أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - رحيم العراقي - ناصر ووهم العروبة















المزيد.....


ناصر ووهم العروبة


رحيم العراقي

الحوار المتمدن-العدد: 1827 - 2007 / 2 / 15 - 09:32
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في مطلع ربيع عام 1953، وصل مؤلف كتاب جمال عبد الناصر ووهم العروبة إلى القاهرة ليجد نفسه بعد فترة قصيرة من وصوله مدعواً مع بعض الأصدقاء إلى فندق عائم، لم يكن في الأصل سوى «اليخت» السابق للملك فاروق.
كانت القاهرة، كما يصفها جان لاكوتور تعج بالأخبار وبالروائع وبالمفاجآت و«كانت الصداقات، تنبت فيها مثل الفطر تحت الصنوبر في منطقة اللاند ـ الفرنسية ـ في شهر سبتمبر»..
وكان الضباط الأحرار آنذاك بقيادة اللواء محمد نجيب وإنما بتوجيهات «البكباشي» جمال عبدالناصر هم الذين يطبقون القانون فيها وإن لم يكن سلوكهم يتماشى دائماً مع الشرعية.
كانت فرنسا ممثلة آنذاك في القاهرة بشخص كان يبدو بأنه قد أخطأ بالطائرة. كان شخصاً بارداً في بلاد تعج بالحياة وبالحرارة. لكن هذا كان يسمح له بأن يبعد مسافة ويكّون نظرة متفردة. وقد قال ذات يوم للمؤلف:
«هل ترى يا عزيزي أن العرب يثيرون حيرتي إذ يتمارون في رغبتهم بأن يكونوا محبوبين. مع ذلك فإن هذا أسهل من فهمهم. إن هؤلاء الضباط يطفحون بشكل واضح بالإرادة الطيبة. لكن لماذا ذهبوا وألقوا بأنفسهم بين أيادي الأميركيين الذين ليس لهم هنا سوى هدفين هما ضمان أمن إسرائيل وحماية قطنهم من الصادرات المصرية».
وكان يمكن الاعتراض بأنه كان بين يدي العم سام ما يكفي من الأوراق كما كان الوضع بالنسبة للإنجليز سابقاً في فلسطين». كان طلبة القاهرة يطلقون آنذاك على عبدالناصر تسمية «الكولونيل جيمي».
وان على «كوف دو مورفيل» أن يترك السفارة الفرنسية في «الجيزة» قبل أن يكون «جيمي» قد تم تعميده مرة أخرى بتسمية «بويوف» من قبل أولئك الطلبة أنفسهم.
التقى المؤلف بعد ذلك مرات عديدة بـ «دو مورفيل» تحت سماوات «أكثر ملاءمة لعقلانيته الديكارتية»، في جنيف وغيرها. وذلك بمناسبة ندوات دولية كان موضوعها في أغلب الوقت عبدالناصر ومصر الناصرية.
ويذكر المؤلف بهذا الصدد أن «دو مورفيل» وصل متأخراً لحفلة عشاء كان مدعواً لها عند السيدة «جنثيث تابوي» يوم 13 يوليو 1968. ويومها قال للسيدة: «سامحيني يا صديقتي ـ كان صوته متوسلاً حقاً والأسف بادياً عليه ـ فإن الجنرال ديغول قد عينني للتو رئيساً للوزراء».
كانت مهمته الأساسية كرئيس للحكومة هي جعل الدبلوماسية الديغولية أكثر هدوءاً بعد التأرجحات التي رافقتها مع اندلاع ثورة التحرر الوطني في الجزائر. وكان «دو مورفيل»، منذ أن كان وزيراً للخارجية، قد شكك، قبل الجنرال نفسه، بفكرة «الجزائر فرنسية».
وكان شديد الاهتمام بتحالفات فرنسا مع بلدان المشرق. ويؤكد المؤلف في هذا السياق على أنه كان من أكثر الذين ساهموا بتقديم الحجج للجنرال ديغول والتي قادته إلى سبيل الواقعية «السبيل الصعب».
كانت آخر مرة التقى فيها المؤلف مع «كوف دو مورفيل» هي في مطلع عام 1969 حيث كان قد عاد للتو من زيارة للجنرال ديغول في قرية «كولومبي ذات الكنيستين» التي اعتكف الجنرال فيها بعد أن قرر التخلي عن الرئاسة بسبب فشل إصلاح دستوري كان قد طرحه للاستفتاء الشعبي ولم ينل الأكثرية المطلوبة كي يصبح نافذاً.
وعندما سأل «لاكوثور» عن الحالة المعنوية للجنرال ديغول أجاب كوف دو مورفيل: «الجنرال؟ إنه سعيد يا عزيزي. إنه أكثر سعادة في كولومبي مما رأيته في أي مكان آخر. إنه يفعل أكثر شيء محبب إلى قلبه في العالم: إنه يمارس الكتابة! وإذا كان علي أن أحكم عليه من خلال ما قرأه لي فإنني أستطيع أن أؤكد لك بأن هذا النص ليس وصية إنسان مهزوم».
*إرادة عبدالناصر
كان السؤال الذي يدور في أذهان مؤلف هذا الكتاب وغيره من الفرنسيين المتواجدين آنذاك في القاهرة هو التالي: «ما هي طبيعة هذه السلطة ومن هو الذي يملك زمامها بالفعل؟».
وكان لابد لهذا السؤال من أن يثير الإجابة التالية التي كانت تتردد لدى الجميع والتي مفادها: «إن للنظام وجهاً هو وجه محمد نجيب وإرادة هي إرادة عبدالناصر. فإذا كنتم تريدون أن تبعثوا السرور بأنفسكم فما عليكم إلا أن تقابلوا الأول.. وإذا كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا يجري فقابلوا الثاني».
كان اللقاء باللواء محمد نجيب سهلاً بمقدار ما كانت مسؤولياته متواضعة. وبعد أسبوع فقط من وجود مؤلف هذا الكتاب في القاهرة وجد نفسه وهو يستقل القطار بين مجموعة من المدعوين الرسميين للتوجه إلى طنطا في دلتا مصر حيث كان سيجري توزيع أراضٍ على الفلاحين.
لقد جاء محمد نجيب إلى المقطورة التي كانت تقل الصحافيين ليتحدث معهم طيلة ساعة كاملة حول أحوال المزارعين الصغار للقطن وظروفهم المعيشية البائسة والتي تحاول السلطة الجديدة، التي كانت قد طردت الملك فاروق عام 1952، انتشالهم منها. لكنه ابتعد تماماً عن الخوض بالحديث في المواضيع «الساخنة».
كان محمد نجيب يشبه إلى حد بعيد «شيخ البلد في متحف القاهرة» بابتسامته المرسومة. لكنه رفض الإجابة عن أية أسئلة طرحها الصحافيون من موقع اهتماماتهم لمعرفة توجهات المستقبل في مصر بعد يوليو 1952. فمثل هذه الأسئلة كان ينبغي طرحها على ذلك «البكباشي» الذي رأى به الجميع المهندس الحقيقي للنظام الجديد.
هكذا وبعد العودة من طنطا تم تحديد موعد للقاء به في مقر سلطته ذلك البناء العجيب على شاطئ نهر النيل وهو عبارة عن قصر كان يرتاده الملك فاروق سابقاً ويشبه قصر أحد «الباشاوات» الذين أرادوا تقليد أجواء «ألف ليلة وليلة».
جرى اللقاء في مكتب عبدالناصر حيث يشير جان لاكوثور» إلى أن ما كان يثير الدهشة لديه قبل كل شيء هو شخصيته المهيبة وشبابه ثم نظرته التي كان يمتزج فيها السواد العميق مع تعبير حاد ثاقب «مصري جداً.. أو بالأحرى صعيدي».
في بداية اللقاء طرح عبدالناصر نفسه الكثير من الأسئلة حول ما يجري آنذاك في بلدان شمال افريقيا الخاضعة للاستعمار الفرنسي، وكأنه كان يريد تجنب الخوض في الإجابات. إن أسئلته المتكررة جعلته يبدو للوهلة الأولى كـ «تلميذ».
وكان قد أعطى الانطباع بأنه يعرف بأن محدّثه وزوجته التي رافقته أثناء تلك المقابلة كانا من العارفين جيداً بأمور شمال افريقيا، ولا شك بأن أجهزته المختصة قدمت له تقريراً بهذا الخصوص. وإذا كان الصحافي وزوجته قد أحسا بنوع من الرضا لأنهما قد «أعطيا درساً لأحد كبار العالم» فإنهما أدركا بأن «ذلك الثعلب كان أكثر ذكاءً من الغراب العابر».
كان عمر جمال عبدالناصر عندما أصبح السيد المطلق في السلطة 36 سنة. لذلك لم يكن شبابه يسمح له بأن يتنطح للعب دور الحكيم الطاعن في السن الذي يحظى عادة بمصداقية وسلطة كبيرتين في الشرق. بل على العكس دفعه ذكاؤه إلى اتخاذ موقف معاكس وحرص على أن يلعب في البداية دور «الساذج»:
الشاب الذي لا يكف عن طرح الأسئلة. لكن هذه «السذاجة» الظاهرية جذبت إليه تعاطف العديدين من كبار عصره من أمثال «جواهر لال نهرو» رئيس وزراء الهند آنذاك الذي قال عنه «إن هذا الشاب سوف يذهب بعيداً». وكان جوزيف بروز «تيتو» رئيس الفيدرالية اليوغسلافية السابقة من بين المعجبين بجمال عبدالناصر.
لكن منذ أن تم انتخاب عبدالناصر كرئيس للدولة بصورة مدروسة ومعروفة النتيجة في يناير من عام 1956. تخلى عن لباسه العسكري برتبة «بكباشي» كي يرتدي سترة «الرئيس». بنفس الوقت تخلى أيضاً عن لهجة «الثوري الهاوي» كي يتحدث لغة القوة ويردد خطابها .
ويستخدم أدواتها التي يمكن أن تساهم في ترسيخها وتمركزها بيديه وبيد مجموعة من «المخلصين: الذين كانوا حوله.. ومن بينهم محمد حسنين هيكل «صاحب القلم البارع» الذي يستدعي للرأس شخصية «هنري كيسنغر».
ومن بينهم أيضاً علي صبري الذي كان أول رئيس للحكومة في عهد عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، صديقه وكاتم أسراره والذي يصفه المؤلف أيضاً بأنه كان «مسلماً جيداً» ويضيف بأن عبدالناصر قد استشاره لفترة طويلة قبل القيام بعملية الإطاحة بالحكم الملكي في مصر في يونيو 1952».
كان جمال عبدالناصر، كما يقدمه مؤلف هذا الكتاب، هو الدماغ السياسي العسكري داخل مجموعة الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالملك فاروق في ليلة 22/23 يوليو 1952. وكانت تلك المجموعة تضم ضباطاً من مختلف الأطياف السياسية بما في ذلك المتعاطفين مع الإخوان المسلمين والمؤيدين للشيوعية.
وكان عبدالناصر قد توصل إلى إقناع رفاقه من الضباط الأحرار بإعلان النظام الجمهوري وعدم التعرض لحياة الملك المخلوع فاروق ووضع شخصية لها شعبيتها كواجهة للنظام الجديد.. وهو الدور الذي جسده محمد نجيب.
*عداء للفاشية
كان خصوم جمال عبدالناصر يقولون بأن الحافز الرئيسي وراء عمله إنما كان إحساسه بالفقر وبأنه غير محبوب إذ أن والده كان يعمل في مصلحة البريد بالاسكندرية تزوج لمرة ثانية من امرأة لم تكن تخفي ضغينتها حيال الفتى جمال. وكان عبدالناصر، عندما وصل إلى السلطة، يؤكد في جميع أحاديثه ولقاءاته تمسكه بالديمقراطية وعداءه الكبير للفاشية.
ويؤكد مؤلف هذا الكتاب بأنه قد خبر هو نفسه ذلك مرات عديدة، ويلاحظ بأنه أدرك ابتعاد آلية عمل النظام الناصري عن النموذج الانجليزي. هذا على الرغم من أن عبدالناصر كان من القراء المواظبين لـ «التايمز» ويبدي إعجابه بذلك «النموذج» فيما يخص نمط تسيير الحكم.
إن النظام الذي صاغه جمال عبدالناصر «لم يكن أسود ولا أحمر ولا أسمر وإنما كان بلون الكاكي، أي لون اللباس العسكري.
كما يعبر جان لاكوثور ليشير مباشرة إلى الدور الطاغي الذي لعبته الأجهزة السرية (المخابرات) وإلى الممارسات التي لم تكن تتسم إلا بقدر قليل من الشرعية والانتخابات المزورة والصحافة الخاضعة لرقابة شديدة.. وفي محصلة هذا كله، كانت مصر تعيش بعيداً عن أية معايير ديمقراطية..
واعتباراً من عام 1956 أصبحت الأيديولوجية القومية العربية هي التي «تلهم» الدبلوماسية المصرية مع ما رافق ذلك من خطاب حماسي ودعوات لاسترجاع الحقوق بالقوة.. على أساس أن ما أُخذ بالقوة لا يمكن استرداده إلا بالقوة ـ من إسرائيل. هل كان نظاماً شمولياً؟ يتساءل المؤلف ويجيب:
«لقد كان بكل الأحوال متشرباً بنزعة اشتراكية تسلطية كان لابد لها من أن تقود إلى مجابهات داخلية وخارجية». هكذا انقلبت علاقاته النشطة مع الإخوان المسلمين إلى حرب لا هوادة فيها.
أما علاقاته مع الشيوعيين الذين حارب تنظيمهم من حيث أنه حزب سياسي ممنوع واعتقل العديد من أعضائه، فإنها قد تباينت تبعاً للتغييرات التي عرفتها توجهاته الاستراتيجية، وخاصة العلاقة مع الاتحاد السوفييتي (السابق).
لم يكن هناك ما يثير غضب عبدالناصر أكثر من تشبيه الصحافة الغربية له بـ «موسوليني» أو «هتلر»، هذا إذا لم يكن بـ «فرعون». إنه لمن الصحيح القول بأنه قد جلب من إحدى الواحات القريبة من «ممفيس» التمثال الهائل لرمسيس الثاني الذي كان ملقى على الرمال كي ينصبه على مدخل محطة القطارات في القاهرة.
«فهل كان ذلك بغية تجنب أن يُنصب هناك تمثاله كما كان يرجوه هذا أو ذاك من المتملقين حوله؟» يتساءل المؤلف ثم يضيف في معرض الإجابة: «لكنني رأيته في عام 1954 وهو يخرج مدهوشاً من موقع للحفريات حيث كان قد جرى للتو اكتشاف القارب الفرعوني المسمى «الشمسي» في الجيزة.
وحيث عبر مندهشاً بسذاجة بأن أجداده كانوا يتمتعون بالعبقرية، قبل أن يصدر قراراً قضى بضرورة أن يزور طلبة المدارس المتاحف والقبور (...). لكنه لم يشأ أبدا مع ذلك أن يقدم نفسه كوريث لرمسيس، كما كان موسوليني قد قدم نفسه وريثاً لقيصر».
ويعيد مؤلف هذا الكتاب سلوك جمال عبدالناصر أثناء أزمة قناة السويس ثم حرب 1967 إلى «المساوئ الملازمة» لممارسة السلطة بشكل شبه فردي تماماً..
وكان من نتيجة هذا أن «هذا الرجل الذي عرفناه يجيد الحسابات قد قدم للقيادة الإسرائيلية أفضل سبب لشن الحرب، والمقصود هو الحصار الذي ضربه على مضائق تيران».. إن هذا الرجل نفسه، كما يؤكد المؤلف، كان مع ذلك «مستعداً للقيام بحديث عن طريق المراسلة مع ديفيد بن غوريون بواسطة نائبين انجليزيين من حزب العمال عام 1954 .
ولقد انخرط المؤلف قليلاً بهذه العملية. بل وكان قد وافق على إجراء مقابلة طويلة معه لصحيفة فرانس ـ سوار في مطلع عام 1956 حيث أكد، إلى جانب نقده الشديد لتقسيم فلسطين، بأنه يفكر بإمكانية القيام بمفاوضات مع إسرائيل من أجل الوصول إلى السلام. هذا السلام الذي كان عليه أن يعترف لاحقاً بأنه لا مفر منه عندما قبل بمشروع روجرز عام 1969.
وكان وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز قد اقترح آنذاك مشروعاً للسلام الإسرائيلي، العربي ينص على تقسيم الأراضي والمياه والنفط.
إن جمال عبدالناصر، كما يصفه المؤلف، خضع لوهم «التحليق فوق البساط السحري العروبي» بينما كانت الجماهير مسحورة بقدرته البلاغية وفصاحته الخطابية المترسخة شهراً بعد شهر منذ عام 1952. والنتيجة؟ «لقد انسحر هو نفسه بالسحر الذي كان يمارسه... لقد كان رجل دولة يقبع في داخله، لكن الخطيب الشعبي حطمه».
لكن لا يمكن الحديث عن السلطة الناصرية دون تذكر ما جرى يوم 9 يونيو 1967 عندما أعلن فجأة عبدالناصر تحمله لمسؤولية الهزيمة التي لحقت ببلاده وبالعرب في حرب يونيو مع إسرائيل، بأنه قد قرر التنحي عن السلطة وتعيينه زكريا محيي الدين خليفة له. في ذلك اليوم دعته الجماهير الغفيرة للعودة عن قراره والبقاء في السلطة حتى الموت وهي تهتف لجمال بأن «لا يتركها».
ونابليون عندما انهزم، ألم يقرر الهرب متخفياً بلباس عقيد نمساوي؟ وعندما استولى النازيون على موسكو عام 1941، هل رجاه الشعب المخلص بأن يحمل أيقونات روسيا المقدسة حتى اركوتسك؟ وعندما نجا هتلر من طلائع جيش الجنرال الروسي جوكوف، هل استطاع أن يحتفظ بموقعه طويلاً؟
*عصر السادات
ذات يوم، عندما كان مؤلف هذا الكتاب في مقر صحيفة «الجمهورية» بالقاهرة، عاد يهتف باسم «دوك النجتون» الموسيقي الأميركي الكبير، عندما تقدم نحوه ذلك الرجل الأسمر بوجهه القرمزي وبشاربيه المنتظمين..
وعندما وصل إليه بلباسه العسكري ـ الكاكي ـ بادره مرحباً بحرارة باللغة الإنجليزية إنه «أنور السادات» المعروف آنذاك بأنه أحد «كاتمي أسرار» عبدالناصر، وذلك منذ أن كان قد أعلن عبر الإذاعة بصوته «الموسيقي» للشعب المصري «المصعوق» بأن نظامه الملكي الذي يعود لآلاف السنين قد انتهى من غير رجعة.
لم يكن أنور السادات شخصية معروفة جداً عندما قابله مؤلف هذا الكتاب في نهاية شهر أغسطس من عام 1953.
فمنذ استيلاء الضباط الأحرار على السلطة لم يعهد له صديقه عبدالناصر إلا بمهمات ثانوية ربما لأنه كان يخشى من أن تؤدي صلات السادات مع النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية إلى إزعاج الأميركيين الذين كانوا قد قدموا له الكثير وكان ينوي الاعتماد عليهم كثيراً.
وفي عام 1970 أصبح أنور السادات خليفة جمال عبدالناصر ولكنه بقي شخصية «مسلية» وبكل الأحوال «هامشية» حتى حرب أكتوبر 1973 وزيارته للقدس وحديثه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1977. اعتباراً منذئذ فرض أنور السادات نفسه كشريك «جدي» في مواجهة إسرائيل.
لم تكن الصورة الأولى التي جرى رسمها لأنور السادات في العالم توحي بأي شيء من مثل هذه «الجدية». وينقل المؤلف عن هنري كيسنغر قوله غداة وفاة جمال عبدالناصر لأحد الصحافيين عما يفكر به حيال السادات:
«ليس لهذا الرجل سوى أهمية مؤقتة. ولن يستمر في الحكم سوى بضعة أسابيع».. وكانت الصحافة المصرية التي تحررت فجأة من قبضة الرقابة الشديدة، قد انعتقت من عقالها.
وكتبت ذات مرة: «لقد قتلنا جمال من الخوف ويقتلنا أنور السادات من الضحك». وصرح محمود فوزي الذي كان أول رئيس وزراء اختاره «الرئيس» الجديد، قائلاً: «بعد عصر البطل جاء عصر الإنسان العادي».
وعندما تولى أنور السادات السلطة طلب التلفزيون الفرنسي من مؤلف هذا الكتاب إبداء رأيه بذلك، على اعتبار أنه خبير بالشؤون المصرية، فأجاب: «هل وجدت مصر رأساً؟ إنها وجدت على الأكثر قبعة».
«لقد خدعنا جميعاً!»، يقول المؤلف ثم يضيف: «خلف تلك القامة الشابة الرياضية ذات المشية المرنة وخلف ذلك الوجه البرونزي بجبهته الموشاة ببقعة داكنة بسبب «تأدية الصلوات».
وخلف تلك النظرة الحذرة والضحكة المجلجلة للفلاح ـ الجندي، خلف هذا كله كانت تختبئ عبقرية التخفي التي تعمقت لديه أثناء فترة ممارسة الكتمان زمن العمل السري والعلاقات مع عبدالناصر والتحضير لعمليات 1952 و1973 و1977».
كان أنور السادات قبل كل شيء فلاحاً من دلتا النيل قادراً على استنشاق رائحة الأرض والريح والعواصف وردود أفعال الآخرين. ومن هذا الموقع «كفلاح» كان متعقلاً وحذراً ومتنبهاً وصبوراً.. لكنه كان بكل الحالات مليئاً بالحيوية.. وفي كل الحالات أيضاً كان يردد كـ «مؤمن ورع» مرجعياته الإسلامية فيما يقوم به من أعمال.وهكذا أيضاً اختار القدس، وليس تل أبيب، بالنسبة لزيارته لإسرائيل.. لقد اعتقد بأنه: «في هذا المكان المقدس سيمكن فقط من أن يغير المعطيات السياسية وحساسية أشقائه العرب»، حسب تعبير مؤلف هذا الكتاب.
لكنه أيضاً «لاعب» جيد، ورجل تحديات. وينقل عنه «جان لاكوثور، قوله في كتاب مذكراته عند اللحظة المخيفة لتسلمه السلطة بعد وفاة عبدالناصر، قوله ما مفاده: «إن سمة التحدي تشكل أحد العناصر الأساسية في شخصيتي.
لكنها لم تكن قوية أبداً بمقدار ما كانت عندما تسلمت السلطة». هكذا قام السادات بتحدي «كتلة» الناصريين وتحدي الاتحاد السوفييتي وتحدي إسرائيل عام 1973 وتحدي الرأي العام العربي عندما استقبل شاه إيران المخلوع في القاهرة. «بدت تلك الحركة ـ استقبال الشاه ـ مثيرة بلا فائدة لكنه أسلوبه كفارس زاد من شعبيته»، حسب تعبير جان لاكوثور.
وكان السادات ناجحاً جداً في علاقاته العامة إذ كان «الرجل الأكثر براعة في عصره في التأثير على محادثيه». كيف؟ باستخدامه لغة المودة والحماس «المصطنع قليلاً» مما كان «يسحر» رجال الصحافة.
ـ ولكن أيضاً المستثمرين والدبلوماسيين وجماهير وادي النيل. وكان يمتلك أيضاً «فن معالجة الحقيقة» كمادة أولية للاستراتيجية الدبلوماسية ومن هنا من المهم القيام بدراسة منهجية لمقابلاته ـ الصحافية ـ على ضوء أفعاله حيث يوجد مزيج من أشكال الصمت المخدرة والتهديدات نصف المموهة».
كانت مسيرة الرئيس الثاني لجمهورية مصر العربية حافلة بالمنعطفات.. وبالأحداث منذ ولادته في ميت أبو الكوم حتى نهايته المعروفة. كان والده فلاحا مصريا وأمه امرأة سودانية. عرف السجن ـ ميدان قرة ـ كضابط شاب» قام بعمليات ضد الاحتلال الانجليزي، وعاش أيضاً الفترات الحرجة التي سبقت انقلاب يوليو 1952 ورافقته وتلته إلى جانب جمال عبدالناصر..
وكان أيضاً وراء عملية العبور الكبير الذي قامت به القوات المصرية لقناة السويس في مواجهة الجيش الإسرائيلي عام 1973. لكن هذا كله لم يكن سوى «مسودة خجولة» لقيامه بزيارة إسرائيل.
في شهر يناير من عام 1977 شهدت القاهرة اضطرابات عنيفة على خلفية الغضب الاجتماعي والبؤس. كانت نسبة 35% من الدخل القومي و50% من الميزانية مكرسة للنفقات العسكرية. وكان لابد من إيجاد حل ـ وكان شعار «مصر أولاً» يعني.
كما فهمه السادات، إعطاء الأولوية لـ «البقاء عن طريق السلام» وليس أن تكون القاهرة «طليعة الحرب ضد إسرائيل». وبالتالي ومهما كانت المخاطرة في أي مشروع بهذا الاتجاه، أفضل، بنظره، من ذلك التعاظم للغضب الجماهيري.
فبأية ضربة جريئة يمكن الخروج من المأزق؟. إن الرسالة التي تلقاها السادات من جيمي كارتر في شهر سبتمبر 1977 جعلته يتتبع بصحة تحليله للوضع. وهو أن ما يفصل بين مصر وإسرائيل أكثر من واقع المواجهة في حروب ثلاث وآلاف القتلى وضياع الأرض، إنما هو يتمثل في جدار نفسي هائل، وهذا هو الذي «ينبغي هدمه بحركة رمزية».
وفي منظور مثل هذه الحركة الرمزية. حضّر السادات بمساعدة وزير خارجيته بطرس بطرس غالي خططاً عدة. لم تكن الخطة الأولى ترمي إلى أقل من عقد اجتماع في القدس تحضره الدول الخمس الكبرى في الأمم المتحدة (الاتحاد السوفييتي ـ آنذاك، والولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا) مع بلدان ساحة المعركة (سوريا ولبنان والأردن ومصر وإسرائيل).
ظهرت بوضوح استحالة تحقيق ذلك، على الأقل فيما يخص أن يجلس ريجينيف والقادة الصينيون حول الطاولة نفسها.في المحصلة قرر السادات أن يتحرك لوحده..
وهكذا تفوه أمام البرلمان المصري وبحضور ياسر عرفات بالجملة التالية كـ «بالون اختبار» إذ قال: «من أجل السلام أنا مستعد للذهاب إلى نهاية العالم.. وحتى إلى الكنيست». لم يتفوه عرفات بكلمة.. وإذن؟
. «وإذن كانت تلك الرحلة الخرافية إلى القمر بالنسبة لخليفة عبدالناصر كما بالنسبة لكل مسؤول عربي، ذلك الهبوط في قلب قلعة العدو». ويقول مؤلف هذا الكتاب عن تلك الرحلة:
«إن بيغن، نظيره الإسرائيلي، كان في أقواله وردود أفعاله أدنى في ذلك الظرف».وبكل الأحوال، دفع أنور السادات حياته ثمن زيارته للقدس.



#رحيم_العراقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نخبة القادة الإداريين
- اللطخة
- إبن عربي
- الى عشرينية
- كيف يمكن أن تكون وزيرا في بلد ديمقراطي..؟
- عندما غنينا الشهيد بشار رشيد
- الفاشية الأوربية
- ماوتسي تونغ
- الليبرالية والديمقراطية
- فن الحياة
- عالم المافيات
- ستالين الطيب
- التلفزيون والإنزال الثقافي الأميركي
- اليوناني الرائي
- لماذا يقتتلون في الشرق الأوسط..؟
- تهافت الديمقراطيات الصناعية
- موسوعة التنوير..غيرت مسار التأريخ
- من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية
- هكذا تكلم الفيلسوف الماركسي هابرماس
- العالم عام 2020 ..حسب تقرير السي آي أيه


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - رحيم العراقي - ناصر ووهم العروبة