أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2007 -حجاب المرأة بين التقاليد الأجتماعية والبيئية والموروث الديني - سلام عبود - اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي















المزيد.....



اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1848 - 2007 / 3 / 8 - 11:50
المحور: ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2007 -حجاب المرأة بين التقاليد الأجتماعية والبيئية والموروث الديني
    


لا يتناول هذا الجزء من موضوعنا ظاهرة الاغتصاب عامة، وإنما ينحصر في موطن محدد منه: اغتصاب النساء المتزوجات، وبدقة أكبر اغتصاب الزوجات وأخذهن عنوة في ليلة الزواج ”ليلة الدخلة”.
ولا يشمل هذا النوع من الاغتصاب مواقعة الزوجة من دون رضاها، أو الزواج بالإكراه، فمثل هذا الضرب من الفعل شائع جدا، ولا يدخل في صلب موضوعنا إلا على نحو غير مباشر، رغم صلة الموضوعين الوثيقة ببعضهما. والاغتصاب فعل جنسي معروف في الحياة الاجتماعية، ظهرت صوره في الآداب كافة. أما ظاهرتا زواج الإكراه والإرغام الجنسي فقد كانتا موضع رصد في الأدب العربي منذ وقت مبكر من تاريخ ظهور الأدب القصصي والروائي الحديث، وشغل الإكراه الزوجي موقعا أساسيا في معالجات الروائيين والقصصيين العرب. ففي روايات جرجي زيدان، يتخذ المؤلف من مشكلة الزواج الإرغامي مادة لبعض رواياته، وإن كان هذا الإرغام لا يصل الى نتائجه القسرية المأساوية، المعروفة، الشائعة. فغالبا ما كان زيدان يستخدم هذا الموضوع كضرب من التشويق القصصي لا يقود الى زواج، وإنما يتوقف عند حدود خلق العوائق والعقبات العاطفية الفنية، التي اسماها روجر ألن بـ ”الإثارة الرومانتيكية الملفقة” (الرواية العربية­ المؤسسة العربية­ بيروت- 1986- ص 25). مثل هذه العقبات نجدها في رواية ”أسير المتمهمدي”، حينما يدفع جرجي زيدان بالباشا الى التآمر على ابنته ”فدوى”، فيقرر تزويجها بعزيز طمعا بثروته، على الرغم من أنه يعرف أنها تميل الى شخص آخر. ومثل هذا الأمر يتكرر في روايات ”أبو مسلم الخراساني” و ”عروس فرغانة”. ففي الأولى يعتزم دهقان مرو تزويج ابنته ” جلنار” بابن الكرماني طمعا بالحصول على المال والسلطان كثمن لهذا الزواج، بينما كان قلب الفتاة يهفو الى أبي مسلم الخراساني. وفي الثانية يقرر المرزبان تزويج ابنته ”جهان”بالأفشين، رغم نفورها منه وحبها لضرغام رفيق الصبا. ولم يتوقف الإرغام على النساء، ففي ”جهاد المحبين” تمارس الأم ضغوطا على ابنها ”سليم” لمنعه من الاقتران بحبيبته ”سلمى”. ويُِلاحظ هنا أن هذا الضرب من الإرغام لم يكن سوى حيل فنية استخدمها جرجي زيدان لإشاعة المتعة في نفوس قرائه. بيد أن خلف تكرار هذه اللعبة الفنية، توجد فكرة قوية، ألحت إلحاحا شديدا على وعي القاص، اسمها الزواج الإرغامي، التي تنغرس بعمق في تربة الواقع الاجتماعي. وفي (الأرواح المتمردة ) لجبران خليل جبران (1908) نعثر على ثلاث قصص من قصص المجموعة الأربع تتحدث عن الزواج الارغامي وحرية الاختيار، هي قصص: ”وردة الهاني” و ”صراخ القبور” و ” مضجع العروس”. وإذا كانت القصص السالفة تتصف بالتمرد الروحي العنيف، فإن رواية ”الأجنحة المتكسرة” الصادرة عام 1912 تعبر عن حالة إنكسار الروح المتمردة. فـ”سلمى”التي ترغم على الزواج من شخص لا تحبه، تصل الى نتيجة مأساوية: الموت. وهي نتيجة وجدنا بعض ملامحها في قصص جبران السابقة، المنشورة في مجموعة (الأرواح المتمردة). أما (زينب) لمحمد حسين هيكل، الصادرة عام1914، والتي عدت في نظر كثيرين أول رواية عربية فنية، فقد اتخذت من موضوع زواج الإكراه محورا أساسيا من محاورها. ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الأدب الروائي العربي عن رصد وتسجيل حالات جديدة لنساء مكرهات على الزواج، نذكر منهن على سبيل الإيضاح: ”عايدة” في رواية (إني راحلة) ليوسف السباعي الصادرة عام 1950، التي أرغمها أبوها على الزواج بابن أحد السياسيين الكبار ضد إرادتها. وترغم ”جميلة” في رواية لطيفة الزيات (الباب المفتوح) الصادرة عام 1960 على الزواج بأحد الأثرياء، وتكاد شخصية الرواية الرئيسية ” ليلى” ترغم على ذلك لولا تمردها. ويتكرر موضوع الزواج الإرغامي في رواية عبد الحميد بن هدوقة (ريح الجنوب) الصادرة عام 1970، حيث تتعرض ”نفيسة” العائدة من مدينة الجزائر الى القرية الى ضغط عنيف من أبيها، الذي يسعى الى إرغامها على الزواج من أحد وجهاء القرية. وفي رواية فتحي غانم (زينب والعرش) 1972-1973) تخضع ”زينب الأيوبي” لمصير مشابه. من هذا العرض التوضيحي الموجز نخلص الى أن ظاهرة الإرغام قد رصدت بعناية ملحوظة في الأدب العربي منذ وقت مبكر، وقد أوردنا الأمثلة السابقة من باب التعريف والتذكير، فالإكراه الزوجي ليس موضوعنا الرئيسي كما أسلفنا، وإنما هو طرف من أطراف الموضوع المتشعبة. ولغرض إجلاء الصورة سنتوقف عند بعض الأعمال الروائية العربية، التي سعت الى تصوير ظاهرة اغتصاب الزوجات. سنلبث عند شخصية ”إيمان” لحليم بركات في روايته (إنانة والنهر) الصادرة عام 1995، وشخصية ”مريم” في رواية واسيني الأعرج ( سيدة المقام، مرثيات اليوم الحزين)، الصادرة عام 1995، وشخصية ”سلمى” في رواية هاني الراهب (خصراء كالمستنقعات) 1992)، وشخصية ”نورما البدر” في (خضراء كالبحار) (2000)، لهاني الراهب أيضا. و شخصية ”ثريا” في رواية هيفاء زنكنة (مفاتيح مدينة) (2000)، وشخصية ”زينب الأيوبي” في رواية فتحي غانم (زينب والعرش)، المنشورة على حلقات في مجلة ”صباح الخير” في أغسطس 1972­ يوليو 1973. ومن أجل توسيع حيز الموضوع، وإخراجه من حدود تجربة اغتصاب الزوجات الى آفاق أرحب، وربطه بتجربة الحرية الجنسية والاجتماعية، سنعرج على بعض المعالجات الروائية العربية التي صورت سعي المرأة العربية الى تحقيق حريتها الجنسية، محاولين إعادة تدقيق المشهد الروائي ورؤيته بعيون مغايرة ورصد بعض ما علق به من ظواهر فنية.
حدود التمرد لدى المرأة العربية بين ”سلمى” هاني الراهب و”إنانة” حليم بركات
صدرت رواية حليم بركات (إنانة والنهر) عام 1995، ولا نعرف متى أنجز بركات كتابتها. أما رواية هاني الراهب (خصراء كالمستنقعات) فقد كتبت وصدرت عام 1992. ومن يقرأ الروايتين من غير أن يحفل بتواريخ إصدارهما يقع في وهم مباشر، مفاده أن بركات سبق الراهب الى كتابة روايته. فالروايتان تتشابهان في موضوعهما تشابها كبيرا. ولا يقف التشابه عند حدود الحدث والشخصيات والمحيط الاجتماعي، وإنما يمتد في أحوال كثيرة الى بعض جوانب المعالجة الاجتماعية. فالروايتان تتناولان جزءا من معاناة المرأة العربية، وعلى وجه التحديد المعاناة التي تعرضت لها أجيال من النساء العربيات، في الحقبة التالية لمرحلة الخمسينيات، حيث اصطدمت مفاهيم التحرر الاجتماعي والجنسي بقاعدة المجتمع السياسية والأخلاقية القديمة، فجعلت من هذا الصراع دمويا في بعض جوانبه، ومأساويا في نتائجه العامة. تتشابه الروايتان في إطارهما الجغرافي والبيئي. أما المصير الذي تؤول اليه الشخصيتان فهو واحد: الانتحار زواجا. وعلى الرغم من أن نقاط التشابه الجوهرية بين الروايتين كثيرة، إلا أن الاختلاف بين الروايتين كان أعظم. وقد شمل الاختلاف مواطن عدة منها: أسلوب السرد والمعالجة الفنية وحدود تناول مشكلة المرأة. لقد عاشت بطلتا القصتين الأزمة ذاتها. فهما تنتميان الى جيل واحد، وتعانيان من المشاكل ذاتها التي عاناها جيلهما. فـ”إيمان” في (إنانة والنهر)، التي أبدلت اسمها الى ”إنانة”، وذيلت به قصائدها، مرت بالحياة نفسها التي عاشتها ”سلمى” في (خضراء كالمستنقعات). لقد تدرجت الشخصيتان في تذوق طعم المأساة، وتلقتا بالقدر نفسه نتائج الاصطدام بجدار التقاليد الاجتماعية، فتخلتا كرها عن حلم التغيير الاجتماعي، ثم تخلتا عن حلم الاقتران بشريك الحياة الذي يتم اختياره طوعا. وشهدتا تبدل سلوك الشريكين الموعودين، شريك ”سلمى” في التمرد ”وائل الغانم”، صاحب حلم الكومونه الذي أرغم على التحول الى صاحب محل للتصوير، وشريك ”إيمان”، الذي جعلت منه ”تموزها” الشخصي، ”عبد الله عبد الكريم”، وأرادت له ان يكتفي ”بعبد واحد ” في اسمه، لكنه اختار ­ في نهاية الرحلة الحياتية ­ أن يكون تاجر مهربات. وخلف وأمام وعلى مرأى من الجميع تتم مطاردة ”إيمان” و ”سلمى” من قبل رجلين لحوحين: العقيد، صاحب المال والسلطة والقوة في (إنانة والنهر)، و”عبد الصمد”، الممثل الشرعي لمؤسسة الزواج التقليدية، يصاحبهما المجتمع بأسره، وفي المقدمة الأهل والأقربون. وفي نهاية المطاف ترغم ”إنانة” و”سلمى” على الاستسلام للمشيئة التي رسمت لهما. ورغم أنهما قامتا بمحاولات جريئة للتمرد، إلا أنهما أضطرتا في النهاية الى رفع راية الاستسلام البيضاء. ولما كان هذا الاستسلام يفترض في أحد شروطه الرئيسية أن تتلطخ الراية بدم العذرية، فقد قامتا معا بآخر التمردات الفاشلة، فرفضتا الاستسلام للزوج سريريا؛ لكنهما اضطرتا في النهاية، بطرق مختلفة، وبمساعدة مباشرة من الأهل طبعا، الى رفع الراية ملطخة بدم البكارة، لكي يراها المجتمع بأم عينيه. عند هذا الحد تتوقف أحداث رواية حليم بركات، والى هنا تصل رواية الراهب أيضا. لكن الراهب يقرر عدم التوقف في هذا الموقع. وفي واقع الأمر قرر الراهب أن يبدأ من هنا. فما مر بـ ”سلمى” من أحداث، لم تكن سوى ممهدات للسؤال القادم: وماذا بعد؟ لم يحاول حليم بركات أن يواجه شخصيته الروائية بهذا السؤال، واكتفى بأن تركها ممدة على سرير الزواج، يدور حولها عريس مقتدر غاضب، وتتآمر على بكارتها القرية والتقاليد. حتى أمها تشترك في المؤامرة حينما تخدرها وتطلب من العقيد أن يبادر الى تسلم حقوقه الشرعية من ابنتها! وهنا، تشترك هذه الأم مع أم ”زينب الأيوبي” في (زينب والعرش) لفتحي غانم، التي تقوم بإعداد الفخ لابنتها، مفسحة المجال للعريس المرتقب "نور الدين " أن يقترب من زينب, أو أن يمد يده ليتحسس فخذها أو يلمس صدرها” (زينب والعرش­ ص164) أما الراهب فقد دفع بـ "سلمى" الى مواجهة عنيفة، قادتها في الأخير الى القبول بساعة في الفراش كل يوم مع عبد الصمد، كثمن للهدنة التي تنشدها فيما تبقى من يومها الطويل. لكن الراهب لم يكتف بذلك، فآثر أن يعيد الحلم القديم بالزواج غير الإرغامي من جديد الى الحياة، حينما ظهر "وائل الغانم" مجددا في حياتها، مكررا معها تجربة الاختيار الحر في ظروف أكثر حدة وتناقضا، نفسيا وأخلاقيا واجتماعيا. فإذا كانت ”سلمى” قد اختارت حبيبها ضد رغبة الأهل قبل الزواج، كجزء من فصول عملية التحرر الاجتماعي، الموعودة، الفاشلة، التي مرت بها أمة كاملة، وشاركت فيها ”سلمى”و”إيمان” وقطاع واسع من بنات جيلهما، إلا أن ”سلمى” تندفع في الجزء الأخير من رواية الراهب نحو مواجهة جديدة هي الأعنف والأكثر ضراوة: التمرد في موقع الزوجية. وهو ضرب من التمرد، لا يتضمن توافقا مع مشروع الحرية الاجتماعية، التي نشدتها المرأة العربية بالتزامن مع تطور نضال الشعوب العربية من أجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي (كما اعتاد النقاد اليساريون أن يقولوا!)، وإنما يتضمن مواجهة جذرية مع مؤسسات الأخلاق كافة، سواء كانت دينية أو علمانية، مسيحية ، مسلمة، رجعية أو تقدمية، قديمة وحديثة. إن تطور الحدث الروائي في هذا الاتجاه جعل الاختبار الإضافي الذي زجت فيه ”سلمى”، كما لو أنه، في وجه من وجوهه، استطالة معاناة لا تخص ”سلمى” نفسها كشخصية روائية وكنموذج اجتماعي، وإنما تخص الكاتب نفسه، الذي أراد أن يقيم مواجهة مع فكر سياسي واجتماعي معين، إنطلاقا من رغبة ”ثقافية” و”معرفية”، لا انطلاقا من حاجة واقعية موضوعية. لذلك كانت تلك المواجهة سلاحا فنيا وفكريا ذا حدين: نقطة قوة وجرأة اهتبلتها الرواية فولجتها، لكنها كانت في الوقت نفسه نقطة ضعف عانت منها الرواية، فسلبت منها شيئا من نتائجها العقلية والاجتماعية، وعطلت مغامرة المروق الفني والجرأة الاجتماعية في النص. فتلك الخطوة تضمنت قدرا من تصفية الحساب القصدية مع قوى فكرية وسياسية أريد تحميلها بعض مساوىء الواقع، من خلال تجربة اجتماعية وأخلاقية غريبة على الواقع الذي أنتجت فيه، مما يخلق شكوكا في مقدار أصالة هذه المعالجة فنيا. وهنا لا بد أن نشير الى أن تلك الجرأة لم تكن غريبة على القصة العربية، فقد كان التمرد على العلاقات الزوجية الإرغامية محور قصص جبران خليل جبران في (الأرواح المتمردة) و (الأجنحة المتكسرة)، التي سبقت رواية الراهب بثمانية عقود من السنين، ويسري الأمر عينه على تمرد بعض شخصيات محمد حسين هيكل في ( زينب) و (هكذا خلقت) وقصة (كفارة الحب) من مجموعة (قصص مصرية). كما كان التمرد على الإكراه في الزواج خيطا من خيوط الحدث الروائي لروايات جرجي زيدان، وإن كان على نحو أخف، وأكثر ميلا للانسجام مع قوانين المجتمع العربي الاسلامي­ المسيحي الأخلاقية. لماذا دفع الراهب ”سلمى” الى ذلك الموقع؟ وماذا أراد أن يصنع فنيا؟ وماذا كانت أهدافه العقلية والاجتماعية؟ سنجيب عن هذه الأسئلة رويدا رويدا ونحن نمضي قدما في التحليل. حينما نقارن البناء الفني لرواية الراهب برواية بركات، نلحظ دون إبطاء أن الكاتبين سارا على خطى مختلفة منذ البداية فيما يتعلق بالسرد الروائي وطريقة تصوير ورسم الشخصية الرئيسية. فبركات قدم شخصيته من خلال عين الكاتب، التي جهدت أن تبدو محايدة، مع لمحات قصيرة ظهرت فيها ومضات مرئية بعين البطلة. وقد اعتمد السرد على الوصف والتقرير بوساطة ضمير الغائب، وقلت فيه مشاهد التصوير، واحتل الواقع الاجتماعي والطبيعي المحيط بالشخصية حيزا كبيرا من مساحة القصة؛ كما حفلت الرواية بالأزجال والقصائد والنوادر الشعبية­ وبركات ولوع بالأشعار والأزجال، ظهر مثل هذا أيضا في (طائر الحوم) وفي (عودة الطائر الى البحر)­ التي وضعت البطلة في محيط القرية التقليدية، وحاصرتها بعناصرها الطبيعية والاجتماعية والأخلاقية. كل ذلك جعل ”إيمان”، رغم تمردها، تحس بالضعف والضآلة، فتخضع لسطوة هذا المحيط الكبير الخانق. لقد تعامل حليم بركات مع ”إيمان” كما لو أنه كان يرسم صورة محسوسة لفكرة عن امرأة تعاني من مشكلة ضيق حدود الحرية الاجتماعية. فقد كانت الشخصية أقرب الى المشكلة النسائية العامة من كونها إنسانا فردا. إن ضعف التصوير روائيا يبهت الملامح الحسية للشخصية، ذلك أمر نلحظه بوضوح على ملامح ”إيمان”. أما هاني الراهب فقد ذهب مذهبا مختلفا. فالقص جاء على لسان ”سلمى”؛ وحتى مشاهد الاغتصاب والمواقعة عرضت بلغتها هي: المرأة العربية المغتصبة، ممزوجة بأحاسيسها وتعابيرها وعواطفها. لذلك ضعف العالم الخارجي كثيرا في رواية الراهب، وانفتحت كوة الداخل واسعة، دامية، مثل جرح كبير ظل ينزف حرقة ودما طوال القصة. إن تغيير زاوية النظر ضاعف من حدة مشاعر ”سلمى”. فإذا كانت مشاهد الخارج قد أغرقت ”إيمان” وطوقتها ثم حاصرتها وقادتها الى الاستسلام، فإن ضيق الكوة التي نظرت منها ”سلمى” الى عالمها، جعتلها تركز أحاسيسها ومشاعرها وعواطفها في تفاصيل صراعها النفسي. كل ذلك حول المعاناة الاجتماعية الكبيرة، والضغط الاجتماعي الكبير القادم من الخارج ­الذي تشترك فيه مع ”إيمان”، رغم عدم ظهوره في القصة بالقوة نفسها­ الى شحنات عاطفية ملتهبة تصدر عن ذات جريحة، من خلالها وبلسانها. إن تركيز القصة في إطار فردي ­شعوري، كان ملمحا كبير الأثر في قصة الراهب، منحها قوة دفقها، وسوغ فنيا للشخصية رغبتها في عدم التوقف عند حدود الاستسلام ورفع راية البكارة البيضاء الملطخة بالدم والندم، بل جعلها تستجمع طاقاتها فتندفع نحو جولة جديدة من تجربة الحرية. بيد أن الكاتب دفعها نحو تجربة في موقع شديد الخطورة لا يجيب عن أسئلة المرأة العربية، ولا عن اختياراتها الأساسية، وإنما يجيب عن معضلة تجربة سياسية ­تاريخية، هي أقرب ما تكون الى رغبة فكرية ”جماعية” تخص الكاتب ومن يشاطره رأيه ولا تخص الشخصية. وكان ذلك ملمح جرأة وقلق، خضعت له الرواية في نهايتها؛ وهو أمر ربما يستحق جدلا أكبر مما نطرحه الآن. وإذا عدنا مجددا الى المقارنات، نجد أن بركات، الذي بدا حريصا على التوقف عند حدود فشل تجربة الاختيار الحر للشريك، مختتما الرواية بليلة دخلة إجبارية، إنما يعكس حذر الباحث الاجتماعي، الذي هو جوهر تكوين بركات العملي والمهني، ويعكس دراية جيدة بحدود الشخصية، وبمساحة حركتها الاجتماعية والأخلاقية. وهو أمر لم يشأ الراهب الالتزام به، لأنه نشد الوصول الى آفاق أبعد من الحدود التي يتيحها الواقع. ويفسر الراهب اندفاع ”سلمى” في رحلة البحث عن حرية جنسية بعد الزواج الإرغامي بأنه ناتج عن تناقض داخلي، ينحصر بين غياب دعم المؤسسة الكبيرة: المجتمع، وبين الاضطرار الى الاعتماد على مؤسسة العائلة، كملاذ وحيد لأمن الفرد، خاصة المرأة، الأمر الذي يجبرها على تقديم تنازلات جدية في سبيل أمانها هذا. يقول الراهب : ”وحده نظام الأسرة، يمنح حسا حقيقيا بالأمن­ لا الدولة ولا أرباب العمل، ولا مؤسسات المجتمع. هذه كلها مؤسسات استلابية­ ولأجل حيازة هذا الحس بالأمن تقدم أفدح التضحيات، وخاصة من قبل المرأة. فالمرأة يمكن أن تلغي تماما وتستباح، لأجل هذا ”الأمن”.” (مجلة العربي­ العدد 443­ أكتوبر 1995) ومن هذا المنطلق فإن خروج ” سلمى” على قوانين العائلة هو خروج على شروط الحماية الاجتماعية في مجتمع لم تتمكن مؤسساته السياسية والمدنية الحكومية والعامة من تأمينه للفرد. وفي هذا النقطة المحددة والعميقة من رؤية الراهب لجوهر المشكلة تتحدد أزمة ”سلمى” كشخصية روائية وكنموذج اجتماعي. وهذا ما سنميط اللثام عنه في موضع آخر من دراستنا . وإذا تركنا بركات والراهب مؤقتا، فإننا نعثر على شخصية مماثلة، من الحقبة ذاتها، ولكن في بقعة أخرى من محيطنا العربي، في مغربه، في الجزائر. هناك نعثر على مغتَصَبة أخرى، هي ”مريم” في رواية ( سيدة المقام، مرثيات اليوم الحزين) للكاتب الجزائري واسيني الأعرج . و”مريم”، الشابة المتمردة على ثقافة الماضي، التي تتعلم وتحترف رقص الباليه على يد مدربة روسية، تموت من جراء رصاصة تطلق عليها في أحداث اكتوبر 1988، حيث يعلو صوت القادمين الجدد ”حراس النوايا” الذين جاؤوا في أعقاب ”بني كلبون”. و”مريم” هي ابنة شهيد يموت في ليلة الانتصار مشنوقا، بعد أن يتزوج عمها بأمها. وهناك من يشكك في قضية استشهاد الأب، ويرى أنه انتحر لما وجد زوجته قد تزوجت من أخيه بعد غيابه، الذي اعتبره البعض موتا لا غيابا. في هذه الرواية يخصص الكاتب فصلا كاملا للاغتصاب. فقد أرغمت ”مريم” ­ حالها كحال سلمى وزينب وإيمان ­ على الزواج من رجل لم تختره بنفسها، لذلك رفضت أن تنام معه، لسبب غير معلل ومعلوم (فنيا)، لكنه مبرر عقليا بالنسبة للقارئ الخبير، فيضطر الزوج الى اغتصابها. وبعد أن يفض بكارتها يتركها ولا يقربها، ويظل يمارس العادة السرية، ثم يستسلم ويطلقها. وكانت أمها، مثل أم ”إيمان” وأم ”زينب” وأهل ”سلمى” يشجعون، بل يسهمون في إعداد مشهد الاغتصاب. أما أم الزوج فتقوم بدور أخطر، حينما تتلصص على ابنها وهو يقوم بافتضاض بكارة ”مريم”، في مشهد لا يخلو من التطرف النقدي. فلا تكتفي الأم برؤية ابنها ” يفتح ساقيك ويضعهما على كتفيه ثم يسحبك بقوة باتجاهه...” وإنما كانت مصممة ” على رؤية المشهد بأكمله” ( سيدة المقام­ دار الجمل ­ المانيا­ 1995­ ص 116). كان الاغتصاب في رواية واسيني أكثر تعقيدا، من سواه، كتناقض بين شخصيتين، وأقل تبريرا كحالة نفسية. ربما لأنه جاء في ثنايا خطاب لفظي يعتمد قوة الدلالة الخطابية للكلمة أساسا لا دقة الصورة، وفي ثنايا صوت ذي نبرة سياسية مسموعة، يجنح للخروج من أسر السرد النثري الى الشعرية، التي تعم أغلب فصول الرواية بشكل ملحوظ, عدا الفصل الخامس، الذي يعتمد التصوير، وهو فصل الاغتصاب، الذي احتل فيه مشهد الاغتصاب عدة صفحات. وفصل الاغتصاب هذا بدا مضاعف الحسية: فاضحا ومشخصا، لخروجه عن مألوف السرد، الذي عم فصول الرواية الأخرى. فإضافة الى التصوير جرت رواية هذا الفصل بوساطة ”مريم” نفسها، مما أعطى للوصف صبغة شعورية ونفسية عالية. وربما يؤخذ على واسيني هنا شدة مبالغته في تصوير أثر الخارج (أم الزوج) وأثر الداخل (المقاومة الحسية لـ ”مريم”)، الذي امتص بعضا من حرارة المشهد. فتلصص الأم الزائد عن الحد، وإلباس مريم كل ”تبابينها”، كي تمنع زوجها من مواقعتها، جعلت المشهد أميل الى الطرفة منه الى المأساة. وعند النظر الى رواية واسيني، مقارنة برواية الراهب، نجد أن الراهب ينطلق من ”سلمى”، الفرد نحو العام (الإدانة الاجتماعية والسياسية)؛ بينما يفعل واسيني العكس، ينطلق من العام (حركة المجتمع السياسية والاجتماعية) ليوثقها بأحداث من حياة البطلة ”مريم”، كي يعطيها تجسيداتها الفردية وصورتها المشخصة. هذه النظرة المتعاكسة الى الأشياء، هي مجرد زوايا نظر مختلفة الى موضوع واحد، جعلت من ”سلمى” نموذجا أكثر حسية وشخصية، مقارنة بـ”إيمان” بركات، التي تغرق في المحيط الطبيعي والاجتماعي، ومقارنة بـ ”مريم” واسيني، التي تغلفها لغة سياسية وخطاب يميل نحو اللفظية الشعرية، لكي تتلاءم مع الزاوية التي ينظر منها الكاتب الى الموضوع. وتلك طرق فنية مختلفة، لكل واحدة منها مذاقها الخاص، المحدد، في إطار السياق العام لبناء العمل القصصي كوحدة متكاملة. لأن العمل الأدبي وحدة نسيج ومعالجة قبل كل شيء، وليس مجرد تجميع لعناصر. فلا يمكن الحديث عمل أدبي كبير اسمه ”مدام بوفاري” من دون وجود التفاصيل الصغيرة الاجتماعية والطبيعية والثقافية، التي بثها فلوبير في ثنايا قصته، ولا يمكن وجود عمل على هذا القدر من الأهمية التاريخية اسمه ”آنا كارنينا” من دون وجود الملمح الأخلاقي لتولستوي والمنحى الوصفي المسهب، كما لا يوجد أثر جدي لرواية اسمها (نجمة) لولا ذلك الجمع الحاذق بين الشعري والنثري، الذي أبدعه كاتب ياسين، والذي صنع الهالة الرمزية لـ ”نجمة”. إن إختلاف الروايات العربية الثلاث السابقة في طرق عرض الشخصيات والمعالجة وزاوية النظر الى الموضوع القصصي لم تكن مثلبة. على العكس، إنها مظهر من مظاهر حيوية وتفرد الأعمال الثلاثة مجتمعة. فذلك يشير الى مقدرة الروائيين المختلفين على امتلاك تمايز في الرؤية في إطار المشكلة الواحدة. وفي الأخير يحقق هذا الأمر إنسجام كل واحدة من تلك الروايات مع ذاتها، كوحدة فنية وعقلية خاصة، لها نكهتها المميزة. والأهم من هذا كله تشير هذه المعالجات الى تكرار المشهد، الذي يؤكد أن الموضوع المعالج ظاهرة إجتماعية، عمت المجتمعات العربية والكيانات القومية التي تعيش معها كافة، من مشرقها الى مغربها، بالقدر نفسه.
عملية الاغتصاب بين الضرورة والمتعة
لم نر صورة حسية لعملية اغتصاب ”إيمان” في (إنانة والنهر) لحليم بركات. لكن القاص جهز القاريء أسوة بـ ”إيمان” نفسيا وشعوريا لاستقبال هذه اللحظة، بكل تفاصيلها واحتمالاتها. هيأ ”إيمان” لغرض الرضوخ لها في بيت العقيد، وهيأ ذهن القارئ بما فيه الكافية ليقيم ­ بنفسه­ عملية الاغتصاب على هواه في مخيلته. وتلك خاتمة منطقية تليق تماما بطريقة المعالجة التي سارت عليها الرواية، وتنسجم انسجاما تاما مع سلسلة تطور الحدث وطريقة السرد. أما واسيني الأعرج فقد توقف وتمهل عند مشهد الاغتصاب. فقد خص مشهد الاغتصاب بشيء من التصوير الحسي قياسا بغيره من مشاهد الرواية الأخرى. فقد عدل القاص في هذا المشهد من أسلوب السرد، وتخلى عن السرد بالوصف والمناجاة اللغوية، ورفع آلة التصوير وشرع يصور عملية الاغتصاب، بدءا من التمنع، فالمقاومة، ثم الاستسلام. وفي رواية ”خضراء كالحقول” 1993، لهاني الراهب تتعرض ”نادية” أيضا للاغتصاب من قبل زوجها ناصر. ويقع الاغتصاب في مشهد من صفحتين( ص115-116)، وتضطر ”نادية” المخذولة الى الاعتراف صراحة باغتصابها، فتسميها باسمها: ”اغتصبني ناصر. صحيح هو معتاد على نيل مبتغاه حتى ولو كان جسدي مطفأ. لكنني ليلتها رأيتني في ذلك المستنقع وجثة الضبع هاجمة عليّ. وكنت أفضل الموت على الاستسلام”. وفي رواية هيفاء زنكنة (مفاتيح مدينة)، تتعرض ”ثريا” الى استباحة جنسية من قبل زوجها ”منعم” في ليلة دخلتها. وعلى الرغم من ضيق حدود هذه الواقعة في الرواية عامة، إلا إنها شكلت لونا جديدا من ألوان الاغتصاب. فكان مشهد الممارسة الجنسية ونتائجه الحسية والعاطفية أشبه ما يكون بعملية تعذيب، لا مجرد ممارسة جنسية في ليلة زواج. ومما لا شك فيه أن المخيلة العراقية المشبعة بالعدوانية والقهر، هي التي دفعت كاتبة على درجة عالية من التأهيل والاتزان الفكري والفني كهيفاء زنكنة الى انتخاب مشهد، يعتمد التصوير، على هذا القدر العالي من القسوة الحسية، مرفقا بتفصيلات شديدة الصغر، بغية تجسيم وتعظيم الإحساس بالايذاء البدني والنفسي. فالزوج ”منعم” كان مفوض أمن. ولهذه المهنة دلالة خاصة في الذاكرة العراقية. وزيادة في العدوانية، جاء الى عروسه مخمورا، فما كان له سوى أن يمارس فعل التعذيب على زوجته جنسيا. ” كان مستعجلا. مزق اللباس ونام عليها مثل ثور هائج. تلقت في وجهها رذاذ انفاسه التي اختلط فيها العرق ببقايا الأكل المتخمر. بحركة لاهثة فتح ساقيها. دخلها بقوة جعلتها تصرخ ألما فزاد من احتلاله العنيف لداخلها، ملتذا بحرارة الدم السائل بين ساقيها ودفء رحمها. أراد الحصول على اكبر واكبر، بايقاع متناوب بات يستزيد من لذة التماس بالدفء الرطب، يدخل، يخرج، كل دخول جديد له يزيد من متعته، كل حركة يقوم بها تزيد من الم الأغشية الممزقة بعنف في داخلها. دخول . خروج. اللذة تزداد. سرعته تزداد، حرقتها تزداد. تتشبث به، تمسك بيده، لتوقفه فيدفعها عنه. يرتكز بيديه على كتفها، يلصقها بحشية السرير، زادت سرعته.. صرخ محذرا، لا تتحركي، بعد قليل... وتحشرج صوته وهو يدفع نفسه بقوة اكبر واعنف بداخلها.. لا تتحركي..”، ”وفي الليلة الثانية حال اضطجاعهما على السرير، مد يده الى لباسها. توسلت به قالت انها مجروحة في الداخل تشعر وكأن النيران تشتعل فيها. قال لها عابثا ولا يهمك. محروق محروق. اتركيه حتى يشفى، لست مستعجلا، صاحب الجلالة يستحق كل الاجلال والتكريم وعلى الرعية الانتظار”، لكنه لم ينتظر ­ لأنه مفوض أمن­ ” أجبرها على الاستدارة ودخل فيها” ( مفاتيح مدينة­دار الحكمة­ لندن­ ط1- 2000- ص140) وبذلك أضحت ليلة الدخلة­ منح المتعة واستقبال الألم­ عند ”ثريا” فاتحة لحياة قائمة على التعذيب الجنسي والإذلال، رسمت صورة مستقبلها المظلم. أما اغتصاب ”سلمى” في (خضراء كالمستنقعات) فيتم بطريقة مماثلة لطريقة اغتصاب ”مريم” و”نادية”، لكن مساحة مشهد الاغتصاب كانت أكثر سعة، وعملية الاغتصاب أكثر ضرواة، والمواقعة أعنف، وطريقة التصوير أشد إثارة، لأنها كما أسلفت تتم روايتها عن طريق ”سلمى” نفسها، مما أكسب الموضوع حرارة خاصة، وجعل الصورة أكثر إمتلاء من الناحية العاطفية. وقد استغرق وصف المحاولة الأولى ثماني صفحات، أما الثانية فامتدت من الصفحة 117 حتى الصفحة 162، وهو أطول عراك جنسي بين زوجين في تاريخ الرواية العربية، وأبشعه أيضا. ويتكرر مشهد الاغتصاب لدى هاني الراهب في رواية (خضراء كالبحار) كذلك. إذ يقوم الزوج ”مهند” باغتصاب زوجته ”نورما البدر” في مشهد طويل نسبيا. وكان الزوج قد اغتصبها أيضا في الساعة الأولى من ليلة الدخلة. ”لا المنطق ولا التوسل ولا التصلب استطاع أن يقنع النقيب بتأجيل فض البكارة يومين أو ثلاثة، ولا أربعا وعشرين ساعة، ولا ساعة واحدة” (ص223) ” هكذا عرفت ”نورما” بغتة أن ليلة الدخلة التي تتغنى بها ثقافة هذه البلاد هي آلام اللحم المنفلع المتمزق ثلاث مرات ذلك الليل، وكل مرة مئة مرة”. وفي ”زينب والعرش”، يتجنب فتحي غانم الحديث عن اغتصاب مباشر. بيد أن مشاعر ”زينب الأيوبي” كانت من دون لبس مشاعر امرأة مغتصبة: ” فأخذها نورالدين الى حجرة دودو هانم (أمه) التي أعدوها لليلة الدخلة. وأغلقوا عليها الباب، وهجم نور الدين عليها وقد أرقدها على السرير. فاستسلمت له. وهي تحدق في المصباح بسقف الحجرة، تتذكر جدتها وهي تفعل نفس الشيء لحظة موتها، وتذكرت العذاب الذي شعرت به وأم اسماعيل تجري لها عملية الختان. وظلت تحدق في السقف والمصباح، ونور الدين يجثم على صدرها ويعبث بجسدها ويلهث فوقها وقد خنقها بأنفاسه وهي تواجه هذا الكابوس بذكرى عينين محدقتين غاضت منهما الحياة، وبإحساس غامض بالشجاعة والكبرياء والاحتقار، حتى همد نورالدين وانزاح عنها، وهي مازالت تحدق في السقف ولم تسمع ما يقوله كانت عارية، ولا يهمها أن تستر جسدها. وكانت تشعر بالبل، ولا يعنيها أن تجففه، ولا تدري متى نامت أو غابت عن وعيها في تلك اللحظة” (زينب والعرش­ ص 174) إن مشاهد الاغتصاب السابقة، جميعها، تبدو كما لو أنها مشاهد عقاب جماعي. فممارسو الاغتصاب من الرجال كانوا ­ في تقديرهم وتقدير المجتمع، وبإقرار من زوجاتهم المغتصبات أنفسهن­ يأخذون حقا شرعيا في هيئة متعة جنسية. حق يعترف لهم الجميع به، انطلاقا من شروط عقد الزواج، التي تقر وتفرض ذلك. فالأزواج يمارسون ضربا من الحق الشبيهة بالعقاب، والزوجات يقدمن ذلك كنوع من الواجب: ضريبة عقابية واجبة، لكنها غير مستحبة. لذلك يبدو الأثر النفسي لعملية الاغتصاب مشوها في نظر المغتصب والمغتصبة، وبدرجة أكبر في نظر السارد الحقيقي (القاص والروائي). فلا غرابة أن يزوغ الوصف أو أن تنحرف الألفاظ قليلا عن مواقعها النفسية في تلك المشاهد. إن ارتباط الوصف (الفعل ورد الفعل) بالمفهوم الأخلاقي العام، لا بالمحتوى النفسي، يجعل من مقدرة الروائي على التحكم بمشاعر شخصياته ضعيفا، ويجعل الشخصية القصصية ممزقة بين الحدث (الاغتصاب ودلالاته الأخلاقية) وبين فعل الاغتصاب كعملية مكابدة نفسية وعاطفية. فالرواية العربية لم تجرؤ على اجتياز ذلك التشظي القائم في الذات المروية والذات الراوية على حد سواء. إن التجربة العربية لم تنتقل بعد الى البعد النفسي الخالص. لسبب أساسي هو أن المتعة الجنسية، كاغتصاب أو خيانة أو فعل مشروع أخلاقيا، لم تمارس من قبل أبطالها، في الواقع، كلذة محضة، لذة تستمد خصوصيتها من شرعية الصلة الجنسية باعتبارها فعالية عاطفية فردية، وليست مجرد نتاج أخلاقي، جماعي، أو نتاج لسلسلة من الأفعال المموهة والمستترة، التي تتخذ من الأخلاق غطاء تستر به دوافعها الحقيقة.
لقد سارت الرواية العربية سيرا متعرجا في تناول مشكلة الحرية الجنسية, وقد جرى هذا السير في أحوال كثيرة على هيئة قفزات الى الأمام وأخرى الى الخلف, جعلت من رصد تقلبات العملية الفنية أمرا بالغ الصعوبة. لكن تلك المسارات المتعرجة والقفزات لم تكن سوى خطوات فنية أملتها على الأدب تقلبات الواقع والعثرات التي واجهتها حركة التقدم الاجتماعي العربية على الأرض في ميادين الحياة كافة: السياسية والاجتماعية والحقوقية, والثقافية. فبعد الحقبة الرومانسية، التي جمعت بين العاطفي والاجتماعي، بصيغته العامة، ظهرت موجه أرادت التحرر من سطوة الرومانسية، فاتجهت نحو ضرب أولي من المعالجة التحليلية والنفسية، ممزوجة ببقايا الرومانسية، ظهرت بين الحربين العالميتين، وأرادت فصل السياسي عن الجنسي وإنشاء قدر ملحوظ من استقلال الفعالية الجنسية­ العاطفية عن شروط الواقع السياسي، وتطور هذا المسعى بشكل قوي في وقت لاحق في تجربة أبرز الكتاب العاطفيين: إحسان عبد القدوس، الذي أخذ من جيل ما بين الحربين نزوعه الى تأسيس عاطفة مستقلة عن السياسة، لكنه سقط في أحوال كثيرة في معالجة تفتقد الى ما امتلكه جيل ما بين الحربين: التحليل النفسي والعقلي. فأضحى الجسد الأنثوي لدية عاريا من بعده الإنساني العميق، على الرغم من أنه لم يسقط في التفاؤل أو الاحباط الثوري، لأنه لم يكن ولوعا بالثورية. وللسبب ذاته آثرت الرواية العربية، أو ما يعرف منها بالاجتماعية على وجه التحديد، ربط الجنس بالفعالية السياسية، أو بمجرى النشاط الاجتماعي العام للمجتمع، كنوع من التعويض عن ضعف القاعدة النفسية، التي تبنى عليها العلاقات الجنسية. لقد طور القصاصون الاجتماعيون الفعالية العاطفية من طريق ربطها بالآلية السياسية للمجتمع، لكنهم كبلوها، من دون أن يعوا، برابطة جديدة، لا تقل تعسفا عن الأخلاق العامة. ربما يكون الاغتصاب هو أعلى درجات الانتهاك الجسدي والروحي للمرأة في أعين الأغلبية من بني البشر، لأنه حالة خاصة جدا، ومن ضمن خصوصياتها أنها تقرن الجنس بالعنف أو الإكراه، وتكسب المواقعة الجنسية طابع الصراع والتنافر العاطفي، لا الاتحاد والانجذاب الروحي والجسدي. ونظرا لاقتران هذا الفعل بالعملية الجنسية، يتضاعف أثر الفعل، ويخرج من حدود الاعتداء الجسدي والنفسي، الى ما هو أبعد، الى الاعتداء الأخلاقي. ( ملاحظة: كل اعتداء على الآخر هو فعل لا أخلاقي. بيد أن المجتمعات التقليدية والدينية، تضع للمحرمات الجنسية قيما أخلاقية تفوق المحرمات الأخرى. فالاعتداء الجنسي يحمل طابعا مضاعفا: الاعتداء كممارسة نفسية وجسدية, تضاف اليه الطبيعة الجنسية للفعل وما يرافقها من إحساس بالامتهان والاذلال أو العار). إن مؤسسة الزواج، التي تحلل الفعل الجنسي للزوجين، توحي، كما لو أنها تسقط جزءا من القيمة المعادية للأخلاق التي يتضمنها اغتصاب الزوج للزوجة. لذلك تبدو المرأة المغتصبة ضحية غامضة المشاعر، تتجاذبها مشاعر مضطربة، فتظل أسيرة لعملية تنازع مستمرة بين الإحساس بالواجب (تلبية العقد الزوجي) والإحساس بالامتهان والقهر الجسدي والروحي ( مشاعر رفض الاعتداء). ومثل هذا الأمر يسود بالضرورة مشاعر الرجل أيضا، الذي على العكس من المرأة، يميل الى إعلاء مشاعر الحق (العقد) على حساب الإحساس بالمسؤولية النفسية والأخلاقية عن ممارسته العدوانية. إن هذا الاختلاط في المشاعر والأحاسيس، الناتج من تعقد الوعي الاجتماعي والأخلاقي، ومن تقعد العلاقة بين الفردي والاجتماعي في ظل علاقات إجتماعية مشوهة، تسود المجتمعات الشرقية الحالية، التي تجمع في وحدة شاذة، مجموعة من التناقضات الحضارية، التي تنتسب الى قيم إجتماعية مختلفة، لم تمكن المرأة والرجل على حد سواء من الوصول الى معادلات عاطفية وأخلاقية على قدر من الوضوح، تسمح ببروز العاطفي والنفسي كبعد حقيقي للمشاعر المعاشة. ولا غرابة أن يجنح التصوير الأدبي الى تزوير المشاعر أو اصطناع الأحاسيس من أجل تقديم صورة أدبية مقبولة، حتى في أشكالها المتمردة. لذلك عاد الروائي العربي من رحلة البحث عن الذات وما يعرف بالداخل الى الخارج، الى الواقع السياسي أو الى تناقضات الوعي، التي جُعلت ­ مبالغة وتجاوزا­ قاعدة اضطراب واستقامة السلوك، وفي الأخير جُعلت هي المقياس القيمي، الذي يقاس به السلوك الفردي والجماعي. فالنساء المغتصبات، اللواتي صورتهن الرواية العربية، جلهن من المثقفات، دفعن ثمنا للحظة الوعي ­ التي لم تنجب حقا مقابلا يمارسنه في الواقع­ يتغلبن به على الإحساس بكونهن زوجات فحسب، ولسن شريكات في الزواج. وعند استعراض أبرز الشخصيات النسوية في الرواية العربية، لجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى نجد أنهن من المتعلمات، وهذا يشمل ”سارة” في رواية العقاد (سارة)، والزوجة في (الرباط المقدس)، و”عايدة” في (إني راحلة) و ”رباب” في (السراب) و”منيرة” في (الرجع البعيد)، و” سوسن ” في (السكرية) و”فوزية” في (قصة حب) وأمينة في (أنا حرة) و ”حواء ” في (حواء بلا آدم)، و”ليلى” في (الباب المفتوح، و ”مريم” في (سيدة المقام) ، و”نورما” في (خضراء كالمستنقعات) و”نادية ” في (خضراء كالحقول) ، و”إيمان” في (إنانة والنهر)، و”سلمى” في (خضراء كالبحار) ، و”زينب” في (زينب والعرش). وجل أولئك النسوة كن زوجات يمكن اغتصابهن في أي وقت، كضريبة للوعي، الذي منحهن الإحساس بالرفض العاطفي والنفسي، ولكنه لم يشرع قانونيا ،لهن وللمجتمع، هذا الرفض ويجعل منه حقا إجتماعيا ملزما أو معترفا به. إن المسافة بين النفسي والأخلاقي، بين العام والخاص، بين السياسي والعاطفي غائمة جدا في وعي الجميع: الشخصية القصصية والقاص والقاريء، بما في ذلك النسوة، اللواتي تعرضن للاغتصاب الزوجي سواء كن شخصيات أدبية أم شخصيات حقيقية موجودة في الحياة. وسبب هذا الغموض كامن في غموض الواقع، واختلاط النفسي بالأخلاقي، والعاطفي بالسياسي، والفردي بالاجتماعي. إن الإنسان في مجتمعاتنا ملتبس بحدة، لذلك يجنح كثيرون الى حل هذا الالتباس في القيم والمشاعر الى الحل الأبسط والأوضح: العودة الى القانون الأساسي: الشريعة، وحبذا لو كانت عودة الى أقدم نص تشريعي، فهو أوضحها وأسهلها وأكثرها إلزاما. هذه الرحلة المعقدة خاضتها النسوة المغتصبات السالفات، كل واحدة بطريقتها، ووصلن، جميعا الى نتائج مأسوية. فـ”مريم” واسني الأعرج ذهبت ضحية طلقة غادرة، بعد أن يطلقها زوجها. وهنا تحل معضلة مريم، بيسر تام، من الخارج، من طريق رصاصة سياسية. أما ”سلمى” هاني الراهب فظلت تتمرغ في حيرتها الأخلاقية والعاطفية والاجتماعية، من دون أن تجد حلا، وتضطر الى الانتحار زوجيا، كما يرى الراهب. بيد أن ”نورما البدر”، التي لم تتلق طلقة سياسية، ولم ترغب في الاستمرار في لعبة الانتحار الزوجي­ وهي التي بدأت لعبة الخيانة الزوجية واستمرأتها واستعذبتها ردحا من الزمن، باعتبار أن الخيانة، في نظر البطلة، هي المعادل الأخلاقي للوعي ومبررها العقلي، في ظل غياب العدالة الجنسية والمساواة! ­ لم تقو على الاستمرار في لعبة الانتحار زوجيا. لذلك يممت وجهها شطر الحل الأسهل والأرخص والأكثر انسجاما مع ذات متعبة سئمت لعبة المقاومة الفاشلة، فقد لبست درع التقوى، وغطت عوراتها جميعا ببرقع أبيض، لا يستر شعرها ويديها ورجليها حسب، بل يستر أيضا حتى روحها المضطربة العاجزة، المهانة، الكسيرة، ويستر بدرجة أكبر ضميرها المعذب المثقل بالخطايا. ورحلة ”نورما البدر” معاكسة تماما لرحلة ”سلمى”. فالأولى بدأت من التحرر وانتهت بالحجاب، بينما مشت ”سلمى” في طريق معاكس، بدأته محجبة، واختتمته وهي تمارس الخيانة الزوجية. هذه النهايات المفجعة صور لبعض شرائح المجتمع النسائي، وهي صور قد تطابق اللوحة العامة، المعترف بها علنا من قبل مؤسسة الأخلاق الرسمية كحالات ومصائر. لكنها كمعالجات أدبية لا تعبر بدقة تامة عن اضطراب اللوحة الحقيقية الداخلية للمرأة المغتصبة، أو على الأقل للنساء المغتصبات كافة. إن لوحة الواقع الداخلية أكثر تعقيدا من تلك النماذج، لم يتمكن الأدب الروائي من كشفها بعد على حقيقتها. فهنالك خلل جدي في منظومة القيم. هنالك توقف، سبات، تعطل في نظام إنتاج القيم العقلية والأخلاقية وحتى الأدبية، يعيق عملية توليد الأفكار الجديدة، القريبة من بنية الكائن النفسية، وعلى وجه التحديد من معضلة المرأة، سواء أكانت مغتصبة جسديا أو روحيا أو كليهما.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل العراقيون مؤهلون لخلق حركة ثقافية معادية للعنف؟
- تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق
- جواز سفر عيراقي, ولكن لغير العراقيين!
- هل كان الرصافي طائفيا؟
- نيران خفيّة: ما لم تقله جوليانا سيغرينا
- لقد سقط صدام, ولكن باتجاه السماء
- مقدمة لدراسة الشخصية العراقية
- جيش الوشاة.. شعراء السيد القائد.. شعراء السيد العريف
- نوبل على مائدة هادئة
- خرافة اجتثاث البعث في التطبيق
- اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وص ...
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي
- رسالة الى صديق لبناني
- الواقعيون العرب:من نظرية المؤامرة الى نظرية المغامرة
- العودة الى آل ازيرج
- سنلتقي خلف منعطف النهر :::الى أخي كمال سبتي
- من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- اثر الثقافة الشرقية على المرأة والرجل / جهاد علاونه


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2007 -حجاب المرأة بين التقاليد الأجتماعية والبيئية والموروث الديني - سلام عبود - اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي