أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عدنان الظاهر - المتنبي وبعض الثائرين















المزيد.....



المتنبي وبعض الثائرين


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 1882 - 2007 / 4 / 11 - 11:23
المحور: حقوق الانسان
    


قلت ُ فلأزر ْ صديقي المتنبي في مكان إقامته على كوكب المريخ الذي إختاره إحتجاجا ً على ما وصلت إليه الحالة في العراق ... حتى تم تدمير الشارع الذي يحمل إسمه وإختلطت دماء مرتاديه بحطام مكتباته وحرائق ما فيها من كتب . معه كل الحق . أرادوا رفع إسمه عن هذا الشارع فلم يستطيعوا ولن . إختلطت دماء محبيه وعارفيه من العراقيين من عشّاق الثقافة ورواد محلات بيع الكتب بالتراب وحطام السقوف المنهارة والجدران المتهاوية على رؤوس الأبرياء كما سبق وإن ْ إختلطت دماء الشاعر العراقي الكوفي أبي الطيّب المتنبي بتراب ( دير العاقول ) بين النعمانية وبغداد عام 356 للهجرة . الدم واحد : دم ٌ عراقي صميم . التراب واحد : تراب عراقي صميم . الخلطة واحدة : دم ٌ معجون ومُداف ٌ ببعض تربة العراق . والقاتل واحد : مجرم لا يعرف معنى الثقافة ولا يعيرها أي وزن . قاتل جاهل حقود يائس . قتلوا المتنبي بالأمس وهو من هو ... الشاعر الأكبر وأحد رموز العراق بل وإحدى درر تاج العراق وبعض مفاخره من أمثال جلجامش وحمورابي . قتلوه لأنه الشاعر الفحل الذي طبّقت شهرته الآفاق ومن ثم َّ وصفوه ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) .
زرت صاحبي حيث يقيم منذ التاسع من نيسان 2003 فكان مهيأ ً لزيارتي تهيئة جيدة ... البيت نظيف مرتّب والطعام جاهز ٌ وعلى أحسن ما يكون . مَن طبخ هذا الطعام يا متنبي ؟ سألته بعد أن رحّب بي ترحابا ً حارا ً / لأنني لم أزره هناك منذ فترة طويلة / فقال : ومن تتصور يطبخ لي طعامي ؟ إبتسمت ُ متخابثا ً فمضيت خطوة أخرى لإستفزاز صاحبي فأجبته ومَن غير صديقتك إياها ... صاحبتك أو حبيبة قلبك التي دأبت أن تتبادل رسائل الرومانس معك لحقبة طويلة من الزمن ؟ قال صحيح إنها تزورني بين حين وآخر لكني عودتها أن تأتي فتأكل ما أعد ُّ لها من طعام لا أن تأتي لتطبخ لنا ما نأكل . إنها حقوق الضيف وواجبات الضيافة يا رجل ... أضاف قائلاً . ونحن على مائدة الطعام قال المتنبي كان الإتفاق أن تزورني هذا اليوم لتبحث معي موضوعا ً آخرَ لا علاقة له بالهوى والرومانس والنسيب والتشبيب . ظل ينتظر جوابا ً أو توضيحا ً مني . واصلت مضغ ما في فمي من طعام فظنني لم أسمع أو أهملت ملاحظته . أعاد علي َّ الملاحظة فقلت أظنك تقصد موضوع علاقاتك مع بعض الثوار العرب ممن خرجوا على سلاطين أزمنتهم فلم يحققوا أمانيهم وطموحاتهم ... فشلت إنتفاضاتهم فعُذّبوا ثم قتلوا وقطعت رؤوسهم وصلبوا على جذوع نخيل العراق أو داست الخيول العربية الأصيلة على أجسادهم المقطّعة . قال أعلى مائدة الطعام تريد مناقشة هذه المآسي معي ؟ عفوا ً أبا الطيّب ، قلت ُ ، بل سأناقش هذا الموضوع معك بعد الغداء . على كؤوس الشاي . هز َّ المتنبي رأسه موافقاً .
أردت ُ أن أفتح الموضوع إياه ونحن نحتسي أكواب الشاي الممتاز الذي لا وجود َ له في أسواق أهل الأرض فقاطعني قائلاً قل بادئ ذي بدء أيا ً من ثوار العرب الفاشلين تود مناقشة موضوع علاقتي به ؟ صاحب الزنج ... علي بن محمد الذي ثار في ظاهر البصرة زمن الخليفة العباسي
( المهتدي ) في 25 شوّال عام 255 للهجرة ... أجبته . قال ولِم َ إخترت َ هذا الرجل قبل سواه ، علما ً أني صادقت غيره وتعلق بي وبشعري سواه من الثوار المقاتلين الشجعان ؟ سؤالك وجيه يا أبا الطيب ، نعم يحمل كل الوجاهة . قال كيف ؟ لأن َّ هذا الرجل الثائر شاعر مثلك أولا ً ، ولأنه مثلك يدّعي إنتماءه للنسب العلوي ثانياً ، وأخيرا ً كان له شأن خطير مع سودان الوجوه والجلود من البشر ... عبيد البصرة ، زنوج إفريقيا ولك موقف معروف من هذه الفئة من الناس . قال تقصد ما قلت ُ في كافور الإخشيدي الأسود إثر َ جفوتي معه في فسطاط مصر حيث قلت :

لا تشتر ِ العبد َ إلا َ والعصا معه
إن َّ العبيد َ لأنجاس ٌ مناكيدٌ
من علّم َ الأسود َ المخصي َّ مَكُرمة ً
آباؤه البيض ُ أم أجداده ُ الصيد ُ

أم أُذنه ُ في يد ِ النخّاس ِ دامية ٌ
أم قدرُه ُ وهو بالفلسين ِ مردودُ ؟

قلت نعم ، هو كذلك . ظل َّ صاحبي متماسكا ً محايدا ً لم يبد ُ عليه أي أثر لرد فعل أو ما شابه ذلك . أشعل سيجارة كما هو حاله في مثل هذه المواقف وواصل شرب الشاي . أراح نفسه قليلا ً ثم إستجاب لحججي قائلا ً إسمع يا هذا ، كان الرجل شاعراً ... نعم ، ولكن ضاع أغلب ُ شعره بعد مقتله . بل وأغلب ظني أن حاشية الخليفةالعباسي وزبانيته وجنده هم مَن أتلف أشعاره وخطبه النارية في محاولة منهم أن يطمسوا على آثاره حيا ً وميتاً . تماما ً كما فعل هولاكو ببغداد وبأهل بغداد وبتراثهم وكتبهم وما خلّفوا من آثار حضارية وثقافة وعلم . وتماما ً مثل ما حدث أخيرا ً في شارع المتنبي كما تعلم . أما الأمر الثاني ... قصة نسب علي بن محمد قائد ثورة زَنج البصرة فلا تعليق َ لي عليه . فلقد حار الناس ُ في أمره وإنقسموا بين ناكر ٍ له ومؤيد . أما نسبي العلوي فلا غُبار َ عليه وإن ْ إستكثر ذلك علي َّ بعض الخصوم وجلّهم من الشعراء أو الأدباء لأسباب شخصية محضة ... الغيرة والحسد ... غاروا مني وحسدوني لعلوِّ شأني الشعري ورفعة مقامي بين القبائل والبلدان . أراح نفسه قليلا ً قبل أن يواصل كلامه بهدوء وإعتداد وثقة فقال : أما الأمر الثالث فلي فيه وجهة نظر قد لا يصدقها المعاصرون . ما هي يا أبا الطيّب ؟ قال إسمعْ : خصومتي مع كافور الأسود شيء وتضامني مع شعب أسود زنجي ثائر شئ آخر . أنا معهم قلبا ً وقالباً . كانوا قوما ً مقهورين مستعبدين يكدحون ليلا ً ونهاراً وبالكاد يحصلون على رغيف خبز يشبع بطونهم الخاوية . كانوا يستصلحون الآراضي الموات والسباخ ويجففون الأهوار وينتجون الدبس من تمور البصرة لكنهم يموتون من الضنى الجسدي والجوع أثناء ساعات عملهم الشاقة . ثاروا من أجل قضية سامية ... من أجل حريتهم وإنسانيتهم ومعاملتهم أُسوة ً بسواهم من مواطني الخلافة العباسية الإسلامية وكانوا جميعا ً قد إعتنقوا الإسلام . أنا معهم رغم سواد جلودهم وكنت ُ سأكون مع غيرهم مهما كانت ألوان بشرتهم ووجوههم . لا جدل َ في الدفاع عن حرية الإنسان وآدميته وشبع بطنه وضمان أمنه وأمن عياله. كانوا قوما ً مظلومين أما كافور الإخشيدي فكان رجلا ً ظالما ً لا مظلوما ً وكان متآمرا ً وقاتلاً . تآمر على حياة سيده ليغتصب سلطان مصر وليصبح عزيزها الأوحد لذا قلت ُ فيه :

أكلما إغتال َ عبد ُ السوء ِ سيدَه ُ
او خانه ُ فله ُ في مصر َ تمهيدُ

أجل ، واصل الكلام ، كان كافور مجرما ً قاتلا ً ولئيما ً ومبطّنا ً وكاذبا ً من الطراز الأول فكيف تريدني أن لا أهجوه بما يستحق من بذئ الكلام ؟
كم مرّة وعدني بإقطاع شاسع في أرض مصر أو إمارة العراق لكنه أخلف في كل مرة وعده وجبُن عن التنفيذ . بصراحة ... لا أحترم ُ رجلا ً لا يلتزم بما يقول من كلام ولا يفي بما يقطع على نفسه من وعود . لذا قلت فيه :

جود ُ الرجال ِ من الأيدي وجودُهم ُ
من اللسان ِ فلا كانوا ولا الجودُ

شتان َّ ما بين هذا الأسود المخصي وأولئك السود المغبونين الشجعان الثائرين حفاة ً عُراة ً سلاحهم جذوع النخيل وسيقان البردي والقصب وما في أيديهم من مناجل وسواها من أدوات زراعية بدائية . شتان ما بين دم يغلي بالثورة في العروق في بطائح ومستنقعات وسباخ جنوب العراق ودم يغلي بالخمرة وليالي الدفوف والأعواد والطرب وهز ِّ الأكتاف والأرداف والمجون في قصور على نهر النيل باذخة منيفة . أنا مع المظلومين ضد الظالمين . ثم ، أضاف ، لا تنس َ أني بدأت حياتي ثائراً مع القرامطة في الكوفة وبادية السماوة أيام الشباب والإفلاس والصعلكة . وكما هو الحال مع الكثير من ثوار اليوم ... تركت ُ الثورة يوم أن أثريت ُ وتحسنت أموري المالية والمعاشية والإجتماعية وأصبح لي من الشهرة نصيب واسع وصيت عريض كشاعر يتحدى جميع شعراء عصره . أقنعني منطق الرجل إذ كان صريحا ً ودقيقا في كل ما قال . المتنبي إذا ً ضد كافور مصر الإخشيدي الأسود لأسبابه الخاصة ... لكنه مع زنوج البصرة ومع حقهم في أن يثوروا على خليفة بغداد العباسي وعلى من ظلمهم وإستعبدهم وأجاعهم وأذلّهم .
قلت ما دمنا بلغنا هذا المستوى من نضج الأفكار وجدية النقاش الذي لا يخلو من طرافة ... وما دمت ُ قد إكتشفت ُ أن صاحبي المتنبي مع الثوار المستعبدين والمستضعفين في الأرض وكل المطالبين بحق مشروع ... فلأفتح معه موضوعا ً آخرَ ذا صلة مباشرة بصُلب هذا الموضوع . أقصد ثورة أخرى قام بها في الكوفة رجل علوي كمحمد بن علي صاحب زنج البصرة إسمه ( يحيى بن عمر العلوي ) . خرج هذا الثائر العلوي في الكوفة أيام الخليفة العباسي ( المستعين 248 ــ 252 هجرية ) فلقي َ مصرعه فرثاه الشاعر ( إبن الرومي ) رثاء ً يقال عنه مؤثراً [[ * ]] .
إكتمل إذا ً المقام وإكتمل النِصاب ! ثائر علوي في الكوفة مسقط رأس الشاعر المتنبي ... وشاعر يُرثي هذا الثائر الفاشل في ثورته . فالكوفة تمثل الجسر الرابط بين هذه الأحداث الجسام ، وكذلك الشاعران .

ثائر علوي + الكوفة + إبن الرومي الشاعر
شاعر علوي ( المتنبي ) + الكوفة

الكوفة وعلوية الثائر ( يحيى ) والشاعر ( المتنبي ) ، ثم شاعرية شاعرين هما المتنبي نفسه وإبن الرومي .

الكوفة + علوية الثائر والشاعر + شاعرية شاعرين . هذه هي عناصر الملحمة التي بدأها علوي سقط شهيدا ً عام 249 هجرية في كوفة العراق وإختتمها شاعر علوي سقط قتيلا ًغيلة ً عام 356 هجرية قُرب َ النعمانية بين واسط وبغداد على أرض العراق . كلاهما عراقي وكلاهما قتيل !! تضافرت عناصر ثلاثة هي : الكوفة ( الأرض والأرضية ) والمذهب العلوي ( التشيّع ) ثم الشعر . الشاعر وُلد هناك والثائر سقط هناك قتيلا ً وما بين هذين الحدثين قرابة مائة عام .
والله إنها لمسألة غاية في الطرافة ... فلأفتح َ هذا الموضوع مع صاحبي ما دمت قد عرفت ُ موقفه من الثوار المطالبين بحقوقهم المشروعة .
بعد نقاشات قصيرة هنا وهناك حول هذا الموضوع أو ذاك والحديث عن تقلبات الجو بين الشتاء والربيع وتساقط المطر المفاجئ وبعض الثلوج خارج مواسمها المعروفة ... طرحت ُ موضوع قيام العلوي يحيى بن عمر بالثورة في الكوفة وعصيانه خليفة بغداد ( المستعين بالله ) . سألته قبل أن يجيب عن موقفه من أمثال هذه الثورات وعن أسباب فشلها المرة تلو المرة منذ محاولة الحسين بن علي وإستشهاده في كربلاء عام 61 للهجرة ، ثم ثورة زيد بن علي [ السجّاد زين العابدين ] بن الحسين بن علي ومقتله هو الآخر في الكوفة زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 121 للهجرة . قال هذا موضوع عويص معقد وتلزمه تهيئة جيدة وتفكير هادئ ... أمهلني ، قال المتنبي ، ... أمهلني فربما نعود إلى مناقشة هذا السؤال في لقاء آخر . أتحب أن يكون اللقاء القادم معك في بيتك الأرضي أم معي هنا على سطح كوكب المريخ / مارس ... إله الحروب ؟ بل أفضِّل أن نناقش الأمر هنا معك على كوكب المريخ ، قلت للمتنبي ، لأننا سنناقش أمورا ً لا تختلف كثيرا ً عن طبائع وتفصيلات الحروب ... الثورات والعصيانات ، وسكنك يا متنبي على ميدان مختص بالحروب وربّه ربُّ حرب إسمه ( مارس ) ... أليس كذلك ؟ قال أتفق تماما ً معك . هل أصطحبك حتى منصة إطلاق الصاروخ العائد للأرض ؟ لا ، سأجد طريقي بنفسي .

[[ * ]] الدكتور أحمد عُلبي / ثورة الزنج وقائدها علي ٌّ بن محمد . دار الفارابي
عدنان الظاهر نيسان ( أبريل ) 2007


المتنبي وبعض الثائرين

(( 22 ))

www.mars.com

قلت ُ فلأزر ْ صديقي المتنبي في مكان إقامته على كوكب المريخ الذي إختاره إحتجاجا ً على ما وصلت إليه الحالة في العراق ... حتى تم تدمير الشارع الذي يحمل إسمه وإختلطت دماء مرتاديه بحطام مكتباته وحرائق ما فيها من كتب . معه كل الحق . أرادوا رفع إسمه عن هذا الشارع فلم يستطيعوا ولن . إختلطت دماء محبيه وعارفيه من العراقيين من عشّاق الثقافة ورواد محلات بيع الكتب بالتراب وحطام السقوف المنهارة والجدران المتهاوية على رؤوس الأبرياء كما سبق وإن ْ إختلطت دماء الشاعر العراقي الكوفي أبي الطيّب المتنبي بتراب ( دير العاقول ) بين النعمانية وبغداد عام 356 للهجرة . الدم واحد : دم ٌ عراقي صميم . التراب واحد : تراب عراقي صميم . الخلطة واحدة : دم ٌ معجون ومُداف ٌ ببعض تربة العراق . والقاتل واحد : مجرم لا يعرف معنى الثقافة ولا يعيرها أي وزن . قاتل جاهل حقود يائس . قتلوا المتنبي بالأمس وهو من هو ... الشاعر الأكبر وأحد رموز العراق بل وإحدى درر تاج العراق وبعض مفاخره من أمثال جلجامش وحمورابي . قتلوه لأنه الشاعر الفحل الذي طبّقت شهرته الآفاق ومن ثم َّ وصفوه ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) .
زرت صاحبي حيث يقيم منذ التاسع من نيسان 2003 فكان مهيأ ً لزيارتي تهيئة جيدة ... البيت نظيف مرتّب والطعام جاهز ٌ وعلى أحسن ما يكون . مَن طبخ هذا الطعام يا متنبي ؟ سألته بعد أن رحّب بي ترحابا ً حارا ً / لأنني لم أزره هناك منذ فترة طويلة / فقال : ومن تتصور يطبخ لي طعامي ؟ إبتسمت ُ متخابثا ً فمضيت خطوة أخرى لإستفزاز صاحبي فأجبته ومَن غير صديقتك إياها ... صاحبتك أو حبيبة قلبك التي دأبت أن تتبادل رسائل الرومانس معك لحقبة طويلة من الزمن ؟ قال صحيح إنها تزورني بين حين وآخر لكني عودتها أن تأتي فتأكل ما أعد ُّ لها من طعام لا أن تأتي لتطبخ لنا ما نأكل . إنها حقوق الضيف وواجبات الضيافة يا رجل ... أضاف قائلاً . ونحن على مائدة الطعام قال المتنبي كان الإتفاق أن تزورني هذا اليوم لتبحث معي موضوعا ً آخرَ لا علاقة له بالهوى والرومانس والنسيب والتشبيب . ظل ينتظر جوابا ً أو توضيحا ً مني . واصلت مضغ ما في فمي من طعام فظنني لم أسمع أو أهملت ملاحظته . أعاد علي َّ الملاحظة فقلت أظنك تقصد موضوع علاقاتك مع بعض الثوار العرب ممن خرجوا على سلاطين أزمنتهم فلم يحققوا أمانيهم وطموحاتهم ... فشلت إنتفاضاتهم فعُذّبوا ثم قتلوا وقطعت رؤوسهم وصلبوا على جذوع نخيل العراق أو داست الخيول العربية الأصيلة على أجسادهم المقطّعة . قال أعلى مائدة الطعام تريد مناقشة هذه المآسي معي ؟ عفوا ً أبا الطيّب ، قلت ُ ، بل سأناقش هذا الموضوع معك بعد الغداء . على كؤوس الشاي . هز َّ المتنبي رأسه موافقاً .
أردت ُ أن أفتح الموضوع إياه ونحن نحتسي أكواب الشاي الممتاز الذي لا وجود َ له في أسواق أهل الأرض فقاطعني قائلاً قل بادئ ذي بدء أيا ً من ثوار العرب الفاشلين تود مناقشة موضوع علاقتي به ؟ صاحب الزنج ... علي بن محمد الذي ثار في ظاهر البصرة زمن الخليفة العباسي
( المهتدي ) في 25 شوّال عام 255 للهجرة ... أجبته . قال ولِم َ إخترت َ هذا الرجل قبل سواه ، علما ً أني صادقت غيره وتعلق بي وبشعري سواه من الثوار المقاتلين الشجعان ؟ سؤالك وجيه يا أبا الطيب ، نعم يحمل كل الوجاهة . قال كيف ؟ لأن َّ هذا الرجل الثائر شاعر مثلك أولا ً ، ولأنه مثلك يدّعي إنتماءه للنسب العلوي ثانياً ، وأخيرا ً كان له شأن خطير مع سودان الوجوه والجلود من البشر ... عبيد البصرة ، زنوج إفريقيا ولك موقف معروف من هذه الفئة من الناس . قال تقصد ما قلت ُ في كافور الإخشيدي الأسود إثر َ جفوتي معه في فسطاط مصر حيث قلت :

لا تشتر ِ العبد َ إلا َ والعصا معه
إن َّ العبيد َ لأنجاس ٌ مناكيدٌ
من علّم َ الأسود َ المخصي َّ مَكُرمة ً
آباؤه البيض ُ أم أجداده ُ الصيد ُ

أم أُذنه ُ في يد ِ النخّاس ِ دامية ٌ
أم قدرُه ُ وهو بالفلسين ِ مردودُ ؟

قلت نعم ، هو كذلك . ظل َّ صاحبي متماسكا ً محايدا ً لم يبد ُ عليه أي أثر لرد فعل أو ما شابه ذلك . أشعل سيجارة كما هو حاله في مثل هذه المواقف وواصل شرب الشاي . أراح نفسه قليلا ً ثم إستجاب لحججي قائلا ً إسمع يا هذا ، كان الرجل شاعراً ... نعم ، ولكن ضاع أغلب ُ شعره بعد مقتله . بل وأغلب ظني أن حاشية الخليفةالعباسي وزبانيته وجنده هم مَن أتلف أشعاره وخطبه النارية في محاولة منهم أن يطمسوا على آثاره حيا ً وميتاً . تماما ً كما فعل هولاكو ببغداد وبأهل بغداد وبتراثهم وكتبهم وما خلّفوا من آثار حضارية وثقافة وعلم . وتماما ً مثل ما حدث أخيرا ً في شارع المتنبي كما تعلم . أما الأمر الثاني ... قصة نسب علي بن محمد قائد ثورة زَنج البصرة فلا تعليق َ لي عليه . فلقد حار الناس ُ في أمره وإنقسموا بين ناكر ٍ له ومؤيد . أما نسبي العلوي فلا غُبار َ عليه وإن ْ إستكثر ذلك علي َّ بعض الخصوم وجلّهم من الشعراء أو الأدباء لأسباب شخصية محضة ... الغيرة والحسد ... غاروا مني وحسدوني لعلوِّ شأني الشعري ورفعة مقامي بين القبائل والبلدان . أراح نفسه قليلا ً قبل أن يواصل كلامه بهدوء وإعتداد وثقة فقال : أما الأمر الثالث فلي فيه وجهة نظر قد لا يصدقها المعاصرون . ما هي يا أبا الطيّب ؟ قال إسمعْ : خصومتي مع كافور الأسود شيء وتضامني مع شعب أسود زنجي ثائر شئ آخر . أنا معهم قلبا ً وقالباً . كانوا قوما ً مقهورين مستعبدين يكدحون ليلا ً ونهاراً وبالكاد يحصلون على رغيف خبز يشبع بطونهم الخاوية . كانوا يستصلحون الآراضي الموات والسباخ ويجففون الأهوار وينتجون الدبس من تمور البصرة لكنهم يموتون من الضنى الجسدي والجوع أثناء ساعات عملهم الشاقة . ثاروا من أجل قضية سامية ... من أجل حريتهم وإنسانيتهم ومعاملتهم أُسوة ً بسواهم من مواطني الخلافة العباسية الإسلامية وكانوا جميعا ً قد إعتنقوا الإسلام . أنا معهم رغم سواد جلودهم وكنت ُ سأكون مع غيرهم مهما كانت ألوان بشرتهم ووجوههم . لا جدل َ في الدفاع عن حرية الإنسان وآدميته وشبع بطنه وضمان أمنه وأمن عياله. كانوا قوما ً مظلومين أما كافور الإخشيدي فكان رجلا ً ظالما ً لا مظلوما ً وكان متآمرا ً وقاتلاً . تآمر على حياة سيده ليغتصب سلطان مصر وليصبح عزيزها الأوحد لذا قلت ُ فيه :

أكلما إغتال َ عبد ُ السوء ِ سيدَه ُ
او خانه ُ فله ُ في مصر َ تمهيدُ

أجل ، واصل الكلام ، كان كافور مجرما ً قاتلا ً ولئيما ً ومبطّنا ً وكاذبا ً من الطراز الأول فكيف تريدني أن لا أهجوه بما يستحق من بذئ الكلام ؟
كم مرّة وعدني بإقطاع شاسع في أرض مصر أو إمارة العراق لكنه أخلف في كل مرة وعده وجبُن عن التنفيذ . بصراحة ... لا أحترم ُ رجلا ً لا يلتزم بما يقول من كلام ولا يفي بما يقطع على نفسه من وعود . لذا قلت فيه :

جود ُ الرجال ِ من الأيدي وجودُهم ُ
من اللسان ِ فلا كانوا ولا الجودُ

شتان َّ ما بين هذا الأسود المخصي وأولئك السود المغبونين الشجعان الثائرين حفاة ً عُراة ً سلاحهم جذوع النخيل وسيقان البردي والقصب وما في أيديهم من مناجل وسواها من أدوات زراعية بدائية . شتان ما بين دم يغلي بالثورة في العروق في بطائح ومستنقعات وسباخ جنوب العراق ودم يغلي بالخمرة وليالي الدفوف والأعواد والطرب وهز ِّ الأكتاف والأرداف والمجون في قصور على نهر النيل باذخة منيفة . أنا مع المظلومين ضد الظالمين . ثم ، أضاف ، لا تنس َ أني بدأت حياتي ثائراً مع القرامطة في الكوفة وبادية السماوة أيام الشباب والإفلاس والصعلكة . وكما هو الحال مع الكثير من ثوار اليوم ... تركت ُ الثورة يوم أن أثريت ُ وتحسنت أموري المالية والمعاشية والإجتماعية وأصبح لي من الشهرة نصيب واسع وصيت عريض كشاعر يتحدى جميع شعراء عصره . أقنعني منطق الرجل إذ كان صريحا ً ودقيقا في كل ما قال . المتنبي إذا ً ضد كافور مصر الإخشيدي الأسود لأسبابه الخاصة ... لكنه مع زنوج البصرة ومع حقهم في أن يثوروا على خليفة بغداد العباسي وعلى من ظلمهم وإستعبدهم وأجاعهم وأذلّهم .
قلت ما دمنا بلغنا هذا المستوى من نضج الأفكار وجدية النقاش الذي لا يخلو من طرافة ... وما دمت ُ قد إكتشفت ُ أن صاحبي المتنبي مع الثوار المستعبدين والمستضعفين في الأرض وكل المطالبين بحق مشروع ... فلأفتح معه موضوعا ً آخرَ ذا صلة مباشرة بصُلب هذا الموضوع . أقصد ثورة أخرى قام بها في الكوفة رجل علوي كمحمد بن علي صاحب زنج البصرة إسمه ( يحيى بن عمر العلوي ) . خرج هذا الثائر العلوي في الكوفة أيام الخليفة العباسي ( المستعين 248 ــ 252 هجرية ) فلقي َ مصرعه فرثاه الشاعر ( إبن الرومي ) رثاء ً يقال عنه مؤثراً [[ * ]] .
إكتمل إذا ً المقام وإكتمل النِصاب ! ثائر علوي في الكوفة مسقط رأس الشاعر المتنبي ... وشاعر يُرثي هذا الثائر الفاشل في ثورته . فالكوفة تمثل الجسر الرابط بين هذه الأحداث الجسام ، وكذلك الشاعران .

ثائر علوي + الكوفة + إبن الرومي الشاعر
شاعر علوي ( المتنبي ) + الكوفة

الكوفة وعلوية الثائر ( يحيى ) والشاعر ( المتنبي ) ، ثم شاعرية شاعرين هما المتنبي نفسه وإبن الرومي .

الكوفة + علوية الثائر والشاعر + شاعرية شاعرين . هذه هي عناصر الملحمة التي بدأها علوي سقط شهيدا ً عام 249 هجرية في كوفة العراق وإختتمها شاعر علوي سقط قتيلا ًغيلة ً عام 356 هجرية قُرب َ النعمانية بين واسط وبغداد على أرض العراق . كلاهما عراقي وكلاهما قتيل !! تضافرت عناصر ثلاثة هي : الكوفة ( الأرض والأرضية ) والمذهب العلوي ( التشيّع ) ثم الشعر . الشاعر وُلد هناك والثائر سقط هناك قتيلا ً وما بين هذين الحدثين قرابة مائة عام .
والله إنها لمسألة غاية في الطرافة ... فلأفتح َ هذا الموضوع مع صاحبي ما دمت قد عرفت ُ موقفه من الثوار المطالبين بحقوقهم المشروعة .
بعد نقاشات قصيرة هنا وهناك حول هذا الموضوع أو ذاك والحديث عن تقلبات الجو بين الشتاء والربيع وتساقط المطر المفاجئ وبعض الثلوج خارج مواسمها المعروفة ... طرحت ُ موضوع قيام العلوي يحيى بن عمر بالثورة في الكوفة وعصيانه خليفة بغداد ( المستعين بالله ) . سألته قبل أن يجيب عن موقفه من أمثال هذه الثورات وعن أسباب فشلها المرة تلو المرة منذ محاولة الحسين بن علي وإستشهاده في كربلاء عام 61 للهجرة ، ثم ثورة زيد بن علي [ السجّاد زين العابدين ] بن الحسين بن علي ومقتله هو الآخر في الكوفة زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 121 للهجرة . قال هذا موضوع عويص معقد وتلزمه تهيئة جيدة وتفكير هادئ ... أمهلني ، قال المتنبي ، ... أمهلني فربما نعود إلى مناقشة هذا السؤال في لقاء آخر . أتحب أن يكون اللقاء القادم معك في بيتك الأرضي أم معي هنا على سطح كوكب المريخ / مارس ... إله الحروب ؟ بل أفضِّل أن نناقش الأمر هنا معك على كوكب المريخ ، قلت للمتنبي ، لأننا سنناقش أمورا ً لا تختلف كثيرا ً عن طبائع وتفصيلات الحروب ... الثورات والعصيانات ، وسكنك يا متنبي على ميدان مختص بالحروب وربّه ربُّ حرب إسمه ( مارس ) ... أليس كذلك ؟ قال أتفق تماما ً معك . هل أصطحبك حتى منصة إطلاق الصاروخ العائد للأرض ؟ لا ، سأجد طريقي بنفسي .

[[ * ]] الدكتور أحمد عُلبي / ثورة الزنج وقائدها علي ٌّ بن محمد . دار الفارابي
عدنان الظاهر نيسان ( أبريل ) 2007


المتنبي وبعض الثائرين

(( 22 ))

www.mars.com

قلت ُ فلأزر ْ صديقي المتنبي في مكان إقامته على كوكب المريخ الذي إختاره إحتجاجا ً على ما وصلت إليه الحالة في العراق ... حتى تم تدمير الشارع الذي يحمل إسمه وإختلطت دماء مرتاديه بحطام مكتباته وحرائق ما فيها من كتب . معه كل الحق . أرادوا رفع إسمه عن هذا الشارع فلم يستطيعوا ولن . إختلطت دماء محبيه وعارفيه من العراقيين من عشّاق الثقافة ورواد محلات بيع الكتب بالتراب وحطام السقوف المنهارة والجدران المتهاوية على رؤوس الأبرياء كما سبق وإن ْ إختلطت دماء الشاعر العراقي الكوفي أبي الطيّب المتنبي بتراب ( دير العاقول ) بين النعمانية وبغداد عام 356 للهجرة . الدم واحد : دم ٌ عراقي صميم . التراب واحد : تراب عراقي صميم . الخلطة واحدة : دم ٌ معجون ومُداف ٌ ببعض تربة العراق . والقاتل واحد : مجرم لا يعرف معنى الثقافة ولا يعيرها أي وزن . قاتل جاهل حقود يائس . قتلوا المتنبي بالأمس وهو من هو ... الشاعر الأكبر وأحد رموز العراق بل وإحدى درر تاج العراق وبعض مفاخره من أمثال جلجامش وحمورابي . قتلوه لأنه الشاعر الفحل الذي طبّقت شهرته الآفاق ومن ثم َّ وصفوه ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) .
زرت صاحبي حيث يقيم منذ التاسع من نيسان 2003 فكان مهيأ ً لزيارتي تهيئة جيدة ... البيت نظيف مرتّب والطعام جاهز ٌ وعلى أحسن ما يكون . مَن طبخ هذا الطعام يا متنبي ؟ سألته بعد أن رحّب بي ترحابا ً حارا ً / لأنني لم أزره هناك منذ فترة طويلة / فقال : ومن تتصور يطبخ لي طعامي ؟ إبتسمت ُ متخابثا ً فمضيت خطوة أخرى لإستفزاز صاحبي فأجبته ومَن غير صديقتك إياها ... صاحبتك أو حبيبة قلبك التي دأبت أن تتبادل رسائل الرومانس معك لحقبة طويلة من الزمن ؟ قال صحيح إنها تزورني بين حين وآخر لكني عودتها أن تأتي فتأكل ما أعد ُّ لها من طعام لا أن تأتي لتطبخ لنا ما نأكل . إنها حقوق الضيف وواجبات الضيافة يا رجل ... أضاف قائلاً . ونحن على مائدة الطعام قال المتنبي كان الإتفاق أن تزورني هذا اليوم لتبحث معي موضوعا ً آخرَ لا علاقة له بالهوى والرومانس والنسيب والتشبيب . ظل ينتظر جوابا ً أو توضيحا ً مني . واصلت مضغ ما في فمي من طعام فظنني لم أسمع أو أهملت ملاحظته . أعاد علي َّ الملاحظة فقلت أظنك تقصد موضوع علاقاتك مع بعض الثوار العرب ممن خرجوا على سلاطين أزمنتهم فلم يحققوا أمانيهم وطموحاتهم ... فشلت إنتفاضاتهم فعُذّبوا ثم قتلوا وقطعت رؤوسهم وصلبوا على جذوع نخيل العراق أو داست الخيول العربية الأصيلة على أجسادهم المقطّعة . قال أعلى مائدة الطعام تريد مناقشة هذه المآسي معي ؟ عفوا ً أبا الطيّب ، قلت ُ ، بل سأناقش هذا الموضوع معك بعد الغداء . على كؤوس الشاي . هز َّ المتنبي رأسه موافقاً .
أردت ُ أن أفتح الموضوع إياه ونحن نحتسي أكواب الشاي الممتاز الذي لا وجود َ له في أسواق أهل الأرض فقاطعني قائلاً قل بادئ ذي بدء أيا ً من ثوار العرب الفاشلين تود مناقشة موضوع علاقتي به ؟ صاحب الزنج ... علي بن محمد الذي ثار في ظاهر البصرة زمن الخليفة العباسي
( المهتدي ) في 25 شوّال عام 255 للهجرة ... أجبته . قال ولِم َ إخترت َ هذا الرجل قبل سواه ، علما ً أني صادقت غيره وتعلق بي وبشعري سواه من الثوار المقاتلين الشجعان ؟ سؤالك وجيه يا أبا الطيب ، نعم يحمل كل الوجاهة . قال كيف ؟ لأن َّ هذا الرجل الثائر شاعر مثلك أولا ً ، ولأنه مثلك يدّعي إنتماءه للنسب العلوي ثانياً ، وأخيرا ً كان له شأن خطير مع سودان الوجوه والجلود من البشر ... عبيد البصرة ، زنوج إفريقيا ولك موقف معروف من هذه الفئة من الناس . قال تقصد ما قلت ُ في كافور الإخشيدي الأسود إثر َ جفوتي معه في فسطاط مصر حيث قلت :

لا تشتر ِ العبد َ إلا َ والعصا معه
إن َّ العبيد َ لأنجاس ٌ مناكيدٌ
من علّم َ الأسود َ المخصي َّ مَكُرمة ً
آباؤه البيض ُ أم أجداده ُ الصيد ُ

أم أُذنه ُ في يد ِ النخّاس ِ دامية ٌ
أم قدرُه ُ وهو بالفلسين ِ مردودُ ؟

قلت نعم ، هو كذلك . ظل َّ صاحبي متماسكا ً محايدا ً لم يبد ُ عليه أي أثر لرد فعل أو ما شابه ذلك . أشعل سيجارة كما هو حاله في مثل هذه المواقف وواصل شرب الشاي . أراح نفسه قليلا ً ثم إستجاب لحججي قائلا ً إسمع يا هذا ، كان الرجل شاعراً ... نعم ، ولكن ضاع أغلب ُ شعره بعد مقتله . بل وأغلب ظني أن حاشية الخليفةالعباسي وزبانيته وجنده هم مَن أتلف أشعاره وخطبه النارية في محاولة منهم أن يطمسوا على آثاره حيا ً وميتاً . تماما ً كما فعل هولاكو ببغداد وبأهل بغداد وبتراثهم وكتبهم وما خلّفوا من آثار حضارية وثقافة وعلم . وتماما ً مثل ما حدث أخيرا ً في شارع المتنبي كما تعلم . أما الأمر الثاني ... قصة نسب علي بن محمد قائد ثورة زَنج البصرة فلا تعليق َ لي عليه . فلقد حار الناس ُ في أمره وإنقسموا بين ناكر ٍ له ومؤيد . أما نسبي العلوي فلا غُبار َ عليه وإن ْ إستكثر ذلك علي َّ بعض الخصوم وجلّهم من الشعراء أو الأدباء لأسباب شخصية محضة ... الغيرة والحسد ... غاروا مني وحسدوني لعلوِّ شأني الشعري ورفعة مقامي بين القبائل والبلدان . أراح نفسه قليلا ً قبل أن يواصل كلامه بهدوء وإعتداد وثقة فقال : أما الأمر الثالث فلي فيه وجهة نظر قد لا يصدقها المعاصرون . ما هي يا أبا الطيّب ؟ قال إسمعْ : خصومتي مع كافور الأسود شيء وتضامني مع شعب أسود زنجي ثائر شئ آخر . أنا معهم قلبا ً وقالباً . كانوا قوما ً مقهورين مستعبدين يكدحون ليلا ً ونهاراً وبالكاد يحصلون على رغيف خبز يشبع بطونهم الخاوية . كانوا يستصلحون الآراضي الموات والسباخ ويجففون الأهوار وينتجون الدبس من تمور البصرة لكنهم يموتون من الضنى الجسدي والجوع أثناء ساعات عملهم الشاقة . ثاروا من أجل قضية سامية ... من أجل حريتهم وإنسانيتهم ومعاملتهم أُسوة ً بسواهم من مواطني الخلافة العباسية الإسلامية وكانوا جميعا ً قد إعتنقوا الإسلام . أنا معهم رغم سواد جلودهم وكنت ُ سأكون مع غيرهم مهما كانت ألوان بشرتهم ووجوههم . لا جدل َ في الدفاع عن حرية الإنسان وآدميته وشبع بطنه وضمان أمنه وأمن عياله. كانوا قوما ً مظلومين أما كافور الإخشيدي فكان رجلا ً ظالما ً لا مظلوما ً وكان متآمرا ً وقاتلاً . تآمر على حياة سيده ليغتصب سلطان مصر وليصبح عزيزها الأوحد لذا قلت ُ فيه :

أكلما إغتال َ عبد ُ السوء ِ سيدَه ُ
او خانه ُ فله ُ في مصر َ تمهيدُ

أجل ، واصل الكلام ، كان كافور مجرما ً قاتلا ً ولئيما ً ومبطّنا ً وكاذبا ً من الطراز الأول فكيف تريدني أن لا أهجوه بما يستحق من بذئ الكلام ؟
كم مرّة وعدني بإقطاع شاسع في أرض مصر أو إمارة العراق لكنه أخلف في كل مرة وعده وجبُن عن التنفيذ . بصراحة ... لا أحترم ُ رجلا ً لا يلتزم بما يقول من كلام ولا يفي بما يقطع على نفسه من وعود . لذا قلت فيه :

جود ُ الرجال ِ من الأيدي وجودُهم ُ
من اللسان ِ فلا كانوا ولا الجودُ

شتان َّ ما بين هذا الأسود المخصي وأولئك السود المغبونين الشجعان الثائرين حفاة ً عُراة ً سلاحهم جذوع النخيل وسيقان البردي والقصب وما في أيديهم من مناجل وسواها من أدوات زراعية بدائية . شتان ما بين دم يغلي بالثورة في العروق في بطائح ومستنقعات وسباخ جنوب العراق ودم يغلي بالخمرة وليالي الدفوف والأعواد والطرب وهز ِّ الأكتاف والأرداف والمجون في قصور على نهر النيل باذخة منيفة . أنا مع المظلومين ضد الظالمين . ثم ، أضاف ، لا تنس َ أني بدأت حياتي ثائراً مع القرامطة في الكوفة وبادية السماوة أيام الشباب والإفلاس والصعلكة . وكما هو الحال مع الكثير من ثوار اليوم ... تركت ُ الثورة يوم أن أثريت ُ وتحسنت أموري المالية والمعاشية والإجتماعية وأصبح لي من الشهرة نصيب واسع وصيت عريض كشاعر يتحدى جميع شعراء عصره . أقنعني منطق الرجل إذ كان صريحا ً ودقيقا في كل ما قال . المتنبي إذا ً ضد كافور مصر الإخشيدي الأسود لأسبابه الخاصة ... لكنه مع زنوج البصرة ومع حقهم في أن يثوروا على خليفة بغداد العباسي وعلى من ظلمهم وإستعبدهم وأجاعهم وأذلّهم .
قلت ما دمنا بلغنا هذا المستوى من نضج الأفكار وجدية النقاش الذي لا يخلو من طرافة ... وما دمت ُ قد إكتشفت ُ أن صاحبي المتنبي مع الثوار المستعبدين والمستضعفين في الأرض وكل المطالبين بحق مشروع ... فلأفتح معه موضوعا ً آخرَ ذا صلة مباشرة بصُلب هذا الموضوع . أقصد ثورة أخرى قام بها في الكوفة رجل علوي كمحمد بن علي صاحب زنج البصرة إسمه ( يحيى بن عمر العلوي ) . خرج هذا الثائر العلوي في الكوفة أيام الخليفة العباسي ( المستعين 248 ــ 252 هجرية ) فلقي َ مصرعه فرثاه الشاعر ( إبن الرومي ) رثاء ً يقال عنه مؤثراً [[ * ]] .
إكتمل إذا ً المقام وإكتمل النِصاب ! ثائر علوي في الكوفة مسقط رأس الشاعر المتنبي ... وشاعر يُرثي هذا الثائر الفاشل في ثورته . فالكوفة تمثل الجسر الرابط بين هذه الأحداث الجسام ، وكذلك الشاعران .

ثائر علوي + الكوفة + إبن الرومي الشاعر
شاعر علوي ( المتنبي ) + الكوفة

الكوفة وعلوية الثائر ( يحيى ) والشاعر ( المتنبي ) ، ثم شاعرية شاعرين هما المتنبي نفسه وإبن الرومي .

الكوفة + علوية الثائر والشاعر + شاعرية شاعرين . هذه هي عناصر الملحمة التي بدأها علوي سقط شهيدا ً عام 249 هجرية في كوفة العراق وإختتمها شاعر علوي سقط قتيلا ًغيلة ً عام 356 هجرية قُرب َ النعمانية بين واسط وبغداد على أرض العراق . كلاهما عراقي وكلاهما قتيل !! تضافرت عناصر ثلاثة هي : الكوفة ( الأرض والأرضية ) والمذهب العلوي ( التشيّع ) ثم الشعر . الشاعر وُلد هناك والثائر سقط هناك قتيلا ً وما بين هذين الحدثين قرابة مائة عام .
والله إنها لمسألة غاية في الطرافة ... فلأفتح َ هذا الموضوع مع صاحبي ما دمت قد عرفت ُ موقفه من الثوار المطالبين بحقوقهم المشروعة .
بعد نقاشات قصيرة هنا وهناك حول هذا الموضوع أو ذاك والحديث عن تقلبات الجو بين الشتاء والربيع وتساقط المطر المفاجئ وبعض الثلوج خارج مواسمها المعروفة ... طرحت ُ موضوع قيام العلوي يحيى بن عمر بالثورة في الكوفة وعصيانه خليفة بغداد ( المستعين بالله ) . سألته قبل أن يجيب عن موقفه من أمثال هذه الثورات وعن أسباب فشلها المرة تلو المرة منذ محاولة الحسين بن علي وإستشهاده في كربلاء عام 61 للهجرة ، ثم ثورة زيد بن علي [ السجّاد زين العابدين ] بن الحسين بن علي ومقتله هو الآخر في الكوفة زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 121 للهجرة . قال هذا موضوع عويص معقد وتلزمه تهيئة جيدة وتفكير هادئ ... أمهلني ، قال المتنبي ، ... أمهلني فربما نعود إلى مناقشة هذا السؤال في لقاء آخر . أتحب أن يكون اللقاء القادم معك في بيتك الأرضي أم معي هنا على سطح كوكب المريخ / مارس ... إله الحروب ؟ بل أفضِّل أن نناقش الأمر هنا معك على كوكب المريخ ، قلت للمتنبي ، لأننا سنناقش أمورا ً لا تختلف كثيرا ً عن طبائع وتفصيلات الحروب ... الثورات والعصيانات ، وسكنك يا متنبي على ميدان مختص بالحروب وربّه ربُّ حرب إسمه ( مارس ) ... أليس كذلك ؟ قال أتفق تماما ً معك . هل أصطحبك حتى منصة إطلاق الصاروخ العائد للأرض ؟ لا ، سأجد طريقي بنفسي .

[[ * ]] الدكتور أحمد عُلبي / ثورة الزنج وقائدها علي ٌّ بن محمد . دار الفارابي
v




#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصابئة المندائيون
- الشعراء والأديان الأُخرى
- مع أبي محسد المتنبيء في أوربا
- أطياف الندى
- السامري
- تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر
- كيف يحصل التلوث في الكون؟ - البيئة والكيمياء والسموم.. زواج ...


المزيد.....




- كيف تستعد إسرائيل لاحتمال إصدار مذكرة اعتقال دولية لنتنياهو؟ ...
- منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بش ...
- الأمم المتحدة: الطريق البري لإيصال المساعدات لغزة ضرورة
- الداخلية التركية تعلن اعتقال 23 مشتبها بانتمائهم لـ-داعش- بع ...
- تقرير كولونا... هل تستعيد الأونروا ثقة الجهات المانحة؟
- قطر تؤكد اهتمامها بمبادرة استخدام حق الفيتو لأهميتها في تجسي ...
- الكويت ترحب بنتائج تقرير أداء الأونروا في دعم جهود الإغاثة ل ...
- كيان الاحتلال يستعد لسيناريو صدور مذكرات اعتقال بحق قادته
- سويسرا تؤجّل اتّخاذ قرار حول تمويل الأونروا
- السودان: خلاف ضريبي يُبقي مواد إغاثة أممية ضرورية عالقة في م ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عدنان الظاهر - المتنبي وبعض الثائرين