أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - مازن لطيف علي - د.عقيل الناصري: انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي















المزيد.....


د.عقيل الناصري: انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي


مازن لطيف علي

الحوار المتمدن-العدد: 1823 - 2007 / 2 / 11 - 12:31
المحور: مقابلات و حوارات
    


حاوره : مازن لطيف علي
________________________
ان الذاكرة العراقية لاتزال طرية بتلك الفواجع التي اقترفتها سلطة الانقلاب التي شرعنت للعنف الجماعي بصيغته الاجتثاثية لآول مرة في التاريخالعراقي الحديث، حيث اصبح [ الموت .. نظرية عمل] لها .. وهو رداَ لا شعوريا غير واعياً على نظرية الزعيم قاسم المأخوذ بالحكمة القديمة [ عفى الله عما سلف] ومبتدع الحكمة الجديدة [ الرحمة فوق القانون] والتي نظرت إليها سلطة الانقلاب المتمسكة بنظرية الموت والاجتثاث، ساذجة وسخيفة. وهذا يعكس بدوره طبيعتهم السيكولوجية المريضة إزاء الوطن والمواطن.. وإلى نضراتهم للحياة. هذا ما يؤكده المؤرخ العراقي د.الناصري صاحب المؤلفات العديدة في حوارنا معه :

هل لايزال انقلاب عام 1963 في العراق حاضر في الثقافة العراقية لما نراه اليوم من احداث عنف ؟
إذا كان السؤال ينصب على ماهيات استخدام العنف بهذا الشكل الجمعي والاجتثاثي، فيمكننا القول أن الوعي الاجتماعي العراقي في تجلياته السياسية والثقافية بل وحتى الجمالية لا يزال فيه الكثير من تلك الاثار الاستفزازية والممارسات اللا اخلاقية لوقائع فاجعة رمضان 1963، التي أسست للعنف الجماعي للخصوم السياسيين، وهذا ما يمكن رصده في العديد من الدراسات الاجتماعية لعراق القرن المنصرم . كما نجد هذا الحضور المكثف في مختلف اصناف الابداع الأدبي، سواءً في الشعر الفصيح أو/و الشعبي كذلك في الروايات العراقية وخاصة تلك التي صدرت خارج العراق من قبل الجيل الجديد من الروائيين والادباء، حيث حرية التفكير، وهذا ما أشار إليه الروائي المبدع سلام عبود في رائعته [ ثقافة العنف في العراق ].
ان الذاكرة العراقية لاتزال طرية بتلك الفواجع التي اقترفتها سلطة الانقلاب التي شرعنت للعنف الجماعي بصيغته الاجتثاثية لآول مرة في التاريخالعراقي الحديث، حيث اصبح [ الموت .. نظرية عمل] لها .. وهو رداَ لا شعوريا غير واعياً على نظرية الزعيم قاسم المأخوذ بالحكمة القديمة [ عفى الله عما سلف] ومبتدع الحكمة الجديدة [ الرحمة فوق القانون] والتي نظرت إليها سلطة الانقلاب المتمسكة بنظرية الموت والاجتثاث، ساذجة وسخيفة. وهذا يعكس بدوره طبيعتهم السيكولوجية المريضة إزاء الوطن والمواطن.. وإلى نضراتهم للحياة.
هذا الحضور المكثف للانقلاب في التجليات الثقافية العراقية المعاصرة يستنبط مقوماته من جملة المنابع التي رافقت الدموية الشمولية التي طالت شرائح اجتماعية واسعة ولمساحات المعرفة، من هذه المنابع:
1- للمرة الثانية في تاريخ العراق المعاصر تتبنى الدولة في صيغتها الانقلابية رسميا فكرة التهمة / المحاكمة على اساس الشبه والوشاية المجردة والحكم عليها بأقسى العقوبات( إعدام الحياة).. اي تقوم التهمة على ركن غير منطقي ولواقعةٍ غير مادية وغير ملموسة. وقد اشتدت هذه الوتيرة وتعمقت الوشاية بعد المجيء الثاني لهم. وللقارئ التذكير بأن المرة الأولى كانت في حكومة الوزراة الرابعة لرئيس الوزراء (القومي) رشيد عالي الكيلاني( 12نيسان -29 مايس1941)
2- توسعت مفردة (الابادة) من حيث الشمول والكيفية ، وقد عبرت عن مدى التخلف الكبير في تجليات وعي الانقلابيين والتعفن في نظرياتهم الفلسفية ( إن وجدت لديهم) ومواقفهم الفكرية من الانسان، كقيمة مجردة عالية، ومدى استهانتهم بهذه الكينونة التي هي أثمن رأسمال ، فكان بيان رقم (13) خير تعبير عن هذا الموقف العملي لنظريتهم والذي شكل بداية أخطر الأحداث فظاعة في السلوك الدموي كما عبر عن ذلك أحد قيادي سلطة الانقلاب وبعض من كتابها. .
3- لاول مرة في تاريخ الحكم المعاصر في العراق ، منحت سلطة الانقلاب الشرعية القانونية للقتل الكيفي على اساس الهوية السياسية، وإن كان حاملها لم يرتكب جريمة محددة الأركان.
4- لقد افضت سياسة الانقلاب الى نتائجها المنطقية حيث أسست لشرعنة القتل العشوائي ومنحه الصفة القانونية .. دون محاسبة ومراقبة منفذي الإبادات الجماعية التي طالت مكونات اجتماعية عديدة . وقد شهد المجتمع العراقي وخاصة منذ نهاية السبعينيات ولغاية السقوط عام 2003، ممارسات كثيرة في هذا المجال، وبالتالي ترسخت في الذاكرة الجمعية الممارسات الجماعية الأولى في فاجعة رمضان 1963.
5- كما عبرت سياسة إدارة الحكم آنذاك عن تدني وعي المفاهيم الفكرية والسياسية لسلطة الانقلاب التي أُفرغت توجهاتها من مضامينها حتى اصبحت مجردة رمادية وخالية من مقوّماتها الواقعية حتى أمست مرة المذاق. وهذا ما اعترف به الكثير من قادة الانقلاب وكوادره الذين هالهم حجم تلك الجريمة التي استهدفت ثلاثة مسائل أراسية وكان على راسها القضاء على الزعامة القاسمية كفكرة واسلوب ومضمون ؛ كذلك القضاء على القوى اليسارية والديمقراطية وبالأخص الشيوعيين؛ وأخيرا حتى تستبعد فكرة الاستغلال الوطني للنفط بعد تحريره من عقود الشركات الاحتكارية، من عقول شعوب المنطقة وقواها التحررية.. وهذا ما عبر عنه الراحل قاسم عندما وقع على قانون تشكيل شركة النفط الوطنية العراقية يوم الانقلاب وكرر عبارة [ كل هذه الهوسة من اجل قانون رقم 80] وكان هذا عين الصواب.. حيث في اول مقابلة مع الصحافة صرح وزير خارجية الانقلاب طالب شبيب عندما قال:[ لن يلحق أي ضرر بشركة نفط العراق وستحترم الحكومة جميع اتفاقاتها مع الشركة وتؤمن تدفق النفط من العراق ] .
وهكذا لا يزال الوعي الاجتماعي الجمعي ينظر إلى التاريخ العملي لسلطة الانقلاب من الزاوية العنفية التي طالته وبصورة خاصة تلك التي طالت الفئة المثقفة منه والتي أجهض مشروعها التطوري، الذي وجد ذاته في المشروع التموزي/ القاسمي، وتم اجتثاث مقوماتها المادية بصورة تامة منذ قدومهم الثاني عبر عملية التريف للذات المثقفة والقضاء على مقومات الاستدامة للطبقات الوسطى التي هي عصب التطور ومشروعه .
من زاوية أخرى، أن الحضور المكثف لعراق انقلاب 1963في الثقافة العراقية ، يكمن في المقارنة والمقاربة في المكونات والتوجهات والماهيات ودرجة التطور الذي حدث في المجتمع بين سلطة الانقلاب وسلطة الزعيم قاسم/ تموز. هذه المقاربة اصبحت أحد أهم المعايير القيمية لكل السلطات التي حكمت العراق المعاصر.. ولحد هذه الساعة. وهذا نابع من الوعي الاجتماعي للفرد العراقي وخاصة فئاته المثقفة والمتعلمة .
وهكذا نرى ان العراقيين بقدر كونهم يختزنون في ذاكرتهم ووجدانهم من يقدم عمل طيب لهم بل يخرجونه خارج تخوم الزمان والمكان.. بذات القدر فإنهم يتذكرون الطغاة وجرائمهم وغالبا ما تقترن أسمائهم باللعنة كالحجاج على سبيل المثال لا الحصر.
الانجازات التي تحققت بفترة وجيزة في عهد عبد الكريم قاسم ومثلت البديل المناسب لفترة تكاد تكون سلبية بعد انقلاب شباط 1963.. ألا تعتقد بأن حصاد الثورة وطمرها لا يزال مستمرا؟
في البدء يجب التأكيد على أن الفترة التي اعقبت الجمهورية الأولى (14 تموز1958- 8شباط1963) وجاءت بالسلطة (القومية) ثانية، والتي هي، كما اعتقد، امتداد في الماهيات الأرأسية للسلطة (القومية) الملكية، والفارق بينهما في الشكل حسب. خاصةً فيما يتعلق بأولوية عراقية العراق أم عروبة العراق، وكليهما ينطلقان من هذه الأخيرة.
إن الفترة المظلمة التي اعقبت الرحيل القسري لتموز كانت بالفعل فترة سلبية وليس تكاد أن تكون كما ذكرت ايها العزيز مازن. لقد اصبحت مرحلة تموز/ قاسم النيرة ، كما قلت أعلاه، معياراً قيمياً تقاس به صلاحية وارجحية الحكومات ومدى تحقيق غائيتها المنصبة على احداث التطور أو على الأقل تهيأت سبله, إذ أحدثت، بكل ما فيها من ايجابيات وسلبيات، نقلة نوعية في واقع العراق الارتقائي، إذ طردت طبقات اجتماعية من مسرح الحياة السياسية وغيرت أولويات الانماط الاقتصادية ، وأبدلت القاعدة الاجتماعية للحكم وجاءت بقيم سياسية جديدة عند انتقاء متخذي القرار المركزي للدولة ومؤسساتها ، كما انها وضعت اللبان المادية لاسس الهوية الوطنية الموحدة وألغت ما امكن من الطائفية السياسية، وهدفت إلى تحقيق الذات العراقية في سياق تعددية تكويناتها القومية والدينية والاجتماعية.. كما انها وهذا الأهم قد نحت نحو رفع الواقع المادي للجماهير الغفيرة لفقراء بلدي وذوي الدخل المحدود وهم مادة التاريخ الانساني.. كما انها فتحت المجال الأوسع للطبقات الوسطى لتعلب دورها في تطوير المجتمع العراقي من خلال إدارتها للسلطة بكل فروعها.. كما لا يمكن غض الطرف عن واحدة من أهم واعقد المسائل في المجتمعات الذكورية وأعني بها تحرير المرأة ومساواتها للرجل في مختلف شؤون الحياة.. إذ ما قامت به هذه المرحلة النيرة في هذا المجال والتي يقف على رأسها قانون الاحوال المدنية والموقف الفلسفي من المرأة ودورها ليس في داخل العائلة حسب بل في عموم المجتمع، سيبقى عنواناً أرأسياً لها ومعلما بارزاً تناضل جمهرة واسعة من النساء في الحفاظ على مضامينه الرئيسية .. كما لابد من ذكر النهوض الاقتصادي الذي حدث في البلد ومداه الجغراقي الذي شمل كل القطاعات والمناطق الجغرافية للعراق.. ومن ثم (الثورة) الفكرية والثقافية الذي تأسس آنذاك بمضامينه القريبة من العصر وروحه ومن تجلياته الانتشار الكبير لمؤسسات المجتمع المدني وتبني وشرعنة مبادئ حقوق الانسان.. كلها عوامل شاخصة في هذه المرحلة. إنها كانت كالثورة الفرنسية الكبرى في نسبية تأثيرها الداخلي والاقليمي.
هذه المعالم الحضارية العامة لثورة 14 تموز زائداً طبيعة الحكم وقواعده المنظمة ونزاهة القيادة السياسية المتمثلة بقاسم ووزراءه الذين يعتبرون ، بصورة عامة، من أنزه الحكام الذين حكموا العراق فلا يجد المرء في سجلاتهم على تلك الاختلاسات ولا المحابات ولا الارقام الحسابية في البنوك الخارجية ولم يستحوذوا على ممتلكات الغير, كما شاهدناها في العراق الملكي وفي حكومات الجمهورية الثانية ( شباط 1963 نيسان 2004).
هذه الماهيات الأرأسية لثورة 14 تموز وما انجزته للطبقات الفقيرة والكادحة وما عملت له لأجل انتقال العلاقات الاقتصادية بما يلائم روح وماهية العصر.. تضع التغيير الجذري في 14 تموز في مصافي ( الثورات الكبرى) وليس اعتباطاً أن يقيمها المستشرق مكسيم رودنسون باعتبارها [ الثورة الحقيقية الوحيدة في العالم العربي ] في القرن العشرين، وهذا مما يؤهلها أن تتناقض بصورة جلية مع أنظمة الحكم السابقة لها وتلك التي جاءت من بعدها، كمضمون وكقيادة.. بل ستكون ثورة تموز وماهياتها مؤرقة لكل من لايضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار، وينبذ الولاءات الدنيا المبنية على روابط الدم أو/و الطائفة او/و الدين أو/و القومية .. اننا كلنا نضراء في الخلق يجمعنا ، كما جمعنا تموز، بلد العراق في امتداده القومي الطبيعي وليس المفتعل.

هل أخذ انقلاب شباط عام 1963في العراق حقه من البحث التاريخي والسياسي ؟

في البدء لابد من التأكيد على أنه لا يوجد تاريخ واحد للاحداث.. بل هنالك تواريخ متعددة أو مقاربات تحتمها عوامل نظرية تعكس جملة المصالح الاجتماعية المعلنة أو المستترة والمستندة إلى خلفيات ثقافية ورؤى فلسفية تراثية متعددة وكذلك هنالك عوامل وايديولوجية تستقي مقوماتها من مناهج البحث العلمي. لذا أختلفت علل التاريخ وأرأسيات مسبباته.. فمنهم من يرى التاريخ كسجل لإرادة الافراد أو يرجعه إلى العناية الإلهية أو يراه كعملية خطية وآخرون يفرغونه من السنن والقوانيين، مما يؤدي إلى انبعاث الرؤى المتناقضة للتاريخ وصيروراته.
في الوقت نفسه يحمل السؤال وجهان حسب اعتقادي.. يكمن الوجه الأول في تلك الدراسات ( السطحية ذو النبرة التبريرية ) التي قادتها قوى الاستبداد السلطوي والنظرة الحزبوية الضيقة ضمن عملية اللعبة السياسية لقوى الحكومات الانقلابية المنسجمة فكريا ومصلحيا.. إذ يلاحظ الباحث منذ الرحيل القسري لثورة 14 تموز وأعدام الحياة للزعيم قاسم وإضطهاد القوى الاجتماعية القريبة منه والتعامل الهمجي الاجتثاثي مع الخصوم الفكريين والسياسيين .. ان اغلب الدراسات والبحوث كانت تنظر إلى الانقلاب وحثيثياته من رؤية الانقلابيين أنفسهم، لذاتهم والذات الاجتماعية الأخرى. لذا تميزت بالتبريرية ولم تدخل تحليلا إلى عمق الظاهرة الانقلابية ولا إلى روابطها الداخلية والقوى السياسية التي لعبت الدور الرئيسي في الانقلاب وفي ادارة الحكم.. كما أن هذه الدراسات لم تدرس وتشخص طبيعة العامل الدولي ومراكزه التي خططت للانقلاب ورسمت مساراته العامة وتحقيق أهدافها واستراتيجيتها البعيدة ليس في العراق حسب بل في عموم المنطقة. كما أن هذه الدراسات كانت منهجياً تنطلق من وجهات نظر، أبسط ما يقال عنها، أنها كانت تنطلق من ضيق الأفق النظري ومن عدم الاكتراث بالنتائج التي آل إليها الواقع الاجتماعي وما نشره العنف والاستبداد من تهديم للقيم الاجتماعية وتشظي العائلة العراقية.. لآن ما نراه اليوم من تعقد للحالة تكمن أبعاده الأولى في ذلك الزمن القبيح، زمن الانقلاب الدموي وما جر من تبعات أثرت في الجغرافية السياسية لدول المنطقة والقوى الاجتماعية التي تنفذه.
كما أن هذه الدراسات كانت تنظر للظاهرة العراقية من منهجية غير متكاملة تخلو من المنطقية والموضوعية ولا تتسم بالصدق والحقائق ولهذا لم تقدم صورة واضحة عن الانقلاب.. هذا الكلام لا يعني ضرورة تطابق الروئ من ما أرى.. لأن النظر إلى التاريخ ، كما شخصه الكاتب المبدع كامل شياع، لفكرة أو نظرية تداخل المقاربات،لو جاز التعبير، بالقول أن فهم التاريخ واستيعابه عملية لا تخلو من الصعوبة لأن الفهم " لا ينفصل عن الإقامة في التاريخ وصنعه والذي هو في الوقت نفسه صنع الانسان لنفسه. وبعبارة أخرى إن صعوبة الفهم تبدأ من لا امكانية النظر إلى التاريخ من زاوية متجردة كما هو الحال مع الطبيعة مثلا. وبما أن التاريخ هو حصيلة تداخل الذاتي بالموضوعي ، المرغوب بالمفروض والخيالي بالواقعي، فقد تعددت زوايا مقاربته: أنه كلية تبحث عن كليتها ".
بمعنى آخر أن أغلب هذه الدراسات هي ذات طابع سلطوي من ناحيتي الدعم من ذات السلطة وما تتصف به من استبداية في الرؤيا لواقع انقلاب شباط وما تفرضه على القارئ من لزوميات ما لا يُلزم، واستبدايتها تتجلى حتى على ذاتها عندما تفسر الوقائع بصورة جزئية، غير مترابطة ومجترء للآخرين وخاصة غير المتوافقين سياسياً مع سلطة النمط الواحد و الحزب الواحد والوتر الواحد والتفكير الواحد....الخ.
ومن أهم النقاط التي تتميز بها هذه الدراسات هو الصمت المطبق على دور العامل الخارجي في الانقلاب. ونحن نتسائل، كما تسائل قبلنا الكاتب حسن العلوي، عن سر هذا الصمت.؟!. وهناك الكثيرون من أنصار الانقلاب،الذين غادروا مواقعهم الانقلابية أخذوا ينتقدون (التجربة المرة)، لكنهم يصمتون عند التطرق لهذا العامل ودور المخابرات الامريكية في رسم واقع خطى الانقلاب الذي هو نسخة طبق الأصل، مع التعديلات الضرورية لكي تناسب العراق، لانقلابات امريكا الاتينية، بل هو أقرب إلى النسخة الايرانية لإجهاض حكومة مصدق عام 1953. وقد افتخر بعض ضباط المخابرات الامريكية بمساهمتهم في انجاح الانقلاب المضاد لقاسم. وهذا ما اشار إليه جيمس أيكنيس الذي عمل في السفارة الامريكية في بغداد في مرحلة تموز/ قاسم النيرة، حيث قال عن قادة البعث:
" عرفت كل زعماء البعث وأعجبت بهم" ويؤكد أن " المخابرات الامريكية لعبت دوراً في انقلاب حزب البعث عام 1963. لقد اعتبرنا وصول البعثيين إلى الحكم وسيلة لإستبدال حكومة تؤيد الاتحاد السوفيتي بحكومة آخرى تؤيد أمريكا. إن مثل هذه الفرص قلما تتكرر. ويضيف ايكنيس" صحيح أن بعض الناس قد اعتقلوا أو قتلوا إلا أن معظم هؤلاء كانوا شيوعيين ولم يكن ذلك ليزعجنا ". بمعنى آخر كانت هنالك أموال امريكية بل ومشاركة فعلية على الأرض.
ليس هذا فحسب بل أن قادة الانقلاب العسكريين.. كانوا جميعا دون إستثناء هم من القادة الفاشلين أو في احسن الاحوال ذات مستويات مهنية متوسطة أو أقل من ذلك. وبحكم هذا فإن العقلية الانقلابية الناجحة, يراد لها وعي مهني/ سياسي متقدم، يدرس الحالة ويحلل المعوقات المحتملة والقوى المناصرة ويدرس القوى المناهضة لهم وتحركاتها وتخدير وعيها الامني، ومن ثم التحرك العملي بالتوافق والتزامن مع حركة وردود فعل الزعيم قاسم وقواه الاجتماعية المناصرة. كل هذا لم يكن متوفراً في قادة الانقلاب الذين اعتمدوا من الناحية التخطيطية على بيل ليكلاند، مسؤول محطة المخابرات الامريكية في بغداد، والذي سبق وان عمل في القاهرة وكان عضو الاتصال بين ناصر والحكومة الامريكية قبل وبعد ثورة تموز1952. علما ان ناصر حذر قادة الانقلاب منه.
أما الوجه الثاني من الدراسات فهي في أغلبها من خارج سرب الفكر (القوماني) وهي بطيعتها تمثل النقيض الموضوعي والمنهجي للوجه الأول منها. مِيزت هذه الدراسات، رغم التباين الكبير في مستوياتها النوعية، إنها انطلقت في دراسة الانقلاب، ليس كحالة مجردة قدر كونها ذات بعدين زماني ومكاني، إدراكاً من أغلبها أن البشر، بصورة عامة، تستصعب إدراك حقيقة الفكرة خارج الزمن. ليس هذا حسب بل أخذت بدراسة العلاقات الأرأسية للانقلاب ضمن صيرورة تاريخيته بالترابط مع ماهية قواه وتحالفاته الداخلية والخارجية.. ومحللةً للنتائج التي تمخض عنها ومدى تأثيرها على واقع البلد وتكريبته الاجتماعية/ السياسية، وبلدان المنطقة وعلى الأخص قواها التقدمية. علماً بأن بعض الكتاب والقادة السياسيين من التيار القومي قد اشاروا إلى هذا الانقلاب والقوى الاجنبية العربية والدولية التي ساهمت مباشرةً أو هيأت التربة للانقلاب. حيث يقول حسن العلوي، ان الحكومة العراقية قد " انتهت يوم 9 شباط 1963 بإعدام العراق العراقي زعامة وحركة وطنية وحزباً ديمقراطياً وليس لك ان تتسائل كيف اسقط نظام سياسي كان أتباعه أكثر من خصومه وقوته العسكرية باعتباره محميا بالجيش العراقي لا تساويها قوة ميليشيا ناشئة معزولة بإسم الحرس القومي فيسقط الجيش والنظام بيدها " .
يقال أن 8 شباط عام 1963 في العراق كشف عن عمق تأريخ العنف الدموي؟.
لقد تناولت الكثير من الدراسات الاجتماعية والسياسية والنفسية، ظاهرة العنف الدموي بالعراق، بل ذهب أحد الكتاب إلى رصد هذه الظاهرة منذ أن عرف الانسان ذاته على ارض الرافدين منذ عمق التاريخ. في البدء لابد من التوكيد أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الواقع العراقي . لقد مرت شعوب كثيرة بمثل هذه الظاهرة ووسمت جزءً من تاريخها. لنا من اوربا ما قبل القرن التاسع عشر خير مثل يضرب هنا، وكذلك على العديد من شعوب أسيا . المهم في رأي هو ضرورة معرفة دوافع هذه الظاهرة. إذ بصورة عامة، هنالك رأيان كلاهما متطرف في ماهيته لشرح علل هذه الظاهرة. فمنهم من يرى أن العنف في العراق يمثل حالة بيولوجية (جينية) تفسر مبعث العنف في المجتمع العراقي.. أما الرأي النقيض والذي هو اقرب الى الصواب دون بلوغه.. فيركز على الجوانب الاجتماعية والطبيعة وحتى النفسية في تفسير ظاهرة العنف الجمعي في المجتمعات البشرية. لكني أميل إلى جمع هذين الرأيين في رأي مشترك. إذ أن ظاهرة بهذه الجسامة وتلك الحساسية والاهمية، لا يمكن تفسيرها بعامل واحد او عاملين.. بل بمزيج من العوامل المجتمعة الاجتماعية والبيولوجية والطبيعية والحضارية والنفسية.. وهذا ما يرصد في الدراسات الحديثة لتحليل ظاهرة العنف.
أما بالنسبة للعراق.. فإن رصد الظاهرة في عمقها التاريخي.. صحيح جداً .. ويبقى التفسير والتعليل وبالتالي الفهم هو الأكثر صعوبةً. الحوادث التاريخية من الكثرة بمكان التي يمكن ان تعلل أو/و ترجح هذا العامل دون غيره. لكن بالنسبة للعراق المعاصر فقد كانت فاجعة 8 شباط 1963، بحق من أكثر الكوارث السياسية عنفاً طيلة القرن العشرين. وقد كشفت عن ابعاد اجتماعية ونفسية عميقة كامنة في تجليات الوعي الاجتماعي والممارسة الحياتية للفرد والجماعة وفي تبني أسوء ما في الريف من قيم، من ثأر وعصبوية واستخدام العنف لحل اشكاليات الحياة وغيرها .. كما أوضحت زيف الشعارات النظرية والأفكار غير الواقعية، وبذات القدر ابرزت النوازع الدنيا في الوعي والتي تمت بصلة الى المجتمعات المتخلفة.. إذ إن أي تحليل لنتائج انقلاب شباط سيؤدي لا محال إلى الكشف عن هذا الجانب المظلم في النفس البشرية.
من زاوية ثانية أعاد نظام شباط ووريثه انقلاب1968 إلى إحياء تلك القيم الدنيا التي حجمتها ثورة 14 تموز وحاولت تجاوزها، وأنعش الولاءات العشائرية والقبلية والعائلية التي هي النقيض التناحري للقيم العصرية المتمثلة بالبعد الوطني أو/و الانساني. عليه كان " شباط 1963 النقطة الأولى التي انقلبت فيها قيم وآمال ثورة 1958. ومنذ ذلك الحين أصبح تحطيم مؤسسات الدولة والمجتمع أسلوباً لترسيخ الرذيلة التي تجسدت تاريخياً في بعث الاستبداد الذي بلغ ذروته الكبرى عام 2003 وهو أيضاً عام سقوطه المخزي وبهذا يكون العراق قد مر بمرحلة عمرها اربعون سنة هي مرحلة [العقود المظلمة]، التي تشكل بمعايير التاريخ السياسي [مرحلة ماضية]، وبمعايير الرؤية الايديولوجية [ حقبة بائدة]، وبمعايير الثقافة [ همجية خالصة]، وبمعايير الجمال [ قبحاً تاماً]، وبمعايير الاخلاق [ رذيلة لا مثيل لها]، وهي أحكام سليمة" حسب تعليل الباحث المبدع ميثم الجنابي.

كيف تقيم 8شباط في تاريخ الذاكرة الجمعية للشعب العراقي ؟
إن التقيم أعلاه الذي قدمه زميلي وصديقي المبدع ميثم الجنابي، يصيب كبد الحقيقة ويوضح الماهيات الصادقة لهذا الانقلاب.. ويمكنك أن تضيف العديد من المعايير الأخرى كالمعيار الديني أو/و المعيار الوطني أو/و الفلسفي أو/و وهو الأهم المعيار الانساني.. كلها تجمع على ان انقلاب شباط كان انقلاباً للمفاهيم والمعايير القيمية وللروح الانسانية.. وعملياً مثل ارتدادا تاريخياً عن تلك المسيرة التي بدأت في 14 تموز 1958 وما كانت تصبو إليه في مضامين حركتها وحِراكها العام بالنسبة للمجتمع العراقي ولفئاته الفقيرة والكادحة على وجه الخصوص .. حيث ان تموز/ قاسم لم يطعموا هذه الفئات الوعود الكاذبة وكلمات النار الفارغة، قدر كونهما حققا وأشبعا بعض من حاجاتهم الاساسية المادية والروحية وخلقا لهم أسس تطورهما.. وكانا بالنسبة لهم يمثل الأمل المنتظر للخروج من حالة التخلف المزمن والتهميش الاجتماعي ومن الولاءات الدنيا لتنتعش لديهم فكرة الهوية الوطنية الموحدة، التي رأت ذاتها المادية لأول مرة في ذات مضامين وماهيات تموز/ قاسم.
لقد كان تموز/ قاسم الصوت العراقي الذي نهض من الذاكرة التاريخية العراقية وهو الذي نحنُّ إليه بأعماقنا ووعينا، المدرك وغير المدرك، بعد ان افتقدناه لدهور مديدة.. انه اللحن الجمعي للعراقين في وجودهم الاجتماعي وفي دخولهم لعالم النور والحضارة. وعكس ذلك ما جاء به انقلاب شباط وما أسس له ومازلنا نجر أذياله وعواقبه على مستوى حقوق الفرد أو/و الجماعة، ومن تشتت قائم على التوازنات الخاطئة والارادات الرغبوية وضيق الافق. وهكذا اقترن الانقلاب بالدموية في الذاكرة العراقية وبالفترة المظلمة.. ولا اعني إلا في توجهها العام.. إذ لا يزال البعض من يعتقد أن الانقلاب كان قفزة نحو الامام.. منطلقين في ذلك من معايير جزئية وليس كلية، من معايير نفعية زبائنية وليس من معيير عامة للارتقاء ، من منطلقات جزئية وليس عامة.. من ذاتوية طائفية وليس وطنية عراقية، من اجتثاث الخصوم وليس محاورتهم.. بمعنى أنه القفز نحو المجهول!!.
وهكذا أنطلقت ذاكرة الفقراء في نسج الخيال والاساطير عن مؤسس الجمهورية وفعل التغيير الذي قاده وعبر عن ذاتها المستقبلية لذا أخرجته خارج تخوم الزمن ورسمت صورته في وعيها. في الوقت ذاته احطت بمناهضيه إلى حيث مكانهم الطبيعي. باعتبارهم من أهل الردة.
لذا فعلى الذاكرة العراقية الاهتداء في سعيها لنقاء ذاتها بالمقولة الفلسفية التي تقول [ من ينسى الماضي عليه تكرار هذا الماضي ]. فشباط 1963كان وسيبقى نقطة سوداء في جبين كل من خطط له ونفذه أو ساعد على تنفيذه . بل سيشمل هذا حتى اولئك الذين يناهضون تموز في الوقت الحاضر وينطلقون من غير منطلقات الهوية الوطنية العراقية ويفرطون بالاستقلال السياسي وبالنظام الجمهوري والوحدة الوطنية.



#مازن_لطيف_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع الباحث والمؤرخ رشيد الخيون
- المفكر ميثم الجنابي ...انتعاش الهوية الطائفية في العراق يمثل ...
- حوار مع الروائي العراقي الكبير : محمود سعيد
- حوار مع المفكر د.ميثم الجنابي
- الشاعر خالد المعالي : افضل مثقف عربي هو ذلك الذي يمتلك لساني ...
- كامل شياع : في العراق اليوم ميول يسارية من شتى الأنواع وحول ...
- سلامة كيلة: الانتماء للماركسية عندنا تم بشكل عفوي وليس وعيا ...
- المؤرخ د. كمال مظهر احمد: لا أزال مؤمناً بالفكر الاشتراكي وم ...


المزيد.....




- إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟ ...
- الرئيس السابق للاستخبارات القومية الأمريكية يرد على الهجوم ا ...
- وزير خارجية الأردن لنظيره الإيراني: لن نسمح لإيران أو إسرائي ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع أنبا ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع وأنباء عن ضربة إسرائيلية على أ ...
- انفجارات بأصفهان بإيران ووسائل إعلام تتحدث عن ضربة إسرائيلية ...
- في حال نشوب حرب.. ما هي قدرات كل من إسرائيل وإيران العسكرية؟ ...
- دوي انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود على إيران- وسط نفي إيراني- لحظ ...
- -واينت-: صمت في إسرائيل والجيش في حالة تأهب قصوى


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - مازن لطيف علي - د.عقيل الناصري: انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي