أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فهد راشد المطيري - حوار في الدين و السياسة و التعليم















المزيد.....


حوار في الدين و السياسة و التعليم


فهد راشد المطيري

الحوار المتمدن-العدد: 1836 - 2007 / 2 / 24 - 10:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


"عندما تجد شخصا ما جالسا لوحده ومن دون حراك فلا تظن أنه لا يعمل، بل هو يفكر، ولعمري إن هذا لعمل شاق"!
جملة قالها مرة "بات دويل"، أستاذي الذي علمني مادة الفيزياء!

أ - حول العلاقة بين العلم والإيمان:

- هل من الممكن أن يتعايش العلم مع الإيمان في حياة الفرد؟

- في حياة الأفراد، إذا لم يتمكن العلم الصرف من القضاء على الإيمان الخالص فإنه حتما سيقوم بتهذيبه! مسألة إمكانية التعايش تعتمد على عوامل عدة، من هذه العوامل مدى القدرة النقدية التحليلية لدى الفرد، حجم الفضول المعرفي عنده، حجم الرواسب الثقافية المكتسبة، سعة التكيف مع المحيط الاجتماعي، إلخ! والتعايش بين العلم والإيمان نوعان: سلبي وإيجابي• النوع الأول هو النوع السائد، للأسف الشديد، في مجتمعاتنا العربية، والسلبية ناتجة من عدم القدرة على طرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الاثنين! النوع الإيجابي بدوره يكاد يكون منعدما، والإيجابية هنا هي نتيجة صراع داخلي مرير ينتهي عادة بهدنة بين العلم والإيمان، ووجود هذه الهدنة لا يعتبر دليلا على إمكانية التعايش فحسب، بل على قوة الموروث الثقافي وصعوبة تجاوزه!

- كيف يهذب العلم الإيمان؟

- التهذيب يكون من خلال الانتقال بالإيمان من مرحلة التفسير الحرفي للدين الى مرحلة الرمزية، والرمزية عامل ضروري للحد من التناقض الصارخ بين العلم والدين في بعض المسائل الجوهرية، وهي لهذا السبب تساهم في عملية التكيف بين الاثنين، لكن علينا أن نلاحظ أن التكيف يتم حسب شروط العلم، وليس العكس! بمعنى آخر، العلاقة بين الدين والعلم علاقة تسير في اتجاه واحد: من المقدس الى الدنيوي•

- ما نوعية العلاقة بين المقدس والدنيوي؟

- العلم "يدنون" تدريجيا مساحات شاسعة كانت تقع تقليديا تحت سيطرة المقدس• لنأخذ على سبيل المثال اللغة العربية، فقد جرت العادة عند الحديث عن هذه اللغة من منظور ديني على استعمال تعابير مثل "شرف اللغة العربية" وفضلها وتمجيدها من دون بقية اللغات الأخرى، لكن أية دراسة علمية موضوعية للغة العربية ستصف لغتنا بأنها لغة سامية الأصل تنتمي الى عائلة اللغات الأفروآسيوية، لا أكثر ولا أقل! ولنأخذ أيضا مفهوم "السماء" كما ورد في القرآن، فالمعروف أن المفسرين الأوائل لم يجدوا مشكلة في تحديد هذا المفهوم بـ "السقف" الذي نراه أمام أعيننا، لكن في الوقت الحالي ليس بوسع أي رجل دين يحترم عقله إلا أن يبحث عن تفسير آخر أقل مادية من كلمة "سقف"، وهنا إنما تكون الرمزية عاملا ضروريا كما أشرت سابقا!

- هل بالإمكان وصف عملية تهذيب العلم للإيمان بأنها عملية إيجابية في حياة الفرد؟

- ليس في حياة الفرد فقط، بل في حياة الشعوب أيضا وعلاقتها مع بعضها البعض! عملية التهذيب هذه تتناسب تناسبا عكسيا مع التفسير الحرفي لتعاليم أي دين من جهة، وتناسبا طرديا مع التفسير الرمزي لهذا الدين من جهة أخرى، الرمزية مهمة جدا، إنها تخفف من حدة الارتباط العاطفي بين الفرد ومعتقده، ولا تنتهك قواعد التفكير العقلاني السليم، وعندما يكون الأمر على هذه الحال، يصبح من الصعب تخيل نشوب حروب بين الشعوب باسم الدين!

- إذا كانت الرمزية تساهم بشكل إيجابي في عملية تهذيب العلم للدين، فما خصائص هذه الرمزية؟ وهل نجد لها جذورا في الفكر الإسلامي؟

- هناك مستويات مختلفة للرمزية، وأبسط مستوى هو اللغة المباشرة، فكل كلمة هي رمز لمفهوم مخزن في العقل، وكما قال فيلسوف اللغة الشهير Fodor: "إذا لم تعرف ما هو القط، فلن تعرف ما معنى كلمة قط!"• لكن إذا أردنا أن نقيم علاقة صحية بين العلم والدين، فعلينا قراءة النص الديني من خلال مستوى أرقى من مستوى الرمزية المباشرة في اللغة، وهنا إنما تكمن إحدى النقاط الإيجابية التي ساهم بها المعتزلة في تطور الفكر الإسلامي، فالفكر المعتزلي ما هو إلا محاولة لتهذيب الدين وفقا لشروط الفلسفة، وعصرنا الحالي يحتم علينا تهذيب الدين وفقا لشروط العلم! سأتوقف قليلا لأعطي مثالا لكلتا الحالتين: عندما نقرأ تعابير واردة في القرآن مثل"يد الله" و"عين الله"، نجد أن الفكر المعتزلي يفسر هذه التعابير بطريقة رمزية لا تتعارض مع مبادىء الفلسفة، ذلك أن التتفسير الحرفي لهذه التعابير يقود منطقيا إلى إشكالية، و هي إشكالية ذات صلة بعلاقة الكل بالجزء، إذ لا يصح عندئذ القول بأن الله (أي الكل) يعتمد في وجوده على بقية الأجزاء المكونة له كاليد أو العين! هنا يلجأ المعتزلة الى مستوى من الرمزية أقل مباشرة من مستوى اللغة ليفسروا "اليد" كرمز لقوة الله وقدرته، وهو تفسير نجح في تهذيب الدين حسب مبادىء الفلسفة• من ناحية أخرى، لو عدنا الى مفهوم "السماء" كما ورد في القرآن، فإن أبجديات العلم تحتم علينا أن نبحث عن الرمز الذي تشير اليه كلمة "السماء"، وأن نلغي الى الأبد التفسير السطحي المباشر لهذه الكلمة، ففي نهاية المطاف، ذلك اللون الأزرق فوق رؤوسنا ليس سوى غاز مليء بالشقوق والفروج، كما أنه ليس في حاجة الى أعمدة كي يبقى في مكانه، فقانون الجاذبية يكفي لهذا الغرض!!

- أفهم من ذلك أننا مازلنا ندفع ضريبة الانقلاب على الفكر المعتزلي في تاريخنا الإسلامي؟

- بكل تأكيد، وهي ضريبة فائقة الثمن! تخيل معي لو أن الفكر المعتزلي هو السائد الآن في دولة كالمملكة العربية السعودية - مثلا - بدلا من الفكر السلفي الرجعي، فهل ستكون منطقة الخليج كما هي عليه الآن؟! هل سنواجه مشاكل مخجلة على الصعيد العالمي كحظر مكة على غير المسلمين وقيادة المرأة للسيارة؟! الفكر المعتزلي قدم لنا "التكنيك" الذي من خلاله تتم عملية تهذيب الدين، وأعني به الرمزية، ولكننا لا نجد صدى لهذا التكنيك في وقتنا الراهن مع الأسف!•

- والنتيجة؟

- النتيجة انتشار الخرافة، والخرافة أعرفها كما يلي: الخرافة هي تفسير حرفي "لا رمزي" وغير علمي لظاهرة طبيعية أو نص ديني! تأصل العداء للرمزية في تراثنا الإسلامي بلغ من القوة حدا أصبحنا فيه عاجزين عن رصد الخط الفاصل بين الواقع والخيال، حاول، مثلا، أن تقرأ قصة على رجل مسلم كبير في السن وغير متعلم، إن أول سؤال يتبادر الى ذهن هذا الرجل بعد سماع القصة هو: متى حدث هذا؟! هذا سؤال يعكس فقرا في فهم ما تعنيه كلمة "خيال"، وهي مشكلة ناتجة من مناصبة العداء للرمز في فكرنا الإسلامي! وانظر أيضا الى عملية رمي الجمرات أثناء أداء مناسك الحج، فأنت ترى أن أغلب الحجاج يرمون بقسوة واضحة ذلك العمود المشيد في وسط الدائرة، والبعض منهم يذهب الى أبعد من ذلك ليخاطب ذلك العمود بكلمات فيها من التهديد والوعيد الكثير! لا عجب ولا غرابة، فهذه النوعية من الحجاج لا ترى الرمز الذي يشير اليه ذلك العمود المشيد، بل الشيطان ذاته!

ب - حول مفهوم الإرهاب الإسلامي:

- مفهوم "الإرهاب الإسلامي" أصبح مفهوما واسع الانتشار، وبات يشكل جزءا مهما من أبجديات وسائل الإعلام العالمية• هل هناك ما يبرر وجود مثل هذا المفهوم؟ وهل تعتبر هذه التسمية منصفة؟

- الإجابة هي "نعم" في كلا السؤالين!

- لكن هناك أنواع كثيرة للإرهاب، فلماذا نركز على نوع ونتناسى البقية؟

- هذه مقولة صحيحة، لكنها لا تصلح أن تكون حجة ضد وجود الإرهاب الإسلامي! التاريخ مليء بأحداث إرهابية، ولا تكاد تسلم أمة من الأمم من المساهمة في تلك الأحداث الدموية، إما في دور جلاد وإما في دور ضحية، فلا يصح إذن أن نستثني "أمة الإسلام" من هذه القاعدة!

- إذا كان الجميع قد شارك في هذه "الرذيلة"، فليس من حق أحد أن يدعي "الفضيلة"، أليس كذلك؟

- لا، ليس كذلك! هذه الطريقة في التفكير لا تترك فرصة لميلاد "الفضيلة"، فضلا عن انتشارها! الطريق الى الفضيلة عسير وشاق كما قال "سير توماس"، لكن هذا لا يمنع من شحذ الهمم لسلوك هذا الطريق! الإرهاب كأداة عنف متجذر في النفس البشرية، أي أن وجوده هو القاعدة ومحاولة مقاومته هي الاستثناء! كان الإنسان البدائي يلجأ في بعض الأحيان الى العنف للمحافظة على بقائه، لكن على إنسان العصر الحديث أن يعي أن استراتيجية العنف للمحافظة على وجوده لن تصبح ضرورة حتمية إن هو آمن بإمكانية التعايش السلمي مع الآخر•

- هناك من يعتقد أن الإرهاب الإسلامي ما هو إلا نوع من أنواع المقاومة!

- نعم، وهناك أيضا من يعتقد أنه امتداد لغزوات "مقدسة" لكن كل هذه المعتقدات تتضمن فكرة خطيرة، وهي فكرة تبرر وجود العنف بطريقة تثير الاشمئزاز! من جهة أخرى، لا حظ أنك قلت: "نوع من أنواع المقاومة"، إذن هناك أنواع أخرى للمقاومة من دون الحاجة الى اللجوء الى العنف! لماذا ترتبط كلمة "المقاومة" ارتباطا قويا بكلمة "العنف" في قاموسنا العربي والإسلامي؟ ما إن ترد كلمة "مقاومة" حتى نفسرها بطريقة آلية على أنها "مقاومة مسلحة"!!

- ربما لأننا شعوب مقهورة، ألا تعتقد ذلك؟

- أو ربما لأن العنف ليس متجذرا في نفسيتنا فحسب، بل في تراثنا أيضا! إذا لم نسارع الى إعادة قراءة النص من خلال التجديد في التفاسير الموروثة، فإن طوق العزلة الذي يحيط بهذه الأمة لن يزداد إلا انغلاقا!

- الإسلام دين محبة وتسامح، لا أحد يجادل في ذلك!

- أعتقد أن كلامك سيكون أكثر دقة لو أنك قلت: "لا أحد يستطيع أن يجادل في ذلك!"• نعم، الإسلام دين محبة وتسامح كما تقول، لكن هذه ليست هي الحقيقة كاملة، بل نصفها! فلنحطم الطوق الحديدي الذي يحيط بالمقدس في تراثنا، ولنخضع هذا المقدس للبحث الموضوعي، ولسوف ترى أن مقولة "الإسلام دين محبة وتسامح" لا تعكس الحقيقة كاملة! أذكر مرة أني جادلت صديقا متدينا حول الآية القرآنية التي جاء فيها "إنما المشركون نجس"، فكان رد صديقي أن النجاسة هنا ليست نجاسة بدنية، بل روحية فقط! حسنا، ربما نكون نحن الأمة الوحيدة التي لا ترى في "النجاسة الروحية" أي نوع من أنواع الإهانة للآخر، لكن هل هذا التفسير يصلح لتسويق الإسلام عالميا بصفته "دين محبة وتسامح"؟ أشك في ذلك!

- هل تكمن المشكلة إذن في المقدس ذاته؟

- المشكلة تكمن في فهمنا العقيم لهذا المقدس، وفي عدم رغبتنا في إعادة صياغة الكثير من التفاسير المتحجرة التي لم تعد تتناسب وروح هذا العصر! يجب أن نقرأ المقدس قراءة علمية تضع كل آية في سياقها التاريخي الذي وردت فيه، ومن دون الإصرار على لا تاريخيه هذا النص! هذه ليست دعوة لنبذ الدين، بل هي دعوة الى إعادة قراءة الدين من خلال نظارات حديثة، لا أكثر ولا أقل! إن ما يثير حفيظتي على وجه الخصوص هو هذا الانتقاء المتعمد لنصوص قرآنية دون غيرها، وهو انتقاء يتم حسب المناسبة أو حسب الطلب، فإن كانت هناك حرب يخوضها الروس - مثلا - ضد المسلمين في أفغانستان أو الشيشان، جئنا بسيل من الآيات القرآنية التي تحض على القتال، أما إن كان هناك مؤتمر عالمي ضد الإرهاب، أصبحت الآيات التي تدعو الى السلم هي سيدة الموقف! ربما تنجح هذه الازدواجية على المدى القصير، لكنها قطعا ستفشل على المدى الطويل• هناك الآلاف من النسخ المترجمة للقرآن بلغات أجنبية، أي أننا لم نعد الوحيدين الذين بإمكانهم الاطلاع على النص الأولي بصورة مباشرة، وإن تكن أقل دقة! بالمناسبة، هل سمعت أحدا من المشايخ وأصحاب الفضيلة يستشهد بالآية التي تقول "ترهبون به عدو الله وعدوكم" في مؤتمر عالمي ضد الإرهاب؟! لن تسمع ذلك أبدا، لكنك قطعا ستسمعه يردد عندنا على المنابر بطريقة تثير النفوس وتؤلب القلوب وتشحذ الهمم الى معركة•• خاسرة!

ج - حول فلسفة التعليم الدراسي

- أين نجد فلسفة واضحة للتعليم الدراسي، وما مدى تطبيق هذه الفلسفة؟

- ضمن جميع الكتب المدرسية التي تصدرها وزارة التربية والتعليم، هناك "مقدمة" مكتوبة بعناية في كل كتاب، وهي من حيث الشكل أشبه ما تكون بخطبة جمعة، وأما المضمون ففيه تجد هذه الفلسفة التي تبحث عنها! أما عن تطبيق هذه الفلسفة فيكفي أن نعرف أن المعلمين والمتعلمين على حد سواء قلما يقرؤون تلك "المقدمة"، وقد يكون ذلك من حسن حظهم!

- أراك تشكك بأهمية وجود "مقدمة"" في كل كتاب مدرسي؟

- لا•• أبدا! وجود "مقدمة" لكل كتاب أمر مهم جدا، ولا يقتصر ذلك على الكتاب المدرسي فقط ، لكن علينا أن لا ننسى وظيفة هذه المقدمة! الكتاب الذي لا تقنعك مقدمته بأن تقرأه لا يستحق القراءة! المقدمة التي تجدها في كل كتاب مدرسي غير مقنعة، فأنت تلمس فيها فوقية زائفة، وأبوية متسلطة، وحشوا بغيضا لا فائدة منه؟

- هل هناك مثال واضح على عدم تطبيق فلسفة التعليم في مناهجنا الدراسية؟

- اقرأ مقدمة أي كتاب مدرسي، ثم قارن بين مضمون المقدمة والمنهج نفسه، وستجد أن المقدمة في واد وبقية الكتاب في واد آخر! سأجعل مثالي هذا أكثر تحديدا، فلو قرأت مقدمة لكتاب في مادة الفيزياء - مثلا - ستجد أن هناك جملا طويلة تتحدث عن أهمية علم الفيزياء في حياتنا، لكنك عندما تقلب الصفحة وتشرع في قراءة الكتاب، فلن تجد سوى قوانين جافة لا شيء يربطها بواقع الحياة التي نعيشها! هذا يعكس فجوة خطيرة بين الفلسفة والتطبيق، فعندما تقول لك مقدمة الكتاب إن علم الفيزياء مهم في حياتنا، فمن المنطقي إذن أن تتوقع وجود ما يعكس هذه الحقيقة بين دفتي الكتاب لكن هذا لا يحدث إطلاقا مع الأسف الشديد! حاول أن تسأل طالبا، تخرج لتوه من القسم العلمي عن معنى مؤشر السرعة الذي يشاهده أمام عينه عند قيادته للسيارة، وسوف تجد أن هذا الطالب لا يربط بين القانون الذي تعلمه في المدرسة، وهو قانون السرعة = المسافة تقسيم الزمن، وبين مؤشر السرعة الذي يقرؤه أمامه! بمعنى آخر، الطالب يعلم أنه يسير بسرعة 100كم/ ساعة، مثلا، لكن ما لا يعلمه هو أنه إذا سار بهذه السرعة فإنه سيقطع مسافة 100كم بعد مرور ساعة كاملة!

- هناك إذن فجوة كبيرة بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وبين ما يراه في واقع الحياة، هل هذا صحيح؟

- نعم، وهي فجوة تجدها واضحة جلية حتى في شهادات التفوق التي تمنحها الوزارة لطلبتها المتفوقين، فعادة ما تختم شهادة التفوق بهذه الجملة: "راجين لكم التفوق في حياتكم العلمية والعملية"، وهي جملة جميلة كما ترى، لكنك لو دققت قليلا ستجد أن هذه الجملة تتضمن فكرة الفصل بين الحياة العلمية والحياة العملية!•

- متى نستطيع القول إن لدينا نظاما تعليميا مميزا؟ بمعنى آخر، ما ملامح النظام التعليمي الناجح؟

- أعتقد أن هذا السؤال، على الرغم من أهميته، يعتبر سؤالا ثانويا إذا ما قورن بالسؤال التالي: لماذا نريد نظاما تعليميا ناجحا؟ هذا هو السؤال الأهم، وإذا استطعنا العثور على إجابة مقنعة لهذا السؤال تحديدا، فإن عملية الإجابة عن بقية الأسئلة تصبح في متناول اليد! سبق أن ذكرت أهمية الربط بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وبين ما يراه في واقع الحياة، والنظام التعليمي الناجح هو الكفيل بضمان عملية الربط هذه! النظام التعليمي عبارة عن مرحلة تأهيل لخوض معترك الحياة، وليس ثمة سلاح أكثر كفاءة لهذا الغرض من سلاح ملكة التفكير النقدي• نريد نظاما تعليميا ناجحا لأننا نريد عقولا حرة، ذلك أن العقول الحرة لا تخدعها الخطب الرنانة، ولا تستميلها الشعارات السياسية الخاوية، ولا تستغفلها التصريحات الرسمية الكاذبة! العقول الحرة أقرب إلى الشك منها إلى الطمأنينة، والشك يغدو فضيلة في مجتمع يرتكز على المسلمات! بعبارة واحدة، نريد نظاما تعليميا ناجحا لأننا نريد أن نحمي أفراد هذا المجتمع من كل أنواع الاستغلال والعبودية!

- كيف تحمي ملكة التفكير النقدي أفراد هذا المجتمع من الاستغلال والعبودية؟ هل لك ببعض الأمثلة؟

- التفكير النقدي يدفعك إلى طرح أسئلة حيوية حول كل الأمور التي تدور من حولك، وعملية طرح الأسئلة دليل على أن العقل في نشاط مستمر، وعندما يكون العقل على هذه الصورة يصبح من المستحيل أن تكتسب فكرة ما من دون إخضاعها إلى التدقيق واختبار مدى صحتها! من هنا تكون ملكة التفكير النقدي سلاحا في وجه شتى أشكال الاستغلال والعبودية، إنها الملكة التي تحميك من خطيب يدغدغ عواطفك، ومن مرشح محتال يريد صوتك، ومن تصريح رسمي يحاول تضليلك، ومن إعلان تجاري ينوي خداعك! إنها الملكة التي تتيح لك أن تختبر مفاهيم في غاية الحيوية كمفهوم الدولة، أو الدين، أو الوطنية، أو القبيلة، أو الأسرة، بدلا من قبول هذه المفاهيم على علاتها! باختصار، إن ملكة التفكير النقدي هي من تضمن احترام العقل وصون كرامته!

- وماذا عن النظام التعليمي في صورته الراهنة؟

- هي صورة مؤسفة بلا أدنى شك، فالنظام التعليمي الحالي لا يشجع الطالب على طرح الأسئلة، بل ينتظر منه أن يجيب عن الأسئلة المعدة له سلفا! ليس بإمكانك أن تستمع إلى نقاش مثمر في صفوفنا الدراسية، فلا صوت يعلو على صوت المدرس! ينبغي أن نلاحظ أيضا أن هناك علاقة وثيقة بين هذا المستوى المتواضع للنظام التعليمي من جهة، وبين كفاءة بعض أساتذة الجامعة وكتاب الصحف من جهة أخرى! مخرجات التعليم الرديئة لا تجبر أستاذ الجامعة على أن يحسن من مستوى أدائه الأكاديمي، فهو واثق أنه لن يتلقى من طلبته أسئلة من العيار الثقيل تجبره على إعادة النظر بهذا الكم الهائل من الدروس المكررة! من جانب آخر، في ظل مخرجات التعليم الحالية، لا يجد أغلب كتاب الصحف حاجة ضرورية في تكثيف القراءة للارتقاء بمستوى المواضيع التي يطرحونها، فيكفي أن تتناول أي موضوع تشاء بكل سطحية دون أن تشعر بأنك أهنت عقول من تكتب لهم!

- النظام التعليمي في صورته الراهنة، حسب رأيك، ينتج قوالب متشابهة، لا عقولا حرة، أليس كذلك؟

- بكل تأكيد، وسأعطيك مثالا بسيطا كدليل على ذلك، هل لاحظت كيف تشترك جميع طالبات المدارس في طريقة إلقاء الشعر؟ إنه لمن المدهش حقا أن تكون لجميع الطالبات الطريقة ذاتها في إلقاء قصيدة من الشعر، إنك تلاحظ اللحن نفسه، والوقفة نفسها، بل تلويح اليد ذاتها أيضا! هل من المعقول أن تكون هذه مجرد مصادفة؟ من المخجل حقا أن تمتد عملية قولبة العقول البشرية حتى إلى مشاعرنا وأحاسيسنا الإنسانية، فما إلقاء الشعر في نهاية المطاف سوى تعبير عن هذه المشاعر والأحاسيس!

- لو طلبت منك أن ترسم صورة مثالية للمناهج الدراسية، فماذا تقول؟

- المثالية مرحلة متقدمة جدا، وهي بلاشك تكنيك سيكولوجي مهم لحث الآخرين على تغيير الواقع، لكن كل ما نريده في الوقت الراهن هو أن تتضمن مناهجنا الدراسية قدرا معقولا من نتاج الفكر الإنساني، بدلا من أن تقتصر فقط على كتب التراث وعالم الأرواح وما وراء الطبيعة! إذا كان أحد الأهداف الأساسية هو أن نربي أبناءنا على الفضيلة، فإن هذه الفضيلة ليست حكرا على التراث العربي والإسلامي! الفضيلة تجدها أيضا عند "كيخوته"، و"أليوشا"، و"هاملت"، و"فارتر"، وحتى "فاوست"! ومع ذلك، ليس في وسعك أن تجد هذه الشخصيات الخالدة في مناهجنا الدراسة، بل في مكتبة مهجورة في حارة مهملة، هذا إن حالفك الحظ أو إذا كانت لديك رغبة في إزاحة الغبار المتراكم عنها!

- ما السبب في ذلك يا ترى؟

- السبب موثق في تراثنا، فهذه الأمة لم تبرأ بعد من النرجسية، إذ ما زلنا نؤمن واهمين أننا خير الأمم وأرفعهن منزلة، ومن يحسن الظن في نفسه إلى هذا الحد، لا يبحث عن الفضيلة عند الآخرين!

- ما المادة الدراسية التي تتمنى أن تضاف إلى المنهج الدراسي؟

- لدي رغبة لا تقاوم في الحذف أكثر من رغبتي في الإضافة، لكن كي أجيب عن سؤالك، أتمنى فعلا وجود مادة دراسية تتناول أخلاقيات المرور وفن القيادة، وأن تقرر على طلبة الثانوية العامة على وجه الخصوص• ليست لدي صورة واضحة عن محتوى هذه المادة وكيفية عرضها، لكن بإمكاني أن أتخيل ذلك، فعلى سبيل المثال، من الممكن عرض أفلام وثائقية في الفصل عن مخاطر السرعة الفائقة، ومحاولة شرح العوامل التي تساهم في القيادة الجنونية (كالموسيقى الصاخبة - مثلا)• ما المانع في تنظيم رحلات دورية لطلبة الثانوية العامة لزيارة المستشفيات ومشاهدة ضحايا السرعة الفائقة والقيادة الجنونية! من يدري، قد يساهم الخوف من الموت في تقليص ضحايا المرور!

- هل تعتقد فعلا أن من يقود سيارته بسرعة جنونية لا يهاب الموت؟

- من لا يهاب الموت لا يدرك قيمة الحياة! دعني أوضح هذه النقطة، هناك ظواهر متزامنة في المجتمع الذي نعيش فيه، وقد تبدو هذه الظواهر متباينة ولا رابط فيما بينها، لكن لو دققنا قليلا فإننا قد نعثر على المحرك الأساسي لكل هذه الظواهر! قد تقرأ في جريدة الصباح خبرا عن حادث مروري مروع نتيجة السرعة الجنونية، ثم تقرأ خبرا آخر عن ذهاب مجموعة من الشباب إلى العراق لمحاربة قوات الاحتلال، ثم تقرأ خبرا ثالثا عن عراك بين مراهقين بدأ بمشكلة بسيطة وانتهى بجريمة قتل! للوهلة الأولى، قد تبدو هذه المجموعة من الأخبار غير مرتبطة ببعضها البعض، لكن ماذا لو حاولنا أن نبحث عن العامل المشترك لكل هذه الظواهر؟

- وما هو هذا العامل المشترك في رأيك؟

- العامل المشترك هو الفشل في إدراك قيمة الحياة! عندما تدفع الأيديولوجية المسيطرة على عقول الناس باتجاه الزهد في الحياة وحب الموت لأي سبب كان، فإن فكرة حب الحياة وإدراك قيمتها تصبح فكرة مستعصية وغير مفهومة! باستطاعتي أن أفهم المصوغات التي تدفع إلى كبت غريزة الجنس في مجتمع محافظ، لكني ما زلت لا أستوعب كيف يحاربون غريزة حب البقاء! اقرأ منهج التربية الإسلامية أو استمع لخطبة دينية، افعل ذلك ولسوف تجد صورة مظلمة عن مفهوم "الحياة الدنيا"! إنهم مشغولون بإعداد أبنائنا لمرحلة ما بعد الموت، أما الحياة فليست سوى دار فانية! عندما تكون الحياة رخيصة إلى هذه الدرجة، كيف لا يسرع المجنون، ويجاهد المخدوع، ويقتل المعتوه؟!

انتهى الحوار!



#فهد_راشد_المطيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرقابة في عصر -الأنوار- الإسباني
- نقد العقل الجبان
- التفكير النقدي: طريق الخلاص
- الأفكار الجديدة و التقاليد الموروثة
- المثقف بين الطموح و تسويق الذات
- ماذا أقول له؟
- شعوب تحدق في السماء
- لا حاجة إلى حوار بين الأديان
- أسطورة بابا نويل
- زمن ولىّ و أثر باقٍ
- قراءة في محاضرة بابا الفاتيكان


المزيد.....




- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فهد راشد المطيري - حوار في الدين و السياسة و التعليم