أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الفصل 5 من رواية كش ملك















المزيد.....


الفصل 5 من رواية كش ملك


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1841 - 2007 / 3 / 1 - 12:13
المحور: الادب والفن
    


-5-
الحصان الأسود

قيل قديماً، إن الحصان الأسود، حصان سباق المسافات الطويلة. أما هنا داخل المربعات أل 64، لم يتمكن من القفز من فوق الحواجز وتحقيق التقدم المطلوب، أو ربما، وهذا على الأرجح، أعتقد أن بخطوته الحمقاء استطاع اختراق ثغور الملك الأبيض المنيعة، وبالتالي أثر على خطوط الدفاع وأربك الهجوم، في حين كانت خطوته الأخيرة نقلة مميتة سرّعت في نهاية اللعب وتحقيق الفوز على أنسام.
وكانت أنسام تنظر إليّ وحالة من الارتباك قد طفت على سطح وجهها تنم عن إدراكها لحجم الخطر الذي بات يحيط بها من كل صوب. فكل الاحتمالات تؤدي إلى محاصرة الملك ودك حصونه بشكل متواصل حتى حدود الاستسلام دون قيد أو شرط، وكنت أدرك على نحو غامض أنها تتمنى من كل قلبها البقاء متماسكة حتى يتدخل الحكم عند أول فرصة بغية وقف إطلاق النار وعرض التعادل على الطرفين المشروط بموافقتهما، ذلك أنها كانت تجد صعوبة وحرج في عرضها لهذا الأمر عليّ، وكأنها تطلب مني اقتسام الفوز، في الوقت الذي تدرك فيه استحالة قبولي به في الظروف الطبيعية، الأمر الذي يفتح باب التأويل على مصراعيه إذا ما قبلت به ضمن هذا الوضع، بما في ذلك، ضعف الرجل أمام المرأة عند اللقاء الأول.
ضربتْ الرخ الحصان وأبقت الوضع على ما هو. حصان سباق المسافات الطويلة يسقط صريعاً أمام أعين الملك والوزير ومختلف القطع الحربية من جند وضباط صف وكبار قادة، وكان عزاؤهم الوحيد لم يسقط هباء منثوراً. فقد طرد خارج المربعات ال 64 رخ تشكل عبئاً ثقيلاً على مجريات المعركة، في محاولة منه لإحداث نقلة نوعية على الأرض، تجعل الهجوم في حالة ضعف يتحول بعدها إلى دفاع ينهار تباعاً كلما أخذ التركيز عليه بالازدياد.
احتلت الرخ مربع e1 كي تحمي البيدق الذي يهدد الفيل، سجلت الخطوة وأنا أعرف ماذا عليّ أن أفعل في الخطوة المقبلة، بعد هروب الفيل من مرمى نيران بيادقي، في حين أبقيت على البيدق مهدداً بالوزير دون قدرة على توفير الحماية المطلوبة له مهما حاولت.
وهربت أنسام بالفيل فعلاً لتضعه في مربعg4 مهددة الحصان طمعاً في استبداله كل لحظة والاكتفاء بفارق الرخ حتى تتمكن من إضعافي شيئاً فشيئاً، في وقت لم تسجل فيه الخطوة حتى تربكني بالرد عليها سريعاً والوقوع في الخطأ الذي من شأنه فقدان ميزة الضغط والاستمرار في الهجوم وتصاعده.
وبحركة الواثق من تصرفه ثقة لا يرقى لها الشك، مهما كانت بواعث التريث، تقدمت بالبيدق خطوة إلى الأمام، مهدداً الفيل الآخر، فأصبح في مربع e5 وفي حال تراجعه، سيكون بيدق 7c عرضة للهجوم من قبل الحصان الذي بحركته هذه إنما يهدد الملك والرخ دون مقدرة الوزير على فعل أي شيء مهما كان ضئيلاً، وبالتالي تكون الرخ قد سقطت ومعها انهارت خطوط الدفاع الأولي بعد أن أكون قد ضربت الوزير بالوزير وعريت الملك تماماً من القطع الثقيلة التي تتكفل بحمايته والذود عنه.
إذن، هي خطوة يتحدد فيها مصير الملك والمباراة بالكامل وعليّ الإفادة منها دون إبطاء.
ولأول مرة، أنظر إلى عيني أنسام بشكل مباشر، لعلني كنت أفكر في تلك اللحظة في مشاهدة الاستسلام حين يطبق على الجفون والعيون ويتغلغل إلى مسام الروح فيودعها حالة من القنوط ورفع الأيدي إلى الأعلى مشفوعة بعدم قدرة الاستمرار في المقاومة إلى ما لا نهاية. بيد أنني التقيت بها عند منتصف المسافة، كمن تقول: توقعت منك ذلك!
كانت أكثر من مجرد لاعبة تجلس خلف رقعة الشطرنج، وأقل من لاعبة محترفة تجيد الهجوم المباغت من حيث لا يتوقع الخصم. وكان الأمران معاً يثقلان على كاهلي؛ فضلاً عن كونها لبنانية طحنتها مخلفات الحروب فحرمتها من التمتع بصباها والتبختر عند إشارات الممنوع. وكنت فلسطينياً رمته الأقدار في طريقها، فلم يجدا القاسم المشترك للحديث عنه سوى لغة الموت الجماعي وتهديم البيوت وتشريد الناس الآمنين.
وعرفت على نحو خاص، أنني صعب المراس، فيما عرفت عنها طفولة محيرة أدت بها إلى بيع التوت عند مواسم الإخصاب، تستر عيوب الآخرين وتطعم جيلاً من مقاومي أهل الجنوب، وكان الشمال على موعد معنا، ننظر صوبه فتمتلئ قلوبنا عشقاً أبدياً لا يقوى عليه سوى من هو مثلنا: تلونت قدميه بالأحمر القاني .
وكانت النقلة المرتقبة تنتظر ملامسة أصابعها الناعمة الطويلة التي طالت قلبي وحركت فيه السؤال. وتقدمت ببيدق6 a مهدداً الحصان الذي غدا يشكل خطراً حقيقياً على سكان المنطقة ودفاعاتهم الحصينة، ثم ضغطت على الساعة ولم تسجل الخطوة جراء اقتراب وقتها من النفاد.
ابتسمت وعدت برأسي للوراء كأني أصبت منها مقتلاً. وعرفت على نحو لم أكن فكرت فيه من قبل، أن مثل هذا التصرف يثير في النفس البغضاء ويبعد التقارب ويزيد النفور الذي إن لم نتداركه قد يتحول إلى معضلة يصعب تسويتها بيسر وسلاسة. عندئذ، لم يكن بد من ملاطفتها بكلمات تصيب شغاف القلب وتجلو الروح من الترسبات، فضلاً عن كونها ترفع من شأني في نظرها. فقلت:
- حركة ذكية من روح تواقة للانطلاق والحرية نتقاسمها سوياً، ولكن بعد الفوز عليك.
- متى؟
- في هذه المباراة.
- مستحيل!
- لماذا؟
- لأنك تلعب برأسك بين سيوف جنودي!
- سيوفك من خشب ورأسي عنيد.
- ولكن المباراة مازلت لصالحي!
- عجب أسمع! ألم تشاهدي حصونك تنهار الواحد تلو الآخر أمام ضرباتي..
- أرى حصوني تصد هجماتك الواحدة تلو الأخرى، بانتظار لحظة الهجوم المضاد.
- الهجوم الذي لا يمكن أن يحدث مهما امتلكت من قوة وبطش!
- ألم أقل لك إنني من لبنان!
- بلى، ولكنني قلت لك إنني من فلسطين
- ربما لهذا السبب فقط، سأكون لطيفة ورحيمة معك!
- إذن خذيها ضربة بتارة تقطع دابر التفكير بإمكانية أي هجوم تحاولين القيام به.
وضربت الفيل بقوة كما لو كان عدواً حقيقياً ووضعت بدلاً منه بيدق E5 ليصبح في مربع d6 وعلى مقربة من تخوم الملك، في وقت تسلقت فيه الابتسامة على وجهي حتى لا تأخذ الأمر على محمل الجد والمعركة الحقيقية، فتغدو المسألة أكثر تعقيداً وندخل بها ومعها متاهة تحجب عنا رؤية أفضليات المستقبل وما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال سيرها على النحو الذي رسمنا بداياته بالكلمة الطيبة والنظرة الودودة المنفتحة على فضاءات الاستيحاش الموغل في أعماق النفس البشرية منذ آلاف السنين.
وذهب النفور أدراجه مع موجات الريح والصخب، وحل الصفاء محله، فبدت غاية في التمتع والجمال، واكتشفت فجأة، كما يكتشف المصاب بالزكام، أهمية حاسة الشم، أن هناك قصة تقف وراء هذا التمتع لا جدوى من البحث في حيثياتها في هذا الوقت بالذات، حتى لا نضحي فريسة التسرع وحصد الثمار قبل نضوجها، وكانت نظرتها إليّ أكثر نضوجاً مما توقعت، فبدونا أقرب تجاذباً ومجايلة من كل سنوات العمر الماضية. فوقعنا أمام اللحظة الراهنة ننظر من فوق أكتافها إلى الماضي باعتباره جزء من الذكريات التي تحفزنا للانطلاق صوب الهدف دون التقدم إلى الخلف.
وتقدمت بوزيرها فضربت الحصان بكل ما أوتيت من قوة، ليس فقط من أجل الانتقام لحصانها الأسود الذي سقط قبل بلوغ سباق المسافات الطويلة، بل لأنها وجدت فيه حجر عثرة أمام طموحها في تطوير الدفاع حتى يتحول إلى هجوم يحقق شيئاً على الأرض. فضلاً عن أنه بات يهدد الملك في عقر حصونه. الأمر الذي أظهر حجم التوتر الذي بلغها، فحد من قدرة عقلها على الفعل بالاتجاه الصحيح، لاسيما بعد أن أدركت استحالة الحفاظ على وضعها الدفاعي دون تقديم التضحيات الملائمة التي تحفظ للوجه ماءه، وللمباراة صيرورتها التي بدأت بالأفول، غير أن العناد، وربما التحرج من الوضع الذي أصبحت عليه حال دون الاستسلام غير المشروط، ومع ذلك آثرت المقاومة حتى النفس الأخير، في الوقت الذي أعلنت القول صراحة:
يستطيع مجلس الأمن أن يتخذ قراراً بوقف الحرب في فلسطين ولبنان، ولديه القوة كي يلزم الأطراف المتحاربة على تنفيذ القرار، ولكنه لا يستطيع إيقاف حربي معك وعليك، سأبقى أطاردك إلى آخر الدنيا حتى أتمكن من النيل منك والفوز عليك، ولن تستطيع قوة في العالم من الدفاع عنك أو منعي من فرض شروط الاستسلام عليك دون قيد أو شرط، بعيداً عن التعويل على الآخرين وانتظار مساعدتهم إليك.
قد تعتقدين أن لفظ الأنفاس الأخيرة في خندق المقاومة صحيح بالمطلق وفي كل الأحوال بعيداً عن التفاصيل ومجريات الأمور وما إلى ذلك، هذا انتحار في شكله العام، ينبغي دراسة الحيثيات بعناية قبل الإقدام على خطوة تعتبر في مجرى العمل انعطافاً حاداً تسجل عليها المآخذ الكثيرة وتؤثر تأثيراً قريباً ومتوسط المدى على مجمل الوضع والعمل معاً، يصعب تحاشي آثاره الكارثية دون أخذها بعين الاعتبار عند بدء تطور المسألة وقبل أن تصل إلى ما وصلت إليه، الأمر الذي يصبح معه التفكير منطقياً ، وتبعاً للتطورات ضعيفاً وغير متماسك ولا يخدم المصلحة العامة التي يسعى صاحبها إلى الوصول إليها بأقل الخسائر وأفضل الوسائل في الأداء والمهنية والتخصص الذي يسهم في البناء على أسس سليمة ترقى في مستواها إلى نبالة الأهداف التي يصبو نحو تحقيقها بما ينسجم ورغبات الناس باعتباره جزء منهم ولا يمكن الانعزال عنهم.
كانت الخطبة عصماء، ولا أعرف كيف انجررت وراءها دون ضابط، كل ما أعرفه الآن، هو أن ضرب الوزير بالوزير أوقف الخطبة وأخذني إلى التفكير بمجريات اللعبة حتى لا أخسرها في اللحظة الأخيرة وبعد أن أوشكت على النهاية.
ضغطت على ساعة التوقيت وسجلت اللعبة كما هي عادتي في الغالب *QXb5+ ثم واصلت التفكير فيما ستؤول إليه الأمور بعد لعبتها التي لا مفر من الإقدام عليها كما هو متوقع بالضبط. وكان الوقت المتبقي لها على وشك النفادِ، الأمر الذي لا يتيح إليها المزيد من الوقت في التفكير.
ضربت الوزير ببيدق a6 وهي ما تزال تأمل في حصول معجزة تنقذ الموقف وتقلب موازين القوى رأساً على عقب، أو ربما، للحظة شعرت أن بإمكانها السيطرة على الوضع في حال تعثر خطواتي وعدم التصرف بحكمة العارف إلى أين ذاهب وماذا عليه أن يفعل .
وكانت تنظر إليّ وتنتظر خطوتي بفارغ الصبر، في الوقت الذي كان لدي من الوقت ما يكفي للتفكير بروية، علماً بأن الخطوات السبعة التي حركتها حتى الآن، كنت قد فكرت بها ملياً، وصولاً إلى قتل الملك في الخطوة الثانية عشرة، ومع ذلك كنت أفكر مرة أخرى عند كل خطوة خوفاً من الوقوع في الخطأ.
وطال الانتظار، ومعه بدأ بعض اللاعبين بالتّحلق حول

رقعة الشطرنج رغم محاولات الحكام الحثيثة إبعادهم إلى أقصى مدى، حتى لا يؤثروا على مجريات اللعب
ونظرت إليها فجأة، قبل أن أحرك الخطوة، فرأيت بعض حبيبات العرق متفصدة على جبهتها، وعرفت على نحو لا سبيل إلى وصفه، أنها تتعرض لضغط نفسي أفقدها بعضاً من الجمال والأنوثة، واجتذب نحوها المزيد من اللاعبين، وأدخلها في متاهة أوشكت أن تدفع بها إلى الاستسلام رغم الإصرار الداخلي على رفض ذلك.
وترددت كثيراً في عرض التعادل عليها ومقاسمتها الفوز لا خوفاً على ضياع نصف نقطة أنا بحاجة إليها حتى أحافظ على تقدم مركزي، بل لأنني خفت على مشاعرها، وما يمكن أن يسببه مثل هذا العرض أمام المحتشدين، من جرح قد يغور إلى أعماق نفسها فيحدث شرخاً من الصعوبة بمكان مداواته لاحقاً.
نظرت إليها مجدداً ، فوجدتها تنظر إليّ وعلى شفتيها ظل ابتسامة أخذت تفرد جناحيها أمام عينيّ، فأصابت مني ما أصابت، وبت لا أقوى على إبقاء الأمر معلقاً، دون أن أقول كلمة أو أفعل شيئاً، أي شيء يخرجني مما وقعت فيه.
ففعلت، وقدمت البيدق d6 إلى d7 كاشاً الملك ومبتعداً عن ضرب البيدق c ، في مفاجأة أذهلت الجميع، ولكنهم قرأوها بوضوح بعد أن أدركوا أبعادها وخطورتها في اللحظة ذاتها، وفي اللحظة التي تلتها، سرت الهمهمة بين اللاعبين ووصلت إلى مسامعي:
- لقد حسم الدور، ولم يعد مجالاً أمامها سوى الاستسلام!
ولم يكن أمامها من وقت كاف للتفكير به. فأوقفت الملك في مربع8 d أمام البيدق المتقدم، فيما تحركت سريعاً بالحصان ليصبح في مربع e5 زيادة في الضغط، وبذلك أكون قد هددت بشكل مباشر الفيل وبيدق f 7 بالحصان في حين أصبح الفيل g2 يهدد بيدق b7 وبهذه الطريقة بدأ الهجوم الشامل لحظة المفارقة التاريخية، في الوقت الذي أضحى الحصان يشكل حماية للبيدق الذي تقدم للخطوط الأمامية.
وبدا التوتر يغزو كيانها غزو الجراد للحقول الخضراء، تارة باحمرار الوجنتين، وأخرى بالنظر إلى ما يحيط بها من لاعبين وحكام ورقع شطرنجية، في محاولة يائسة للخروج من المأزق الذي وضعت فيه قصراً، ومن شخص اعتقدت أن عناصر اللقاء معه أكثر من التباعد، بل وربما تتوطد كلما مضى الوقت.
تراجعت بالفيل خطوة فصار في مربع h5 حتى يتمكن من الدفاع عن بيدق f 7 الذي في حال سقوطه يتم تهديد الملك وسقوط الرخ h8، وبالتالي تغدو المباراة في حكم المنتهية مهما تأجل تداعي البيادق وما تبقى من قطع عسكرية، الأمر الذي يشي بتأخير انتهاء المباراة إلى بعض الوقت، علماً بأن الوقت، في كل الأحوال لا يعمل لصالحها، وقد كانت تعول على الخسارة تبعاً للوقت، لا بالضربات المتلاحقة التي تدفع نحو الاستسلام سريعاً، لاسيما بعد أن قرأت واقع اللعبة جيداً في الخطوتين الأخيرتين.
وتقدمتُ بالفيل بطيئاً كمن يقول لا فائدة من المقاومة، ثم ضربت بيدق b7 مهدداً الرخ. وكان اللاعبون المتحلقون حولنا قد تفرقوا بعد أن تتبعوا بعض أحداث الخطوات الأخيرة. فنظرت إليها وفي عينيّ أسف بليغ يعبر عن عدم رغبة حقيقية بالفوز عليها بهذه الطريقة، خاصة بعد أن تعدت العلاقة بيننا طورها الأول على طريق التوطيد والزيادة في التقارب وما يحمله في الثنايا من بوح وتحليق الروح في الفضاءات غير المرئية التي تفضي إلى التجانس والانسجام.
ويبدو أن الفرصة الوحيدة التي كانت أمامها خلال تجاذب أطراف الحديث لم تستفد منها بما يكفي، ولم تستغلها على نحو بشع، لا سيما بعد أن شعرت باندفاعي العقلاني نحو التقرب منها والحديث معها عن التفاصيل اليومية لخصوصيات حياتها التي تراوحت بين تضميد الجراح وأحداثها.
وكان الجرح الذي أحدثته بنقلة الفيل يكاد يكون قاتلاً، فما كان منها إلا أن تتحاشى تأثيره المباشر، بالإقدام على خطوة أجلت للحظات الحفل الختامي للجولة، علماً بأن كل الخيارات كانت صعبة وتؤدي في القريب إلى النهاية المحتومة التي غالباً ما يتمخض عنها فوز أحد الطرفين، فإن وضعت الرخ في 8b تصبح عرضة لخسارتها من الحصان، وإن بقيت مكانها فهي ساقطة دون مقابل، فما كان منها إلاّ أن حركتها على نحو عشوائي لا علاقة لها بالسعي إلى الفوز. فضربت بيدق 2a ضربة بائسة أتاحت من خلالها تقدم الفيل وتموضعه في b4 كي تمنع الحصان من احتلال المربع E7 أو نزول الملك إلى هذا المكان، فما كان منها، والحال هذه، سوى الخروج بالحصان إلى F6 في وقت كنت أعرف فيه سلفاً أن خطوتها هذه هي الخطوة الوحيدة المرتقبة التي تتمكن من تهديد البيدق الذي أخذ يشكل عبئاً ثقيلاً على الملك.
كانت تلعب بالثواني الأخيرة من الوقت القابل للزيادة مع كل خطوة ثلاثون ثانية، وكنت ألعب بأريحية كاملة. الوقت وسير المعركة داخل المربعات ال64 يعملان لصالحي، وهذا يدفعني إلى عدم التفكير كثيراً في الخطوة الواجب الإقدام عليها، فذهبت بعقلي إلى مضارب بعيدة تشكلت مع مرور الزمن فأضحت جزءاً من إرث الماضي وما يحمله من ذكريات تتفاوت في منسوب تأثيرها على البنى المعرفية ومخزونها في تلافيف الدماغ والحاجة إلى استعادتها عند الضرورة.
واستعدت فجأة إيمان التي عرفتها قبل سنوات عندما التقيت بها بالصدفة في فندق السفير بالقاهرة. كانت متمنعة على الجميع فتمنعت عليها، وآثرت فضولها فتعقبت خطواتي، وحين اقتربنا حتى حدود اللقاء، انزويت من أمامها كما لو أنني أخشى من المواجهة، فتملكها إصرار غريب لمعرفة السبب وراء ذلك.
أستذكر الآن بوضوح، كيف وقفت أمامي وعينيها مبللة بالدموع، تسأل بخشوع لم أر مثله في حياتي: لماذا تحاول الهروب مني؟
لم أكن أنوي الهرب منها بقدر ما كنت أهدف إلى خلق مادة للحديث عندما يحين اللقاء بيننا، ولما التقيت بها كان حجر الأساس في صرح البنيان قد نهض عالياً وعلى غير توقع. وقفت أمامها مرتبكاً، مأخوذاً، مأسوراً لا أقوى على فعل أي شيء دون النظر إليها وإشباع عيني مما أراه. وعندما استعصى علينا البقاء صامتين، كان عليّ قول شيء حتى لا يغدو الصمت حاجزاً يواصل ارتفاعه ويحول بالتالي بين استمرار هذه اللحظة التي لا تقدر بثمن مهما بلغت متعتها رغم بلل العيون. فقلت:
- بصدق أشعر أن فيك شيئاً يخصني وحدي ولا يجوز للآخرين معرفته!
- يخصك أنت!
- نعم..
- وما هو؟
- شيء يشبهني، لا ينزع إلى الركون، ولا يحب المغامرة غير المحسوبة!
- إذن هكذا..
- ربما، وربما هو شيء شبيه..
- بهذا المعنى، فالحديث هنا لا جدوى منه، وعلينا التوجه إلى مكان آخر.
- بالضبط!
- وهذا ما ترغب في الوصول إليه!
- إذا كنت تفهمين الأمر على غير ما هو عليه، أستميحك عذراً، وعليّ الذهاب الآن.
- لا عليك أين تريد أن نذهب.
- إلى المكان الذي ترغبين..
- دعنا ندخل إلى البوفيه التابع للفندق، فهو مكان شاعري ويصلح لمثل هذا اللقاء ولا توجد فيه من العيون والآذان ما يتلصص علينا..

وضعت الفيل في مربع C6 بغرض تعزيز الحماية للبيدق بعد أن بات عرضة لهجوم الحصان، وعدت أستحضر إيمان من الذاكرة، وقبل أن تطل علي بكامل هيئتها، ضربت بالرخ بيدق b2 فأصبح الفيل موضع تهديد، فحركته سريعاً في مربع C5، فباتت اللعبة مفتوحة على كل الخيارات ويصعب معها سد الثغرة التي يمكن النفاد منها إلى حصون الملك.
أخذها التفكير إلى مداراته ، وضعت رأسها بين يديها دون إعارة الوقت أدنى اهتمام. زفت الساعة بصفارتها المعروفة خبر انتهاء وقت اللعب والوصول إلى النهاية المحتومة. خشيت عليها من إبقاء رأسها موضوعاً بين يديها، وقبل أن أقول شيئاً، كان الحكم قد تدخل معلناً نهاية اللعبة وفوزي عن جدارة بالوقت وسير المعركة. رفعت رأسها ونظرت إلىّ. مدت يدها تصافحني بود كنت أرهب منه منذ جلسنا متقابلين. هنأتني بالفوز وتمنيت لها التعويض في المرات القادمة. نهضت فنهضت. سرنا متحاذيين، الكتف يوشك أن يناطح الكتف. خرجنا من قاعة اللعب ونحن مطرقو الرأس، هي تسبح في عالمها الخاص وأنا بانتظار ارتداء ملابسها. وعندما وصلنا المصعد قالت:
- أنا الآن مرهقة بعض الشيء سأذهب إلى غرفتي، أرتاح قليلاً وأستبدل ملابسي، على أن نلتقي بعد ساعة في صالة الانتظار نشرب القهوة ونتبادل أطراف الحديث.
- حسناً، وإذا تأخرت، رقم غرفتي 204.
- ورقم غرفتي 208.
- اتفقنا..
_______
QXb5+* :الوزير يضرب الوزير في مربع b5 ويهدد الملك ، كش .



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل 4 من رواية كش ملك
- رسائل حب إلى أطفال لبنان
- هل نحن إزاء ضربة أمريكية ترجيحية واحدة ؟
- الفصل 3 من رواية كش ملك
- الحكومة الفلسطينية .. عشرة شهور على الأزمة
- الفصل 3 من رواية :كش ملك
- اتفاق مكة الثنائي
- إيران والعد التنازلي للحرب
- الفصل 2 من رواية : كش ملك
- الفصل الأول من رواية :كش ملك
- فرصة اللحظات الأخيرة
- مسرحية جديدة -نحكي وإلا ننام
- الحب الفجيعة :قصة قصيرة
- الراقص المقعد :قصة قصيرة
- قلعةلبنان تقتحم من الداخل
- قصة قصيرة
- خروب عسل-- قصة قصيرة
- أمريكا ..الذهاب إلى الانتحار
- ملامح استراتيجية جديدة بتكتيك قديم
- إسرائيل الخاسر الوحيد من الحرب


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الفصل 5 من رواية كش ملك