أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - ما تروية الشمس...ما يرويه القمر















المزيد.....


ما تروية الشمس...ما يرويه القمر


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 1802 - 2007 / 1 / 21 - 12:52
المحور: الادب والفن
    


1
لاول مرة اشعر أن القاص حامد فاضل يريد أن يخرجني من الصحراء، بيتي الأبدي، ومكون ذاكرتي،يريد أن يغيير مكاني، يريد أن لا يجعل الصحراء ملتصقة بي، بل لتتركني. لماذا تغير الكلمات الناس وتخرجهم من البيت الأرضي إلى امكنة لايعرفونها؟ القصة عنده محاولة لإزاحتي عن الأرضي والعيش في الكلمات. وهذه محاولة مقصودة تسعى إليها كل الكتابات التي تحاول أن تخرجك من مكانك القديم الملتصق بك لتطلق روحك في فضاء اللغة.وكأنها تحررك من يوميتك. ربما ان فعل الحضارة هو هكذا، التغييرالمستمر،وعدم الاستقرار والثبات،هو البحوث والاكتشافات، هو العلم، وهو الحلم، وهو النداء المجهول لنا كي نخرج من بيوتنا إلى العالم، هل ثمة عودة لآدم وهو يخرج من الجنة مع حواء كي يعمل للعودة ثانية إليها، بعد أن يجرجر خلفه سجلا بأعماله؟ هذه هي مفارقة القص الحديث.لو بقي أدم في الجنة، ولو بقينا في بيوتنا القديمة والملاصقة للأرضي، لما كانت هناك حكاية لنا.لذا فقصص حامد فاضل دعوة للخروج من ثوب الصحراء بالحكاية عنها، وقد قرأتها هكذا، لذا سيكون تعاملي مع روحها وليس مع تفاصيلها.
كنت قد قرأت قصصا قليلة للقاص حامد فاضل،وأعجبتني كتاباته،لدخوله ميادين قص جديدة بأمكنة أحتمالية تمنح الحرية في السرد والتأويل. قاص من جيل يولد وهومحمل بأرث شهرزاد لحكايات لم تحك بعد. حكايات مشحونة بها أمكنتنا العراقية المبهمة، تلك التي جاء إليها أو تلك التي ارتحل عنها. وعودة القصة إلى منابع بكر لتعيش في الأمكنة التي تعايش الشمس والظلام والمطر وقيعان البحار كالصحراء والجبال والأهوار،والمبتعدة عن أفعال المدينة والبلدات والقرى، هي التي تمنح القصة مجالات سرد جديدة. فأمكنتنا العراقية المبهة والغائبة تمتلك مثيولوجيتها وحكايتها وسياقها المدفون في أحشائها كما تحوي قدرات سرد تفوق الحكاية نفسها. فنحن أحوج ما نكون إلى إكتشافات جديدة تخرج السرد عن مألوف الأمكنة والأحداث أكثر من حاجتنا إلى قصاصين.
ميدان قصص حامد فاضل، هو هذه البقع من صحراء بادية السماوة التي توصل بين مدن الجنوب والبقاع الغربية، أمكنة مشبعة بالحكي والمغامرة وحكايات الجن ومغامرات سجناء نقرة السلمان وحكايات البدو الألغاز، وحكايات الآثار التي تحميها أرواحها القديمة من العبث،وحكايات الصقور، وحكايات الأفاعي والاخاديد والذئاب والزقورات والسجون، والسواح الباحثين عن الاثارلسرقتها،حكايات تحت شمس الصحراء ومطرها وسعتها ورمالها. وإذ يجوس القاص بقاعها بآلة حديثة هي السيارة تارة أو على الخيل تارة أخرى،مع شخصيات أجنبية أو أتية من المدينةأ أو شخصيات من ابناء البادية، فهو ينغمر فيها كليا ليكتشف مكنونها المدفون في أحشائها، حتى لاتجد له متنفسا للحكي. والمفردات التي تفيض على فهمنا لها، يشرحها لنا، كما لو كانت مكونات غير قابلة للمصادرة.
مما يجعلني كقارئ أنتمي لتلك الجغرافيا المكانية لقدرتها على توليد أشكال فنية جديدة وهو ما نحتاجه، منها: الشكل الدائري للحكاية،وهو أسلوب يبدأ من نقطة ثم يعود إليها ثانية بعد أن يمضي زمنا معينا، وأعتمادالظل الذي يتماهى مع الشخصية كي تأخذ مكانها ، بحيث يصبح التابع متبوعا، والبحث عن روح المكان التي تحميه واعتماد ألسنة متدرجة الأعمار لسرد الحكاية نفسها.فما يحكى فيها سمعناه وقرأناه لكن الطريقة للسرد للرواي الجديد هي ما يؤكدها. والعودة إلى تلك السرديات العربية القديمة التي ما تزال وعاء للحكاية الجديدة/ القديمة، تلك التي احتوت الحكايات والقصائد والقصص والسير الشعبية والأحاديث ولصراعات والمعارك والغزوات، كما أحتوت لتلك الليالي العاشقة، وللمناجاة المنفلتة اللسان، طالبة بعودة حبيب أو ذابة عن بلوى. هي تلك التي نحتاجها في قصنا الجديد، وما عداها فالحافر يقح على ألف حافر قديم. لعل روايات إبراهيم الكوني الروائي الليبي من أكثر الروايات فهما لجدل الصحراء والرمل.. وعلى المستوى العراق لم تتطرق قصتنا لمثل هذه المواضيع إلا لماما لأسباب كثيرة، منها: اننا بلد ماؤه كثير ولكن لم ينبت لنا قصصا، ومستقرات مدنه في حواضر الأنهار وحولها ومع ذلك تتحاشى القصص المدينة، وجباله فلم نجد لها الحضور الذي يوازي مكانها، ومنها ضعف في ادوات البحث نفسها تلك التي لم تمتحن بأمكنة جديدة، ومنها عدم معرفتنا بالموثيولوجيا العراقية تحديدا. ويعد حامد فاضل بعد تجربة القاص المبدع جمعة اللامي في الثلاثيات، ومن ثم القاص حنون مجيد في روايته " المنعطف" من اكثر القاصين دخولا للصحراء، المكان المبهم الكبير،السري الغامض، المكشوف حد التعري، والمدفون حد الأسرار.
كان لقائي به في البصرة نافذة مضيئة، وكنت ممتنا أن يسعفني بالبحث عن ما أجد فيه تميزاً. هذه الحال جزء من محنة النقد المهاجر الذي عُزل عن مرجعياته ومصادره وكتبه وما ينتجه الأدباء،لذا فهجرة الناقد أمرُ واقسى الهجرات.

2

أحدى عشرة قصة هي محتوبات المجموعة القصصية" ما ترويه الشمس ...ما يرويه القمر" وقد قسمها إلى قسمبن: الاول وفيه خمس قصص،تحدثت عن العلاقة بين الراوي وأحداث غامضة في الصحراء هي قصص الأكتشاف والبحث، جامعا فيها الأحياء والأموات، حكايتهم القديمة بالحكاية الجديدة، وجاعلا من الراوي بطلا محوريا بضمائر لا تغلق لسانها على زمن معين، ومن الشخصيات امتدادا في أزمنة الصحراء وفيافيها، فكنا أمام نماذج، فيهم البدوي الساحر، والبدوي القاتل، والسجين السياسي. أما القسم الثاني وفيه ست قصص فكانت عن شواهد في الصحراء، عن أمكنة محددة وأعلام، وهي تحاط باسرارها وقواها الروحية لتحمها من اللصوص والعابثين. فكانت القصص سردا لحكايات صنعها ذلك الأرث المخزون الذي يتحول إلى قوى مانعه للشر. في القسم الأول يحلق بنا القاص في مفردة الصحراء الغنية، المغمورة تحت ركام التجربة والزمن، فيحتاج إلى ظل وحلم وسحر واختفاء وموت وحياة وميلاد ورواة كي يكتشف لنا أسرارها أو جزء من تلك الحكايات المدفونة في رمالها. في حين يكون القسم الثاني علامات للسفر، للبحث وللمعرفة، ابطاله شخصيات اكثر وضوحا، اجانب ومحليون.
لغة الصحراءهي الصمت، هذا الصوت الكوني الدال على الوجود،لذا فهي ليست مساحات فارغة، كما تراها العين غير الرائية، بل هي امتلاء مملوء بصخب الموروث ومنزوع من خلاء كوني كبير. ولما كنا في أمكنة مثل هذه، من الطبيعي أن يلجأ القاص إلى راوٍ، خبير، وإلى أدوات بحث مجربة، وإلى حكاية بمكنون. فالصحراء كمكان مكون من ثلاثة مفردات: 1- حكايتها الذاتية، 2- اسماؤها الثابتة وعلاماتها،3- وعرّاف فهيم هو "العَقّابْ"اي الذي يتعقب الهاربين أوالأثر.المفردات الثلاث هي ميزات قصة حامد فاضل.
كنت قد عولت كثيرا على القاص وارد بدر السالم وهو يستنهض لنا عادات وحكايات المعدان والأهوار، وهي أمكنة سرية وكونية مجهولة عن الأدب العراقي إلا قليلا كتجربة محمد شاكر السبع المبكرة، لكني فؤجئت ان هذا القاص اكتشف بقعته الخلاقة بالصدفة حيث لم يواصل البحث فيها فتركنا على اعتاب امكنة تختزن كل تراث سومر وبابل وتلك الثقافة المغمورة في القول والحياة. قد يكون لقاص ما بعض الحظ في اكتشاف امكنة ما ومن بينهم القاص الجنوبي حيث التراث المكاني العريق، فالأمكنة العريقة تمتلك عتقها وتنهض مع كل بحث جاد فيها، ولكن علينا ان ندرك ان الاكتشاف لوحده غير كاف إذا لم يُستصحب بأداة فنية. هذا ما جعلني افقتد وارد بدر السالم في القصة لاحقا. مجاهل الأهوار عالم مكتنز، وغريب ومثيولوجيته غير مكتشفة بعد وما عدا كتابات لرحالة وباحيثين غربيين لم نعرف أمكنة كنا فيها أو بالقرب منها، وعشنا وهي تملأ أعيننا ممارسة وحضورا، ولها في ذاكرة القرية قصص وحكايات ومفردات عيش وممارسة، المعلوم منها مجهول والناس على مختلف أعمارهم يجددون في حكاياتها. ليس من بيننا من اقترب كثيرا من مجاهل الهور لكننا عشنا وأعيننا مصوبة نحو أعماقه نترصد الطير والسعلوة والطنطل ومشاعل الجن وغرائب ما يروية الصيادون وما تحويه شباك المعدان ومشاحيفهم، حكايات عن الجاموس والبردي والطيور المهاجرة عن اقطاعيات الماء التي يتقاسمها المشايخ وقد كتب بعمق عن الأهوار القاص محمد شاكر السبع عن اقطاع الماء وهو نوع من الاقطاع لم تعرفه الدراسات السياسية فكان مبكرا في ولوج أمكنة سرية وغائمة ومضببة بالمجهول والغريب والمالوف والعادي وكل ما هو سري ودفين حيث المرأة فيه اكثر علانية من الرجل تعمل وتبيع وتشتري وتعرض جسدها وتحاور، بينما الرجل يقبع في بيته يسرح خلف جواميسه النائمة في اعماق الزمن / الهور.وثمة الزورق القيري " المشحوف" أتيا إلينا من أعماق التاريخ ومازال يمخر في هذا الكون السري الذي شهد ميلاد الكائنات الخفية في ارض الرافدين.ففي لغة الأمكنة الواسعة: الماء والصحراء،نبحث دائما عن الأشياء الصغيرة حيث تحتوي كل مكوناتها، فالبردية الصغيرة ونبته القصب في الأهوار، وحبة الرمل والأشوك أو الحصى في الصحراء واحدة من عوالم لم تكتشف، ويملك سكان قرانا مئات الحكايات عن الحصى والبردي وأعذاق القصب والجذور وعن الطيروالأسماك، عن الطرق المائية والكواهن العميقة،عن الطاقة الكامنة في ألتواء النبات وانبساط الصحراء ومحاكاته قامة الإنسان. ثمة لغة بحاجة دائما إلى ساحرقاص يكتبها، تلك هي لغة أمكنتنا المجهولة. فالماء والصحراء وجهان لعملة مكانية واحدة كلاهما يؤكد الوجود.

3

يقودني القاص حامد فاضل إلى الصحراء الجنوبية أو بادية السماوة، فهو من سكنتها وعمل فيها فعرف تفاصيلها ولغتها ومفرداتها المكانية، عرف أناسها وعاداتهم وتقاليدهم، وعرف كيف الدخول إليهم والخروج منهم،عرف الرمل، وعرف الحصى، وحكايات الجن والعفاريت والأسحار،والغياب والموت والتناسخ، عرف المكون الثقافي لرجل البادية الذي لا يتحدث إلا الحكاية، وعرف الطرق ومنعطفاتها وأسماءها، وكل ما يتصل بمفردة البحث والتقصي. الصحراء عنده مكان يعاش، بيتها المنبسط المغمور بضوء القمر ونورالشمس يمنحه طاقة التأمل بالجزئيات وما حدث فيها،فهولايمرعليها كما فعل قصاصون آخرون وهم يرحلون عبرها أو يسكنون فيها ليلة ثم يغادروها، أو يقتربون منها بلسان راو مستعار. بل هي مكان للقيامة فيه: خيمة منصوبة في العراء، تتسع لأحلام الرواة الآتين عبر التاريخ أو المهجرين من ديارهم أو الباحثين عن معرفة ما ، أو المسجونين في صحرائها. أنه يتبع نصيحة السيد عبدالله،- وعبد الله أسم لكل الاسماء- الذي اورث بطله سحره وفطنته وقدرته على اكتشاف الصحراء في قصة أعدها من أجمل القصص العراقية قصة "لغز السيد عبد الله".فالبحث عن السيد عبد الله في الصحراء هو بحث عن لغز الصحراء نفسها، وكرحلة الطير عند السهروردي نجد الراوي يعود بالسيارة نفسها التي سافر بها لأكتشاف اللغز/ للمكان نفسه الذي انطلق منه، فيجد أن السيد عبد الله كان هنا الليلة الماضية، ثم توفي صباح اليوم،وكأنه لم يمت من قبل وسوف يظهر ثانية لقاص آخر يمتلك خبرة أخرى في كشف المكنون، هذا البحث يولد الأنتظار وحقيقة أن زمننا هو كذلك بحث عن القديم ثم انتظاره. فالراوي يبحث في ذاته وكأنها الكون الصحراوي الكبيرالذي يختزن كل الحكايات. الفكرة نفسها تتكرر في قصة " ما ترويه الشمس ما يرويه القمر " عن ثلاثة سجناء هربوا من نقرة السلمان وتاهوا في الصحراء مات إثنان منهما وعاد الثالث ليقع في باب السجن عطشانا.هي ثيمة الدوران في الأمكنة الكونية ما أن تبدأ من نقطة حتى تعود إليها فهي كل في جزء ليس بها مفازات معزولة، ثمة تكوين سري يعود بك إلى رحم الأرض حتى لو شارفت دولا ومدنا قصية. لذا فنحن أمام جولة فنية في بعد مكاني مغمور بالطاقة الشعرية ويعلمنا أن لثقافة الصحراء قدرة غير منتهية حتى لو تحولت إلى مدن.فالقاص لا يبحث عن المخفي في الصحراء فقط،بل يبحث عن المخفي في الراوي أيضاً، وعنئذ تكّون المخفيات الحكاية. هذا التبادل يحتاج إلى راو محنك وإلى خبرة معملية بمفردات الصحراء العصية إلا على اهلها، وبطريقة البوح وتبادل الازمنة والسرد، لان مكانا منبسطا وسريا بحاجة إلى شخصية دوارة فيه، وجهها قفاها وقفاها هوكل الاتجاهات.
لا يتعمد القاص حامد فاضل أن يكتب حكاية،بل يرويها،فالكتابة مهما كانت كافية تبقى ناقصة حين تنفتح على التجربة وعلى الزمن. فالحكاية في الصحراء بنية لا متناهية تتماهى والرمل والفراغ والاشواك والإنسان،تبنى الحكاية في الصحراء من طاقة الأشياء، القليل منها يعبر عن تاريخ الحكي كله،واشياؤها القليلة تختزن كل السحروالمثيولوجيا والشعر ومالم تدركه عين الرائي هو الطاقة التي تمنح الشيء مدارات جديدة.هذا ما نحتاجه ويؤشر إليه حامد فاضل خلال الراوي الذي يقف في كل الزوايا. في الأمكنة الصحراء تصبح ذكريات الكهول حكايات للطفولة، شيء واحد تمتلكه حكايات الأمكنة الكونية هو قدرتها على ان تنتج لغتها خلال تركيزالتكرار،وهو ما يميز لغة حامد فاضل أنها موجودة في كل القصص لكنها لا تحكي إلا عن حدث تلك القصة. فهي كالناس متشابهون لكن كل مفرد منهم مختلفة وكلما تقدم الزمن بهم اقتصدوا،وقللوا التعامل مع العموميات، وهو ما نلاحظه في قصص القسم الأول التي يبدو لي أنها كتبت بعد قصص القسم الثاني، فلكي يجعل الحكاية حية، اكثر من شواهدها ومخلفاتها.قصص القسم الثاني تتحدث عن الشواهد والمخلفات.بينما قصص القسم الأول التي يجب أن تقرأ مجتمعة كحكاية واحدة بتفاصيل تتحدث عن المكون الكلي للصحراء. فالشعرية تكمن في القدرة على الاختزال، ولكن اين هذا الاختزال في فضاء الصحراء، بالطبع نجده في الحكمة وفي الدوران الزمني على تكرار الحكاية.. حامد فاضل أحد المكتشفين للألفة الغريبة بين الأحياء في مكون الصحراء، وهو أننا كلما تقدم بنا العمر نجد أنفسنا في دوامة ذلك الأكتشاف الدائري للزمن الذي يعرفنا بانفسنا. فاية لمسة توفرها لنا لغة ومعلومات تشرح لنا في الهامش ما التبس على القارئ، ثمة حاجة ماسة لأن نزيد من القول كلما مررنا بتلك الأمكنة الأصول. عشرات المرات سمعت حكاية السيارة التي ساقها جني بعد أن نزل عنها صاحبها في ليلة مر فيها على ارض الجن، لكني لم اقراها إلا هذه المرة، وكأني أعيد إكتشاف نفسي خلال الكتابة الوثيقة. نحن نحتاج دائما إلى مدونة عن الأمكنة الكونية، المدونة هي ملاذنا كي نقرأها، أما أن نبقى في ثقافة سماعها، فتلك من مدونات المضايف وحكايات الرواة الذين يجدون متعة الحكي في الإضافة زيادة أونقاصانا. ما بقي من الحكاية هي قصة الرجل الذي يقطع الصحراء ليلا مفضلا السفر على المبيت عند الشيخ الأصلب، مفضلا الوصول بحمل الشاحنة لأهلها، الحكاية هو ما مضى في زمن الصحراء، حيث حديث وادي الجن يتداوله الناس لكنهم لا يمنعونه من المغامرة فقد يجدون في مغامرته إضافة للصحراء. فالمضاف إليه سبقه منتزع منه.ويمكن أن تحشو بيت الحكاية باي أحداث، المهم هو التوالي/ الدوران للحكاية التي تروى بلسان آخر. ميزة هذه الأمكنة أنها تعطينا حسا كونيا وهو ما ننشده لموقع خاص للقص الجديد من أن القصة فيها تتجدد بتجدد الرواة، دائما بحاجة لمثل هذا الحس عندما نبدأ بخطوة تجريب جديدة، فالاشياء لوحدها غير كافية للتجريب، التجريب يتم في الأمكنة الكونية والمبهمة، ما فعلته الرواية الفرنسية هي أنها اضافت للأشياء الحس الإنساني،فالحس الإنساني كوني بالضرورة. نحن أيضا بحاجة لأن تتحول حكاية الأشياء البكر إلى حس ما بكونيتها عندما نصيّر أنفسنا جزء منها. في قصة " بئر الوجاجة" ثمة مثيولوجيا غائرة في الحكاية قبل المكان، تداولها الناس منذ أزمنة وتراكمت عليها الحكايات حتى غدت بالمئات، القصة التي كتبها حامد فاضل واحدة منها، وحامد فاضل يعيد تصورات الأقدمين بلغة معاصرة عنها، ما يجعلها قصة مقبولة ليس بنيتها وفنيتها، فقط، بل تلك الطاقة الناقصة التي تستدعيك لأكمالها، وهو مايضع القارئ دائما في موقع المؤلف. ثمة صوت نسمعه منذ الأزل يصدر عن البئر، وسيبقى ذلك الصوت النداهة مسموعا كلما مر به أناس أو طلبوا منه ذلك. القصة تكملة لذلك الصوت الأزلي الذي جسده يوسف أدريس في قصة جميلة له "النداهة" فيجده القاص في رجال خبروا الأرض وامتهنوا الصحراء قبل أن تمتهنهم. احتاج القاص إلى شخصية معلم وتلاميذ، وهوتركيب يجمع بين الكبر والصغر، بين من يحكي ومن يستمع. وعبر فارس مجبول على الترحال هو " منخي" يعيد القاص على لسان المعلم علينا حكايته التي اختزنها البئر المضيء دائما بالصوت، مصحوبا بصوت القوافل العربية. فالمعلم والتلاميذ ليسوا بشرا كما نتصورهم،بل هم مجسات أزمنتنا الآتية، فكلما كانوا هناك في الصحراء وينادون البئر،كلما اكتشفنا بقعة مضيئة أخرى. وخلال القص يسرد القاص لنا حكايات عن نقرة السلمان موطن المناضلين ، وعن البئر الذي اختزن طوال قرون صوت " منخي " حتى استجلب القوافل لتسمع ذلك الصوت، واستعاد القاص حكايات كل احياء الصحراء وجحورها وحجرها واشواكها، هي إذن رحلة ولكنها في الصحراء / الكون.
قدرة الأمكنة الكونية أنها تفيض على قدرة اية حكاية عنها، لذا لا ثقافة تحتويها، ربما نحتاج دائما للبدائي، لذلك الكائن الخرافي الذي يعيد علينا الحكاية نفسها ولكن في كل مرة بطريقة مختلفة، الحكاية تتوالد في الأمكنة الكونية حيث فيض اللغة من فيض المكان.
في قصة "أنا قتلت الداغر"حكاية أخرى عن رجل الصحراء الذي يسجن في مخفر ما في الصحراء ويطلب من الشرطي أن ينقل الداغر للمدينة كي يحاكم. لكن الداغر يهرب من السائق الشرطي بعد عبور وادي الذئاب، ويبقى الشرطي متتبعا الداغر كي يقتله لكن الداغر يموت موتا عاديا.القصة تبدأ بعد موت الداغر لتحكي حكاية الشرطي الذي ندم لان الداغر مات قبل أن يقتله. يحضر الشرطي دفن الداغر وبعد عشاء ينام الشرطي مع المعزين الذين وفدوا من فيافي البادية،ثم يحلم بأن الداغر قد خرج من التابوت ثم يتقدم إليه ممسكا برقبته فيخنقه، ثم ينهض فزعا من حلمة فيجد الداغر في تابوته ميتاً، يحدث نفسه بنشوة أنه تمكن من قتل الداغر. هي حكاية أخرى من حكايات الصحراء يتداولها الناس، فالاحلام قادرة أحيانا على سد الفراغات في حياة الإنسان، وتكون روايتها صادقة لدى الناس عندما يتحول الحلم إلى فعل جسدي. فالاحلام ظل الجسد، وتكون قدرتها أكبر بكثير من الحقيقة نفسها أحياناً،لما تمتلكه من تأويل وانفتاح الحكي على مدركات حسية اخرى.البيت الذي لا ينمو داخل الحلم، يكون بلا ظلال. هذا ما تؤكده أحلامنا المستمرة عن أفعال لم نكملها، نكون قد وفرنا لاحلام يقظتنا الكثير من الأفعال الأخرى وهي افعال الحياة لا أفعال الموت، ثمة تداخل شعري بين حلم اليقظة وحلم النوم .ما فعله الشرطي وهو ينتقم من الداغر وهو ميت لا يعني انه عاجز عن تنفيذ قتله وهو حي بدليل أنه بقي يتبعه طوال الفترة الماضية لكن القدر سبقه فأمات الداغر.

4
لكل منا صحراؤه الخاصة التي تحتضن " أناه"حتى لو كنت أعيش في المدينة، فالصحراء هي تكوين قار في بنية الكائن الذي يجد في الحكاية مادة للعودة إلى ماضيه، هذه اللغة المتناغمة بين الإنسان والصحراء، تعود إلى أننا لا نستطيع نقل الصحراء أو البحار أو الفضاء أو الغابات إلى بيوتنا، فالبيوت صممت لان تجزئ العالم وتصيره صورا صغيرة في ذاكرة وسلوك وبنية ساكنية، العالم كله موجود فينا لكن الصحراء أكثر الاماكن جذرية في هذا الوجود لانها الابتداء ولأنها في الثقافة العربية القديمة مولدة للشعر وللحكاية وللحب وللدين وللكل ما من شأنه ان يعيد لذاكرتنا ألقها المفقود فيما تراكم عليها من تصورات جديدة. العودة ليست نوستاليجيا بقدر ما هي بحث في الجذور والاصول، القاص فاضل حامد لا يكتب قصصا بل يحكي عن الصحراء وعن مكوناتها، عن تلك البقع الشاسعة التي لاتعرف الحدود إلا عنما تضيف للحكاية الأم تفصيلا جديدا، فهو يكتب تفاصيل الحكاية الكبيرة ويطلق عليها قصصا وقسمها إلى قسمين لا يتخلفا كثيرا إلا في أن: القسم الأول يتحدث عن البعد الصحراوي في الإنسان، بينما القسم الثاني يتحدث عن أحداث حدثت في الصحراء،أحداث مفردة يمكن أن نسميها قصصا عن...الروح الطليقة في الأمكنة الكونية تزداد نموا وقدرة كلما فاضت على ثوب الحكاية الأصلي ليبقى المجهول فيها هو الطاقة الكامنة المولدة لحكايات لم ترو بعد، ما فعله حامد فاضل فينا نحن القراء أنه جعلنا نضيف قصصا منا إليها، بالرغم من أننا لم نعش في الصحراء هذا هوما عنيته بعيش " أناي" في الصحراء.



#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سواجي الكلوب وتعري الذاكرة
- هل بدأ العد العكسي لضرب إيران؟
- أعمال المهجر المسرحية
- المعارضة البرلمانية العراقية المتخاذلة
- ...حكومة نظام الاموات
- الدولة بين اليسار العراقي وموظفي التقديس
- Euro 60 تقاعد اهم محرج مسرحي عراقي
- بحاجة إلى غورباتشوف من جنسنا
- امريكا /ايران/ العراق و...الضرية قادمة
- تحية للمالكي في خطواته الايجابية
- ارخبيل الحدائق تجربة شعرية جديدة
- مسرحية نساء لوركا خطاب مرتبك
- تحالف الإسلام السياسي والشيطان
- مناقشة هادئة لوثائق المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- تراجيديا رجل الدين العراقي
- الاسلام السياسي وصورة الحداثة في العراق
- الاسلام السياسي وعنف المواكب
- الإسلام السياسي وعنف المقال
- فشل أحزاب الإسلام السياسي في العراق؟
- المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين النصير - ما تروية الشمس...ما يرويه القمر