أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - بائع خردوات في سوق هرج ومنفي عاجز في غرفة بأسكندنافيا















المزيد.....

بائع خردوات في سوق هرج ومنفي عاجز في غرفة بأسكندنافيا


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1837 - 2007 / 2 / 25 - 12:38
المحور: الادب والفن
    


إلى: حيدر عبد الحسين الشباني الشيوعي الأبدي
أستيقظ مذعوراً وأشخص نحو السماء. كنا ننتشر صيفاً وسط حوش دارنا الفسيح. أهدأ قليلا فالفجر لم ينبلج بعد، والنجوم مصابيح دانية. البثُ تحت الغطاء منصتا . الكل يسقط في النوم، أخواني وأخواتي العشرة، أمي وأبي. وقتها لم أحس بالخوف أبدا، بل مشدودا إلى تلك المغامرة الجديدة. علبة الصبغ أخفيتها في غرفة الطين المنزوية بطرف الحوش البعيد، أما الفرشاة فقد بقيت مع "حيدر الشباني". أزحت البطانية عن جسدي. نهضت بنصفي الأعلى. لا صوت ولا حركة، الكل يغور في الظلمة ونسيم أخر الليل المنعش.
ـ متي كان ذلك؟!. هل كان في صيف 1968 أم في السنة اللاحقة؟!.
لا أتذكر الآن بالضبط، لكن ذلك اليوم أرى تفاصيله وكأنه البارحة. أراني كيف تسللت من فراشي متحاشاً الأجساد الغافية، وباللمس عثرت على العلبة الكبيرة، وخضت في ظلمة الحوش إلى المدخل المظلم. أزحت سرقي الباب بهدوء حتى لا يأز. سحبت الدرفة نحوي قليلا.. قليلا، ونفذت إلى الشارع وضجيج فرن مخبز حاج جاسم الداوي للتو. جلست حسب الإتفاق جوار الباب منتظراً. دقائق ولمحت ـ حيدر ـ يأتي من طرف الشارع مسرعاً. قمت من مكاني حاملا العلبة، حياني بهمس وأمرني اللحاق به. هو من أقترح الفكرة ، إذ يكبرني بثلاثة أعوام، ومارس هذا العمل مرات دون أن ينكشف.أسرعت خلفه، فأخذني إلى باطن المدينة. في الصمت والظلام بدأنا نخط على الحيطان كلاماً كبيراً يدعو الناس للثورة على الحكومة الجائرة. واحدٌ يكتب والآخر يراقب. وقتها لم يكن في الشارع سوى الحارس الليلي المسكين الذي نستطيع تحاشيه بسهولة. ما كنا نخاف منه هو دورية الشرطة، أو أن يفزَّ أحدهم ويجدنا جوار جدار بيتهم أو مدرسة فيشتبه بنا ويصرخ، فيستيقظ الجميع كما هي عادة العراقيين وينكشف أمرنا.
أخبرني حيدر أننا يجب أن نتحاشى جدران بيوت الناس، ذلك يسبب لهم مشاكل، ولما كنا نحب الناس رحنا نركز على حيطان المدارس والدوائر الحكومية.
ـ تعيش الطبقة العاملة
ـ السلم في كردستان
ـ يسقط الحكم العسكري
ـ يعيش الحزب الشيوعي العراقي
مع الفجر نفدت العلبة، ألقيناها في نهر المدينة وعدنا إلى "الحي العصري" الذي لم نخط على جدرانه حرفاً. إلى هذه اللحظة وبعد أكثر من سبعة وثلاثين عاماً أستطيع تذوق تلك النشوة التي ملأت كياني لحظة آوبتي في أختلاط الضوء بالظلام إلى حوش دارنا الذي تركته مردوداً. وكيف أندسست تحت غطائي قبل موعد نهوض أمي بفترة وجيزة. وفيما كنت أتأرجح على حافة النوم أيقظتني لأجلب خبر الفطور من فرن الحاج جاسم الكائن في مدخل شارعنا.
تتذكر كتابات العصر تضحك على الحيطان
تتأملها تتذكر حياتك من وره الأفكار والدخان
الصباح التالي ستضج المدينة وتستنفر الشرطة بمفارزها التي تفتش وتغير على المشبوهين . وقتها كان من المستحيل أن يُشك بنا ونحن مجرد مراهقين لم نزل نقضى وقتنا في متابعة البنات وكتابة رسائل الحب، والكلام عن الجنس وأسراره.
كان الأمر سراً بيني وبين حيدر.
وكنت لا أعرف أن ذلك اليوم سيأخذ كل عمري إلى منحى أفضى بيّ في منفى أسكندنافي بارد أقرض فيه أيامي الثقيلة عاجزا بعد ذلك العمر العاصف في عراق دامٍ لم يهدئ لحظةً.
عديت الشوارع ورجعت تعبان
صح عديتهن.. لو بالعدد غلطان
شعلت أثنين وثلاثين ليلة بالسره بذهنك
خفية أنتظر عيدك
وأتلمس ضواها إبذكريات ايدك

في شتاء 2004 عدت إلى تلك الأمكنة والجدران. إلى كتابات الفجر .. وفي أمسية خاصة بشهداء الحزب الشيوعي دعيت لألقاء كلمة في قاعة أعدادية الديوانية عن أخي كفاح وأولاد عمتي صلاح وعلي، وإبن أختي محمد. القاعة ضاجة بذوي ضحايا اليسار العراقي كنت بصحبة أبني ـ كفاح ـ الذي كان يصور بالفيدو. وما أن دخلت القاعة الواسعة حتى أقبل نحوي رجل قصير القامة يخفي عينيه بنظارة سوداء كبيرة. فتح ذراعيه وعانقني بحنان. أحسست بجسده الخشن المتخشب صلبا بين ذراعي. قلت له:
ـ ليش لابس نظارة، أنزعها أريد أشوف عيونك!
كنت مع نفسي أحاول التعرف عليه، فتمتم بشيء ما على عجل وردد:
ـ ما تدري عيني راحت بالحرب!.
أصررت على نزع نظارته، فأزاحها قليلا. أخرسني الهول، في مكان العين وجدت حفرة صماء تنتهي بنقطة. ركزت فيها عميقاً فوجدت تيه صحراء وخواء عالم. اللقطة سريعة لم يتسن لي الخوض معه بحديث يجعلني أتعرف على شخصه، إذ أقبل نحوي العديد من أبناء المدينة. وفي زحمة الأمر والإنشغال نسيت الأمر.
في يوم كنت أجلس فيه مع ثامر الشباني فسألته عن أخيه ـ حيدر ـ صاحبي في كتابات الفجر الأولى، فأخبرني بأنه موجود يبيع الملابس القديمة في سوق هرج المدينة. وحكى لي قصته مع الحرب. قال لي أنهم ثلاثة قرروا الخلاص من جبهة الحرب، فعزموا الدوس على لغم صغير مزروع في الخطوط الأمامية كي يفقدوا مشط قدمٍ ويتسرحوا، فداس حيدر ولم يلحق بإبعاد وجهه كثيرا فضربته شظية في عينه ففقدها بالأضافة إلى مشط قدمه اليسرى بقى حياً وتسرح.
قلت له: أين أعثر عليه؟!.
فتدخل أبني قائلا:
ـ بابا سلم عليك أول ما دخلت للقاعة بيوم الشهيد الشيوعي!.
قفزتُ من مكاني لما أستعدت المشهد، هاجسا كونه ذاك الشخص المخفي عينيه بالنظارة السوداء الكبيرة العدستين. رددت :
ـ خاف !.
فعرف أبني على الفور المقصود وهرع إلى كاميرة الفيديو ليريني المشهد. فتأملته من جديد وخنقتني العبرة فها أنذا أنسى صاحبي في كتابات الفجر، لما كنا نجوب شوارع المدينة ونخط على الحيطان أمانينا وحلمنا في مدينة فاضلة أفضت بي إلى منفى بارد وهو إلى بائع خردة في سوق هرج بالديوانية بنصف قدم وبعين واحدة يخفيها تحت نظارة سوداء.
مثل ما الطير تتنفس قبل ما تموت.. من تنطبع ع الحيطان
بس تتلمس الحيطان، ما تعرف أمنين تفوت
لو كثرن حياطين الضجر والملل
شوف بعينك الدنيا بغمج صحراء
وأعبر وحدك الوحدة
قمت فورا قائلا:
ـ أين أجده؟.
نظر ثامر أخوه الصغير إلى الساعة وقال:
ـ هو الآن في سوق هرج!.
في الطريق إليه نهضت تلك الأيام في ذاكرتي بهية، فأستعدت كل لحظة عشناه معا، في سبعينات القرن الماضي، لما بدأ يكتب الشعر الشعبي، ويحفظ بشكل عجيب مقاطعا من كتب ماركس وأنجلس، كان يقيس عليها الحياة، فخسر زوجته الأولى التي أحبها، وخسر لاحقاً زوجة ثانية، وهو الآن متزوج من ثالثة أو رابعة لا أتذكر ما قاله لي ثامر، لكن المشكلة القديمة نفسها مع المرأة. ليالي عاصفة عشناها في الحدائق والبارات والأشعار قبل الحملات والحروب. من طرف الشارع أشار أبني إلى حيث يقف يصرخ ببضاعته المستعملة، خرق ملابس:
ـ الحاجة بالفين!.
يصرخ بحماس معاركاً من أجل لقمته وهو الذي جاوز الثالثة والخمسين. أقتربت منه، عانقني وراح يشكو من أخلاق البشر، من تحولاتهم، ممن كان يساريا وأصبح ثريا، من كل شيء. وعاد إلى مقولاته الثابتة بحق الطبقة العاملة في السلطة ومجتمع إشتراكي. لم يعطني فرصة لأعامله بشجن ولنستذكر تلك الأيام. كان يبدو واثقا من الغد الشيوعي. وعلى الرصيف المقابل مسافة عشرين متراً كانت مجموعة من مليشات "مقتدى الصدر" تخرّب محل تسجيلات وتشتم الكفرة، وخلفها في الشارع العام كانت دورية أسبانية تجوب أرجاء المدينة.
رددت مع نفسي بيت ـ طارق ياسين ـ:
شوف بعينك الدنيا بغمج صحراء..
وأعبر وحدك الوحدة.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعبا بالكلمات2
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعباً بالكلمات 3
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعباً بالكلمات 4
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهة ولا لعبا بالكلمات 5
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهة ولا لعبا بالكلمات-1
- الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعبا بالكلمات6
- في أروقة الذاكرة رواية هيفاء زنكنة القسم الثاني
- رواية في أروقة الذاكرة لهيفاء زنكنه رواية تؤرخ لتجربة الق ...
- المنفى يضرب أعمق العلاقات الإنسانية-خريف المدن- مجموعة حسين ...
- حافة القيامة- رواية -زهير الجزائري بحث فني في طبيعة الديكتات ...
- وطن آخر مجموعة -بثينة الناصري القصصية تزييف عذاب المنفى وتم ...
- في أروقة الذاكرة رواية هيفاء زنكنة القسم الأول
- عن مقتل صديقي الزنجي عادل تركي
- ليل البلاد رواية جنان جاسم حلاوي نص يرسم جحيم العراق بالكلم ...
- عن العالم السفلى لنعيم شريف العراقي يحمل جرح الحروب في الوج ...
- خسوف برهان الكتبي للطفية الدليمي كيف تنعكس ظروف القمع على ا ...
- سرير الرمل
- قسوة
- التآكل
- جورية الجيران


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - بائع خردوات في سوق هرج ومنفي عاجز في غرفة بأسكندنافيا