المغرب
خطاب العرش يؤسس لواقع جديد و يكرس نضج التصور
لقد رسم خطاب العرش هذه السنة معالم الرؤية المستقبلية لتصحيح المسار. و قد أكد الملك محمد السادس بكل وضوح أن أول خطوة على هذا المسار هي القيام بنقد ذاتي "كفيل بجعل المصائب مصدر قوة و اعتبار لتصحيح الاختلالات", لاسيما و أن الجميع مسؤول مسؤولية كاملة غير منقوصة عن بناء المجتمع المغربي الديموقراطي الحداثي. هذا المجتمع المرتكز على المنظور المتنور للمرجعية الدينية الكفيل بضمان تكامل الإسلام مع الحداثة في ظل سيادة الديموقراطية كخيار لا رجعة فيه و كعماد الملكية الدستورية.
لقد أكد خطاب العرش على أن الانتقال الديموقراطي "طريق طويل و شاق و يتطلب و جود أحزاب سياسية قوية" و قوتها تكمن بالأساس في تـاطير المواطنين و تمثيلهم و تكريس الثقة في المؤسسات. و لن يتأتى للأحزاب المغربية القيام بدورها إلا بإعادة الاعتبار للعمل السياسي و عبر "التنافس على البرامج الملموسة و تكوين النخب الواعية المسؤولة" و ليس الاكتفاء بخدمة "الأغراض الانتخابوية" كما هو واقعها الآن.
و أكد خطاب العرش على ضرورة التقدم في الإصلاحات الكبرى التي لم تعد تحتمل أي انتظار, و من أهمها القضاء على السكن غير اللائق و اعتماد تعليم نافع و توفير التشغيل عبر تحرير المبادرات الخلاقة للثروة و تقوية التماسك الاجتماعي بتفعيل التضامن, و كل هذا في إطار دولة قوية تؤمن للمواطن حقوقه و تطالبه بالقيام بواجباته.
إن المغاربة ينتظرون توفير الشروط لضمان النمو و الانتعاش الاقتصادي لتحقيق الحد الأدنى من الأمان و الظروف المواتية لتوقيف نزيف هدر الإمكانيات البشرية و الإنتاجية. إنهم ينتظرون تفعيل استراتيجيات التصويب و الإصلاح في مختلف المجالات. و هي استراتيجيات عليها أن تستهدف التعامل بفعالية و جدوى مع ضغوطات الواقع الجديد بغرض تحسين شروط عيش أغلب الساكنة. و من طبيعة الحال أن تفعيل مثل هذه الاستراتيجيات يتطلب منظومة متشابكة من الآليات محورها البحث العلمي و الدراسات الاستراتيجية الكفيلة بتوفير رؤية واضحة المقاصد.
و قد أولى خطاب العرش أهمية خاصة لإشكالية السكن. فحرمان أوسع الفئات من المجتمع المغربي من السكن اللائق نتجت عنه آليات حرمان فئات مجمعية واسعة و متزايدة من ثمرات التنمية و تعميق التهميش و الإقصاء. الشيء الذي ساهم و لازال في انتشار الانحراف و تفشي الإجرام, و بالتالي الفعل في اتجاه معاكس لمسيرة التنمية. كما أن انخفاض القوة الشرائية و غلاء المعيشة جعل من الصعب بمكان الحصول على مسكن خاص لائق حتى بالنسبة للفئات المتوسطة التي كانت بالأمس القريب تعتبر نفسها في مأمن من انعكاسات الفقر. و كل هذا يتم في وقت يعتبر فيه حق السكن من حقوق الإنسان الأساسية التي أقرها الدستور و مختلف المواثيق الدولية التي كان المغرب من أولى الدول العربية المصادقة عليها. و في واقع الأمر, إن أزمة السكن ترجع بالأساس إلى آليات توزيع و إعادة توزيع الثروات الوطنية, و خصوصا توزيع ثروة العقار, و التي أدت إلى انتشار دائرة عدم التملك و اتساع فضاءات السكن العشوائي و غير اللائق. و في هذا الصدد لامناص من الإشارة إلى استفادة كمشة من المقربين و ذوو النفوذ من امتيازات عقارية على حساب استنزاف الرصيد العقاري للدولة, و كذلك إشكالية انتشار البناء و السكن العشوائيين و إشكالية إعادة إسكان الفئات المحرومة و المهمشة من السكن اللائق, إذ أن المؤسسات المختصة و رجال السلطة تدخلوا في مختلف الإجراءات, و منهم من عتوا فسادا فيها و كانت النتيجة تناسل الأحياء العشوائية و السكن غير اللائق. فمنذ ثمانينات القرن الماضي سعت الدولة إلى إحداث جملة من المؤسسات العمومية و شبه العمومية قصد التصدي للخصاص الصارخ في السكن. و هكذا تم خلق المؤسسات الجهوية للتجهيز و البناء و الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق و الوكالات الحضرية في مختلف الجهات و جملة من الشركات, إلا أن عملها تميز في العموم بسوء التدبير, و في نهاية المطاف لم تؤد دورها كاملا, بل ساهمت أحيانا كثيرة في المزيد من اتساع أزمة السكن و استفحالها.
و من المعضلات التي وقف عليها خطاب العرش إشكالية التعليم. فهل منظومتنا التعليمية تشكل فعلا قاطرة للتنمية؟ و هل جامعاتنا تعتبر فعلا مركز إشعاع علمي و فضاء لتكوين أجيال قادرة على المساهمة في خدمة مسيرة التنمية و الفعل فيها؟ هل تؤهل الخريجين لولوج سوق العمل؟ إنها في واقع الأمر وصلت إلى وضعية كارثية إن على صعيد المنظومة التعليمية أو على صعيد القيمة العملية للتكوين الذي توفره الشهادات التي تمنحها. و فعلا إن جامعاتنا و منظومتنا التعليمية عموما في حاجة إلى وقفة جريئة لإخراجها من وضعية هدر المال العام و الوقت لا لشيء إلا لتخريج أناس للزج بهم في براثن البطالة و التهميش و دواليب الموت البطيء.
لقد رصد خطاب العرش هذه السنة الجوانب غير المرضية للحصيلة, فلا نحن حققنا النسبة المطلوبة من النمو الاقتصادي و لا نحن استطعنا التخفيف من تزايد استفحال الفقر و اتساع دائرة البطالة و التصدي لانتشار البناء العشوائي و السكن غير اللائق, و لا نحن شرعنا فعلا و عمليا في التغيير الجذري المنتظر لمنظومتنا التعليمية. و عموما تظل الحصيلة غير مرضية في أكثر من مجال و ميدان, و أنها لا ترقى إلى الحد الأدنى المنتظر.
في هذا الصدد أكد خطاب العرش على مسؤولية الجميع في المساهمة في التنمية المستدامة, لاسيما و أنها فعل كل يوم. فلا يكفي بلورة استراتيجية و إنما يتوجب كذلك متابعة ممارسته و تطبيقها و الحرص على حسن التدبير لأنه غالبا ما يتم تكريس ممارسات تنافي روح الاستراتيجية المبلورة و تعاكس تحقيق الأهداف المرسومة. ففي واقع الأمر و إن التنمية المستدامة قضية الجميع و تصرف يومي دائم و ليس موضوع لقاءات و صالونات و مناظرات و مؤتمرات. و هذا يتطلب المتابعة و المراقبة الصارمة و المحاسبة عن قرب. و لقد أضحى من المؤكد أن درجة عالية من الشفافية من العوامل الحيوية للتصدي للفساد و التخفيف من وطئه على المجتمع. و لعل من إحدى متطلبات هذه الشفافية الكشف عن مختلف القواعد و الأنظمة السلوكية و الآليات المعتمدة من طرف الدولة في مختلف إداراتها. و هذه أول خطوة على درب فتح المجال للإقرار عمليا بالمحاسبة. كما أن الشفافية تتطلب كذلك الكشف في الوقت المناسب عن المعلومات الملائمة و الكافية.
و أقر خطاب العرش بإحداث المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية. و لا تخفى أهمية مثل هذا المعهد, فمن المسلمات التي أفرزتها التجارب العالمية أن للمؤسسات البحثية للدراسات الاستراتيجية دورا رياديا في قيادة العالم و البلدان إلى ناصية التقدم و التطور. علما أن صانع القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي يحتاج إلى أرضية متوازنة و صلبة يقف عليها حين اتخاذه قراره. إن حسن التدبير و الإدارة الحكيمة لا يتحملان القرارات الآنية المرتجلة. فلا مناص من أن ترتكز القرارات على معرفة دقيقة للواقع و على ضوء تصورات واضحة للمستقبل و ذلك لترشيد القرارات و صيانتها من الارتجال و العفوية./.
إدريس ولد القابلة
المغرب