أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - روعة الديكتاتور وعمى المثقف.. مخلوقات محفوظ الملتبسة















المزيد.....

روعة الديكتاتور وعمى المثقف.. مخلوقات محفوظ الملتبسة


نائل الطوخي

الحوار المتمدن-العدد: 1806 - 2007 / 1 / 25 - 12:14
المحور: الادب والفن
    


تصف زنوبة صوت السيد أحمد عبد الجواد في الغناء، ردا على سؤال ياسين الذاهل، بأنه غليظ جميل كعنقه. تركيبة الغلظة والجمال هي مفتاح الشخص المعروف دراميا بسي السيد. ليس الموضوع هنا هو الصوت المشابه للعنق، الموضوع هي النفس البشرية، النفس التي طالما جهد محفوظ لإخفاء شرورها وراء التقديس الأسطوري أو الاقتصاد البراجماتي في تفاصيل الشخصيات.
لم يكن السيد أحمد عبد الجواد نموذجا للاستبداد، و إن أرادته الدراما كذلك، بل وإن إراده الشارع العربي كذلك، في شخصية كانت هي الأكثر حظا في الوصول للناس من أخواتها. لم يستطع الوعي الجمعي كله هضم تلك التركيبة، وإن هضمها، نعتها بالنفاق وبازدواجية المعايير. في النهاية، كان لذلك الشخص المعروف دراميا باسم سي السيد حياة خارج البيت مثلما كانت له حياة داخله. وعى محفوظ بكلتيهما. جعل صوته في بيته "غليظا" و في سهراته الليلية "جميلا". لم يخش من تحطم مهابة بطله الأسطوري عندما سرد نوادره مع زبيدة، كما لم يخش من كسر استمتاع القارئ ببطله اللعوب عندما سرد المشاهد المطولة لحوارات الأب الجافة مع أبنائه أو مع زوجته.

حنان الدكتاتور
مع ياسين كان السيد أحمد يتحول إلى شخص آخر، كان يرى ياسين هو الوحيد الأهل له، لذا لم يخجل من الحكم عليه باستخدام معياريه، الأخلاقي و الجمالي، حتى و إن كان ناتج الحكم سلبيا في الحالتين. لنتذكر أن محاولة ياسين الاعتداء على أم حنفي قد قابلها نفور مزدوج من الأب، نفور من الأهواء الشريرة لابنه تتبعه رغبة في تزويجه مباشرة، و نفور آخر، خفي، من الذوق الفاسد لابنه في ممارسة زنا حقير كحقارة ذوقه و ذوق أمه. تفعيل الحكم الجمالي هنا هو لمسة حانية من يد الدكتاتور على كتف الوحيد الذي رآه جديرا بحمل اسمه ومواصلة طريقه.
أحب محفوظ كثيرا إخفاء شرور شخصياته. وعندما كان يرسم شخصية الدكتاتور ممثلة في السيد أحمد عبد الجواد لم يختر معنى "الاستبداد" ليركز عليه و إنما عددا من المعاني الأخرى. حنان الدكتاتور تجاه مواضيع استبداده، ليس فقط حزنه على فهمي هو النموذج الأمثل لهذا الحنان، أو قلقه على كمال الشاب إذ يسمع بأنه عرف طريقه إلى الخمارة، بل حنقه الخفي على زوجة ابنه عندما ضبطت ياسين مع الخادمة فوق السطح، واحتقاره لها، مقارنته إياها بسلوك أمينة بنت الأصول، اعترافه الداخلي بأن ذنب ياسين لم يعد أخيرا خروجا عن إرادته، ثم دفاعه عن ابنه أمام صهره. الدكتاتور يحمي أبنائه، يدافع عنهم، يندبهم عندما يرحلون. عبر واحدة من أكثر شخصياته عذوبة و تلقائية استطاع محفوظ تقريب الشر إلى الحقيقة، استطاع جعله أكثر إنسانية، وخلخلة الحدود الصارمة بينه و بين الخير، الحدود التي نصبتها أدبيات الهجاء السياسي بسذاجة مطلقة.

العمى النتشوي للمثقف
يصبح الدكتاتور كذلك ابن العار كذلك في مرحلة ما من مراحل نجيب محفوظ. الفتوة المستبد، كلي المقدرة، هو ابن امرأة خاطئة قتلت على يد عشيق قديم، ورث جلال ابن زهيرة في "ملحمة الحرافيش" جمال أمه و امتاز بقوة شديدة. الجمال و القوة أيضا، مع نفسية تعادي كل ما هو إنساني في طبيعتها، تحتقر الموت و الضعف والبشر، يكره جلال أبناء حارته، يبحث عن الخلود لنفسه، يبني مأذنة، بلا زاوية أو جامع، ليآخي فيها جنيا. لا يدين محفوظ الشخصية، فبالمقارنة بأبيه عبد ربه الفران المخمور دوما، هو الأكثر بهاء وسموا. بل يضعها ما بين تناقضيها :"بقلب أجوف تتلاطم فيه رياح الكآبة و القلق، و بظاهر متألق ينضح بالقوة و السيادة والفهم." هو المثقف و قد اكتسب بريق القوة والفتونة، مثقف يتعايش مع كآباته و أسئلته وهواجسه الوجودية التي تحطمه، وفي نفس الوقت مع سعيه للحصول على القوة المطلقة، ينتهي المثقف وقد قتله إنكاره لحقيقة واقعه. متذرعا بثقته المطلقة عن خلوده، لا يصدق أنه يموت على يد سم تدسه له عشيقته. يظل مثقفنا الوجودي النيتشوي مأخوذا بحلم القوة و باحتقاره للضعفاء ولحلم العدل الذي داعب عاشور الناجي، يترقى شيئا فشيئا، هو الوسيم اللامع الجذاب، مثلما تترقى مأذنته المنزوعة من سياقها، إلى أن يموت على يد عشيقته التي طالما احتقر حديثها عن المساكين و أهل الحارة. لم يكن نجيب محفوظ يعرف شيئا عن مثقفي الدولة المتأنقين الذين لا يخوضون حروبهم إلا ضد الجماهير و ثقافتهم، ولا يشغلهم للحظة فساد السلطة ولا بطشها. كان جلال يعبد السلطة.
قبل نشر ملحمة الحرافيش بعامين، كانت رواية أخرى قد نشرت لمحفوظ بعنوان "قلب الليل" كانت نفس النسخة من المثقف قد ظهرت فيها، بشكل أكثر واقعية هذه المرة، جعفر الراوي، ابن نفس الأصل الأسطوري الذي كان لجلال سليل عاشور الناجي، كان مثقفا أقل قوة وتوحدا مع الذات، أكثر اضطرابا وهزلية، يكتب جعفر الراوي كتابا يجمع فيه كل المذاهب التي سادت في عصره، يفندها و يلفق منها جميعا مذهبه الخاص، وفي نقاش مع أحد المحاميين الماركسيين الذي يرى أن كل ما كتبه هو هراء، يقتله جعفر الراوي، يدخل السجن و يصر أنه سجين سياسي لأنه قتل ضحيته خلال نقاش سياسي، مثقفنا المضطرب هذا، المتأرجح بين أصوله الأسطورية التي تمت للجد الأكبر و للوقف، وبين حلمه بالنشاط السياسي و انجذابه له، يدلي مرة بملحوظة حول تشابه سيرة حياته مع سيرة حياة النبي محمد. يحركه هذا الوهم ليصيغ جنون عظمته الخاص. كان محفوظ بالتأكيد قد عايش الكثير من محاولات التوفيق بين الغرب والشرق، كان قد عاين هشاشتها وتلفيقيتها وأراد أن يصنع من ذلك مثقفا أسطوريا، جاهلا بما حوله تماما، متوحدا بذاته بشكل هزلي، مثقفا لم يفعل أي شيء سوى كتاب يوصف بأنه "سمك لبن تمر هندي" ضاعت جميع أوراقه. لم يعد مثقف محفوظ، المفصول عن واقعه تماما، يفكر إلا في أصوله ورسالته المقدسة التي جاء بها.

الحنين للعهد البائد
في "ميرامار" تنقلب كل المعادلة السياسية التي قامت عليها ثورة يوليو. "سرحان البحيري" شاب مجتهد، نشط سياسيا، يؤمن بالثورة، في مقابل "طلبة مرزوق"، الفاسد المنتمي إلى العهد السابق والحانق على ضباط يوليو. يخصص محفوظ لدور الخير في الرواية شخصيتي "عامر وجدي" الصحفي الوفدي، بالطبع، السابق الذي أحيل على المعاش، و "منصور باهي"، الشاب المذيع ذا الملامح البريئة كالأطفال، يضعهما في موقع الخير المطلق ليتفرغ لإدارة صراع مكتوم آخر بين رمزي العهد القديم والجديد، وبشكل ساخر، يجعل من "سرحان البحيري"، ممثلا لفساد قوي، شاب، ينمو بقوة، بينما "طلبة مرزوق" هو الفساد المتراجع، الواهن و المحاصر في البنسيون. هكذا، و عبر مفارقات العهد الجديد، ليس فقط أن محفوظ يقلب المعادلة السياسية "الاشتراكي هو الفاسد المتسلط بينما الإقطاعي هو الضحية الذي يستحق التعاطف منا" و لكنه يقلب المعادلة الوجودية أيضا: "الانتهازي هو شاب لامع يخطو في طريقة بثقة أما المعارض و المطارَد الناقم على النظام فهو الشيخ طاعن في السن و متصابي."
باستخدام "طلبة مرزوق" أمكن لمحفوظ صياغة شخصية ستكون لعقود فيما بعد شخصية أساسية، العجوز ابن الأصول الغنية الذي يحن إلى العهد الملكي، وعلى النقيض من خطاب سياسي في الخمسينيات تبرأ من هؤلاء العجائز واعتبرهم فلول العهد البائد و سخر منهم و احتقرهم، بحق أو بغير حق، فإن محفوظ لا يتورع، عبر وصف حوار يتم بين طلبة و بين سرحان يحاول فيه سرحان إجباره على الاعتراف بأنه معاد للنظام فيراوغه طلبة بمهارة، عن رد قليل من هيبة المتضررين من الثورة، هكذا ستخدم بعض شخصيات محفوظ أناسا كثيرين جدا سيأتون فيما بعد، مسلحين بنفس الحنين، ليتحدثوا عن الانقلاب العسكري الذي عطل الحياة الدستورية المصرية منذ خمسين عاما. سيشكل محفوظ بذرة الحنين هذه لدى قطاعات مصرية ستكون قد أصبحت عالية الصوت جدا بعد نشر الرواية بما يقرب من أربعين عاما. غير أن هذا الحنين، وعلى قدر وجوده لدى النخب الآن، سيكون مغتربا تماما عن الناس، هنا نتذكر أن شخصية "زكي الدسوقي"، و المصابة بنفس الحنين لعهد ما قبل يوليو، لن يكون لها أدنى قدر من الشعبية لدى الناس مقارنة بسائر أبطال رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، ربما لموقعها في صدارة الرواية. ربما كان الأمر يحتاج إلى ساحر كمحفوظ يخصص موقعا متواريا لشخصياته التي يلتبس فيها الخير والشر، يسرب انطباعاتها بحذر شديد، ثم في النهاية، يضع على وجهه ابتسامة بريئة كبيرة وهو يوقن أن أهم شخصياته هي من كانت بعيدة عن عين النقاد طول الوقت.



#نائل_الطوخي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محفوظ عبد الرحمن: رفضت الكتابة عن صدام حسين
- صاحب مدونة على الإنترنت.. نتنياهو في اخر ادواره الثقافية
- رسائل من غرفة اعدام صدام
- عن المسيح و جيفارا و إسماعيل: صدام حسين.. البطل المدلل لكامي ...
- الرسالة الكامنة للانتحاري
- معارضو الشارع واولاد الشوارع
- عن اطفال الشوارع و معارضي الشوارع
- قراء غير جيدين أو تجار متنكرون: مجانين مكتبة الاسرة
- الحجاب صليب المسلمين
- الشيعة ما بين حزب الله و الكائنات ذوي الذيول
- الروائي الإسرائيلي دافيد جروسمان: انظروا كيف شاخت إسرائيل
- من كفر قاسم الى بيت حانون:ولازال القتل مستمرا
- الإخوان المسلمون يشترون طواقي حماس في مؤتمر بعنوان لبيك فلسط ...
- بيني و بين أبي. بين الإخوان والقاعدة
- كتب المسلمين الاعلى مبيعا في اسرائيل.. اشكال من العنصرية ضد ...
- الرواية بعد محفوظ.. العقوق الجميل لأبناء الجبلاوي
- يوم الكيبور.. صفعة لصورة الدولة التي لا تقهر
- السلطة المطلقة للافيه الرمضاني.. من الشعر و المسرح إلى شوقية ...
- حسين عبد العليم: تحريم الجنس أمر ممل جدا
- الأم المقدسة، أمي، الأرض و الهوية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - روعة الديكتاتور وعمى المثقف.. مخلوقات محفوظ الملتبسة