أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - كمال الجزولي - قصَّةُ بَقرَتَيْن!















المزيد.....



قصَّةُ بَقرَتَيْن!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1827 - 2007 / 2 / 15 - 09:43
المحور: سيرة ذاتية
    


الثلاثاء:
صديقى سمير عبد الباقى ، شاعر العاميَّة المصريَّة الكبير ، من أشعر خلق الله ، ومن أظرف خلق الله ، ومن أكثر خلق الله إثارة للجدل فى مناخات القاهرة المشبّعة ، أصلاً ، بالجدل سياسياً وفكرياً وأدبياً! سهرت فى ضيافته ، هذا المساء ، بصحبة الياس فتح الرحمن ، الشاعر والناشر الجميل ، وهشام السلامونى ، المفكر والناقد الستينى المرموق الذى هجر طبَّ العيون لينشغل بأسئلة مصر والسودان والعالم العربى الشائكة!
ولسمير أسلوبه الفريد فى التعبير عن مشاعره. فحين دلفنا ثلاثتنا من باب شقته الصغيرة التى يعيش فيها وحده وسط حى شبرا الشعبي كنت تهيَّأت لأن أعزيه فى زوجته التى توفيت قبل سنة وما سمعت إلا اليوم. غير أننا ألفينا سميراً منهمكاً فى الردِّ على محادثة تلقاها للتوِّ. كان يصيح برنَّة يجهد لجعلها أقرب إلى المرح ، مع أنه كان واضح الاحتشاد بحزن كالجبل:
ـ "يا عمِّ خلاص! ألف رحمة ونور عليها .. كفاية! عايز تواسيني قول لي كلام يفرَّحني وبلاش غلب .. أرجوك"!
ثمَّ ما لبث أن علق سمَّاعة التلفون ليندفع يعانقني بتلقائيَّته الدافئة فى ليل القاهرة الصقيعي:
ـ "والله زمن يا عمِّ كمال .. بقى ده اسمو كلام؟! فينك يا راجل .. بقالنا سنين ما بنشوفكش .. هُمَّ اعتقلوك تاني ، وللا الياس بياخدك مننا ، وللا إيه الحكاية بالضبط"؟!
بدا لى ، لحظتها ، أننى إن لم أسقط جُلَّ عبارات العزاء التى كنت أعدَتها ، فسيقول لى فى وجهى إننى ثقيل! لذا اكتفيت بإدغام عبارة "البقية ف حياتك" بين جلجلة القهقهات التى فرقعت فى غرفة الاستقبال الصغيرة. لكنه ، وكأنْ لم يسمع شيئاً ، إنطلق يصيح ، عبر النافذة ، لبائع الكباب والكفتة فى الدور الأرضى كي يصعد بطلبات العشاء ، بينما كان يلتقط من رفِّ المكتبة أحد دواوينه القديمة ، ويصيح بذات الحماس:
ـ "إستنوا .. استنوا لما أقرالكم القصيدة إللى كنت أهديتها لكمال وجيلى ، بعد انقلاب السودان ، لمَّا كمال أعتقل وجيلى توفى"!
ورغم أننا كنا سمعناها ، من قبل ، إلا أن طلاوة الصور وفرادة التراكيب وحلاوة الإلقاء المتمكث العميق ، أخذتنا جميعها على موجة عالية من المتعة والتأمل ، وجعلتنا نستزيده ، القصيدة تلو القصيدة ، حتى انقضت السهرة وهو يضع ديواناً ويرفع آخر ، بما فى ذلك "نهنهات المشيب" ، "جمر مطفي فى حرايق الروح" ، "ولا هُم يحزنون" ، "دفاتر إبن عبد الباقي ـ آخر حدود الزجل" ، فضلاً عن إصدارته غير الدوريَّة الموسومة بـ "شمروخ الأراجوز" التى درج على تذييلها بعبارة "نشرة شعريَّة مصريَّة على قدِّ الحال. لا جريدة ولا جرنال ولا حتى مجلة. ومستقلة عن أىِّ حزب وأىِّ مِلة. عايشة بنفسكم مش بسِّ بفلوسكم. والغاوى ينقط بطاقيته. وأهلاً بالأصدقاء ، زجَّالين وفنانين وشعراء"!
يحزننى أن إبداع سمير ما عاد معروفاً كثيراً فى السودان ، مع أن اسمه كان يرنُّ بيننا رنيناً وهو بعد فى بداياته قبل زهاء الثلاثين سنة ، خاصة عندما شكل مع المرحوم الموسيقار المُغنى عدلى فخرى ثنائياً ثورياً هزَّ أوساط الشباب والطلاب ، بالذات ، هزَّاً عنيفاً ، بالأخص عندما ذهبا ليعيشا مع اللبنانين مآسى الحرب الأهليَّة ، ومن هناك كانت تخرج أشرطتهما لتجوب الآفاق العربيَّة بأسرها ، من البحر إلى البحر!

الأربعاء:
تختصِر لفظة "شينق ـ cieng" ، لدى الدينكا ، مفاهيم "الوحدة" و"الانسجام" ، وتعني ، ضمن ما تعني في صيغة الاسم: "الاخلاق" و"العرف" و"الثقافة" ، وفي صيغة الفعل: "يعيش معاً" و"يسكن" و"يُعامِل" ، وتستخدم ، في الغالب ، بصفة إيعازيَّة تتضمن حكماً قيمياً ، كما في قولهم: "شينق سيئ" و"شينق حسن" .. الخ (أنظر: فرانسيس دينق ؛ الدينكا في السودان ، ط 1 ، مركز الدراسات السودانيَّة ، القاهرة 2001م ، ص 30 ـ 31). وظنِّي أن اللفظة تطابق ، من حيث ظلال المبنى وطيبة المعنى ، لفظتى "يُساكِن" و"مُساكَنة" ، على وزن "يُفاعِل" و"مُفاعَلة" ، وهما عربيَّتا الأصل ، سودانيَّتا المزاج ، ولطالما أسعفتاني ، وإنْ لم أكن أول من سكَّهما أو اجترح استخداماتهما ، إذ الفضل في ذلك يعود ، على ما أعتقد ، إلى صديقي عبد الله علي ابراهيم ، فما وقعت على أيِّهما عند أحد قبله.
الشاهد أنني سعدت ، أيَّما سعادة ، وأنا أطالع وأستعيد من الشبكة رنين التعبيرات (الشينقيَّة) الجهيرة التى انطلقت من خطاب سلفاكير ميارديت الأخير أمام الاجتماع الحاشد لقيادات (قطاع الشمال) بالحركة الشعبيَّة فى 4/2/07. لم يقتصر الخطاب على تأكيد المنحى الفكريِّ (للشينغ) الحسن لدى الحركة ، بدلالة (التساكن) السلمي المفضي ، بالضرورة ، إلى (التعارف/التعامل/التثاقف) الطبيعي ، في إطار مشدود من (الوحدة) بين مفردات التنوُّع السودانى ، بل تجاوز ذلك إلى تحذير "اللاعبين بالنار" مِمَّن "يعرقلون عملية السلام في المؤتمر الوطني وفى الحركة الشعبيَّة على السواء .. ويعملون على طرد الجنوبيين من الشمال" ، فضلاً عن تشديده على أن عقيدة الحركة هى "الوحدة الطوعيَّة على أسس جديدة" ، وأن "المصلحة العامة في الوحدة أكثر منها في الانفصال .. وأن الوحدة ضروريَّة للسودان كله ، وللجنوبيين كافة ، لا الحركة وحدها".
بحرارة القلب المرغوب فيها هذه تشمِّر الحركة عن ساعد (الوطن الواحد) فى عقلها ووجدانها. والمأمول أن تدير ظهرها نهائياً لجفاء الكلمات الباردة عن (الوحدة) ، وحياديَّة التقرير بأن "الشماليين وحدهم هم المسئولون عن أن تكون الوحدة جاذبة أو منفرة"!
لقد فجَّر خطاب سلفاكير طرحاً نوعياً مختلفاً بشأن ثلاث قضايا أساسيَّة وضع بها الحركة كلها ، نفرة واحدة ، فى بؤرة الهمِّ الوحدوى السودانى: فمن جهة أبدى استعداد الحركة "للعمل المشترك مع القوى السياسيَّة كافة لإيجاد مخرج للسودان من أزماته". وليس سوى أعمى بصيرة من لا يلمح فى هذا الطرح رغبة أكيدة فى (الانعتاق) من (ربقة) الاقتصار على (شراكة) المؤتمر الوطني وحده! ومن جهة أخرى طرح مبادرة للسلام في دارفور لا تعوِّل على مشاركة السلاطين والنظار والشراتي وحدهم ، بل تنفتح على معطيات الواقع الجديد الذي تخلق وسط الحريق المشتعل في الاقليم من أقصاه إلى أقصاه ، وفى مقدِّمة ذلك ظهور قيادات ورموز سياسية جديدة تحظى بثقة المجتمع المحلي ، فدعاها إلى "تكثيف اتصالاتها من أجل إنجاح المبادرة". ويقيننا أنه لو قدِّر لهذا الجهد أن يمضى إلى غاياته ، بلا عوائق من أجندات ضيِّقة أو مكايدات وضيعة ، فستخرج ، لا دارفور فقط ، وإنما البلاد بأسرها ، من مصيدة التدويل الراهنة التي ما فاقم من مهدِّداتها سوى هذه الاجندات والمكايدات نفسها! أما من الجهة الثالثة فيُتوقع أن يبحث اجتماع طارئ للمكتب السياسي للحركة اقتراحاً بتصفية قطاعي (الشمال) و(الجنوب) ، على أن يحلَّ محلهما "هيكل موحَّد ينتظم خمسة وعشرين وحدة على خارطة عموم السودان". بخ بخ ، فمن ذا الذي لا يلمح في مثل هذا الاجراء خطة من شأنها إعادة الصياغة الأعمق للحركة في مزاج الوحدة؟!
مع ذلك كله ، ولنكون أقرب إلى الواقعيَّة السياسيَّة ، يجدر ألا نزعم أننا انتقلنا من خانة (التشاؤم) إلى خانة (التفاؤل) .. بالمطلق! فلنقل ، إذن ، إننا صرنا الآن (أقل تشاؤماً) أو (أكثر تفاؤلاً) ، أو صرنا ، للدقة ، (متشائلين) ، بمصطلح إميل حبيبى السديد!

الخميس:
شقَّ عليَّ نبأ وفاة الأخ الحبيب الطيِّب محمد الطيِّب ، نعاه الناعى وأنا بعيد عن الوطن ، وكنت زرته ، آخر مرَّة ، بصحبة بعض الأصدقاء ، إبَّان رقدته الأخيرة بالمستشفى العسكري. حسبناه ، للوهلة الأولى ، نائماً ، فكدنا ننسحب بهدوء ، لولا أن زوجته عاجلتنا بالتمر ، قائلة: "ليس نائماً ، هو فقط على هذا الحال منذ جئنا به إلى هنا ، ولكن رؤيتكم ستسعده". فتح عينيه ببطء ، وبدا كما لو كان يهمُّ بالكلام ، سوى أنه طفق يُسرِّح نظراته الوادعة فى وجوهنا ولا ينبس ببنت شفة ، رغم إلحافنا في مشاغبته ، وكم كان ، فى زمانه ، حديد المشاغبة ، شديد اللماحيَّة ، منتجاً حاذقاً لبهار الاخوانيَّات اللاذع وعطرها النفاذ!
تعرفت عليه عام 1973م. قدَّمنى إليه عبد الله علي ابراهيم ، أيام تفرغه لمسئوليات العمل الثقافى بالحزب الشيوعى ، وشوقي عز الدين ، المخرج المسرحى الذى كان قد فصل ، للتوِّ ، من العمل بمعهد الموسيقى والمسرح. كنا نقصد ، أحياناً ، داره ببرى ، مع بعض الأصدقاء ، نقضى الأمسيات فى حوارت ساخنة حول هموم الثقافة ، فكان يستقبلنا هاشاً باشاً ، ويكرم وفادتنا غيرَ هيَّاب ولا وجل من كوننا كنا مجموعة من الشباب (المدموغين) فى الوسط الثقافى بالتمرُّد ، أو حتى من كون صديقه عبد الله ، بالذات ، كان مختفياً ومطلوباً من الأجهزة الأمنيَّة!
ظل الفقيد ، دائماً ، نسيج وحده فى مقاربة مختلف ظاهرات القول والفعل الشعبيين. كنا شغوفين وقتها ، شوقي وأنا ، بالمسرح. وقد سَمِعَنا نتحدث ، مرَّة ، عن مسرح الرجل الواحد One Man Theatre الذى كنا نحسبه حداثيَّاً لا أصل له فى ثقافتنا الشعبيَّة. فدعانا، بعد أيام ، لمرافقته فى زيارة إلى ود الفادنى. وفى الطريق أخذ يطلب من سائقه أن يُعرَّج إلى بعض القرى ، يسأل عن صديق له يُدعى حاج الصِدِّيق عبد الله ، إلى أن دلونا على سبعينىٍّ لا يكاد يلفت النظر لبساطته ، وقد هشَّ لرؤية الطيِّب الذى طلب منه الصعود إلى العربة ، وواصلنا سيرنا. بلغنا المسيد بعد صلاة العشاء. وبعد أن أولموا لنا وليمة تكفى لعشرة أضعافنا ، إستبقانا الطيِّب جلوساً على ذات الأبسطة التى مُدَّت لأجلنا فى صحن المسجد الرحب ، وفى حضرة الشيخ وأولاده. كانت المئذنة المهيبة تشمخ فوقنا، وظلالنا تترامى مجسَّمة ، بفعل (الرتاين) ، على الحوائط الجليلة من حولنا ، بينما تربَّع حاج الصِدِّيق فوق أحد العناقريب الفارهة التى أعدت لمبيتنا ، لتكتمل ثنائيَّة (الصالة والخشبة) بكل ما فى (المسرح الفقير) ، بالمصطلح الحديث ، من بساطة وتعقيد ، وليبدأ العرض فى ليلة لا نظننا ننساها ما حيينا ، تكشف فيها حاج الصِدِّيق عن مسرحىٍّ شديد الثقة فى نفسه ، والتوقير لفنه. إنطلق يضحكنا ضحكاً كالبكا ، وفينا مشايخ ما تنفكُّ أناملهم تداعب حبَّات مسبحاتهم ، على أنفسنا وعلى الدنيا من حولنا ، ببديع مفارقات يلتقطها ، بعين الفيلسوف الناقد وخيال الفنان الخلاق ، من شوارع القرية والمدينة ، ومن بيوت الأغنياء والفقراء ، ومن مناسبات الافراح والاتراح ، ومن دقائق تجليَّات مشاعر المزارع حين يحلُّ أجل سداد الديون ، بينما تتأخر صرفيات الحوَّاشات ، ومن مواسم الحج ، بكل ما تزدحم به من سحنات ولغات ولهجات وطائرات وقطارات وبواخر ، بل ومن مَشاهِد أسفار قاصدة من مغارب الشمس إلى مشارقها ، بأقدام حافية مشققة ، وببعض كِسرات خبز مجفف ، وبصغار مرتدفين فى ظهور الأمهات. وكان حاج الصِدِّيق يتنقل بين المَشاهِد ، فى قمَّة براعته ، باقتدار وسلاسة ، مُقلداً عويل الريح ، وبكاء الرضيع ، وثغاء الماعز ، وصفارة القطار ، وبوق السيارة ، وهدير محرِّك الطائرة ، وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته ، وسخط المزارع المغلوب على أمره ، وغنج زوجة التاجر القروىِّ الثريِّ تحاول تسريب طلباتها الباذخة إلى حافظة نقوده المنفوخة! كان يفعل ذلك وحده ، خلواً إلا من قسمات وجهه المرنة ، واختلاجات جسده الناحل ، وتوترات أطرافه المعروقة ، وأقصى ما يختزن صدره الضامر من إرزام ، وحباله الصوتيَّة من صداح. وكنا ، من شدَّة تعجُّبنا منه ، نكاد نطير إليه ، طيراناً ، من (صالة) السجادة إلى (خشبة) العنقريب ، نعانقه ، ونهنئه ، وكذا نفعل مع الطيِّب ، منتج عرض (الرجل الواحد) البهىِّ ذاك فى مسيد ود الفادنى ، فقد مَنحَنا كلاهما ، فى ليلتنا تلك ، أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان.
بعد انفضاض السامر ، آخر الليل ، كان واضحاً أن أكثرنا فرحاً هو الطيِّب نفسه الذى بدا كما لو فرغ من إجراء (تجربة) ناجحة! وبالفعل ، ما أن عدنا أدراجنا ، حتى عَمَدَ إلى إقناع التلفزيون بإعداد برنامج خاص عن (حاج الصِّدِّيق). لكن ليتهم سمعوا نصيحته وقتذاك ، كما قد علمت منه ، فلم يستكثروا ذهاب كاميرتهم لتسجيل اسكتشات ذلك الفنان المدهش ، بتلقائيَّة أدائه وسط جمهوره هناك ، فقد توفى الرجل ، للأسف ، بعد ذلك بسنوات ، ولم يتبقَّ منه الآن سوى هذا البرنامج الذى جفف طاقاته ، بكل ثرائها ، على منضدة بائسة فى ستديو خانق ، وما زلت أشعر بالحسرة ، كلما رأيت كاميرات الفيديو تتنقل الآن فى الحفلات ، على قفا من يشيل ، بعدد صحون العشاء وزجاجات البارد! فلو تيسَّرت للطيِّب واحدة ، ليلتها ، لما ضاع ذلك الأثر الفنى النادر ، مرَّة .. وللأبد! فهل من ماجد يقتفى الآن (بكاميرته) آثر اكتشاف الطيِّب ذاك بخطة بحث قاصدة تفترض أن حاج الصِّدِّيق لا يعقل أن يكون بلا ورثة ، فيجعل لحركتنا المسرحيَّة مرجعيَّة مخصوصة فى تراثنا الشعبى ، ولتنظيرات مسرحيينا آفاقاً أرحب من مجرَّد الاجترار العقيم لإشكاليَّات العرض من قواعد أرسطوطاليس إلى جدل (الممتع) و(المفيد) ضمن نظريات برتولد برشت فى (الأورغانون الصغير)!
ألا رحم الله الطيِّب ، وغفر له ، وجعل الجنة مثواه ، فقد سلست عشرته ، بقدر ما بذل من جهد فى الاحسان لثقافة الشعب.

الجمعة:

عدت من سفرة إلى القاهرة ، لأنهمك ، اليوم ، في مطالعة صحف الأسبوعين الماضيين ، فوقعت على كلمة لخالد المبارك يعلق بها على احتفاليَّة اتحاد الكتاب بالذكرى الأربعين لصدور مؤلف يوسف فضل القيِّم (العرب والسودان). إلى هنا والأمر عادىٌّ تماماً ، فليس مِمَّا يدهش ، أو يستوجب الشكر ، أو يلفت الانتباه حتى ، أن يهتمَّ مثقف بيوسف وكتابه ، ومن ثمَّ بالاحتفاليَّة ذاتها. غير أن خالداً ، وفى بعض منعرجات استطراداته غير الموفقة (غير الموفقة بالنسبة له وحده ، لا لأحد غيره!) ، أراد أن يستثمر المناسبة ، فى غير ما مناسبة ، ليوحى بأنه (هو) الذي ترفع عن اكتساب عضويَّة (الاتحاد) ، لا العكس ، فكتب يقول بالحرف: "لست عضواً فى اتحاد الكتاب لأن الفكرة نشأت فى الاتحاد السوفيتى السابق كوسيلة للسيطرة على الأدباء المبدعين .. الخ!" (الرأى العام ، 24/1/07).
ربما لا نحتاج لأن نؤكد أن من ضروب التنطع الذي لا يستحق ، بالقطع ، سوى السخرية محاولة إقناع أي قارئ ، مهما تدنَّى مستوى ذكائه ، بأن فكرة الاتحاد التي تبلورت في منتصف سبعينات القرن الماضي ، واستوت على سوقها في منتصف ثمانيناته ، لتقبر عشيَّة تسعيناته ، ثمَّ تعود لتتجدَّد في خواتيم العام الخامس من الألفيَّة ، ما كان لها أن تكون لولا (مؤامرة) حُبكت في الاتحاد السوفيتي (!) دَعْ ما يشي به ذلك من قلة حياء الزعم الضمني بأن ما مِن أحد ، سوى هذا الحبر الفهَّامة ، قد أوتى مِن (العبقريَّة) ما يؤهِّله (لفضح) تلك (المؤامرة) ، فجازت على كل (المغفلين) الآخرين ، بمَن فيهم القامات الماجدة التي أوقدت شعلة الاتحاد وتعهَّدتها بالحدب والدأب والهمَّة ، وعلى رأسهم ، خلال المرحلة الأولى ، محمد المهدي المجذوب وعبد الله حامد الأمين والنور عثمان أبكر وحسن عباس صبحي وأبو بكر خالد ، وخلال المرحلة الثانية جمال محمد احمد والتجانى عامر ومحمد عمر بشير وصلاح احمد ابراهيم وعلى المك ومحمد عبد الحي وأحمد الطيِّب زين العابدين ، وهذا على سبيل المثال فقط!
لكن ، وبصرف النظر عن خراقة مثل هذا السجال الذي لا يفتح غير بوَّابات (الجحيم) ، ولا يودى سوى إلى (التهلكة) ، وما يمكن أن يجرَّ على مَن ظنَنَّا ، وبعض الظنِّ إثمٌ ، أنه أذكى مِن أن يبادر لافتراعه بنفسه ، فإن ثمَّة أسئلة محدَّدة يهمنا أن نسمع إجابات خالد (الصريحة) عليها ، قبل أن نقرِّر ما إن كنا سنكتفي بها (ويا دارْ ما دَخَلِكْ شَرْ) ، أم انه لا بُدَّ مِمَّا ليس منه بُدٌ!! أول هذه الأسئلة: هل ، تراه ، سعى خالدٌ لاكتساب عضويَّة الاتحاد فى أيِّ وقت منذ (أول تأسيسه)؟! وإذا كانت الإجابة بـ (نعم) ، فهل حدث أن اكتسبها بالفعل؟! وإذا كانت الإجابة أيضاً بـ (نعم) ، فإن عليه أن يوضح ، وبعظمة لسانه ، كيف فقدها إذن؟! ولن ينتهى الأمر عند هذا الحدِّ ، إذ يتحتم عليه أن يفسِّر كيف تأتى له أن يجئ من فوق ذلك كله ، وبعد أكثر من عشرين سنة ، ليعلن ، لا فض فوه ، أنه ليس عضواً فى (نفس) هذا الاتحاد لأن فكرته نشأت (أصلاً) في الاتحاد السوفيتي؟!
لكم وددنا لو تجنب الرجل ، من تلقاء نفسه ، مغبَّة مثل هذا الخطو غير المحسوب على شفا جرف هار! لكن ، وحتى لا يصرَّ ، مكابرة ، على الاجابة بـ (لا) ، ظناً منه أننا إنما ننفخ ، لا سمح الله ، وحملنا ريش ، فسنحاول (تشجيعه) على الجهر بـ (نعم) ، لفظاً للباطل بلا تردُّد ، ورجوعاً للحق دون مماحكة ، وذلك بأن نكرِّر له ، وببساطة شديدة ، ذات النصيحة النصوح التى سبق أن نصح له منصور خالد قائلاَ: "إن غربلت الناس نخلوك"! لولا أنه ، فى ما يبدو ، لم يستبن النصح .. ولا حتى ضحى الغدِ!
فمنصور كان قد اتخذه نموذجاً لمن وصفهم بـ "أصحاب الذاكرة المثقوبة" مِمَّن "ظلوا يرابطون فى ثغور مايو" ، يأكلون "تمرها" عن آخره ، قبل أن ينقلبوا ، بعد ذهاب مُلكها ، "يرجمونها بالنوى" ، فرماهم بـ "التشويش على عقول أجيال يهمها أن تلمَّ بتاريخها إلماماً موضوعياً" ، ناعياً عليهم أنهم إنما يصدرون فى ما يفعلون عن محض حكمة بلهاء! وليبرهن على ذلك أشار منصور ، في السياق ، إلى أن الرجل اختار الالتحاق بجوقة المايويين مديراً لمعهد الموسيقى والمسرح ، دونما أدنى دليل على نيَّته الارتقاء بتلك المؤسَّسة الابداعيَّة بعيداً عن غوائل السياسة ، إذ كان هو "صاحب الصوت الترجيحي في مجلس الأساتذة" عندما اعترضت جماعة منهم على زيارة اعتزمها نميري للمعهد حين رأوا فيها تسييساً للمؤسَّسة ، الأمر الذي انتهى بطردهم منها جميعاً ، بتهمة الشيوعيَّة ومناهضة النظام ، "أمام ناظري مديرهم الذى تأخر سرجه يوم الزحف"! وذاك ، لعمري، أخف البراهين وطأة!
الشاهد أن منصوراً ، وبعد أن شدَّد على أن الرجل بقي يحمل "متاع مايو الثقيل" حتى فى أكثر عهودها قتامة ، كتب يقول: ".. نستذكر هذا الأمر بوجه خاص نسبة لقرار اتحاد الكتاب السودانيين حول عضويَّة المدير الناقد فى صفوفه. إتحاد الكتاب كان أكثر حكمة واتزاناً وأمانة من كل الذين انتاشوا نظام مايو بعد سقوطه في تعميم جائر ، خاصَّة ومن بين أعضائه كثر تركوا ميسمهم في النظام في تجلياته المختلفة .. الخ" (راجع: جنوب السُّودان في المخيلة العربيَّة ـ الصورة الزائفة والقمع التاريخي ، دار تراث ، لندن 2000م ، ص 224 ـ 228). وتلك حقيقة ، ففضلاً عمَّن تأبَّى الانخراط فى مايو ، منذ يومها الأول ، لأسباب مبدئيَّة ، ثمَّة أيضاً مَن ظاهروها ، لأسباب هى الأخرى مبدئيَّة ، ثمَّ ما لبثوا أن عارضوها لأسباب مبدئيَّة كذلك. لم ينتظروا ذهاب ريحها ليفعلوا ما فعلوا ، وإنما بصقوا بين عيني الوحش وهم معه في ضفة واحدة! وقد سدَّد الكثيرون منهم ثمن موقفهم فادحاً ، ليس من أرزاقهم وحرياتهم ، فحسب ، بل ومن أرواحهم كذلك. لكن ثمَّة ، بالمقابل ، مَن التحق بمايو ، لا لوجه مبدأ ما ، وإنما طمعاً في ذهبها أو خوفاً من سيفها! أولائك هم الذين ما ننفكُّ نراهم يتقلبون ، ملتبسين ، في جدل (التمر والنوى) ، بكل ما يستتبع ذلك من نسج (للتعميمات الجائرة) على نول المكابرات الفظة والمغالطات الساذجة!
مهما يكن من أمر ، فها نحن ننتظر ردود خالد على أسئلتنا ، متمنين له (مستقبلاً) باهراً وهو يهجر التدريس بالجامعة ليصير ملحقاً إعلامياً بسفارة السودان بلندن! بخيت وسعيد! فقط نرجوه ألا يقول لنا إنه لم يطلع على كتاب منصور طوال السنوات السبع الماضيات!

السبت:
وصلتنى هذا المساء رسالة رقيقة من مانثيا ديورا ، الكاتب المفكر من أصلٍ مالى ، وأستاذ السينما ومدير مركز الفنون الأفريقانيَّة بجامعة نيويورك ، والذى كان زار الخرطوم خلال عيد الأضحى الأخير برفقة صديقنا صلاح الجرِّك ، التشكيلى السودانى وأستاذ الفنون الأفريقانيَّة ومدير مركزها أيضاً بجامعة كورنيل. لم تكن عطلة العيد لتصلح سوى للمؤانسات الخاصَّة مع الضيف العزيز ، ومع ذلك فقد نجح الروائى عيسى الحلو ، بما يملك من خبرة وخيال ، فى تحويل إحدى هذه المؤانسات إلى ندوة نشر وقائعها فى ملحقه الثقافى بهذه الصحيفة. وكانت تلك إحدى دروس عيسى المجَّانيَّة ، لكلِّ من يريد ، حقاً ، أن يتعلم إدارة الصحافة الثقافيَّة!
بعد العيد نظم اتحاد الكتاب ورشة عمل تحدَّث فيها ديورا إلى بعض المهتمين ، كما عرض فيلمه حول عودة صديقه الروائى نغوغى واثيانق إلى وطنه كينيا ، بعد سنوات من حياة المنفى فى أمريكا ، وما صاحب تلك العودة من أحداث مأساويَّة ، وبكاميرا فيديو قال عنها ، فى إشارة ذكيَّة ، إنها أرخص بكثير من الكاميرا التى كانت تكتفى ، فحسب ، بالتوثيق لتلك الورشة!
ديورا عبَّر فى رسالته عن أعمق الانطباعات التى عاد بها من زيارته تلك ، وأبدى إعجابه ، بالمساهمات الكبيرة لاتحاد الكتاب فى الدفع باتجاه التحوُّل الديموقراطى فى السودان. كما بعث أيضاً ، كأحد مديرى مركز نغوغى للأدب الأفريقى ، بدعوة للاتحاد للمشاركة فى أعمال مؤتمر الترجمة الذى يعتزم المركز تنظيمه بالولايات المتحدة ، وذلك فى سياق توثيق الروابط بين مؤسَّستينا ، والتى كنا دشَّنَّاها أصلاً باتفاق مبدئيٍّ على أن يتولى المركز ترجمة أعمال الروائى أبراهيم اسحق إلى الانجليزيَّة.
أطرف ما ورد فى رسالة ديورا ما نقله من تساؤل نغوغى عمَّا إذا كانت لدينا تجارب أو خطط ، على الأقل ، لترجمة الأدب المكتوب باللغات المحليَّة إلى العربيَّة أو الانجليزيَّة! السؤال يقع ، بالطبع ، ضمن اهتمامات نغوغى الذى اتجه مؤخراً إلى الكتابة بلغته الأم .. الكيكويو ، بدلاً من الانجليزيَّة! ولكننى أستشعر خجلاً بالغاً أن أنقل إليه أن تدوين اللغات المحليَّة نفسها ، دَعْ الكتابة الابداعيَّة بها ، لا يقع فى منطقة اهتمامات إنتلجينسيا التكوينات القوميَّة غير المستعربة فى بلادنا ، والتى تعانى الهزال الشديد للعنصر الثقافى فى مستوى وعيها بذاتها ، فقد سلخ أعرقها حضوراً فى ساحة الصراع السياسى أعمار أجيال بأكملها فى المفاضلة بين السواحيليَّة والانجليزيَّة كلغة رسميَّة ، بل وكلغة تخاطب Lingua Franca ، فى بعض أقاليمهم ، مسقطين ، بالكليَّة ، أيَّة جدارة تندرج بها اللغة المحليَّة فى دائرة المنافسة!
قد أتمكن ، على كلٍّ ، من تبييض الوجه قليلاً بإطلاعهما على نصوص (نيفاشا) والدستور الانتقالى التى تتيح ، لأول مرة ، فرصة الاختيار الديموقراطى أمام هذه التكوينات لاستخدام لغاتها فى مناطقها إذا أرادت. غير أننى ، وفى ما عدا تجربة (الباريا) ، سأصمت عن الاشارة إلى ما أنجزه (أفنديَّة) هذه التكوينات طوال سنتين من عمر هذا التشريع حتى الآن!

الأحد:
وصلتنى اليوم بعض المطبوعات والدوريات العربيَّة والاجنبيَّة ، ومن بينها عدد ديسمبر 2006م من مجلة الرافد الثقافيَّة الشهريَّة التى تصدر عن دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة.
لفت نظري ما كتبه مدير التحرير حول أن ".. السمة الأفريكانيَّة الأكثر وضوحاً فى ثقافة أهل السودان ليست غائبة في بقيَّة البلاد العربيَّة كحقيقة تاريخيَّة واقعيَّة بقدر غيابها المفهومي عند بعض الدوائر القارئة لطبيعة الثقافة العربيَّة .. وفي أيام الثقافة السودانيَّة بالشارقة .. تنفسح الآفاق على أنساق الثقافة والفنون بتنوِّعها وثرائها الحمَّال لأوجه السودان المتعدِّد ثقافياً والموحَّد فى التناص الابداعي الانساني".
يصعب الاتفاق مع الكاتب حول ما ساقه في تبرير اختيار الخرطوم (عاصمة للثقافة العربيَّة) عام 2005م ، العام الذى شهد ، على وجه مخصوص ، إصدار الدستور الانتقالي بناءً على ما تم التوصُّل إليه من اتفاق سلام شامل أوقف حرباً أهليَّة ضروساً اندلعت فى الجنوب لأسباب ليست بعيدة عن نفس هذا الادعاء ، وتفاقمت حتى أضحت قدوة (الهامش) كله ، بينما اللافتات نفسها التى يتخندق تحتها أهل هذا (الهامش) قد تجاوزت مجرَّد المطالبة المتواضعة القديمة بالحكم الاقليمي ، إلى المطالبة بحقوقهم المشروعة فى سلطة وثروة (المركز) نفسه!
ورغم عدم الدقة فى الحديث عن "السمة الأفريكانيَّة" فى "السودان العربي" ، وهى ، للانصاف ، عدم دقة اصطلاحيَّة ومفهوميَّة سائدة فى معظم الكتابات حول هذه المسألة فى العالم العربى كما فى السودان ، إلا أن المرء لا يمكنه ، مع ذلك ، ألا يتفق مع قول الكاتب ما يعنى أن هذه (السمة) لا تعكس ، فحسب ، خللاً فى استقبال الصورة التاريخيَّة الواقعيَّة لـ "السودان" فى الذهنيَّة العربيَّة عموماً ، بل وخللاً فى فهم طبيعة "الثقافة العربيَّة" نفسها. ولكنه ما يلبث أن يستنتج أن فى "استعادة الخرطوم الثقافى لهذه (السمة) تنبيه ضمنى لحقيقة مغيَّبة فى كل العالم العربى ، الأمر الذى يعتلى بالقيمة المعنويَّة الدلاليَّة للخرطوم كعاصمة للثقافة العربيَّة .. الخ"! فالكاتب يسقط المشكلة ، بالكليَّة ، كمشكلة علاقات داخليَّة قائمة ، بالأساس ، فى الاقتصاد السياسى "للتساكن" ، فلا يرى الحل إلا فى استعدال صورة "الثقافة السودانيَّة" فى "الذهنيَّة العربيَّة" كثقافة تحمل "سمة أفريكانيَّة" ، أما فى ما عدا ذلك فإن هذه "الثقافة" تبقى ، فى مجملها ، "ثقافة عربيَّة"! ومن الواضح أنه وضع نصب عينيه هذا (الاستنتاج) أولاً ، ثمَّ بنى عليه (مقدِّماته)!
المنهج الأصوب ، فى رأينا ، هو الذى عالج به إيليا حريق هذه المسألة ، فى تقديمه للطبعة الأولى من كتاب عبد الله على ابراهيم (الثقافة والديموقراطية فى السودان ، دار الأمين ، القاهرة 1996م) ، وذلك من حيث اعترافه أيضاً ليس فقط بأن الحوار الفكرى القائم منذ زمن حول الازدواجيَّة الحضاريَّة فى السودان "ظل بعيداً عن المحاور الفكريَّة الأساسيَّة الدائرة فى أجواء الفكر العربى المركزى" (ص 8) ، بل واعترافه كذلك بأن هذا الفكر قد عالج ".. تلك المشكلة بشىء من الخفة ، إن لم نقل العداء"! فعلى الرغم من أن الدولة العربيَّة كانت دائماً دولة متعدِّدة الشعوب والطوائف ، إلا أن القوميين وغلاة الإسلاميين يحاولون القضاء على تلك التعدديَّة التاريخيَّة فى سنين وجيزة" (ص 12) ، مع أن ثمَّة ".. حقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا وهى .. أن التكامل القومى لم يتحقق فى أى بلد .. عن طريق الدمج وإزالة معالم الحضارات المخالفة لحضارة الأكثريَّة" (ص 13).

الاثنين:
صديق مشاغب بعث إلىَّ اليوم بنكتة سياسيَّة بارعة باللغة الانجليزيَّة عنوانها (Tale of Two Cows ـ قصة بقرتين) ، ربما على غرار الرواية المعروفة (Tale of Two Cities ـ قصة مدينتين). النكتة تفترض أن لديك بقرتين ، فإذا كنت عربياً ، مثلاً ، واستخدمت طريقة مدينة (دال) ، فإنك سوف تصمِّم لهما موقعاً على الانترنت ، وتعلن عنهما فى كل الصحف ، وتبنى حولهما صرحاً ضخماً تسميه (مدينة الألبان) أو (مدينة الأبقار) ، ثم تشرع ، حتى قبل حلبهما ، فى بيع لبنهما للمستثمرين الحقيقيين والوهميين الذين يحلمون بإعادة بيعه خلال عامين ليحصلوا على أرباح بنسبة 100%. ولن يفوتك ، بالطبع ، أن تستضيف تايغر وودز ليبتدر الحلب ، على سبيل .. الدعاية! وفى دولة (قاف) البقرتان موجودتان ، أصلاً ، لسنوات دون أن يعرف أحد أن بإمكانهما إنتاج اللبن. لكنك ما أن ترى ما فعلته (دال) حتى يُجن جنونك ، فتهجم على البقرتين (تطلع روحهما) بحلب أكبر كميَّة فى أقصر وقت ، لتكتشف ، بعد ذلك .. ألا أحد يريد اللبن! وفى دولة (سين) ، وبما أن (الحلب) يعنى لمس (الثدى) ، فقد أعلنت الحكومة (تحريم) انكشاف البقرة على الحالب! فإما أن يحلبها من وراء ستار أو تدرب الحكومة نساء على هذا العمل .. وما يزال الجدل محتدماً! وفى دولة (باء) يسرق مسئول كبير إحدى البقرتين ، ويحلبها، ويبيع لبنها ، ويضع الفلوس فى جيبه! لكن الحكومة تعلن أنه لا توجد ، فى الأصل ، سوى بقرة واحدة فقط ، ولبنها لا يكفى لكل الناس! فتنطلق مسيرات الاحتجاج الشعبية تهتف بسقوط الحكومة .. ملوِّحة بالأعلام الإيرانيَّة! ويقرِّر البرلمان أخيراً ، وبعد أكثر من عشرة أشهر من المداولات ، توظيف عشرة مواطنين للقيام بحلب تلك البقرة ، مِمَّا سيخفض نسبة العطالة! وفى لبنان إحدى البقرتين مملوكة لسوريا ، والأخرى تحت إدارة حزب الله! وفى مصر البقرتان كلتاهما مشغولتان بالتصويت لمبارك! وفى السودان إحدى البقرتين يحلبها المؤتمر الوطنى ، والأخرى تحلبها الحركة الشعبيَّة! وفى اليمن ، تستعين (بالقات) كى تخترع طريقة لحلب البقرتين ، ولكنك لا تفعل شيئاً على الاطلاق! أما فى غير العالم العربى ، فى بريطانيا مثلاً ، فإن لديك بقرتين .. كلتاهما مجنونتان! وفى أمريكا تبيع إحدى البقرتين ، ثم تجبر الأخرى على إنتاج ما يعادل لبن أربع بقرات. لكنك ما تلبث أن تعيِّن مستشاراً لتحليل السبب فى سقوطها .. ميِّتة! وفى فرنسا لديك البقرتان ، ولكنك تعلن الإضراب لأنك تريد ثلاثاً! وفى أستراليا تهدى إحدى البقرتين للأمريكان ، والأخرى للبريطانيين ، ثم تعود إلى خرافك خشنة الوبر! وأما في روسيا فإنك تعدُّ البقرتين لتكتشف أنهما خمس بقرات ، تعيد عدَّهما لتكتشف أنهما اثنتان وأربعون بقرة ، وهكذا تمضى فى العدِّ حتى تكتشف أنهما اثنتان ، حينها توقف العدَّ لتفتح .. زجاجة فودكا أخرى!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ ...
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) - ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ ...
- طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
- دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي ...
- عَضُّ الأصَابع فِى أبُوجَا!
- بَا .. بَارْيَا!
- إسْتِثناءٌ مِصْرىٌّ وَضِئٌ مِن قاعِدةٍ عَرَبيَّة مُعْتِمَة!
- خُوْصُ النَّخْلِ لا يُوقِدُ نَاراً!
- التُّرَابِى: حَرْبُ الفَتَاوَى!
- سِيْدِى بِى سِيْدُوْ!
- ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ (الحلقة الأخيرة) مَا العَمَ ...
- ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (13) الوَطَنُ لَيسَ (حَظَّ ...
- ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (12) وَطَنيَّةُ مَنْ؟!


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - كمال الجزولي - قصَّةُ بَقرَتَيْن!