أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جمال علي الحلاق - موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا















المزيد.....


موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا


جمال علي الحلاق

الحوار المتمدن-العدد: 1831 - 2007 / 2 / 19 - 11:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في باب الحديث عن يزيد بن عبد الملك قال الكازروني : " ماتت حبّابة ، فمات بعدها أسفا وحزنا عليها ، وتركها أياما لم يدفنها ، حتى عوتب في ذلك ، فدفنها ، ثم نبشها بعد الدفن ، وشاهدها ، من شدّة وجده بها "
)مختصر التأريخ (

مدخل عام

عندما تدخل اللعبة ، أقصد الحياة - رغم أن الدخول لا يتكرّر كثيرا - عليك أن لا تبتعد عن المركز ، إن لم تكن محورها ، وفي نفس الوقت كن بعيدا جدا ، خارج أطرافها القصوى ، كن مراقبها الأقصى ، هكذا فقط تنجو من فكوك النمل .

ماتت حبّابة - هكذا نطق الكازروني - فمات بعدها ( يزيد بن عبد الملك ) أسفا وحزنا عليها .

بعيدا عن القراءة السياسية للنص ، محاولة ( في التخلّص ) من الانحياز الطائفي أيضا - رغم أنني لا أخفي وقوفي إلى جانب الحزن - أطوف حول النص بأجنحة التأويل ، الذي لن يكون في النهاية إلا قراءة ذاتية جدا .


الحاجة أم الحب ؟


للوهلة الأولى يبدو المشهد في النص عتيقا جدا - فهل تغيّرت الذائقة حقّا ؟ - فالمشهد إبن ذلك الوقت تماما ، عندما كانت الأشياء تتحرّك ببطء شديد ، وعندما كان للعاطفة متّسع من الوجود ، فالعلاقات تنمو ، وتكبر ، فتشيخ .

البطء يملأ الوقت بالفراغ ، الذي يجعل الأشياء تتكرّر إلى ما لا نهاية ، في رتابة كهذه من المفروض أن يغدو كلّ شيء غاية في الملل .. إلا أنّ النص يتحدّث عن عكس ذلك تماما " ماتت حبّابة ، فمات بعدها أسفا وحزنا عليها " ، هل كان وجود ( حبّابة ) كسرا لرتابة الحياة عند ( يزيد ) ؟

في هذا النص تحديدا ، شيء ما يمكن أن أسمّيه ( ردّة فعل ) تجاه ( العقل ) الذي يغلّف ( الحياة / لحظة يزيد ومكانه ) . لا أتحدّث الآن عن الخروجات التي في النص ، لكن عن هذا التعالق الوجداني الذي لا أستطيع إلا أن أقرأه بدلالة الإعتراض " فمات بعدها أسفا وحزنا عليها " ، أو " من وجده بها " ، موت يزيد - هنا - إعتراض وجودي على ( انقطاع الصلة ) .

القراءة الظاهرية للنص تجعلنا نرى ( ذات ) يزيد بن عبد الملك منصهرة مع ( ذات الآخر ) متمثّلة بحبّابة ، حدّ أنّ ( يزيد ) لا يجد لذاته مبررا - عقلانيا - دونها ( لقد تحقّقت بها هويّته الخاصة / أناه ) .

ومع هذا أرى - من الصعوبة بمكان - التحدّث عن الحب منفصلا عن الحاجة الى ( الذات ) بحسّها الأناني ، ولا أستبعد أبدا القراءة الكامنة للنص وهي أنّه مات ( من وجده بذاته ) .

بداية ، الحب اشتراك ، أن نقيم معا في سنتمتر مكعّب دون أن أجد في وجودك إعاقة أو تضييقا لي .. على العكس تماما ، الحب يجعلني إيثاريا ، يجعلني أفسح لك ما أستطيع من الفضاء ، وأمنحك المشاركة في جسدي ونفسي .

هل يمكن أن تكون الذات إيثاريّة بغير حب ؟
هل يسمو الإنسان بالعقل ( الخالص ) إلى هذه الرتبة ( كانت : مفهوم الواجب ) ؟

أعتقد أنّنا بحاجة إلى ( إعادة إنتاج ) هذه القراءة مرّة أخرى - أقصد مفهوم الواجب عند ( كانت ) - وأن نحثّ عليها ، فالزمن السيّال لا يمنح الفرصة لأيّ كان أن يعلن عن ذاته . السيلان يعني التجاوز ، يعني بلوغ الشيخوخة باكرا ، قبل الطفولة أحيانا .

لا يولد الحب - التعالق الوجداني - هكذا من الهواء ، ربّما هو التكرار الذي يجعل الأرواح تتواشج وتنصهر بعضها ببعض ، أي أنّ دافع الملل قد يكون ذاته دافعا للتعالق الوجداني ، وهذا ما كان متحقّقا في الزمن البطيء .

أما الآن ، وبعد أن ولدت القارات البعيدة ، وتضاءل حجم الكوكب ، حتى أنّ خطوة تنقلك إلى عالم آخر ، وعادات أخرى . أصبح الخروج من الثوب - تقمّص حالة الأفعى - أكثر سهولة ، وأصبح الإنخراط في ذوات أخرى أكثر يسرا ( لم يكن قالب الوقت يوما بهذه الكثافة الشعرية كما هو الآن ، إلا أنّ المحتوى - الإنسان - يتقدّم بعنف ، كما لو لم يحدث من قبل ، نحو فقدان العاطفة . أستطيع القول أنّ العالم - الآن فقط - يتّجه نحو ذاتية تقترب كثيرا إن لم تلتصق بذاتية الشعر الرومانسي - الغربة تحديدا - نهاية القرن الثامن عشر ) .

أتساءل في ( عالم متضاد ) كهذا ، هل يمكن أن يولد - الآن - الحب الذي كان في ذلك الوقت ( أقصد لحظة يزيد بن عبد الملك ومكانه ) ؟

أعتقد أنّنا بحاجة أيضا إلى قراءة تأثير الوعي على تمدّد العاطفة وانكماشها . هل سيفقد الإنسان عاطفته - بشكل نهائي - في لحظة قادمة ؟

لقد تغيّر شكل حياة الإنسان ، وتغيّر جوهرها ، كثرت مفرداتها فتضاءل وقتها ، لكن ، هل يمكن - في حالة الإستعصاء - أن يولد الحب كما يولد أطفال الأنابيب ؟ أو هل يمكن إستنساخه كما يتمّ إستنساخ النعاج والأبقار والبشر ؟

لم ندخل إلى المركز بعد - أتحدّث عن الشرق عامة والعرب خاصة - هذا في حال كوننا نتّجه إلى المركز أصلا ( محاولة في التفاؤل ) .

أقول ، لا نزال بعيدين عن اللحظة الراهنة ، بل وقريبين معرفيا وذوقيّا من ( لحظة ومكان يزيد وحبّابة ) رغم دوران الأرض وابتعاد المجرات ( ماتا في سنة 105 هج ) ، الأمر الذي يجعل مشهد النص واقعا معاشا أيضا .

ينبغي الإعتراف ، أنّنا - نقيم الآن - في اللحظة الحرجة ، التي تجعل ( بندول الذات ) متذبذبا بين المعرفة والزمن . رغم أنّ المعرفة تحدّد الزمن ، إلا أنّنا نلتصق بقشور اللحظة الراهنة بعقليّة تنتمي لزمن عتيق .

لا نزال - سايكولوجيا - نحتاج الحب ، دون أن ننتبه لأصل إحتياجنا ، أقصد الإنتباه ( للإحتياج ) نفسه لا للحب . ننجرف خلف الحب - بدلالة التعالق الوجداني - دون أن نبحث في سرّ الإنجراف .

كما لو أنّنا أكياس محشوّة بتكرارية مقيتة ، يبدو الخروج عليها خروجا على العالم ، بل يبدو الإقتراب من ( الذات ) فقدانا لها .

أستطيع القول ، يبدو الحب علاجا مشفّرا لداء إسمه ( فقدان الذات ) . لا أحد يجرؤ على الإفصاح ، رغم أنّ العاطفة تصلح أن تكون مقياسا لكثير من القراءات .




عودة إلى حبّابة




لا يهمّني في هذه اللحظة من كانت حبّابة تلك ، رغم أنّها تمثل قطب الحدث ظاهريا ، كلّ ما أريده ، وما أطوف حوله ، أنّ إنسانا ما إستطاع في لحظة ( قد تكون بطيئة ) أن يكون ( العالم ) بأكمله لإنسان آخر ، ربّما كان بالنسبة له كمثل ( ذاته ) تماما .

قلت ( إنسانا ) ولم أقل ( أنثى ) فقد يحدث أن تكون ( ذكرا ) كما في ( أنكيدو ) . ومع هذا فقد أغلق حفيد ( محمد علي باشا ) كلّ المدارس في مصر - إبتداء بمدرسة الطبّ البيطري - لأنّ حصانه الأحمراني مات !

إذن ، القضية أكثر تعقيدا والتباسا من كونها إحتياجا جسديا ، كان بإمكان يزيد بن عبد الملك أن يتّخذ من النساء بدائل كثرا ، ألم تكن هنالك ( جورية و سلامة القس ) وأمثالهما ؟
بل أنّ بعض المصادر - الأغاني مثلا - تشير إلى أنّ ( سلامة ) كانت أكثر جمالا وبهاء من ( حبّابة ) ، إضافة إلى كونها تتفوّق عليها في رخامة الصوت وعذوبته .

إذن ، لم تكن الحاجة منحصرة في الصوت ، ولا في الجسد ، ثمّة - عند حبّابة - شيء آخر يختلف ، شيء يقترب جدا - إن لم يلتصق - من ( ذات ) يزيد بن عبد الملك ، شيء ما يجعله يفكّر بالطيران ، فتسأله حبّابة : ولمن تترك الخلق ؟
فيجيبها بلا تردد : لكِ .

لم يكن ير فاصلا بينهما ، لقد تجسّدت ذاته في كائن آخر ، وهنا نرتفع الى قراءة ( الآخر ) باعتباره المناخ الذي ( فيه أو به ) تتحقّق ( الذات ) ، وهذا ما يجعل النص منفتحا لقراءات أكثر اتساعا .




الحياة بحاجة الى تبرير




إنّ العودة إلى قراءة النص - وأنا أحاول قراءته من داخل المنظومة المعرفية التي كانت تحيط وتحكم الناس آنذاك - تجعلنا أمام خروجات عديدة أذكر منها :

1- ماتت ( حبّابة ) فتركها ( يزيد ) أياما ( لم يدفنها ) .
2- دفنها ثمّ نبشها .

في هذين الخروجين تحديدا تكمن ( ذات ) يزيد بن عبد الملك ، إنّها خصوصيته النافرة ، ليس على أحد - لم يكن معنيّا بأحد - نفوره جاء ضدّ إشكالية الحياة والموت أصلا .
كان خارج التأطير / خارج الإنتباه الجمعي ( فعوتب ) .
لم يكن لحظتها معنيّا بالأخلاقيات التي تسيّج الوقت والناس ( فعوتب ) .
كان خارج الوعي الممنطق للإشكالية ذاتها ( فعوتب ) .

العتاب هنا هو إصرار ( العرف / الشرع ) على ( تغليف / تعطيل / تأجيل ) السؤال أو الحاجة .

لقد تمّت قراءة المشهد على أنّها إنفعال عاطفي " من وجده بها " .

أقول : لا يخلو الأمر من ذلك ، إلا أنّ ( الحاجة ) الحقيقية أكثر بعدا وغورا ، إنّها ( الانتباهة ) التي جعلت يزيد بن عبد الملك يقيم في ( البرزخ ) ، في الأخدود الفاصل بين الحياة والموت .

النص يصرّح ، لقد " تركها أياما لم يدفنها " .
وفي ( الأغاني ) كان يسكب عليها المسك ويؤطرها بأنواع البخور ، لم يكن ( يزيد ) هنا بعيدا عن ( كلكامش ) .

إنّه في ( الإنتباهة ) التي تخلق الخروج ( خرج كلكامش - من المكان - بحثا عن الخلود ) بينما خرج ( يزيد بن عبد الملك ) على اللحظة التي تسيّج السؤال .

كلاهما كان على قمّة الهرم الإجتماعي . لم يجرؤ أحد على معاتبة كلكامش - لم يكن قد إنفصل تماما عن الإله - بينما عوتب يزيد ، لأنّه جاء بعد ( ثبات ) النص المقدس ، بعد إنفصال الإنسان عن الله ، لقد ( خرج ) على ( إكرام الميت دفنه ) فعوتب .

لا يشير النص إلى ( عقوبة ) ، ومع هذا فقد كانت عقوبة ( يزيد ) ذاتية جدا ، كان واقعا - بإبقاء حبّابة بغير دفن - تحت العقوبة ( رؤية مشهد الجثة ، وقيامة العفن نوع من جلد الذات ) .

لا أريد أن أحمّل القراءة بعدا ميتافيزيقيا ، فالعقوبة لا يبتعد محيطها أكثر من نطاق الذات لنفسها ، الإنتباهة بحدّ ذاتها عقوبة ، لذا قيل " حشر مع الناس عيد " ، أفهم الحشر هنا بدلالة ( الهروب من قسوة ضريبة الإنتباه الذاتي / القتل ، الطرد ، الإقصاء ) ، قال علي بن أبي طالب : " أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام " ، أقول : لم يكن يزيد - هنا - في منطقة النوم ، بل أنّ يقظته الخاصة جدا كانت عقابه .

ومع هذا لم يكن ( يزيد بن عبد الملك ) أوّل من أخّر دفن الميت ، فقد تمّ صلب جسد ( عبد الله بن الزبير ) على خشبة . وكان من عادة الحكومات ( الولاة ) التي تظفر بالخارجين عليها ، تقطيع الرؤوس والتشهير بها في المدن ( لقد حمل رأس الحسين بن علي من العراق إلى الشام ) ، بل إنّ ( الموفّق العباسي ) لما ظفر بأحد أصحاب ( صاحب الزنج ) أدخل خازوقا في دبره - وهو حي - وأخرجه من فمه وشواه على النار كشاة .

ألم يُترك قتلى الحروب حتى تنتفخ بطونهم وأيورهم في العراء ؟!
عن الجاحظ في ( الحيوان ) أنّ الرجل اذا ضربت عنقه سقط على وجهه ، فإذا انتفخ ، انتفخ غرموله وقام وعظم ، فقلبه عند ذلك على القفا . فإذا جاءت الضبع لتأكله فرأته على تلك الحال ، ورأت غرموله على تلك الهيئة ، إستدخلته وقضت وطرها من تلك الجهة ، ثمّ أكلت الرجل ، بعد أن يقوم ذلك عندها أكثر من سفاد الذّيخ ( الذكر من الضباع ) .

وفي رواية أخرى أنّ عبد الملك بن مروان مرّ - بصحبة جارية له - بالقرب من جثّة مصعب بن الزبير وكانت قد انتفخت وانتفخ أيره ، فقالت الجارية : ما أغلظ أيور المنافقين !

صور كثيرة للتعطيل والتمثيل ، لكنّها أبدا لا تولّد إنتباها لدى القائمين بها ، لأنّ الدوافع التي تحجب الإنتباه ( طائفية ، عرقية ، قبلية ) كانت هي الأكثر هيمنة على التفكير ، بل كانت الإطار الإجتماعي للحياة لحظتها ، من هنا يكتسب النصّ - الذي أطوف حوله - هيمنته كلحظة خارجة على الوعي الجمعي الممنطق ، باتجاه ( الكشف الذاتي ) .

لم يصرّح أحد من المؤرخين ، أنّ ( يزيد ) توصّل إلى شيء من هذه التجربة ، كلّ ما هنالك أنّه ذبل ، وظلّ يذبل ، وبسرعة لحق ( حبابة ) . أي أنّه كان النقيض الحاد لكلكامش ، ربّما لأنّ الأخير غادر المكان واتّجه إلى السؤال مباشرة ، بينما ظلّ ( يزيد ) محاصرا بالذهاب والتلاشي السريع ، كان في المنزلق الشديد ، وظلّ يهوي بسرعة هائلة .. لم يكن أحد من الذين إلى جواره قريبا منه - كانوا جميعا داخل منظومة الحرام والعار - كانوا على السطح تماما ، وكان هو في العمق بعيدا ووحيدا .



سُنّة نبش القبر




يقول النص أنّ ( يزيد ) لما عوتب قام بدفنها " ثمّ نبشها بعد الدفن وشاهدها " .

تذكّرني هذه الحادثة بخالد بن سنان العبسي ، الذي قال فيه النبيّ : " ذاك نبيّ ضيّعه قومه " .

فقد أوصى خالد بنيه بنبش قبره بعد ثلاثة أيام من عملية الدفن ليخبرهم عن سرّ العالم والوجود ، فلمّا أرادوا تنفيذ الوصية إعترض إبنه عبد الله وقال : وماذا تسميني العرب ، إبن المنبوش ؟

كانت هذه الحادثة أيام الجيل الأول من الأحناف قبل أن يعلن محمد بن عبد الله نبوّته ، لم تكن منظومة ( الحرام ) قد تشكّلت بعد ، ومع هذا كانت منظومة ( العار ) تسيّج الواقع الإجتماعي .

لا يزال العرب والمسلمون محكومين بهاتين المنظومتين الى الآن ، وفي هذا إشارة صارخة الى خفوت وانحسار فاعلية الوعي المدني .

إلا أنّ ( يزيد ) نبش القبر - ينبغي الإنتباه للدلالة الاجتماعية والنفسية لكلّ من حفر القبر ونبشه - إقترب يزيد كثيرا من الموت ، رأى القسوة التي لا مهرب منها ، ولا نجاة .

كيف يمكن قراءة الإدمان على جلد الذات بعيدا عن المازوخية ؟ الجلد هنا يحتاج الى قوّة هائلة ، إنّها محاولة في تحطيم الأصنام مرّة أخرى .

أقول : ميتة ( حبّابة ) كسرت تكراريّة الموت بالنسبة ليزيد ، جعلته في صلب إشكالية الإختفاء والظهور .

إقترب كثيرا من التلاشي ، من ذهاب الحياة حتى كأنّها لم تكن .

لم يقترب أحد من ( الحاجة ) التي دفعت ( يزيد ) إلى نبش القبر ، لم يتجاوزوا حدود الظاهر ، ونسوا تماما ، أو تناسوا ، أنّ بعض الأسئلة لا يمكن حتى للغة أن تحيط بها .

قال النص " وشاهدها من وجده بها " .

إنّها محاولة في استرجاع الذات بعد ذهاب أوانها ، موت حبابة كان موته ، لكنّه بقيّ وذهبت ، فانشطر بين الإقامة ميّتا ، أو اللحاق بها . كان قريبا جدا من ذاته ، وبعيدا - في نفس الوقت - عن الآخرين . كانت ذاته – هناك – حيث تقيم حبابة بعيدا عن الحياة .

قيل أنّه مات " أسفا وحزنا عليها " بعد شهر ، وقيل أقل من ذلك ، لكنّه ، بعد حفنة من السنين سيتم نبش قبره من قبل العباسيين - لا من وجدهم به بل - من شدّة كراهيتهم له وللأمويين ، كما لو أنّ ( يزيد بن عبد الملك ) قد سنّ لهم نبش القبر ( رغم أنّها ممارسة قديمة ) ، لكن ، شتان ما بين الإفتقاد والكره .

سيتكرّر مشهد النبش كثيرا ، خصوصا في لحظتنا الراهنة ، فبين البحث عن موتى ضائعين ، وآخرين يحاول الناس ( التخلّص ) منهم على عجل حتى بعد الموت سيتكرّر مشهد نبش القبر وسحل الميت - يتكرّر مشهد نوري السعيد - إلى مديات طويلة ( سحل تمثال صدام حسين قراءة أخرى لسحل نوري السعيد ) ، ولن تكون مشاهد السحل في ( الفلوجة ) هيّ الأخيرة حتما .

ينبغي إعادة قراءة ضمور الحب وترهّل العنف ، كما لو أنّنا في اللحظة الضدّ تماما لقول المسيح " أحبّوا أعداءكم " ، بل كما لو أنّنا نقيم الآن في - لحظة هوبز - " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان " ، ينبغي الإعتراف أنّنا متأخرون عن " أحبّوا أعداءكم " بألفي عام .




القراءة الرمزية للنص : العالم ينتحر




الحادثة تمتلك من الشفافية حدّ أنّها يمكن تجريدها أيضا ، ولهذا لا أتردّد في إعادة قراءة ( حبّابة ) على أنّها ( عرف أو دين أو أدلجة ) ، وبالتالي فإنّ تحطّم أحد هذه المفاهيم كإطار إجتماعي قبل أن يتحطّم كذائقة داخل وعي ( الذات الفاقدة ) يجعل الأخيرة تنجرف سريعا إلى الانهيار فالإنتحار - أتحدّث تحديدا عن الذات المنصهرة مع فكرتها ، ولا أتحدّث عن ذات تمتلك قدرة الحرباء على التلوّن - لأنّ القضية لا تبتعد كثيرا عن ( التشبّع فالخروج ) .

إنّها من زاوية ما تشبه تحطّم الصنم كحجارة وبقاءه كفضاء إجتماعي للتحليق ( سيستمر مفهوم الأصنام عالقا في أذهان القريشيين إلى سنين طويلة بعد فتح مكة ، سيكون دائما ثمّة صنم في الزوايا البعيدة عن رقابة المؤسّسة الاسلامية ) .

لقد تمثّل لنا من هذه الصور في عقد من الزمان ما لم يتمثّل في قرن .

بدءا بسحب البساط من تحت الأفكار الشيوعية على صعيد التطبيق ، وبقاء الطبقات المسحوقة ، بل تناميها في العالم . لا يمكن نسيان الإنتحارات التي واكبت اللحظة ، سواء أكانت إنتحارات جسدية أم ذهنية ( أنا هنا أقرأ الإرتداد الفكري انتحارا ) .

كذلك الخروج من حلم ( القومية ) إلى واقع لا يقيم للهويّة أيّ اعتبار أو قيمة ( الكثيرون تحسّسوا ذلك مع دخول إسرائيل إلى لبنان ، والإنتحارات التي جرت يومها - خليل حاوي نموذجا - لا تبتعد كثيرا عن الدخول في حالة يزيد بن عبد الملك ) .

ولا أوضح مما يقوم به الإسلامويون المتشدّدون على كلّ الأرض - كنموذج صارخ ليزيد بن عبد الملك - من تفخيخ الذات وإنتحارها عبر نسف العالم ( اللحظة الراهنة ومكانها ) .

سيكون لعمق الزمن الذاتي ، أقصد ( زمن الذات الخاص جدا ) وتعالقها مع الفكرة ، القسط الأكبر من تحقّق الإنهيار الشخصي فالإنتحار ، ذاك أنّ الأجيال التي نمت على حلم المشاعية الثانية ، أو تلك التي نمت على الحلم القومي ، تجاورهما التيارات الإسلامية التي رأت وترى شارع الحياة خاليا من طقوسها ، كلّ هذه الاتجاهات تشبه من زاوية ما - ولا علاقة للتشبيه هنا بمقياس الصح والخطأ - الأجيال التي نمت على تقديس الصنم ، لكنّها جميعا ، وفي لحظة خارجة على عقلها ( الذاتي / الجمعي ) ، أصبحت بعيدة - لا بإرادتها - ومعزولة داخل عالم آخر يبدو بلا معنى - من وجهة نظرها - ولا يمتّ بصلة لكلّ ما كان ، إنّها ( لحظة استئصال الذات من عقلها الخاص قبل ذبولها وموتها ) .

هنا ، تجد ( الذات / الدين / الأدلجة ) التي لم تحقّق بعد إنفصالها الطبيعي عن اعتقاداتها - التي أعلنت إفلاسها كقوى ذات ( تأثير ) لعجزها عن تقديم حلول اجتماعية في هذه اللحظة التأريخية من زمن العالم - أقول تجد نفسها في عالم خال من المثل وعاطلة فيه المفاهيم ، أي إفراغ ( الذات / الدين / الأدلجة ) من أيّ تبرير لوجودها ، وهو ما يجعلها تشعر بأنّها غير مجدية فتذبل ، وتموت وجدا ، تماما كيزيد بن عبد الملك .



#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
- رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
- تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
- الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
- عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
- عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
- الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
- فلنمت وحيدين بعيدا
- يموت المعنى وتستمر الحياة
- تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية
- الذات والعقاب قراءة في نمو المستوى الدلالي لمفهومي الغربة وا ...
- دعوة للتضامن مع الصحفيين العربيين عدلي الهواري وعبد الهادي ج ...
- العائلتية نظام حيواني قراءة في ثقافة صدئة
- فايروس حق الاعتراض : الفعل هو الكلام حتى لا يتجرأ أحد على تج ...


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جمال علي الحلاق - موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا