وأقسامها الأربعة : الفردوس ، المطهر ، الجحيم ، البرزخ ، فهذا الموضوع يغريني... وقد سبق وأن جمعتُ في الخيال بين الشاعر الكوفي العراقي أبي الطيّب المتنبي والإيطالي دانتي في إحدى زياراتي الكثيرة لإيطاليا ثم زرنا معاً شاهد قبر دانتي ، صاحب الفردوس والجحيم في كنيسة
Dom
سانتا كروس في مدينة فلورنسا... لكني أرجأتُ كلامي عن دانتي وفردوسه وجحيمه وفضّلتُ أن أنصرفَ لأمر آخر خالٍ من صرامة ونيران جحيم دانتي وبرزخه وفراديسه حيث لا أملَ لأمثالي بفردوسه ولا بجنات سواه ... الأمر الذي أعني هو قصة ( ملاحظات حول الجدران ) . أجل ، إستهوتني مواضيع هذه القصة حتى تهيأ لي أن أُطلق عليها { قصة البيرة وأعمدة التبول } . الأمران لا ينفصلان : من يكثر من شرب البيرة يُكثر من التبوّل ... وقد قال هذا الكلام الشاعر مظفر النواب في بعض شعره (( أبولُ وأسكرُ... أبول وأسكر ْ ... )) ... قدّمَ الأول على ما يليه وكان الحق أن يقول : أسكر وأبولُ ... لكنْ ... ظروف موسيقى أو إيقاع التفعيلة فرضت عليه هذا التقديم والتأخير.
الشئ بالشئ يُذكر ...وما دمنا في مقام أو" مقامة البول " ...
تذكرت أحد معلمي الدراسة الإبتدائية الذي كان دائم السكر ، يقضي أماسيه في نادي المعلمين يلعب الورق ( كون كان ) ويعب ما يعب من كؤوس العرق الثقيل . لماذا العرق الثقيل وليس البيرة ؟ كان يقول إنَّ العرق رخيص مقارنة بالبيرة . لماذا يا أستاذ وكيف ؟ يقول مربينا الفاضل : ربع عرق يُسكرني...أما البيرة ... لعنة الله على صانعها وبائعها وشاربها وشاريها ... فعشر زجاجات لا تسكرني وأنت تعلم ... الراتب ضعيف لا يكاد "" يُشبعني "" عَرَقاً ... البيرة ترف أُرستقراطي ... مولانا ... البيرة ليست للمعلمين . كان ينفق جلَّ راتبه على خموره وفي العشرين من كل شهر يبدأ يستدين لكي يواجه باقي متطلبات حياته وحياة والدته التي لم يبق له لحسن حظه في الحياة سواها . كان ديدن أستاذنا هذا بعد خروجه من نادي المعلمين ليلاً ينتحي جانباً ويتبوّل في الشوارع نصف المظلمة . يتبول ويردد بيتاً محوَّراً من الشعر . يقول الأستاذ المربي ساخراً أثناء التبول :

قمْ للمعلِّم وفّهِ التبجيلا
كاد المعلمُ أن يبولَ كحولا

البيت الأصل يقول :

قُمْ للمعلمِ وفهِ التبجيلا
كادَ المعلمُ ان يكونَ رسولا

سأتناول قصة أنيس التي أعطاها العنوان ( ملاحظات حول الجدران ) وهي آخر قصة في الكتاب .

ملاحظات حول الجدران

وجدتُ وأنا أتتبع قص أنيس قلماً ونَفَساً داخلاً وخارجاً ... وملاحقة شخوص قصصه التي لا تتعدى إثنين في الغالب : الكاتب نفسه [[ أنا الأنا ]] يخاطب ويحاور ويجادل نفسه إيضاً ولكن بأسلوب [[ أنا الهوَ ]] .
" أنا " هو داخل أنيس أو أنيس في داخله ... و " هو " أنيس خارج أنيس .
وجهان لعملة واحدة كما يقال . المعطف وبطانته .
أجد هذا التكييف أو الوضع الفني / الفلسفي / القصصي من لدن أنيس خطأ جسيماً جداً ، لماذا ؟ لأنَّ [[ أنا الهو ... أنا / هو ]] موجود ، ولا يمكن أن يوجد إلاّ داخل الإنسان نفسه لا خارجه . إنسلاخ ولكن داخلي . إنفصام النفس أو الذات أو إنخلاعها عن ذاتها . هل تنخلع الذات مناصفةً عن ذاتها ؟ أي هل تنقسم إلى قسمين أو نصفين متساويين تماماً ؟ دائماً ؟ متى لا يتساوى النصفان ومتى يترجح هذا الجزء على ذاك ؟ تلك مسألة غاية في التعقيد ، لم تحلها الفلسفة ولا علم النفس حتى اليوم على حد علمي. نحن نحاور أنفسنا دوماً ، يقظة ً ومناما ً ، في البيت والمقهى والدائرة . كلها محاورات داخلية لا تغادرنا إلى الفضاء الخارجي . لا وجود لها أصلاً خارج ذواتنا . بلى ، تخرج منّا حين نترجمها إلى أفعال حياتية متحركة لها فعل ولها ردود أفعال، ويترتب على ذلك نتائج ونتائج منها العادي ومنها الخطير الشأن . أنت جالس في بيتك تقرأ أو تكتب أو تشاهد فيلماً أو برنامجاً تلفزيونياً مثيراً لكنْ وفجأةً يعن لك أن ترتاد مقهى بعينها أو أية مقهى . الفكرة في رأسك لم تزل في رأسك ، في داخلك ... أنت ما زلتَ في الداخل ، في داخلك ولكن ، لحظة أن تغادر بيتك متجهاً إلى الهدف الذي رسمت َ في رأسك ( في داخلك ) تكون قد خرجتَ من نفسك .. خرجتَ من داخلك إلى الخارج . هنا نواجه إشكالية أخرى : هل هذا الخارج هو ( خارجك ) خاص بك ... خارجك الجدلي أم إنه خارج عام يخصك كما يخص سواك من باقي الناس ؟ المقهى ليست ملكك ولا جزءاً من ذاتك ما كانت ولن تكون . الآن ، إذا ما غادرت هذه المقهى صاحياً أو مخموراً ، وعدتَ إلى بيتك وكتابك وجهاز تلفزيونك فهل معنى ذلك إنك دخلت عالمك الداخلي ، إنكمشتَ و تقوقعتَ في داخلك ؟ كنتَ موضوعاً فغدوتَ ذاتاً ؟! ما الذي تغير فيك وقد عدتَ إلى دارك القهقرى لتكتب أو تقرأ أو تشرب فنجان قهوة أو مزيداً من الكحول ؟ هنا وهنا حسبُ يمكن الكلام عن الجدل والجدلية التي يبحث أنيس عنها ويجرب القص مستوحياً روحها وجوهرها ومغزاها الفلسفي . التغيّر الجدلي وليس التحول في الأمكنة أو اللعب على حبال الزمن . بطل القص الرافعي لا يتغير إلاّ فيما ندر . ولا يمضّهُ إلاّ السؤال التقليدي : مَن أنا ؟ لماذا أنا ؟ متى أكون أنا الذي أُريد وأنا الذي لا أُريد ؟ من سواني هذا الأنا الذي أعرف والذي سيلازمني من مهدي حتى لحدي ؟ هل أنا مَن سيغيره إلى غيره أم الظروف التي تحيط بي من كافة الجهات ... الأهل والعائلة والمدرسة والجامعة والزملاء والأصدقاء أو الأعداء والخصوم ...والوظيفة والسياسة وأحوال البلد ثم أحوال العالم جميعاً ؟؟؟؟؟

ماذا وجدتُ في قصة ( ملاحظات حول الجدران ) ؟

وزّع أنيس قصته هذه على محاور قصيرة ثلاثة هي : (1) الغفوة
(2) تعقيد الغفوة (3) تبسيط الغفوة .

الغفوة

القاص ( السارد ) في الداخل ، في خمّارة أو حانة بيرة . تناول الكثير من كؤوس البيرة حتى بلغ حافة فقدان الوعي أو قريباً من ذلك . إنه لا يكاد يرى طريقه بوضوح . يساعده نادل الحانة فيرافقه حتى باب الخروج . باب الخروج هذا يحمل مغزيين : الخروج الفيزيائي الجسدي من الحانة إلى الشارع . المغزى الثاني وهو الأكثر أهمية ... هو الخروج الفلسفي من الداخل إلى الخارج... الخروج الجدلي وهو عصب القص المركزي . الحانة هي الداخل والشارع هو الخارج . مجاز طريف وطباق عملي ملموس . الآن ، وهذا هو الأهم ، كيف سيتفاعل هذا الداخل مع نقيضه الفلسفي الجدلي : الخارج ؟ داخل السارد ، صاحب القص ، الثَمِل أم في فضاء الشارع شبه الخالي من المارة والقليل الإضاءة ؟ يُصاب القارئ بالدهشة إذْ يجد نفسه أمام أول فعل يمارسه هذا السارد بطل القص في الخارج وقد غادر الداخل للتو ... حاجته الملحّة للتبوّل . هذا الفعل طبيعي بالنسبة لكل متعاطي الكحوليات ... أعني كثرة الميل للتبول ولكن ، آخذين بعين الإعتبار حرص القاص على تطبيق مقولة الداخل والخارج على فنه القصصي ، نرى في الأمر غرابة... نعم ، وبعض الشذوذ . لماذا ؟ لأن فعل التبول في ( الخارج ) المكاني لا من علاقة تربطه بالخارج الفلسفي الجدلي ، الدايالكتيكي ... ((( دايلكتيكي... تلك كلمة معقدة لا أستخدمها إلاّ إضطراراً ))). لم يتغير شئ واضح أو محسوس فيه . عدا أنَّ في هذا الأمر طُرفة شبيهة بالنكتة الشديدة الواقعية والشديدة السخرية في واقعيتها، أعني : أنّ ما نبذل من نقود تأتينا جراء أعمالنا الشاقة وتأتينا عادة قليلة شحيحة ... يكون مصيرها لا شئ إلاّ البول... فضلات مائية ... هذه هي الحياة ... تضيع جهود الإنسان فيها سُدىً . إذا قال المسيحيون لحظة أن يهيلوا التراب على قبور موتاهم [[ تراب للتراب ... رمادٌ للرماد ]] فإني أردد القول مع بطلنا : بول إلى بول ولا شئ غير البول ... فلنفتح السراويل ونشخ على الحياة وما فيها ومن فيها . طُزْ في الدنيا وفي أبي الدنيا ، هذه الفانية وليس لمسراتها من عاقبة سوى البول والبول في الشوارع على ضجيج السيارات المارة بعد منتصف الليالي .
النادل الذي أسكر بطلنا بالمزيد من أقداح البيرة (( الكأسُ العاشرُ أعماني // نزار قباني )) وأفرغ جيوبه مما فيها من نقود ... هذا النادل نفسه يقوم بدور إنساني متمم : يساعد الزبون السكران في أن يجد طريقه لمغادرة الحانة التي أثملته وسممته كحولاً وأشبعته ضجيجاً وخنقته دخاناً ...
نقرأ نصاً مقطوعاً من أوائل هذا الجزء ( الغفوة ) ... حيث يغادر سارد القصة حانته مخموراً شبه غائب عن وعيه {{ حين أراد مٌستنداً إلى عمود كهربائي أن يفضَّ سحّابةَ بنطاله كي يفرِّغَ رشاشَ مثانته أسفل(ي) }}. إنشقَّ هنا في هذه الجملة القصيرة فتوزع بين (( أرادَ ..هوَ )) و
(( أنا ... أسفلي )) . لقد عزل ظرف المكان (( أسفل )) عن ضمير المتكلم (( أنا )) . شخص مخمور يتبول مستنداً على عمود كهرباء لأنه لا يستطيع السيطرة على ثبات قدميه على الأرض . شخص آخر لا علاقة له بصاحب النص الذي لا إسمَ له . الآن ... يأتي دور السارد ... يُحس أن السائل المائي ( إبن البيرة ) هذا يتجمع أسفله هو . لا علاقة للبطل السكران بالبول ولكنه يتحمل تبعات هذا البول، يتحمل تبعات إسرافه في تناول أقداح البيرة . القاص يشرب ويدفع وشخص آخر يتبول . مفارقة ساخرة . ماذا سيقول المتبوّل لشرطة النظام لو مسكه أحدهم متلبساً بمخالفة قواعد اللياقة الإجتماعية بالتبول في قارعة الطريق ليلاً ؟ هل يعفيه قوله أنني مجرد بطل قصة خيالية ومن كان يتبول شخص آخر لا علاقةَ لي به ؟ كيف سيثبت ذلك ؟ هنا سيجد مهندس ومنفِّذ القصة نفسه وجهاً لوجه أمام وحدة الداخل والخارج الفلسفية التي لا تنفصم أبداً . أنا أنطونيو وأنطونيو أنا ...

في أسفل الصفحة ( 61 ) يكرر القاص محتوى [ مقامة البول الحريرية أو الهمدانية ] إياها موظّفاً ذات النهج المنشق على نفسه فيقول {{ كنتَ أيضاً تستندُ إلى عمود نور كهربائي وعلى وشك أن تفضَّ سحّابة بنطالك كي تُفرِغ ، مرة أخرى ، رشاس مثانتك أسفل(ي) }}.

لماذا إذاً يتناول الإنسان المسكّرات إذا كانت العاقبة فقدان الوعي والذاكرة والسيطرة على عضلات الجسم وحركة القدمين ثم التبول في الشوارع ؟ هذا هو مآل مسراتنا . أوأئلها بهجة وخواتمها غصة ومرارة و ... البول ثم البول والمزيد من البول . (( تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبُ إلآ من راغبٍ في إزدياد // أبو العلاء المعري )).
وما الفرق بين داخل الإنسان وخارجه ؟ بين داخل مقاهي البيرة وشوارع المدينة خارح الحانات ؟ دوخة هناك وضياع هنا . غثيان في الرأس هناك وإنفلات في المثانة هنا ولا غير ذلك .
سيضعنا السارد أمام ما هو أكثر صراحةً وبوحاً وإنكشافاً في الجزأين الآخرين من هذه القصة كما سنرى . سنراه بذئ اللسان ... ربما لأول مرة مذ عرفته فيها قبل عامين . أتأثير الكحول ذاك أم إنه التحول
( الديالكتيكي ) ؟

إذا ما أثّرت البيرة في رأس القاص حدَّ فقدانه لوعيه كلياً تقريباً... ( حد الغفوة ) ... حدَّ التبول في الشارع مستعيناً بأعمدة الكهرباء بعد أن أضعف الكحول قوة عضلات جسده ... فإن غفوته هذه ستزداد تعقيداً في الأسطر الأخيرة من الجزء الأول . تتعقد أموره أكثر فأكثر مع مرور الوقت وهو ما زال مترنحاً ما بين مقهاه وبيته الذي يجهد في الوصول إليه وقد لا يصله في بحر هذه الليلة.. سيغدو السند الفيزيائي لجسده الذي يساعده على إتيان فعل التبول غير كاف ٍ ( عمود الكهرباء ) ... تعقدت أموره
فضعفت قوة البصر في عينيه فصار يبحث عن نور إضافي .. نور يأتيه من خارج عينيه اللتين أعماهما الإسراف في تعاطي الكحول . هنا يبحث المسكين لا على عمود يسنَد عليه ظهره حسبُ ، إنما عن ضوء ... نور يريه لا طريقه في الشارع ولكن يريه سحّابة بنطاله ويريه مجاري البول المتسرب ما بين جسده وهذا البنطال ... البول المتسرب إلى أسفله... أسفل هذا السكران ... أسفل(ي) . في أوج السكر وفقدان السيطرة على الجسد المترنح المهتزّ يتذكر السارد نفسه فينسبها إليه ( أسفلي ) . هنا ، في هذه اللحظة الحاسمة ينشق إلى شخصين إثنين : شخص يتبول ( أنتَ ) وآخر يتلقى هذا البول ( أنا ... أسفلي ) .
هنا قد مهّد القاص الماهر للجزء الثاني من هذه القصة : تعقدت أموره الجسمانية والنفسانية تحت تأثير مفعول الكحول الذي يبلغ عادة ذروةً معينة ثم ينخفض تدريجياً : الزمن يقتل أو يقضي على أثر الكحول في أجساد ورؤوس شاربيه كما هو معروف . والتبول هوأحد منافذ ومسالك تصريف البيرة وما فيها من كحول .

تعقيد الغفوة

كيف سنرى حال صاحبنا الثَمِل بعد أن أخذت أموره بالتعقد ؟
غرائب وعجائب !! السماء تمطر صيفاً !! نقلة نوعية في أساليب سلوك القاص . كلمات بذيئة في عُرف الكثير من الناس . يتذكر تواضع راتبه الشهري فيصفه ب ( ضرطة إلا ربع ) ... إلاّ ربعاً ... وهذا الربع مقياس للزمن ، ربع ساعة مثلاً ، أو مقياس للكتلة ( ربع كيلو غرام مثلاً ) ومقياس لزجاجات الكحول ( ربع عرق أو ويسكي مثلاُ ) ... فأي ربع كان في قصد صاحبنا ؟ هل يختلط الربع الأول مع الربع الثالث إختلاطاً
وتفاعلاً ( دايالكتيكياً ) ليغدو ربع ساعة زمانية مجرد ربع زجاجة كحول ؟! الزجاجة الكاملة يقضي عليها شاربها في ساعة زمنية واحدة ... كما يقول الحساب البسيط ( ربع في أربعة يساوي واحد ) .
أفلا يذكرنا موقف القاص هذا الشديد السخرية من راتبه الشهري بمعلم المدرسة الإبتدائية الدائم السكر صاحب البيت الشعري المحرَّف :

قُمْ للمعلمِ وفهِّ التبجيلا
كادَ المعلمُ أنْ يبولَ كحولا ؟؟

نمضي مع صاحبنا المخمور وقد تعقدت غفوته قليلاً لنسمعه يقول :
{{ أتكونُ جريرتُك في هاته الورطة البالغة الصلابة أنك أسهبتَ فيما شاءَ المزاجُ من البيرة حتى أجهزتَ على نصف تلك الضرطة إلاّ ربع المُسماة راتباً شهرياً ؟ }}
أية بلاغة ساخرة يُنتج رأس رجل مخمور مأزوم يبحث عن ذاته داخل نفسه فلا يجدها . يحاول أن يجدها أو أن يهرب منها فيرتاد حانات البيرة فيسرف في تعاطي كؤوس العُقار المُسكر غير آبهٍ بفداحة ما سينفق على هذه الكؤوس من مجمل مدخوله الشهري المتواضع شأن أغلب موظفي الدولة في عموم الأقطار العربية . ينسى أثناء ساعة السكر محنة راتبه لكنه يتذكرها في ساعة ما بعد السكر... بعد أن تتعقد أموره في جسده ورأسه . عند ذاك يتذكر أن راتبه الشهري ليس سوى ( ثلاثة أرباع الضرطة ... ضرطة إلاّ ربعاً ) !! لم أجد القاص ساخراً كما وجدته في تعبيره هذا . أهو التحول الجدلي الناجم عن السكر ؟ نقلة نوعية تفرضها حالة السكر وفقدان الكثير من الوعي والسيطرة خاصةً على اللسان ؟ سواءً أرادنا مُخرج النص أم لم يردنا فإننا لا بدَّ ذاهبون إلى ترجيح هذا التفسير . الكحول يحرر لسانه من عقاله ... يحرره ... يفتح ما في دواخله ... يفتحها في برزخ عريض إلى الخارج ... خارج حدود الإنسان . هل تحتاج ثنائية الداخل / الخارج الجدلية إلى عامل مساعد كي تفعل فعلها فتُفضي إلى التحول المفروض ؟ إذاً ... فالكحول هو هذا العامل الكيميائي المساعد في فلسفة بطل القص الحقيقي كما تبدو لي وإنْ خالفني ... له دينه ولي ديني . لقد حوّلته الخمرة من رجل كيّس مهذب اللسان إلى رجل آخر بذئ اللسان ... منفلت اللسان ... منفلت المثانة وهذا تحول نوعي جرى عليه والفضل كل الفضل لتلك الخمرة اللعينة والمباركة معاً .
نمضي مع صاحبنا بعد أن تعقدت أموره أكثر ، سنراه أكثر بذاءةً ... غدا لسانه أشد بذاءةً . شرع يتلفظ كلمات غريبة علينا وعليه وقد طالما رأيته في كتابه الرائع (( ريباخا )) كثير التحفظ صارم الكلمة عالي الجناب يحسب ويحاسب ألفاظه حساباً عسيراً ويهندسها هندسة متقنة تامة الزوايا والأبعاد قبل أن يثبِّتها على الورق . فما قال بعد هذا التحول الدرامي بلغة أهل المسارح ؟ قال :
{{ ألأنكَ ذهبتَ في الليل هرباً من زوجة فظيعةٍ أطنبتْ في قضم حصتك من الحياة وفي الإغارة طوال السهرة على هاتفك النقّال بال
SMS ?
أو ربما لأنكَ لم تكن مؤدباً كفاية كما يليق بأي مواطن إيكولوجي وتجرّأتَ على إمتشاق أيرك على عواهنه والتبوّل جهاراً في العراء ؟ يقيناً ، لا أدري }}.

التوحد ... هاجس الموت

ما الذي جعل القاص يتوحد مع نفسه التي كانت قبل قليل منشقّة ومنفصمة عنه ... عن نصفها الآخر ؟ أهي الصحوة بعد إنكشاف وزوال ثقل تأثير الكحول أم لطمة الواقع المرير الذي يحاصره {{ بزوجة فظيعة تقضم حصته من الحياة }} ثمَّ شحة مدخوله الشهري الذي لا يكفي لتغطية نفقات ما يتناول من أقداح البيرة ... أم كلا الأمرين مجتمعين ؟؟ مَن من هذين العاملين أشد وطأةً عليه ؟ زوجه أم ضعف مداخيله ؟ هنا نكتشف
تداخلاً جديداً غير جدلي الطبع والطبيعة، تداخل صدف عمياء أو " ربع عمياء " حسب معايير السارد : عجزه عن تناول المزيد من زجاجات البيرة لأنَّ زوجه {{ تُسهب في قضم حصته من الحياة }} نعم ، للزواج شروط ومتطلبات وللشريكة حقوق ورغائب وأماني . أكان محض سوء حظ أن يتزوج هذا الرجل فتتقلص قدراته الشرائية ( بلغة السوق الرأسمالي ) ولا يبلغ مآربه الدنيوية إلاّ بمشقة ؟ كيف إعترض الزواج طريق البيرة ؟ هل نلعن الزواج أم البيرة ؟ الزواج شر لابدَّ منه ... قال ذلك رجلُ حكيم في سالف الزمان ، لكني أُضيف تنازلاً للسارد : والبيرة خيرٌ لا بدَّ منه !! .
هذه هي الثنائية الجبارة التي ما إنفكّت تتصارع منذ حواء وأبينا آدم حتى هذه اللحظة : الصراع بين الخير والشر . الصراع والنزاع بين إبليس الشرير العاصي وبين ربه وخالقه وكان آدم العامل الكيميائي المساعد إذ بسببه عصى ربَهُ إبليسُ الشيطان وإستنكف أن يسجد لآدم كما فعل باقي الملائكة . جدلية ثنائية إقتضت المشيئة أن يلزمها عامل مساعد خارجي ، وتلكم حالة مُستثناة وفي العالم الخارجي البعيد كل شئ ممكن ... خارج نطاق قوة الجذب الأرضي وحيث لا من علاقة بين العصيان والزمان .

برافو ( ريباخا ) !! لقد وجدتها !! وجدتَ الثنائية الجدلية الوحيدة في فنك القصصي الجميل ولكنْ ، علامَ ذكرك للهدم والإنهدام وقد بلغتَ قمة نصرك وأجل كشوفاتك ؟ هل أذكرك بشاعر قال يوماً (( لا ينقصُ البدرُ إلاّ حين يكتملُ )) ؟ لماذا نقصتَ وقد بلغتَ الحُلُم فإكتملتَ ؟ لماذا قلتَ في الصفحة 65 ما قلتَ فجعلتني أكتئب معك وأغدو سوداوياً قليل الأمل ؟
قال خالقُ ( ريباخا ) في لحظة قنوط غريبة عليه وعلى شموخه القصصي الفني والشخصي : {{ ... لكنْ على ما يبدو فقدرُ أمثالي أن نكونَ في يوم من الأيام منذورين للهدم... أنْ نلفظَ أنفاسنا الأخيرة ونحن في عز قوتنا وتماسكنا ! }} . صحيح إنه يعني الموت ، موت الإنسان ، يموتُ الإنسان آخر أمره فيدفن تحت أديم الأرض التي أطعمته قمحاً وشعيراً وخضرواتٍ وفاكهة ً مختلفاً ألوانها . كلنا إلى الموت سائرون ... بعضنا يُبطئ في مسيرته إلى حتفه والبعض الآخر عَجِلٌ سريع . طفرة القاص هذه إستوقفتني طويلاً سيّما وكان قبيل جملته هذه قد وقف شامخاً جباراً قوياً متحدياً أسباب الهدم والتلاشي حيث قال {{ ...لكنن(ي) بالتأكيد لستُ آيلاً للسقوط ولم أصلْ بعدُ لدرجة التهالك ، والأهم ، أنَّ ذلك الإحساس الممض بالقِدم والتلاشي لم يتسرب بعدُ لمشاعر(ي) أو لساكن(ي) . لكنْ على ما يبدو فقدرُ أمثالي أن نكونَ في يومٍ من الأيام منذورين للهدم ... أن نلفظَ أنفاسنا الأخيرة ونحن في عز قوتنا وتماسكنا ! }} . هنا مرة ثانية وضع السارد ثنائية الموت // الحياة أمام قارئه كأقوى وأمر جدلية ثنائية يمر بها الإنسان في حياته . لكنْ هنا يتوحد المرء فلا داخل ولا خارج . الموت يوحده جسداً وروحاً رغم حَيرة الشاعر أبي الطيب المتنبي في هذه المسألة إذ قال :

فقيل تخلُصُ نفس المرءِ سالمة ً
وقيل تشرَكُ جسمَ المرءِ في العَطَب ِ

الموت فناء مطلق . نحن نعرف أنَّ قطبي النزاع الجدلي قطبان يتنافيان فيتفانيان في الزمن فيطلع من عملية التنافي / التفاني (( نفي إفنائي )) عنصر جديد سينمو فيه نقيضه مع مر الزمن ... هذا ما قرأنا في الكتب . فهل دلنا خالق النص على ماهية هذا المولود الجديد وطبعه وشكله ومواصفاته ؟ فناء يقضي على حياة فأين الجدل أو المنطق الدايالكتيكي ؟ تقول الفلسفة أن الأبناء هم العناصر الجديدة التي يفرزها تطاحن القطبين الإفنائي . لكنَّ الأبناء هم نتاج المزاوجة بين رجل حي وإمرأة حية لا نتاج صراع بين الموت والحياة .
يقيني أو شبه يقيني يجعلني أقول إنَّ قصد صاحب النص هو وضع الضعف في مواجهة القوة ... اليأس مقابل الأمل ... الزائل المتحرك مقابل الأزلي الثابت ، وتلك لا ريب متناقضات ولكن لا داخل فيها ولا خارج . الضعف ضعفنا فينا والقوة قوتنا كذلك فينا ... في داخلنا . أما الموت... موت الجسد فإنه طريق ذو ممر وإتجاه واحد لا رجعة فيه ... لا يعود إلى الحياة من يغادرها طوعاً أو كرهاً .

تبسيط الصحوة

الآن نحن وجهاً لوجه مع الجزء الثالث من ( ملاحظات حول الجدران ) للقاص أنيس الرافعي الذي يحمل عنوان ( تبسيط الصحوة ) . رأينا السارد في الجزء الأول وقد ثَقُلَ تحت تأثير الكحول . ورأيناه وتابعناه وقد إزداد ثقلاً في الجزء الثاني ... فلنتابع حالاته وقد إنفرجت أموره وزال الكثير من تأثير البيرة على أعصابه ، فماذا سنجد وأين سنجد ثنائية الداخل / الخارج ؟ لا خارجَ ولا من داخلٍ ههنا ، هنا رجوع أو إرتداد أو نكوص حياتي لمعاودة أحداث ما وقع بالأمس : إنها دورية وتكرير الرتابة القاتلة التي لا تحمل معها للإنسان غير الغثيان وتفسخ الروح وغير السأم المُمض الذي يسري في الروح والجسد سريان السُم الفتّاك . ينام البطل ... يستيقظ ...لا لم يستيقظ بعدُ . حين ذكر أو تذكّر الفعل الحاضر ( يستيقظ ) يعود أدراجه بمبادرة رائعة إلى جو حانة البيرة وما حصل بالأمس له بعد أن قرر مغادرتها وقد شرب ما شرب ، وأنفق ربما آخر ما معه من نقود ... يتذكر ما حصل فيكرر جملةً سبق وأن قرأناها في الجزء الأول {{ ... سوف يستيقظ ، أقصد بعد قليل " سوف يتجاسر نادل الحانة بكل عدّة الحرص على الود على إرسال منجل أصابعه إلى كتفه الأيمن ليحطبَ من على المبسط غفوته المباغتة " }} . سبق وأن قرأنا هذا الكلام في الصفحة 61 من الجزء الأول كما قلتُ قبل قليل . ثم أعاد الراوي نص جملة أخرى وردت في الصفحة 62 من الجزء الثاني وبالصيغة التالية {{ ... النادل الذي فيما بعد " سيعيره مِظلة واقية وكومة نصائح بطريركية متشققة ، ثم سيتفضل بدعم قسطٍ غير هيّن من ترنحه حتى مشارف الباب الدوّار للحانة " }}. لم يكتفِ القاص بهذه الإرتجاعات إلى حوادث ليلة أمس بل نراه يُضيف إليها أمراً شنيعاً قارفه بالأمس في شوارع المدينة : التبول !! فلستمع إليه مرجِّعاً الحدث كما وقع في الجزأين الأول والثاني مع بعض الإضافات {{ ... فها هو يستند كيفما إتفقَ إلى عمود نور كهربائي ... رجاءً ، لا تقتربوا منه !.. لا تمدوا له يدَ البول !.. وها هو يفضُّ تِكّةً فتكة سحّابةَ بنطاله .. هل رأيتم ؟ ..هل صدقتم الآن .. وأخيراً ، ها هو اللعين يُفرغ رشاش مثانته أسفل(ي).. أسفلَ جدار ! }}. هل نقرأ في هذا الكلام شيئاً من ندم أو بعض علامات الحياء أو الخجل من مسألة التبول في الشارع ؟ هل أراد القاص منه مسألة أخرى قد تبدو غريبة بعض الشئ ؟ أعني أنه... هو البطل الذي لم يتورع عن التبول في الخارج ليلاً وهو في حالة سكر شديد ... إنه هو يتبول في ساعة صحو لا في الشارع ( الخارج ) ولكن... في فراشه... في بيته ... في ( الداخل ) .

غدت حانة البيرة للقاص وحالة السكر والتبول في الشارع مستعيناً بأعمدة النور ... غدت جميعاً جزءاً منه ، تأصّلت فيه كعادة لا فكاك منها . حالة إدمان من النوع الذي يقع لمدمني المخدرات والقمار وشرب الكحول وبقية العادات الشديدة الإستحكام والتمكن من أعصاب الإنسان .
ما مغزى أن يعود ليؤكد أو يجتر بعض ما حصل له الليلة الفائتة من حوادث وأبرزها الثلاثة مارة الذِكْر ؟؟ التداخل كما أحسب !! دخول ما هو خارج في صُلب ما هو داخل . تأتي الحانة إلى بيت ، بل إلى فراش السارد . يأتي الشارع كذلك فيدخل سريره . يتبول في فراشه الخاص وعلى جلده وملابسه كما كان يتبول خارجاً في الشوارع العامة .
أجد في هذا المقام لزاماً عليَّ أن أقرر أن تداخل الخارج والداخل بهذا الأسلوب وهذا النمط لا يعني ولا يمكن أن يكون تفاعلَ أضدادٍ جدليا ً كما يروم الكاتب على ما يبدو لي . هل هنا خارج وداخل ؟ نعم . هل هنا تداخل بين الخارج والداخل ؟ نعم ... لكنه تداخل ميكانيكي وليس تداخلَ تفاعل وصراع ومناضلة كما تقتضي المقولة الخاصة بوحدة وصراع الأضداد المعروفة .
أبدع أنيس الرافعي في رجوعه وإرتداده في المقطع الثالث والأخير فكرر بعض ما وقع لبطل القصة من أحداث في المقطعين أو الجزأين الأول والثاني فصوّر لنا وحدة حياته في إلتحام درامي غاية في الإنسجام والحيوية ... وحدة مفعمة بالصدق وحرارة الإحساس بالمسؤولية الوجودية وفخامة وجرأة التعبير عنها بلغة سليمة تتدرج في بلاغتها هبوطاً وإرتقاءً حسب مقتضيات الحال والظروف السريعة التغير . فلسان الصاحي غير لسان السكران كما يعلم الجميع ...

ملاحظات ختامية

لم أجد من وشيجة تربط كتاب " البرشمان " بكتاب أنيس الرائع
" ريباخا " الذي سبق وأن كتبت عنه ونشرت دراسة غير قصيرة قبل أكثر من عام . كتابان مختلفان كل الإختلاف سواء من حيث الموضوعات أو أساليب معالجة هذه الموضوعات أو حتى لغة المعالجة . حاول أنيس في كتاب " البرشمان " محاولة تنظيرية جادة ، حاول تطبيق فكرة أو فلسفة معينة على محاولات قصصية متخذاً منها حقل تجريب وتجارب ... فحاز في هذا قصب السبق وسجل نقطة كبيرة لصالحه مفكراً وقاصاً على حد سواء . أرى في هذه المحاولة مغامرة أو مسعى شبيه بالمغامرة لتحويل الأدب إلى ميدان تجريبي من شأنه نقله إلى فضاء العلم التطبيقي . ما مقدار ما أصاب القاص الجرئ والمكتشف من نجاح في محاولته هذه ؟ تلكم مسألة سيختلف حولها قراء أنيس وناقدوه بلا ريب . وسوف لن يضيره هذا الإختلاف ، لأن محصلته النهائية ستكون في صالحه .

ختام الختام :

تبقى موضوعة ولفظة [[[ الجدران ]]] غامضة المغزى والوظيفة وعصية على التفسير . تبدو ناشزة ولا من جامع يجمعها مع أطروحات الأجزاء الثلاثة التي جرى الحديث عنها مطوّلاً . فهل قصد أنيس أن ذكور الكلاب تتبول رافعةً ساقاً على الجدران بينما يتبول ذكور البشروقوفاً ساندين ظهورهم على أعمدة الكهرباء أو على أي شئ قائم شاقولياً ... أو يتبولون مضطجعين نياماً في فراشهم الدافئ ؟ ذلك فرق كبير بين ذكور البشر وذكور عالم الحيوان .
أو ؟؟ وضّح أنيس ... أنيس وصديق القساوسة الملحدين !!

شباط ( فبراير ) ‏2007‏‏‏



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البرشمان / أنيس وجحيم دانتي
- ورق عاشق / ديوان شعر لفاتحة مرشيد
- المتنبي وبعض الثائرين
- الصابئة المندائيون
- الشعراء والأديان الأُخرى
- مع أبي محسد المتنبيء في أوربا
- أطياف الندى
- السامري
- تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر
- كيف يحصل التلوث في الكون؟ - البيئة والكيمياء والسموم.. زواج ...


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - برشمان أنيس الرافعي مجموعو قصصية