أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح محسن جاسم - يبتسمُ الرجلُ الحديدي















المزيد.....

يبتسمُ الرجلُ الحديدي


صباح محسن جاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1851 - 2007 / 3 / 11 - 13:09
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
ذلك مساء تعس مر على "هاشم الحلاق" . لمن لم يسمع عن فن صناعته وقصّات الشعر التي ينتقيها ويتقنها سوف لن يبالي بحركات مقصه وتلك النغمات المتتابعة درجاتها وكأنه يصنع بمقصه سلما موسيقيا خاصا به.
أسرّه الطبيب الجراح أنه سعيد الحظ إذ انحرفت طلقة المسدس من على عظمة الفخذ دون أن تنفذ متخذة مسارها المنحني كتقويسة نصل منجل لتستقر أخيرا عند الجهة المقابلة.
حينها فقد وعيه . لم يحس بتلك السواعد التي احتضنته بعد إن زاغ الرجل الملثم تاركا داخل دكان الحِلاقة جثة لزبون نبش في رأسها الرصاصُ وقد تناثرت بقع الدماء على الجدران وتضاعفت آثارها على المرآة.
" كنت مأخوذا بفوهة المسدس المرتجفة وهي تلفظ مقذوفاتها النارية لتصب أخيرا على الرأس المستكين. كنت على وشك الانتهاء من زبوني حيث وضبت شاربيه وذقنه ولم يبق سوى ذؤابة رقبته من الخلف ، حين دوّى الرصاص وهوى الرجل قبل أن أشعر بصعقة من الكهرباء هوت على فخذي الأيمن."
" رائحة البارود ما تزال تكتم أنفاسي ، شعرت بطعمه داخل فمي . لم أعرف إن بصقت دما لكني بصقت ما في فمي. عجبا لتلك الدماء التي تبعثرت على كل موجودات المكان!"
سرعان ما ألفى نفسه بعد حين بين أسرّة جرحى وصراخ وعويل وأنين! أصوات نساء تصرخ بين الحين والآخر وعلى مدار الساعة ربما كانت ثلاجة الموتى مثار كل ذلك الاحتجاج أسفل طابق البناء الذي ضم العديد من أسرّة وأطباء ومساعديهم بصدارٍ بيض منشّاة . بعض الممرضات منهمكات تماما . العمل على قدم وساق وأنابيب تركب وأكياس للمغذي تعلق على حواملها وعربات تحمل دواء ومستلزمات طبية من لفافات للقطن ومشارط ومقصّات، تسلك ممرات القاعة الرئيسة. زرقات من سائل مندفع من حقن تجهز للزرق وأوراق تطوى لطبلات المرضى . كمامات الأوكسجين موزعة في أكثر من موقع..
إلى الجوار تمدد أحدهم في سريره دون حراك. بدت على جسمه شبكة من قضبان حديدية براقة وقد ملأت معظم جسمه . نمت من أسفل رقبته حتى ساقيه وقدميه وتجاوزتهما . شبكة من قضبان تسليح أشبه بـ ( سكلات ) هياكل الحديد المعدة في إنشاء البناء والأعمار. لم يبدِ حراكا عدا الرأس الذي أضحى كبندول ساعة.
من الصعب تفحص معالم ذلك الوجه الأسمر بدقة رغبة بفضول التعرّف على ذلك الكائن العجيب فقد كان يفصله وسرير زميل له شخص آخر لم يعرف عنه سوى ضحكاته المفاجئة والمبتورة على نحو مفاجئ.
الرجل الحديدي – كذلك يسميه جميع من في القاعة– لا يحرك رأسه تجاه اليمين الآ في حالات ضرورة يجدها إثر تنبيه زميله المجاور وهو ينقر بأصبعيه على حافة السرير الحديدي فيجازف بتحريك رأسه تجاه باب القاعة رغم شعوره بوجودها ، عندها يكون بمقدوره تأمل قوام الطبيبة الخافرة وهي تنبت بإطلالتها البهية كغصن متعرش لنبات اللبلاب تتفقد المصابين والجرحى حتى تقترب منه موجهة استفسارها لتطمئن أن كل شيء طبيعي وأنه ما زال قويا بكامل صحته. سرعان ما تضبط حركة "الكانونة" على معصمه وتقلل من تدفق قطرات كيس ماء الصوديوم بعدها تهمس دون أن تنظر إلى عينيه العسليتين فيما تبدو منشغلة بضبط العتلة القارصة للكيس :
" هل تنام جيدا أثناء الليل ؟"
لا يدري لمَ يُستفز حال سماعه مثل هكذا سؤال ومن الطبيبة الخافرة بالذات! إذ يجد نفسه كالسائر في نوم يقظة يتجول طوال الليل في أروقة المستشفى. رغبةٌ تلاحقه كرائحة سائل التعقيم الحليبي الذي تسكبه عاملة التنظيف فجر كل يوم. يدلف إلى غرفة الممرضة الخفر يقتعد الكرسي الأبيض .. يستمع إلى همسها لأغنية تناغي بها على وليدها. يغادر متوهما بحثا عن غرفة الطبيبة الخافرة.
ذلك هو عطرها الخاص آت من تلك الغرفة المضاء شباكها. يبقى يتأملها من خلف حاجز المشبك السلكي . تمسح عدسات نظارتها قبل أن تعود لتواصل قراءتها لكتاب ضخم أشبه بالقاموس. يرن هاتفها النقال بلحن يألفه ، فيدندن مع نفسه :
" تذكر آخر مرة شفتك سِنته .. تذكر وكته آخر كلمة إلته .. وما عدت شفتك ، وهللأ شفتك .. كيفك أنت !" .
تستدرك فجأة ، ترفع نظارتها متطلعة إليه. ينكص راجعا ليتماهى داخل هيكله الحديدي وسط ذلك الجو المعفر برائحة التعقيم الحادة فتذوب بقايا ذلك العطر الخاص المحبب إلى نفسه.
اغلب الجرحى في حالة إغماء طريحي الفراش عدا " عبد السلام " الذي كان يقضي معظم وقته واقفا على عكازه وقد اختفى معظم وجهه .. يتعكز ببطء متنقلا بين الجرحى مبديا عونا أو مساعدة. كان دائما يردد لازمته مشجّعا:
" لقد ُكتب لكم عمر جديد .. أحمدوا الله على نعمه."
شد ما أستفزه تحدي "هاشم الحلاق" للنيل منه إن هو تجاسر للاقتراب رغم صعوبة وضعه الصحي. فيجاهد " عبد السلام " بكل ما أوتي من عزم دافعا بعكازه ابتغاء بلوغه وما أن يتحقق له ذلك حتى يستسلم "هاشم" مخالفا ساعديه أمام وجهه متوسلا : " لا .. لا .. أنا أخوك ! "
لم تعد حركات رأس الرجل الحديدي خافية على أحد سيما وهو يتلوى محركا رأسه صوب باب القاعة مثل شاشة تعرض صورها يراقب من خلالها القادمين وبخاصة أوقات الزيارة.. مبديا ابتسامة عريضة كأنه يهدئ من روع من ينظر إليه من كونه ما يزال ذلك الوسيم القوي والشجاع .. وليؤكد :
" الجبان هو من يغدر ويطعن في الظلمة ، هو من حطم لي عظامي بسيارته المفخخة . لكنها ستعاود استقامتها وتعود سليمة من جديد " .
في أوقات الملل وما أكثرها كان يشكو إلى جلاّسه كأنه يخاطب السماء:
-" ما قيمة شاشة بسيطة يضعوها في أعلى زاوية القاعة ؟!"
اليوم الخميس ، الوقت تجاوز الظهيرة ..الزائرون بدأوا يتوافدون على أهليهم قبل أن تزدحم الممرات وتمتلئ المستشفى بالدعاء والصلوات والحمد والقبل.
ينسى كل من في القاعة صاحبه وجليسه ويغدو الآتي من وراء ذلك الباب هو همّهم اليومي.
يثني " هاشم الحلاق" ساقه الأيسر بعد أن يسند رأسه بساعده الأيمن مائلا بجسمه مواجهة مدخل القاعة. يمسح " عبد السلام " على شاربيه ثم يرتب من وضع سترته وياقتها دون أن ينتبه إلى اللفافة التي تغطي معظم وجهه وهو يراوح على عكازيه.
أما " الرجل الحديدي " فله حاسة شم عجيبة .. بإمكانه أن يعلن عن مقدم الطبيبة الخافرة عند دخولها الباب الرئيس للمستشفى أو حتى حال نزولها من سيارتها الخاصة. على أنه بدا التذمر عليه بشكل ملفت للنظر وذلك من حركات رأسه المتتابعة !
أنتبه إليه "عبد السلام " ، دنا منه وهو يجاهد حني رأسه مستفسرا بعيدا عن مسامع بعض الزائرين الذين بدأوا يندفعون كجريان ماء خلال ساقية :
- اطمئن ، لم تأت بعد ؟
- لا ليس هو ذلك ما يقلقني !
بدا الحزم ظاهراً على محيّا " عبد السلام " الذي يحترم خدمة " الرجل الحديدي" ، واصل يشجّعه للبوح بما يريد. تحامل ليلتفت إلى محدثه محاولا المحافظة على هدوئه طالبا منه إيصال رسالة إلى "هاشم الحلاق" خرجت من بين نواجذه حادة معبرة :
- أخبره .. كم هو كلب أبن كلب ذلك الملثم الذي أصاب له ساقه الأيمن . أسأله لماذا لم يهشم له ساقه اليسرى بالمثل كي لا يتركها سليمة يرفعها ويبسطها متى ما شاء فيحرمنا من مشاهدة من هم على الشاشة ؟!-.

حين عاود العطر الخاص بالظهور بعد انقطاع قارب الأسبوع ، كان بنصر الطبيبة الخافرة يزدان بحلقة ذهبية براقة.
أسرعت تبحث عن شيء ما فيما تتطلع إلى وجوه جديدة غيرها تلك التي امتلأت بها القاعة.
جلست عند زاوية سريره الشاغر الوحيد كمن يريد أن يستريح. ساعة الحائط الهدية يراوح عقرب ثوانيها في مكانه وقد علاها الغبار. " كم سيختلف يوم الثامن من آذار عما سيتبعه من أيام ؟"
مررت يدها بآلية على ملاءة السرير. رفعت رأسها تجاه سقف القاعة تداري دمعا معاندا كما يفعل مهرج صيني يحاذر سقوط كراته من على أعوادها المغزلية. قفلت راجعة . حزم من ضوء شمس الصباح بدأت تتسلل إلى باب القاعة ، فيما تحسست طريقها محاذرة إلى الخارج ووجهها ما زال منشّدا تجاه السماء.
جميع من في القاعة أكدوا أنهم رأوها تبتسم !



#صباح_محسن_جاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آذارُكِ يا رمزنا المعطاء
- زردة
- كلكامش ، الذي رأى ، ما عاد يليق به البكاء
- د ء آ دا أر دار - الصحافة - يا تحالف يا حكومة
- قبُيبات تراب
- طموحات ملقط مهووس
- عيدُ الحبّ سمكة
- !ملاقوك يا حسين
- سمكة دون زعانفها
- وأكَلْنا شَجَرَتنا الزيتون
- كزار حنتوش - يؤيؤ أيّكتنا
- الأخير والأول معا
- فراشة المستنقعات
- قبلة من وليد حسن الإنسان الفنان الشهيد
- جوْزتُنا تَنضو ثيابها
- كفاح حبيب .. نتونس بيك وانت معانا
- عصفور المشهداني ، ديك بريمر وقندرة شارلي شابلن
- عصفور المشهداني ، ديك برايمر وحذاء شارلي شابلن
- تنوع- لبابلو نيرودا
- ما يشبه الضحك .. ما يشبه البكاء


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح محسن جاسم - يبتسمُ الرجلُ الحديدي