أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - بمناسبة بلوغه الثمانين: ماركيز بين روايتين















المزيد.....

بمناسبة بلوغه الثمانين: ماركيز بين روايتين


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1880 - 2007 / 4 / 9 - 10:58
المحور: الادب والفن
    


ها هو يقترب من الثمانين، الشخص الأكثر شعبية في مناطق واسعة من أميركا اللاتينية، وواحد من الأدباء القلائل في العالم الذين يزاحمون فناني السينما والرياضيين على الشهرة والنجومية.. غابريل غارسيا ماركيز المولود في بلدة أراكاتاكا في كولومبيا في العام 1928، يعدّه مواطنوه رمزاً للكرامة القومية ومفخرة للوطن، له علاقات واسعة مع أصحاب السلطة في بلدان مختلفة، وحتى مع رؤساء عصابات، وهو موضع ثقة دائمة حتى عند أكثر الأشخاص تشككاً مثل فيدل كاسترو، وقد كُلِّف مرات عديدة ليكون وسيطاً للتفاوض بين الجهات المتعادية والمتقاتلة بالسلاح. وينتقده بعضهم كونه يحب التقرب من السلطة على الرغم من أنه لا يحبها، ويستمتع في أداء دور الوسيط في الأزمات. وكولومبيا التي أنهكته الحرب الأهلية طوال قرن أو أكثر منذ استقلالها عن إسبانيا في العام 1819 وما زالت تعاني من الفقر وتجارة المخدرات والصراعات السياسية الدامية وانتشار العصابات بقيت المادة الخام الأساسية لرواياته ولا سيما في البيئة التي عاش فيها ( قريته أراكاتاكا ) والتي أنشأ بمخياله الخصب مكاناً موازياً لها في أعماله الروائية الكبيرة وهي ( ماكوندو ) لتكون فضاءً حياً لجزء مهم من عالمه الروائي.
في بلد مضطرب مثل هذا، والذي يقول عنه أنه المتفائل الوحيد فيه، اشتغل ماركيز في الصحافة منذ الخمسينيات بعد أن اكتشف في نفسه موهبة الكتابة مبكراً، ولم يستطع إكمال دراسته الجامعية في القانون نزولاً عند رغبة أبيه، تاركاً الجامعة الوطنية في بوغوتا التي التحق بها، فسافر كثيراً إلى أوروبا وأميركا حتى قبل أن ينال الشهرة، وكان مراقباً ذكياً لما يحدث حوله بعدما تمثل تاريخ بلده والقارة الحديث، ووعى جذور المشكلة بحس ماركسي في الغالب، وفهم لغز السلطة كما يؤكد، فكتب عمليه الكبيرين: ( مائة عام من العزلة ) وهي ترنيمة شيقة وحزينة عن المعضلة البشرية، عن البشر في حبهم وكرههم وقسوتهم وغرابة أطوارهم ومعتقداتهم المتشربة بالخرافة، وعزلتهم في بيئة تسودها أجواء سحرية وموتهم. ورواية ( خريف البطريرك ) التي كانت هجاءً مقذعاً، أشبه ما تكون بكوميديا سوداء، للسلطة المستبدة في أنانيتها وقسوتها ودناءتها وأوهامها وعزلتها، وما تحمل في أحشائها من بذور دمارها ودمار ما يحيطها.
يشير ماركيز في أكثر من مناسبة إلى أن ما كتبه من أشياء وأحداث ومفارقات لامعقولة وغريبة لم تكن من بنات خياله وإنما استلهمها واستمدها من الواقع الذي عاشه، وأن أي سائق تاكسي في كولومبيا يمكن أن يحكي لك ــ كما يقول ــ ما حكاه هو في رواياته وقصصه، هو المغرم بالحكايات، هو الذي ترعرع في منزل تُسرد فيه الحكايات، وبيئة منتجة لكل ما هو خارق وخرافي وساحر. فماركيز ابن تجربته الغنية وقد وهبه الله القدرة على الحكي، ووجد هدف حياته في أن يحكي، فعاش ليحكي.
( عشت لأحكي، أو لأروي ) هذا هو عنوان كتاب سيرته الذي وضعه بعدما علم أنه مصاب بالسرطان، وأنه قريب جداً من الوادي الأخير وهو يهبط سفح الحياة من الجهة الأخرى، على حد تعبير هيرمان هيسه. وما يبغي ماركيز أن يرويه على الدوام، في معظم أعماله المعروفة، هو فعل الزمن في الإنسان، فعله في عقله وروحه، في مزاجه ورغباته وأفكاره، مع مقاومة لا تهادن ضد ذلك الفعل، وضد الزمن. فيما تجري استعادة دائمة للذكريات مغلفة بالأسى والشجن، وببعض الأسف والندم، فأناس ماكوندو الصامتين كما يصفهم ماركيز في رواية ( عاصفة الأوراق ) هدتهم الذكريات، وهم في عزلتهم.. ما فقدوه، وما يتوهمون أنه كان لهم وفقدوه. وبمعنى ما فإن روايات ماركيز تدور، في حقيقتها، حول العزلة والفقدان. عمّا كان وضاع. هذا ما يحدث للكولونيل، في سبيل المثال، في رواية ( ليس لدى الكولونيل من يكاتبه ) وللجنرال بوليفار في رواية ( الجنرال في متاهته )، وكذلك للكولونيل بوينديا في رواية ( مائة عام من العزلة ).
ثمة إصرار غريب يطبع سلوك كثر من شخصيات ماركيز.. إصرار صبور، صادم، ويكاد يكون لا معقولاً، أحياناً.. في رواية ( الحب في زمن الكوليرا ) سينتظر ( فلورنتينو أريثا ) نصف قرن، وسيكون إذ ذاك في الخامسة والسبعين من عمره، ليفصح لـ ( فيرمينا داثا ) عن حبه كرّة أخرى. ليجدد عهد وفائه، مثلما سيعترف، للمرأة التي رفضته بعد وصال قصير، حين كان في الخامسة والعشرين، وتزوجت غيره، فقرر هو من يومها أن لا يتزوج ريثما يموت زوجها، والذي سيموت بعد خمسين سنة. هكذا، متشبثاً بالحياة، على الرغم من الشيخوخة. وها هو راوي رواية ( ذاكرة غانياتي الحزينات ) يعلن منذ البدء "في السنة التسعين من سنوات حياتي، رغبت في أن أهدي إلى نفسي ليلة حب مجنون، مع مراهقة عذراء" ص7. هو الصحافي الذي يكتب عموداً أسبوعياً منذ عقود طويلة في صحيفة محلية، سيكون عليه أن لا يجعل مقاله في ذكراه "مجرد حسرة على السنوات الذاهبة، وإنما العكس تماماً. تمجيد الشيخوخة" ذاكرة ص11.. إنه يعي مدى الخراب الذي تركته السنون على جسده، وحين ينظر في المرآة يرى "الحصان الذي نظر إليّ من الجانب الآخر، لم يكن ميتاً وإنما كئيباً، وله غبب تحت ذقنه كغبب البابا، وجفنان منتفخان، وناصية الموسيقي التي كانت له قد تهدلت.." ذاكرة ص27. لكنه، في الوقت نفسه، غير محبط، ويحمل بين جوانحه مقداراً هائلاً من الرغبة في الاستمرار.
شيّد ماركيز عالماً روائياً خاصاً به، ليس من خلال اللغة والأسلوب ونمط الشخصيات وبناء الحدث وطرق السرد وحسب، وإنما عبر إيجاد أرضية جغرافية وتاريخية متعينة لذلك العالم، تماماً مثلما فعل وليم فوكنر حين اختلق إطاراً مكانياً لرواياته مقاطعة متخيلة اسمها (يوكنا باتاوفا ) وهي تشبه، إلى حد بعيد، المقاطعة التي ولد وعاش فيها ( نيو ألباني قرب أكسفورد في المسيسبي )، لتتكرر الأسماء وأجزاء من الأحداث المسرودة بين بعض من رواياته وقصصه القصيرة.. بالمقابل ابتدع ماركيز قرية، أو بلدة (ماكوندو ) وهي تشبه أيضاً، القرية التي ولد وعاش فيها، وكان فوكنر أحد ملهمي ماركيز. وماركيز نفسه يعترف في مقابلة مع بيلينيو أبوليو مندوزا؛ "إن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، ولكن في تدميره. لقد كان تأثيره يشل حركتي".
وقبل أن ينشر ماركيز روايته ( مائة عام من العزلة ) التي كانت السبب في ذيوع شهرته وحصوله على جائزة نوبل للآداب ( 1982 ) كتب ونشر بضعة أعمال روائية لم تثر اهتمام القراء والنقاد منها ( ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، حكاية غريق، عاصفة الأوراق ) بيد أن هذه الأعمال لم تلفت إليها الانتباه إلا بعد صدور وانتشار أعماله الكبيرة.
تنتمي رواية ( عاصفة الأوراق )* إلى تلك الفترة المبكرة من حياة ماركيز الإبداعية حيث كان يشتغل في الصحافة ويعاني العوز والإهمال.. كان في تلك الآونة أكثر حرية وهوساً بالتجريب، وإقداماً على المغامرة، هو الذي بقي يجرّب ويغامر، وإن بدرجة أقل، كلما ذاع صيته أكثر وضغط عليه هاجس الاحتفاظ بالمستوى الإبداعي العالي لكل عمل جديد حاسباً حساب نقاده المتربصين ومتلقيه المنتظرين الذين يريدون من الحاصل على جائزة نوبل للآداب ما هو متقن ورائع ويقترب من الكمال، إلى جانب العبء الذي يفرضه إصدار بضع روايات كبيرة مدوية، حيث تجري المقارنة القاسية بين ما كُتب وصدر قبلاً، وما كُتب وصدر الآن. والجزء الأخير من هذا الكلام ينطبق على رواية ماركيز الجديدة ( ذاكرة غانياتي الحزينات )** التي تعكس أسلوب ماركيز، ومقدرته الفذة في السرد الروائي، وتحمل بصماته، لكنها لن تصمد بعدِّها عملاً كبيراً إزاء روايات ماركيز الأخرى التي ذكرناها.
أما ( عاصفة الأوراق ) فتبدو وكأنها ترهص لرواية ( مائة عام من العزلة ) فهناك القرية عينها التي تجري فيها الأحداث ( ماكوندو ) وإشارة إلى الكولونيل بوينديا، فضلاً عن المسحة السحرية الغرائبية التي تفعم أجواء الرواية، ولغة الروائي المتدفقة بجملها الطويلة، واستعاراتها المدهشة. ومقطع مثل هذا مستل من ( عاصفة الأوراق ) لا بد أن يذكِّر بـ ( مائة عام من العزلة ):
"هناك وقت تنقطع فيه فترة القيلولة، وتتوقف أثناء ذلك حتى أدق الحركات السرية، الخفية للحشرات. كما أن دورة الطبيعة تتوقف هي الأخرى؛ ويتعثر الخلق على حافة الفوضى وتنهض النساء، وقد سال اللعاب منهن، وانطبعت فوق خدودهن ورود المخدات المطرزة، وهن يختنقن من الحرارة والضغينة، وعندها فإنهن يفكرن مع أنفسهن؛ لا يزال اليوم في ماكوندو هو الأربعاء" عاصفة ص61.
وعاصفة الأوراق هي كناية تكاد تكون ساخرة عن شركة الموز ( الاحتكارية الأميركية ) التي ستدخل البلدة لتغير شكل حياتها، وتخرج منها تاركة الخراب والذكريات الحزينة.
تبدأ رواية ( مائة عام من العزلة ) بمشهد للكولونيل بوينديا وهو أمام فصيل الإعدام يتذكر حادثة رؤيته للثلج للمرة الأولى، في أثناء استعراض لفرقة سيرك جوّالة، أما رواية ( عاصفة الأوراق ) فتبدأ مع حادثة موت طبيب قرية ماكوندو الذي لن نعرف اسمه، أو من أين جاء، وكان قد استضافه في منزله لخمس سنوات كولونيل متقاعد في القرية على إثر رسالة توصية موقعة من الكولونيل بوينديا حملها الطبيب معه. وشخصية الطبيب هذا غريبة، فهو منذ أول جلوس له على مائدة الطعام، في منزل الكولونيل سيطلب حشيشاً ليأكل، وحين تسأله زوجة الكولونيل؛ أي نوع من الحشيش يقصد، سيقول؛ "حشيش عادي يا سيدتي، من ذلك النوع الذي تتعاطاه الحمير" عاصفة ص28.
تستحوذ ثيمتي الحب والموت على الروايتين كما هي الحال في معظم روايات ماركيز، على الرغم من أن ثيمة الموت تبدو أكثر بروزاً في ( عاصفة الأوراق )، فيما تبرز في رواية ( ذاكرة غانياتي الحزينات ) ثيمة الحب، ويمكن أن نقول أن ما نستشفه من خلال قراءة الرواية الأولى هو معضلة غياب الحب، فالميل إلى التوحد في شخصية الطبيب ربما كان بسبب الأنانية، أو عدم القدرة على التواصل، وقد يكون بسبب عدم القدرة على الحب، أو على الأقل فشل تلك الشخصية في إظهار هذا الحب والتعبير عنه، مما ولّد لديه تلك النزعة المدمرة إلى الاختباء خلف جدران بيته والاستغراق في حالة من العدمية. وإذ بدأ حياته في ماكوندو طبيباً يمارس مهنته بجدية فإن مجيء شركة الموز إلى البلدة وقيام مؤسسات جديدة، منها عيادة خاصة بالعمال أصاب مهنته، طبيباً، بالكساد، وحين غادرت الشركة انكفأ الطبيب على نفسه ورفض العودة إلى ممارسة المهنة ثانية حتى حين أحضر الأهالي إلى بابه عدداً كبيراً من الجرحى من الذين سقطوا، لما اجتاح البرابرة المسلحون ماكوندو، وعصف بالبلدة ذلك الرعب، قال؛ " لقد نسيت كل ما له صلة بهذه المهنة، فخذوهم إلى مكان آخر" عاصفة ص127. وكاد الأهالي يشعلون البيت ويحرقونه وهم يرون رجالهم ونساءهم يموتون، فظهر ( ألبب ) القس الذي جاء في اليوم نفسه الذي جاء فيه الطبيب إلى البلدة ليحول دون تنفيذ ما رامت الناس القيام به. ومنذ ذلك الحين أصبح الطبيب موضع كراهية شديدة من أهل ماكوندو الذين صبّوا عليه اللعنات، وقرروا أن يتركوه ساعة يموت ليتعفن في بيته من غير أن يُدفن حتى تنتشر رائحته الكريهة في الأرجاء. والتوتر في السرد يكمن، ها هنا، وعد الكولونيل له بدفنه، ورغبة أهل ماكوندو بمعاقبته بتلك الطريقة الرهيبة.
يستدعي الكولونيل العمدة ليعطيه إذناً بالدفن إلاّ أن العمدة يتردد في أول الأمر قبل أن يقرر إعطاء الإذن في تلك الظهيرة القائظة، بعد أن تأكد من أن مرور السنين جعل الناس تنسى، أو لا تبالي، أو تغفر.
إن حكاية حضور الطبيب إلى البلدة وموته تسرد لنا من وجهة نظر ثلاث شخصيات هي؛ الكولونيل الجد، وابنة الكولونيل، وحفيده. وهذه الطريقة تذكرنا بما فعل وليم فوكنر في رواية ( الصخب والعنف ) وأكثر في رواية ( وأنا أحتضر ) إذ يتناوب الرواة في سرد ما يجري ليكمل بعضهم بعضاً في إنشاء كلية السرد.
بين تاريخ كتابة روايتي ( عاصفة الأوراق/ 1955 ) و ( ذاكرة غانياتي الحزينات/ 2004) مسافة زمنية تقرب من النصف قرن، ولا شك أن تجربة ماركيز الفنية، في غضون هذه المدة، قد نضجت، وكذلك رؤيته.
يقول أن قراءه من اليابانيين كانوا يتصورونه من أصول يابانية، ويشيرون إلى تشابه عوالمه مع تلك التي تزخر بها الروايات التي كتبها كبار كتّاب اليابان، ولهذا ذهب ذات يوم إلى المكتبة واقتنى كل ما هو متوفر من الروايات اليابانية المترجمة، فتلمس ذلك الخيط السري الذي يصله بالسرد الياباني على الرغم من أنه لم يطّلع عليه من قبل. وسحرته رواية بعينها، ودَّ لو كان هو كاتبها، وهي رواية ( منزل الجميلات النائمات ) لياسوناري كاوا باتا، ويبدو أن أجواء هذه الرواية بقيت عالقة في ذهنه أو أنها استوطنت مكاناً ما، جد حميم، من عقله الباطن ليكتب فيما بعد، وهو يقترب من ثمانينياته، رواية عنونها بـ ( ذاكرة غانياتي الحزينات ) ومن قرأ الروايتين لا بدّ أن يتحسس نقاط التشابه بينهما في الإيقاع وتكثيف لغة السرد، وإلى حد ما في الأسلوب، وإلى حد بعيد في بنية الحدث ذاته ومناخه. فكلا الروايتين تحكي عن انجذاب متأخر، لرجل مسن، للأنوثة اليانعة وهي تتفتح.. هوىً يستيقظ على حين فجأة، ويتخذ منحى جسدياً، ليس متطلباً كثيراً، وليس بريئاً تماماً، مترعاً برغبة هادئة، متطامنة، وبخيالات ملونة مشدودة إلى حرارة الحياة، ولا تخلو من الأسى.
في رواية ( منزل الجميلات النائمات ) يرتاد العجوز أنغوشي منزلاً لا يشبه بيوت الدعارة التقليدية، ولا يعرض نساءً يبعن اللذة الحسية، ولا حتى على وفق طقوس فتيات الجيشا في اليابان.. منزل متسربل بالسرية والغرابة والغموض، يستقبل رجالاً مسنين يؤمِّن لهم النوم إلى جانب فتيات عذراوات نائمات، لن تتسنى لهن رؤيتهم، ولن يتسنى لهم معرفة أسمائهن، ولا يحق للرجل حتى وضع إصبعه في فم المرأة النائمة، ولا محاولة عمل أي شيء مشابه.
في رواية ( ذاكرة غانياتي الحزينات ) سيدخل العجوز/ الراوي الغرفة في بيت روسا كاباركاس السري ليجد فتاة عارية نائمة، عمرها لا يتعدى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. سيجلس إلى جانبها على السرير عارياً، ولن يحاول إيقاظها، لكنه سيلمسها " مررت بطرف سبابتي انزلاقاً على قفا عنقها المبلل، فارتعشت كلها من الداخل، مثل وتر قيثارة، وانقلبت باتجاهي بهمهمة، وأحاطتني بجو أنفاسها الحامضة. ضغطت أنفها بين إبهامي وسبابتي، فاهتزت، وأبعدت رأسها، وأولتني ظهرها دون أن تستيقظ" ذاكرة ص27.
إن وجود الفتاة النائمة على السرير عينه، يُشعل الخيال ويؤسس لذاكرة بديلة، لشيء لم يحدث، لكنه يعلق في الذاكرة، لا يُنسى؛ "أمر لا يُصدق: فأنا أراها وألمسها وهي من لحم وعظم، فتبدو لي أقل واقعية مما هي عليه في ذكرياتي" ذاكرة ص57.
سيمنح الصحافي العجوز هذه الفتاة اسماً افتراضياً مموسقاً ( ديلغادينا ) وسيرفض أن يعرف اسمها الحقيقي من صاحبة البيت السري، ومنذ الآن سيكتب مقالاته، هو ابن التسعين، لها، أياً كانت المسألة التي يتناولها، يبكي ويضحك من أجلها، ويتخيلها طوال الوقت في بيته، تجوب أنحاءه بخطواتها الخفيفة، وهنا ستظهر له جوانب من ذاته لم يكن يعرفها؛ " اكتشفت أنني لست منضبطاً بدافع الفضيلة، وإنما كرد فعل على تهاوني وتقصيري، وأنني أبدو سخياً لكي أواري خستي، وأنني أتظاهر بالتعقل والحذر، لأنني سيئ الظنون، وأنني أميل إلى المصالحة كي لا أنقاد لنوبات غضبي المكبوحة، وأنني دقيق في مواعيدي لمجرد ألاّ يُعرف مدى استهانتي بوقت الآخرين" ذاكرة ص59.
سيتفاجأ بنفسه واقعاً في حبها، حد الجنون، وحد الموت، حتى إذا انقطعت عن زيارة البيت بعد جريمة قتل عابرة حدثت في إحدى غرفه راح هو يبحث عنها على الرغم من أنه لا يستطيع تصور ملامحها وكيف هي في الواقع، مستيقظة ومرتدية لثيابها، إلى أن يدخل المصنع الذي تعمل فيه فتسأله إحدى العاملات إن كان هو من يكتب رسائل الحب في الجريدة.. يقول؛ "لم أتخيل قط أنه يمكن لطفلة نائمة أن تُحدث مثل هذا الخراب" ذاكرة ص80.
يعي العجوز أنه سيموت، سيكون ميتاً في هذه السنة، أو بعد مائة سنة، إلى أبد الآبدين، وان عليه أن يمضي بالأمر إلى النهاية، فروحه تستعيد حيويتها وارتعاشة شبابها فيفكر بالفتاة هذه، التي لم يكلِّمها قط، ولا يعرف عنها إلا القليل، يفكر أن يترك لها كل ما يملك ساعة يموت.
( ذاكرة غانياتي الحزينات ) رواية عن المناورة ضد تيار الزمن وتمجيد الشيخوخة، والهرب من التوحد والعزلة، وباختصار عن الحب والموت.

* ( عاصفة الأوراق ) غابريل غارسيا ماركيز.. ترجمة: مصطفى عبود.. دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق 2002.
** ( ذاكرة غانياتي الحزينات ) غابريل غارسيا ماركيز.. ترجمة: صالح علماني.. دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق 2005.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يُصادر كافكا وبوشكين؛ الإيديولوجيا والإنتاج الثقافي
- فيروسات بشرية
- جحا وابنه والحمار
- الأفضل هو الأسرع
- الإعلام العربي: سلطة الإيديولوجيا ومقتضيات العصر
- سنة موت ريكاردو ريس: المخيلة تنتهك التاريخ
- السياسة والكذب
- النخب العراقية ومعضلة تأصيل الهوية الوطنية
- عن الربيع والموسيقى والقراءة
- السياسة التي خربت نصف أعمارنا!!
- ( بورخس: مساء عادي في بوينس آيرس )
- كوميديا عراقية سوداء
- مغامرة الكتابة الروائية
- الحلم العراقي
- لماذا علينا نقد المثقف؟
- تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة
- المثقف بين الممنوع والممتنع
- صنّاع السعادة.. صنّاع التعاسة
- في بلاد حرة: نيبول ورواية ما بعد الكولونيالية
- الجمال في حياتنا


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - بمناسبة بلوغه الثمانين: ماركيز بين روايتين