أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - عن مقتل صديقي الزنجي عادل تركي















المزيد.....

عن مقتل صديقي الزنجي عادل تركي


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1825 - 2007 / 2 / 13 - 11:46
المحور: الادب والفن
    


هل حدث لك أن فتحت صندوق بريدك في صباح اسكندنافي ساكن لتجد نفسك في حومة أمكنتك الحميمة وبشرها.. تفتح ظرفا مجهولا.. عنوان المرسل والاسم غريب.. الورقة الصغيرة مكثفة.. تقلب على الفور لتعرف من كاتب هذه الرسالة الغامضة قبل القراءة فتجد الاسم غريبا عليك لم تسمع به من قبل. لكن بعد قراءتك للسطور المرتبكة المعدودة تجد نفسك تغور في ماضيك.. أمكنة الطفولة.. شوارعها وبشرها.. وذاتك الصافية لما كنت مجرد طفل تلعب في الشارع.
ذاك ما حدث لي بالضبط حال فتح وقراءة هذه الرسالة المقتضبة والعميقة.. وهذه الرسالة بالذات مصيرها غريب.. ظللت أحملها في جيبي وأعيد قراءتها دون ملل وحتى هذه اللحظة فهي تعديني بالضبط إلى تفاصيل منسية في طفولتي ولا أستطيع سردها أو قصها على الآخرين رغم كوني صرت من أصحاب القلم. التفاصيل تتعلق بما هو مشترك بين كل العراقيين.. حول لعب كرة القدم بالشارع المذاكرة تحت أعمدة كهرباء الشارع في ستينات القرن الماضي وما شابه ذلك.. تفاصيل تمس قلب الفرد فقط.. قلبي وقلب كل عراقي من أبناء جيلي.
في يومٍ ما خرجت من البيت وفي طريقي إلى موقف الحافلة شاهدت ورقة بيضاء ملقاة على الرصيف فدفعني الفضول لتناولها.. قفزت مثل مجنون " المنفي الحقيقي مجرد مجنون" قفزت صارخا لم تكن إلا هذه الرسالة التي سيطلع عليها القارئ. طبعا فرحت جدا واحتفظت بها إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها عنها أي أكثر من عشر سنوات.
يبدو أنها سقطت مني في وقت سابق لبعثرتي وفوضى وضعي المرتبك المستمر حتى هذه اللحظة. المهم حضنتها براحتيَّ وكأنني أحضن نافذة من نوافذ عمري وما العمر إلا عدد غير محدود من النوافذ نطل منها على ما كناه في يومٍ ما..
كاتب الرسالة "جميل جلوب حسين الجبوري" لم أره لحد هذه اللحظة، وعنوانه المذكور فيها بالسويد.. يستفسر فيها عن مصير قريبه "عادل تركي" الذي ألتحق بالثوار في الجبل.... حسب ما أتذكر كتبت له رسالة تفصيلية عن مصيره كما عرفت من شاهد عيان لاحقا عندما لجئنا إلى إيران بعد الأنفال إذ كان معه بنفس المفرزة. لكن قبل أن أخبركم بتلك التفاصيل أود أن أحكي لكم قليلا عن " عادل تركي". كيف أصف لكم عادل وما أجمل أسمه.. كيف أصفه وكله مالك كياني كلما فكرت بالكتابة عنه.. لكن يلزمني الأمر وصفه على الأقل..
عادل تركي.. كان الأسود الوحيد من رفاق الطفولة يسكن على بعد زقاقين من بيتنا في " الحي العصري ".. لم يكن أسود فحسب بل له بشرة من فحم.. وكنت في الطفولة منجذبا نحو عالم الليل الذي يوحي به لونه.. كنت أراه غامضا مختلفا. كان في صباه كتلة من النشاط والقدرة على التنظيم فشكل فريق كرة قدم ينافس الفريق الذي شكلته.. وكنا نلعب في الساحة الواسعة التي كانت تفصل منطقة "حي العصري" عن مركز المدينة في أوائل الستينيات التي تحولت لاحقا إلى ملعب لكرة القدم قبل أن يأتي البعث في السبعينات ليبني عليها معسكراً للجيش الشعبي. نتنافس في المباراة عصر كل يوم. كنا حفاة والكرة التي نلعب بها من البلاستك، صغيرة نسميها "أم ثلاثة دراهم". وبعد المباراة نذهب جميعا إلى بيت أهله القريب لنغسل أقدمنا الموحلة من التراب والعرق. أتذكر هذه اللحظة بالضبط كيف كان يرفع دشداشته البيضاء ويمسك الإبريق ليصب على قدميه ويفرك بيده قدميه وما بين الأصابع. كنت أقف مبهورا أحدق في بشرته السوداء.. حركة أصابعه.. كان رشيقا يميل إلى النحول.. وأمد بصري إلى باحة البيت والغرف.. أول مرة أدخل بيت من السود وعائلتي بأجمعها تميل إلى بياض وكأنها مزيج من الفرس والترك. عجائز سود.. شابات سود.. يدورن في البيت مبتسمات يقدمن إلينا الخبز والماء.. وتلك المرة شممت رائحة مختلفة لم تزل بأنفي كلما تذكرته. كان يكبرني بثلاثة أعوام دراسية ومع ذلك توطدت علاقتنا مع الوقت ومع ظهور ميولي للقراءة ما أن بلغت الصف الخامس الابتدائي.. لأن عادل تركي قارئ نهم.. تحول لاحقا إلى مرجع يدلنا على ما يُشبع تلك الهواية التي أصبحت هوساً مع اتساع عدد رفاق المحلة المهتمين.. أذكر منهم " عبد الحسين عباس" الذي كان أقربنا إلى عادل، " ورياض لفتة " الذي كان معي بنفس الصف بمدرسة الثقافة الابتدائية والذي تحول لاحقا إلى شيوعي صلب رغم أن والده مفوض شرطة.. وقاد تجمعات انشقت عن منظمة الحزب الشيوعي بالديوانية زمن الجبهة الوطنية، والذي هو الآخر لاقى مصيرا تراجيديا إذ أخذته قوات الحرس الجمهوري عقب انتفاضة 1991 عند اجتياحها المدينة ليضيع في مقبرة جماعية.. هذه المجموعة توسعت لتنضم لاحقا إلى التيار اليساري في المدينة.. إذ سيظهر منها العديد من المثقفين المنسيين الآن واللامعين أذكر من المنسيين "عماد كريم" هو الآن في هولندا، والباحث المعروف "د. ميثم الجنابي". الشاعر والقاص "كريم عبد" أعود إلى عادل تركي.. محور الكلام. لو فكرت بالبحث في مسيرة صيرورتي الاجتماعية التي دفعتني لأكون كاتبا سيكون عادل تركي سبباً.... إذ كان يكبرنا.. قارئ نهم كما قلت دلنا ونحن في الخامس ابتدائي على "أرسين لوبين" اللص الظريف وسلسلة روائية عن جونسون الطريفة وقتها.. مايك هامر، شرلوك هولمز، أجاثا كرستي، يأتي بصمت ويسأل عقب المباراة:
ـ هل قرأتم لفلان؟!. ويذكر أسم الكاتب.. ويشوقنا كي نستعير الكتاب منه أو من المكتبة. أتذكر كيف نصحني وهو يمد برواية من روايات أجاثا كرستي قائلا:
ـ أقره على كيفك وأصبر ولا تمل!. وكنت وقتها قد تحولت إلى الأول متوسط. كان ينير لنا عالم الكتب بصمت وهدوء وتدرج فهو الذي حولنا إلى ميشيل زيفاكو.. ورواياته عن أوربا العصر الوسيط.. ثم حولنا إلى رواية بائعة الخبز وبؤساء هيجو، ليصل بنا إلى ذات المسار الذي مرَّ به كل من كان له هوى يساري ينحاز للفقر والعدالة من أبناء جيلي.. رواية "الأم" لمكسيم غوركي التي جعلت من بؤساء هيجو ينتفضون عاملين سرا ليحصلوا على حقهم في الحياة.. أوصلنا "عادل تركي" إلى حلم مدينة ماركس الفاضلة دون أن يصرح أو يدعو. كان رزينا يفعل بصمت مثل ليل بشرته. وكنت مفضوحا ومندفعا حد الحمق في بداية تولهي باليسار.. أدخل في كل مكان بحوار.. وعملت سرا في بداية السبعينات بتنظيمات الحزب الشيوعي وكنت أتخيل حالي عند ما أتسلل لحضور اجتماع في بيت مسؤول الخلية وكأنني بافل شخصية رواية الأم المحورية.. لم يطل الحلم والأمر إذ سرعان ما اعتُقلنا.. وبتجربة التعذيب ووجع الجسد فيزيقيا تختلف الرؤى وتذهب الحماسة.. كان "عبد الحسين عباس" صديق "عادل تركي" الحميم والذي سيكون حلقة الوصل كي تكتمل هذه الحكاية.. لا أريد الإفاضة بالكلام.. لكن "عادل تركي" تخلص من محنة حملات الاعتقال حتى قيام الجبهة الوطنية في تموز 1973 بين حزب البعث والشيوعي.. وقتها الكل أنشغل.. انتقلت إلى بغداد وكان "عادل" قد أنتقل قبلي بسنتين.. لم أره مرة واحدة في بغداد لكنني كنت أتابع أخباره بفضول بفضل "عبد الحسين عباس" الذي بقى على صله معه .. من المؤكد أن نجمه قد سطع وقت الجبهة الوطنية وهو الذي لم يعتقل.. كان "عبد الحسين" يوافيني بتفاصيل حياته.. قصة حبه لزميلة بيضاء.. ومن يظن أن ذلك الأمر يسيرا في البيئة العراقية العشائرية يكون واهما.. كانت زميلة له في الجامعة، يسارية تجننت به وعاندت أهلها مثل أي عراقية عندما تحب يتوجب أن تكون لديها من الشجاعة ما يجعلها تقاوم على قيم القبيلة والعائلة. كنت أسمع عرضا تلك الأخبار وكان يسرني ذلك.. ولم أستغرب أن تتجن به امرأة عراقية أي كان جمالها أو لونها.. فهو من التكوينات الجميلة في تكاملها.. هل أبالغ في الكلام. لا.. بل أحاول فقط نقل أثره في نفسي بالضبط..
لا أتذكر هذه اللحظة كم من الأولاد لديه.. لكن أستطيع الجزم بأنه كوّن أسرة إذ أكمل كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية وعمل مدرسا في إحدى مدارس بغداد. كان "عبد الحسين عباس" قد أخبرني عن أولاده قبل قيام حروب صدام.. وكذلك "جميل جلوب" الذي وضعني بزاوية وهو يقول:
ـ هل أستطيع أن اخبر زوجته وأطفاله بما أخبرتني به؟!.
قلت له:
ـ قل لهم.. ذلك أفضل!.
في بحر العراق الهائج تلقي بنا الأمواج كل إلى ساحل غريب.. لكن يحدث طوفان جديد فيجعلنا نلتقي أو نسمع عمن أخذهم الموج إلى المجهول. أقول المجهول والعراق فيه المصير مجهول حقا لمن كان مثل "عادل تركي"، وكل عراقي له موقف ورؤية اختلفت مع رؤية البعث. هذا ما كان في أواخر السبعينات، فكل لاذ في مكانه عدا من ضاع في المنفى أو صار مشروع موت في المدن وجبال كردستان أو سيق للموت في جبهة الحرب العراقية الإيرانية.. هذا ما قصدته في طوفان العراق ببحره الهائج.
قصتي معروفة ذكرتها في قصصي ورواياتي، وفي كتابتي لقصة رسالة صديقي المرحوم "عزيز السماوي" وملخصها التحاقي بثوار الجبل هربا من جبهة الحرب وبقائي هنالك حتى الأنفال. قبيل حملة الأنفال في شتاء 1987 كنت أتنقل حاملا البريد والمؤمن بين مقرات الثوار. وصلت مقر "كافيه" الجديد المبني على فسحة تحت قمة من قمم سلسلة كارا الجبلية الذي لجأ إليه مقاتلو أربيل بعض ضغط القوات الحكومية في مناطقهم. وفي قاعة مشادة من الصخر والطين، طويلة كابية الضوء، تعط برائحة عرق الأجساد والأقدام المتعطنة استلقيت متعباً على بطانية سوداء بالية مفروشة في الزاوية وسقطت في النوم فورا كحالي بعد مسير طويل في جبال وعرة. أيقظني صوت يناديني باسمي الحقيقي:
ـ سلام أكعد.. أكعد..
باعدت أجفاني بعناء..
ـ لعفو سلام.. أنا خيري عواد!.
نهضت كأنني في حلم. فتحت عيني فطالعني وجه خيري الطري الضاحك.. فرأيته ذات الطفل الذي كان يوزع الماء دائراً بين قنفات قهوة أبيه. حضنته شاما به رائحة بيت عواد ومدينتي وكل ذلك الماضي السراب. ردد على عجل:
ـ سلام المفرزة راح تتحرك.. ولازم أطلع..
حضنته وقبلته قائلا:
ـ الله وياك!. ودر بالك على نفسك.
ـ لا سلام أني جايك بشغله!.
أنهضتُ جسدي واتكأت على الجدار البارد وقلت:
فأردف:
ـ هل تعرف شخص من حي العصري أسمه "عادل تركي"
كدت أن أهب صارخا، لكن رجفة هزت جسدي هزاً أوهنت قواي فصرت مثل من شرب قنينة عرق في دقيقة. لزمت الصمت محاولا ربط الكلام بالقصة والتفاصيل فلم أجد تعليلا لما قاله خيري الذي أكمل غير منتبهٍ لما حلَّ بيّ:
ـ هذا الشخص التحق بقاطع السليمانية لكن لم يجد أحدا يزكيه وذكر في التحقيق أسم ناصر عواد وإقبال أخويّ الشهيدين لذا كتبوا كي أزكيه وأنا لا أعرفه..
"خيري يصغرني بتسع سنين".
قبلته بحنان وودعته هامسا بمرح:
ـ قل لهم سلام يعرفه!.
ورحل خيري غير آبه بالحكاية.
في اليوم التالي رتبت الأمر سريعا.. فهذا موج العراق الهائج يلقي بعادل الحبيب إلى ساحل سمعي.. قلت لهم ما كتبت عنه في هذا المقال وكان كافيا كي يأخذ مساحته في المكان الذي يحل فيه.. وفرحت مع نفسي سرا فرحا فريدا لا يستطيع المرء البوح به. فها هو معلمي ورفيق طفولتي وصباي يضطر إلى اللجوء للجبل مقررا مثلما قررت قبل خمس سنين.. من جديد نخوض في حلم العدالة والمساواة بين البشر ذلك الحلم راح ينمو بهدوء وصمت ونحن نبكي على مأساة بائعة الخبز وأم غوركي وبؤساء هيجو. لم يطل الأمر فسرعان ما توقفت الحرب مع إيران وبدأت الأنفال التي طشت الثوار صوب كل الجهات فهنالك من حوصر بين الجبال وفي الوديان وقاتل حتى الطلقة الأخيرة، وهنالك من تسلل سراً إلى المدن وضاع فيها أو قبضوه، وهناك من عبر الحدود إلى تركيا وسوريا وإيران.
وجدتني في ربيع 1989 قابعا في غرفة بائسة على فراش فقير في أقصى الشمال الإيراني مع جموع النازحين الأكراد أنا وزوجتي في معسكر " خوي زرعان" المحاط بالأسلاك الشائكة وحرس الثورة الإيراني والأفق جدار.. سلوتنا الوحيدة الحكايات والأخبار وكتب المعسكر الدينية. كنت في خلواتي أفكر بمصائر الأصدقاء. بعادل تركي بكريم أبن خالي الذي التحق بصحبتي عام 1982 وبقى في قاطع السليمانية حتى الأنفال وفي المدينة "السليمانية" حتى كتابة هذه السطور.. ووصلت أخبار بأن ثمة مفرزة حوصرت وسط تلال "كرميان" المقفرة. في ذلك اليوم لزمني الحزن خشية عليها. بقيت شاردا. غاب مرحي فترة طويلة والأخبار تتوارد عن تلك المفرزة المحاصرة وهذه قصة أخرى موضعها ليس هنا.
في فندق بائس وسط طهران نزلت. كنت أحاول ترتيب سفرنا إلى سوريا. فأضفت زوجتي إلى جواز سفري في شارع " كوجه مروي " الشهير ورتب أحد الرفاق تأشيرة الخروج برشوة ضابط سفر إيراني الذي رفض أخذ النقود بل خرج معنا أنا وصاحبي لنشتري له قطعة ذهب من أحد الأسواق. وتم الأمر ولم يبق سوى العودة إلى المعسكر لجلب زوجتي والسفر. كنت مستلقيا في غرفة الفندق وإذا بالباب يدفع ويدخل "كريم" ابن خالي. وبعد البكاء والعناق والتقبيل حكى القصة. وكان ظني صحيحا. إذ كان من ضمن المفرزة التي حُصرتْ وسأروي التفاصيل في فصلا أخر يتعلق بهذه الشخصية. سألته ونحن نجلس في مقهى "عياران" عن "عادل تركي" بعد أن حكيت له قصة التزكية. لف برأسه وشرد بعينيه محدقا في أقفاص البلابل المتدلية من السقف، ثم سألني:
ـ هل عرفت أسمه الحركي؟!.
أجبته بالنفي ووصفت شكله لأعلق آخر الأمر:
ـ هو أسود البشرة!.
جمدت قسماته وصمت محملقا في وجهي. كان المقهى فارغا في الظهيرة. نافورة الماء وسط الباحة تنثر الماء فيتساقط بإيقاع رتيب. البلابل لا تكف عن الغناء وكأنها في غابة. توترت منتظرا. وهزَّ رأسه هزة أسف وألم وكأنه طعن بخنجرٍ، ثم أغمض عينيه وسحب نفسا عميقا وقال:
ـ الرفيق "فاضل"!. استشهد قبل الأنفال!.
وهذا أسم "عادل تركي" الحركي.. صمت قليلا ليكمل الكلام فوصفه بالكامل.. والعميق. بعد التزكية تبوء مهام قيادية في المفرزة وكان محبوبا قليل الكلام بدأ يتعلم الكردية بسرعة غريبة، لكنه راح غدرا.. وفيما كان "كريم" يقص الحدث كنتُ أتخيله وكأنه يجري أمامي. تخيلت المفرزتين تدخل القرية بنفس الوقت، مفرزة الاتحاد الوطني الكردستاني ومفرزة الشيوعيين.. رأيت المقاتلين يتجمعون جوار جامع القرية ويتواعدون على اللقاء قرب نبع الماء بعد تناول وجبة الغداء. رأيت الموزع يأخذهم أثنين.. أثنين ليوزعهم على البيوت.. وكان نصيب عادل مع شخص غريب من مفرزة أوك. رأيته يجلس مبتسما يتلعثم في الكلام أو هكذا تخيلته أثناء إنصاتي لكريم في المقهى.. كيف ودع تلك عائلة الفلاح الكردي الذي قدم لهم الخبز حالما بزوجته وأطفاله الذين تركهم في بغداد.. وجوار النبع كما كنت أفعل أضع سلاحي تحت رأسي وأستلقي في ظل شجرة منتظرا الآخرين. رأيته ينطرح على العشب واضعا حزام ظهره والبندقية وسادة ويروح في غفوة قصيرة عميقة كي يستعد من جديد للمسير. ورأيت القاتل يستعد أيضا. فيقترب منه بهدوء مصوبا الفوهة نحو رأس الغافي ويضغط على الزناد، فينتفض الجسد النائم لحظة ويهمد. انفجرت باكيا في المقهى وكأنني فقدته الآن، وكريم يقول:
ـ وجدناه جوار النبع وبرأسه طلقة واحدة.. ظهر أن الذي توزع معه مندس!. لم نجد سلاحه ولا محفظته!.
تخيلت كيف بكت المفرزة.. كيف حملوه إلى مقبرة القرية ليوارونه التراب بثيابه!.
رد جميل جلوب:
ـ هل أنت متأكد يا سلام!.
ـ نعم اللي أخبرني كان شاهدا
سمعته يقول عبر الهاتف وكأنه يكلم نفسه:
ـ أش أقول وأش لون؟!.
ولم أسمع صوت جميل بعد ذلك.



نص الرسالة:



الأخ سلام
تحية.. وبعد
أكتب إليك بعد أن بعث لي الأخ "حبيب" وهو الشخص الذي التقى بك في الأمسية الأدبية " ـ أمسية بالبيت الثقافي العراقي في كوبنهاجن ـ". بعنوانك وبعض الكلمات الغريبة التي لم تضع أبداً حداً لسؤالي عن ما جرى بالضبط للأخ " عادل تركي ".
أولا أود أن أعطيك فكرة بسيطة عني..
أنا من الديوانية وبالضبط من نفس منطقتك تقريبا " الحي العصري " ولكن بمسافة قريبة من بيتكم وقد سبق لي أن رأيتك لمرات عديدة ولكن لم تحصل مع للأسف أي علاقة وذلك للفارق بين عمرينا، فأنت قد سبقتني سنوات في ولوج هذا العالم المتعب.
وأظن أن الأخ "حبيب" قد أعطاك فكرة عن الوضع الذي عشناه ويعيشه أصدقاء لنا لحد الآن في السعودية " يقصد هنا اللاجئين العراقيين في مخيم رفحا الذي لا يزال قائما لحد الآن"
الموضوع المهم الذي أود أن أعرفه بالضبط منك عن "عادل تركي" لأن الأخ " نجاح هلال " قد أكد بأنك على صله بـ "عادل" في كردستان وتعرف تقريبا ما جرى له بالشكل الصحيح.

ملاحظة كنت قد أخبرت قصة مقتل عادل تركي لكن يبدو أن "نجاح هلال" لم يستطع أخبار صاحب الرسالة فجعله يكتب لي.
وبالنسبة لي فقد انقطعت علاقتي به بعد ذهابه إلى كردستان بأربعة أشهر تقريباً لأنه بعث لي بعدة رسائل من هناك ثم أنقطع كل اتصال فجأة.
و "عادل" من أقربائي المقربين وصديق حميم لي ووالده " ابن عمتي ".
الأخ العزيز:
هذه ليست بالوسيلة الأفضل للاتصال والتعرف بك وكم كان بودي أن التقيك عند زيارتي للدنمارك وقد حاولت جهدي أن أعرف عنوانك أو رقم هاتفك ولكني لم أفلح.
أتمنى من قلبي أن تكون في أتم الصحة والعافية وأتمنى أن ألتقي بك في أقرب فرصة.
هذا عنواني ورقم هاتفي وبالمناسبة فأنا أعيش في نفس المدينة وفي منطقة قريبة من الأخ " جاسب علي مهاوي" وأخيه " عباس"
........
.....
وأرجو منك أن تبعث لي رقم هاتفك إذا كان موجودا لأتصل بك قريبا
جميل جلوب حسين الجبوري
* لم أعرف ماذا تعني كلمة " اُغتيل " التي وردت في رسالة " حبيب " عن " عادل تركي"".



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليل البلاد رواية جنان جاسم حلاوي نص يرسم جحيم العراق بالكلم ...
- عن العالم السفلى لنعيم شريف العراقي يحمل جرح الحروب في الوج ...
- خسوف برهان الكتبي للطفية الدليمي كيف تنعكس ظروف القمع على ا ...
- سرير الرمل
- قسوة
- التآكل
- جورية الجيران
- نخلة في غرفة
- في ذكرى الرائي عزيز السماوي
- موت شاعر 1 بمناسبة وفاة الشاعر الصعلوك كزار حنتوش
- بمناسبة موت الشاعر كزار حنتوش3 موت شاعر
- بمناسبة موت كزار حنتوش2 موت الشاعر
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة
- أزقة الروح قصة قصيرة
- قصة قصيرة-جنية الأحلام
- تحجر


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - عن مقتل صديقي الزنجي عادل تركي