أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد أراق - اللامعنى وأنظمة الاستفراغ الدلالي















المزيد.....



اللامعنى وأنظمة الاستفراغ الدلالي


سعيد أراق

الحوار المتمدن-العدد: 1801 - 2007 / 1 / 20 - 11:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يميل الإنسان تحت ضغط تمثلاته الجاهزة, إلى اعتبار وجوده حالة امتلاء وتحقق ودلالة. والامتلاء كثافة وحضور وتموقع في الهُنا والآن. الامتلاء شرط وتعيين, ليس لأنه حصرا نقيض الفراغ, بل لأنه استحققاق مترتب عن وعي الذات بماهيتها كسياق قائم وحضور متحقق في التاريخ والكون ومجرى الزمن. وهذا التحقق هو شرط الدلالة الوجودية بامتياز. والحديث عن الدلالة, هو في العمق حديث عن وضع مفتعل, وسياق مشروط ومُحَصِّلَة. لأن السياق ثقافة. والثقافة ابتداع واستيداع ومواكبة .ومن هذا المنطلق, تبدو الدلالة مُحَصِّلَةً ثقافية. ومعنى هذا أنها لا تستمد سلطتها إلا من موقعها ضمن منظومة الإيبيستيمات أو النص الثقافي العام المغذي لمجموع التمثلات والمواقف والقيم والأفكار التي بها نحيا وعليها نموت موتَ استحقاق أو موتَ مكابدة.
تبدو الدلالات منجاة من اللامعنى, وانتشالا من حمأة الخواء الذي يرهبنا ويرعبنا. لأن الخواء فناء وانتهاء ومحض فقاعة. الإنسان يصنع دلالاته ويمعن في ترتيب نظامها أو فوضاها, وتصنيف موقعها في مسرى الحياة ومجرى التاريخ الذي لا يعتد دوما بما يعتقده الأفراد أو تؤمن به المجتمعات من دلالة. لكن شرط الدلالة أن لا تنضوي بالضرورة تحت لواء البداهة. الدلالة رهان, والرهان هو عتبة التدافع. والتدافع مجال كل المراهنات الرابحة أوالخاسرة, المتبصرة أو العمياء. والسؤال إذن, هو:هل الوجود الإنساني نفسه وجود دال؟ هل إنتاج وتداول وترويج المعاني والدلالات, هو في حد ذاته دلالة على وجود إنساني طافح بالامتلاء أم وجود متقوقع في دائرة اللامعنى والعبث؟. لقد قال روني بارجافيل: "إنك في مكانك, بمعية شكلك الذي هو أنت, وبرفقة وظيفتك التي تجهلها. أنت تعمل وتنام, وتتنفس دون أن تهتم. أنت توجد مثل حبة الرمل على الشاطئ ".
فهل معنى هذا أن الوجود كشكل, هو أدنى درجات الوجود؟. وبمعنى آخر, هل الوجود كشكل, هو محض عبث أم غبن وعراء؟. ما هو فائض القيمة المترتب عن الوجود كدلالة؟ بل هل الدلالة مازالت متاحة في زمن تنهار فيه تباعا كل الدلالات, ويدشن فيه الإنسان أزمنة اللايقين في ردهات الأنساق الشكلية المفرغة قصدا من كل دلالة؟.


الكلمات والأشياء
هرمينوتيكيا,الدلالة هي الأشياء المُصَيَّرَةُ لغةً. ومحاصرة الأشياء باللغة, هي السبيل الذي تصبح به هذه الأشياء مستفادة مستعادة ومصنفة غيابيا وحضوريا ضمن تراتبية المدركات والموجودات. وحين يتحول الشيء إلى لغة, يصبح وجوده حضورا وتمثلا مدركين ومستهلكين تداوليا ودلاليا. الشيء المسمى قائم في الوجود كحضور وتحقق, وماثل في الذهن كتمثل ومدلول وصورة. ومن هذه الزاوية, لا تبدو تسمية الأشياء, مجرد عملية تصنيف لغوي مُكْتَفٍ بحدوده المعجمية ومداراته الدلالية المحصورة, بل هي أداة لتحيين المسميات وترميز دلالاتها الواقعية أو المفترضة, بهدف تملكها ذهنيا وثقافيا ومعرفيا. و"هذه القوة السحرية للغة -التي تتمثل في قدرتها على أن تتحول إلى قائم-مقام بدل الواقع, وذلك عبر تحويل المسميات إلى أشياء حاصلة كموجودات [ مدركة في الوعي]- هي أساس كل افتراء أو محاباة ".
وعليه, فإن اللغة هي الهامش الذي تحصل فيه الأشياء على هويتها المسماة التي بها تحضر وتغيب, وتقترب وتنأى, وتحيا وتموت. اللغة هي ملاذ الكائن ومثواه, بتعبير هايدغر. والإقامة في اللغة, ليست دوما شرط حضور, بل قد تكون كذلك مقام غفلة أو غفوة أو محض غياب. لأن اللغة كثافة, أي سديم دلالات واستدلالات ومقالب وفخاخ. وهي ليست مجرد أشكال محايدة بلهاء, بل هي في المقام الأول والأخير, تشكيل مصطنع, مُوَجَّهٌ ومقصود.لأنها تمثل "إحدى الأدوات الروحية التي تحول العالم السديمي للإحساسات, إلى عالم من الموضوعات والتمثلات ". وهي بالتالي رهان غلبة وحلبة صراع واستباق, لأنها السلطة التي تتقوى بها كل السلط أو بها تخور وتنهار. إلا أن الحديث عن اللغة هو بالضرورة حديث عن ثنائية الشكل والمضمون. وهذه الثنائية ليست مرجعية متمفصلة نسقيا على مستوى اللغة فقط, وإنما هي بنية مؤسسة للوجود من حيث هو تجلٍّ, والموجود من حيث هو سياق. "لقد خلق الإله الليالي, التي أفرزت الأحلامَ والأشكالَ المتخايلةَ في المرايا, لكي يَشْعُرَ الإنسانُ أنه -هو نفسه- ليس سوى انعكاس وخُيَلاءٍ وتفاهة ". ولا شك أن مفهوم الانعكاس يقوم فلسفيا على التجلي الشبحي للحقيقة والأشياء. وهذا النوع من التجلي الانعكاسي, ليس طفوحا ولا امتلاء بالمعنى الفينومينولوجي للكلمة. لأنه وجود غير مكتمل. إنه وجود بالمعنى الأفلاطوني. وهو لذلك أشبه ما يكون بالظلال المنعكسة على الحيطان والجدران. ومن هذه الزاوية, ليس الشكل شكلا إلا لأنه الوجه الآخر للدلالة من حيث هي حضور في الشكل وغياب فيه في نفس الوقت. و"كل ما يحيا, يملك –بفعل حياته نفسها- شكلا. ولهذا السبب بالذات عليه أن يموت:باستثناء العمل الفني, الذي يحيا إلى الأبد لأنه –بالضبط- شكل ".
ولكي نصوغ هذا المعطى بشكل أوضح, يمكن القول إن الدلالة لا تعلن عن نفسها إلا عبر صيغ مُشَكْلَنَة. إلا أن هذه الصيغ قد لا تعكس دوما حقيقة أو زيف الدلالة إلا عبر شرط التأويل. ومن هنا يتحول السلوك التأويلي نفسه, إلى نوع من النبش اللاهث عن محمولات المدلول, وذلك بهدف الخروج بها من غمرة الغياب والتخفي إلى فورة الحضور والاستجلاء. إن الدلالة هي أشبه ما تكون –من الناحية الفلسفية والسياقية- بالقيم الدُّونْكِشوتِيَةِ التي لا تكون "حاضرة إلا في الغياب", بتعبير جورج لوكاتش. الحضور حيز تؤثثه الأشكال بالأساس, وتمفصله إلى علامات ومعالم, وتدرجه بالتالي –هيرمينوتيكيا- كمجال للقراءة و الاستقراء. ومفهوم الحضور هنا ليس مطروحا بمعناه الفيزيقي أو الجغرافي, بل بمعناه الرمزي والدلالي المشروط بنائيا بالسياق. وإذا كانت الأشكال –من الناحية الوجودية- لا نهائية وغير قابلة للاختزال جذريا في أنماط, فإن مدارات الدلالة تتميز في المقابل بكونها تعددية وتراتبية وتأويلية بامتياز. لدرجة أن حتى الأمثال أو الحِكَمَ -التي تعتبر فلسفيا ومعرفيا, بمثابة قمة الدلالة التي ارتقت ثقافيا وتاريخيا, إلى مستوى البداهة أو التسليم- ليست في نهاية التحليل, دلالة نهائية إلا في حدودٍ اقتراحية ضيقة ومحصورة. لذلك يقول أليساندرو باريكو:"إن الحِكَمَ –حتى حين تقدم نفسها في شكل حُكْمٍ نهائي وقاطع- لا تكون سوى نوع من تدشين التفكير, وهي بالتالي لا تستنفد التفكير أبدا ".
لقد احتلت اللغة مكانة الصدارة في الانشغالات الفلسفية, وذلك بالنظر إلى أن فهم الإنسان لنفسه ولعالمه, يتمفصل ويُعًبَّرُ عنه داخل اللغة بالأساس. وربما كان السفسطائيون من دون شك,هم أول من حصل لهم الوعي الحاد بهذه الفكرة . أما بالنسبة للشكل فقد مثل مجال دراسة موسعة ومتعددة المفاصل والمقاربات. سواء من منظور سيكولوجي (ابتداء من نظرية الجشطالت الألمانية, وصولا إلى النظريات المعرفية اللاحقة), أو منظور فينومينولوجي ("هوسرل" و"ميرلو بونتي"), أو منظور المقاربات السيميائية واللسانية المعاصرة. والواقع أن هذا الاهتمام القوي بدراسة الشكل أو الأشكال, بدأ منذ أرسطو وتلاحق الاهتمام به تاريخيا ومعرفيا وفلسفيا. وتصادى هذا الاهتمام حتى في مجالات اللغة والنقد والأدب, تحت صيغ مختلفة عرفت في التراث الأدبي والنقدي باسم "اللفظ والمعنى", كما هو الأمر عند الجاحظ وأبي حازم القرطاجني وعبد القاهر الجرجاني. ثم استعيدت هذه القضية حديثا تحت إسم آخر هو قضية "الشكل والمضمون". أما عند الغربيين, فلم تطرح هذه القضية طرحا إشكاليا واضحا إلا في القرن الثامن عشر, مع الفيلسوف الفرنسي كونديلاك (1714-1780) Etienne Bonnot De Condillac, تحت إسم مختلف نسبيا هو قضية "العلامة والمعنى" le signe et le sens, التي قادته إلى تصور اللغة باعتبارها "العنصر الحاسم في كل أفكارنا الانعكاسية" idées réflexives. وهي قضية طرحت كاستعادة للإشكالية الأفلاطونية حول الجوهر والفكرة l’essense et l’idée. ويبدو جليا أن الدراسات اللسانية والسيميولوجية الحديثة بدورها ليست –على مستوى من المستويات- سوى استلهام وتجديد لإشكالية اللفظ والمعنى, تحت صيغ جديدة مثل: "الدال والمدلول", في اللسانيات السوسيرية la linguistique saussurienne, -التي تأثرت بشكل كبير بلسانيات "كونديلاك"- و"العلامة والمرجع" في المقاربة السيميولوجية التي استوحت بدورها النموذج اللساني السوسيري.
يبدو إذن أن قضية الشكل والمضمون, قائمة لسانيا وفلسفيا وإشكاليا وذهنيا في كل تصور إشكالي للعالم بوجوده وموجوداته. إلا أن ما يهمنا في هذا المقام, هو الشكل في تمظهراته الدلالية المُؤَوََّلَة, التي لا ترتهن فقط للمظهر اللغوي الصرف, بل تتجاوزه تاريخيا إلى حدود التشريط اللادلالي, الذي يترتب عنه انحسار وتراجع كل دلالة مفترضة, ليحل مكانها الشكل كانتصار غائم, ولتكتمل بالتالي دائرة اللامعنى من حيث هي استفراغ كلي لكل جدوى إنسانية أو أخلاقية منشودة ومبتغاة.

أزمنة الأشكال وأنظمة الاستفراغ الدلالي
لقد أكد "كانط" أن الشكل البيولوجي للكائنات العضوية, سيظل دوما لغزا, حتى لو سلمنا بأن بإمكان تطورات علم الفيزياء والكيمياء, أن تفسر لنا يوما ما –بطريقة ميكانيكية- بعض مظاهر النظام العضوي الحي أو ما يسميه كانط "الغايات الطبيعية" Les fins naturelles. لأن الطبيعة مسرفة في إنتاج الأشكال(naturans natura). لكن عملية الإنتاج هذه, ليست بالضرورة قابلة للتفسير, إلا إذا افترضنا وجود "قوة تملك القدرة على تشكيل الموجودات"Bildende Kraft . ورغم أن الشكل لا يملك في نظر "كانط", أي حقيقة موضوعية أو كفاية تفسيرية, إلا أنه ضروري لفهم الطبيعة. وذلك بالنظر إلى أن قدرته الإجرائية الوصفية, "ضرورية لقدرتنا الإنسانية على الحكم, بنفس الدرجة التي من الممكن أن تكون عليها ضرورة تلك القدرة الإجرائية, لو كان الشكل فعلا مبدءا موضوعيا " وليس مجرد مبدأ وصفي بحت.
ومن هذا المنطلق, أكد كانط أن غياب البعد الموضوعي والميكانيكي في إدراك الأشكال الطبيعية, يعوضه البعد الذاتي المتمثل أساسا في الحس الجمالي لدى الإنسان. وعلى هذا الأساس, فالأشكال في المنظور الكانطي, تعانق دلالتها, نظرا بالضبط لأنها غير قابلة للتفسير ميكانيكيا. فغياب الدلالة الموضوعية, تحل مكانه القيمة الدلالية الناتجة عن الحس الجمالي للإنسان. وبذلك يتحقق الانتقال من "الغائية الداخلية الموضوعية" للأشكال, إلى "الغائية الذاتية الصورية". فيصبح الشكل مرهونًا أساسا بالحس الجمالي الذاتي. وتغيب الموضوعية وتنأى لأن ضفافها منيعة وغير متاحة.
لقد شكل الانشغال بالتفكير في مفهوم الشكل –منذ كانط- تيمة أساسية حاضرة بقوة وعناد في المجالات المعرفية المختلفة, بما فيها اللسانيات والسيميولوجيا والفينومينولوجيا والفيزياء. ورغم تباين منطلقات هذه المقاربات, إلا أنها تتقاطع معرفيا عند نقطة اعتبار الشكل إطارا غير ممتلئ بالضرورة بأي محتوى موضوعي حقيقي, لأن مجاله هو التصور, أو التمثلات اللغوية والذهنية, أو الإدراك أو الحواس. لذلك فحتى التواصل الإنساني في صيغه الأصلية الأولى, لم يكن إلا تواصلا بالأشكال, قبل أن يرتقي إلى مستوى التجريد الذي هو عليه الآن. "فكانت الوسيلة التواصلية الطبيعية إذن هي رسم صور وأشكال الأشياء. ومن أجل التعبير عن فكرة الإنسان أو الحصان, كانت الوسيلة الوحيدة هي رسم شكليهما. وهكذا, كانت أول محاولة لإنتاج الكتابة, مجرد رسم صرف. ولا شك أن فن الرسم, يَدين في ظهوره -على ما يبدو- إلى رغبة الإنسان في رسم أفكاره من أجل التواصل ". والواضح أن هذا الطرح, يؤكد أن الشكل كان هو منطلق صياغة كل خطاب حول العالم والأشياء. لأن الشكل هو الجانب المرئي, وهو المقيم حضوريا وعيانيا في المدى المدرك بالحواس. وإذا كان الأمر كذلك, فإن الإنسان لم يتجاوز على ما يبدو, هذه السلطة البدئية التي مارست من خلالها الأشكال تشريطها الحاسم للوعي الإنساني وسلوكه التواصلي المستدام.
ومن هنا يمكن القول: يبدو مدى كل التدافعات الإنسانية الراهنة, منذورا بشتى الصيغ والمرجعيات, إلى الاندراج في أشكال وأنظمة شمولية ومُعَمَّمَةٍ لا تتيح أي استفراد بالذات, ولا تتورع عن الإجهاز على كل دلالة. "إن طموح الإنسان للنظام, يدفعه إلى تغيير شكل العالم الإنساني وتحويله إلى مملكة غير عضوية حيث يكون فيها كل شيء على ما يرام, وحيث يكون فيها كل شيء خاضعا لقاعدة متعالية على كل فرد. إن الرغبة في النظام هي في نفس الوقت, رغبة في الموت لأن الحياة انتهاك أبدي للنظام. أو لنقل بشكل آخر, إن الرغبة في النظام هي المبرر الأخلاقي الذي يُسَوِّغُ من خلاله الإنسان, كل جرائمه ". والحديث عن التشكيل والنظام لتحويل العالم إلى "مملكة غيرعضوية", هو انفتاح كلي على أزمنة الأشكال. وبالتالي, فالنظام هنا ليس تمكينا للإنسان وإحلالا له في العالم كإرادة ومبادرة حرة واختراق, بل هو إخضاع المنظومة الإنسانية إلى أنظمة الأشياء. وفي هذا النوع من النظام, " تحدث نفس الأشياء بشكل مستعاد ومكرور, في نفس الأمكنة, وتحت أشكال مختلفة بالكاد, لكي يحصل لنا الوهم بأن هناك تغيير يحدث. لكن في العمق, نعيد إنتاج نفس الشيء بعناد وإتقان. لذلك فبدل النظرة الباردة للمؤرخ الذي يهتم بتحليل الوقائع, ينبغي استحضار نظرة الفنان أو الفيلسوف اللذين يعيدان بناء الوحدة العميقة للوقائع " بحثا عن التقاط دلالاتها المعلنة أو الثاوية.
في مقال نشر في مجلة "لوموند دبلوماتيك", تحدث كورنيليوس كاسطورياديس CORNELIUS CASTORIADIS, عن ضرورة التصدي لموجة اللامعنى التي تتصاعد وتيرتها في العالم. وتحدث عن النموذج السياسي الفرنسي كمثال صارخ على هذا اللامعنى:"إن ما يميز العالم المعاصر, هو الأزمات والتناقضات والتعارضات والشروخ. لكن ما له وقع الصدمة في هذا العالم, يتمثل بالتحديد في اللامعنى. لنأخذ الصراع بين اليمين واليسار. لقد فقد معناه تماما. فكل منهما يقول نفس الشيء. ومنذ 1993, انتهج الاشتراكيون سياسة, ثم جاء السيد بالادور وانتهج نفس السياسة. ثم عاد الاشتراكيون من جديد إلى الحكم, وطبقوا مع بيير بيريغوفوي, نفس السياسة. وعاد بالادور إلى الحكم مرة أخرى, وانتهج نفس السياسة. وفاز السيد شيراك في الانتخابات سنة 1995, وقال: "سوف أنتهج سياسة جديدة", فانتهج نفس السياسة القديمة ".
يبدو الأمر كما لو كان مجرد نسخة مستعادة لا تدشن أي جديد و لا تمنح أي مضمون حقيقي لسيرورة تداول السلطة وحركية المجتمع. إنها "السباحة مع التيار" بتعبير كاسطورياديس في نفس المقال. لدرجة يمكن معها القول, إن "هناك صلة جوهرية بين هذا النوع من عدم الكفاءة السياسية La nullité politique, وبين هذا اللامعنى في المجالات الأخرى, في الفن, في الفلسفة أو في الأدب. هذا هو ما يمثل روح العصر. الكل يتآمر من أجل توسيع مدى اللامعنى ". لأنه الأفق الوحيد الذي يبدو متاحا في عالم ينحو بغرابة نحو الإجهاز الكلي والحاسم على جدوى كل دلالة, وتنصيب التميطات الليبرالية, كتتويج غائي لسيرورة التاريخ الذي يراد له أن يكون أفقا مغلقا ومسارا مكتملا ومنجزا في أنماط نهائية منتصرة وغالبة. نحن نلج ببسالة مثيرة للشفقة, النفق المعتم الذي يتحول فيه الإنسان كقيمة وجودية, إلى موضوع مصادرة مفلسة على إيقاع البهرجات الخاوية والتقليعات الليبرالية التي تَعْفِسُ في طريقها كل شيء. إن المجتمع ما بعد الحديث –كما يقول ليبوفيتسكي- لم يعد له أي مثل أعلى ولا أي طابو. وهو لا يحمل عن نفسه أي صورة مجيدة, ولا يملك أي مشروع تاريخي حَرَكِيٍ ومُجدِّد. وبالتالي فالخواء هو الذي يوجهنا, لكنه خواء بدون بعد درامي أو رؤيوي apocalyptique . إنه مجرد خواء ناتج عن نوع جديد من "المُتْعِيَةِ المشوبة بخيبة الأمل" hédonisme désenchanté, حيث تصبح المتعة والرغبة هما كل الإنسان, ويصبح الإنسان هو (اللا شيء الكلي) le rien total. ويترتب عن ذلك تحول "الخواء إلى ابتكار اجتماعي متجدد, وإلى نوع من البداهة الضرورية للديناميكية الإنتاجية التي تساهم فيها التقنية بشكل ضمني أو معلن ".
ويرى ليبوفيتسكي, أن المجتمعات الحديثة دخلت مرحلة الفراغ, بسبب ضمور المشاريع الجماعية الكبرى التي كانت تعزز فورة التلاحم الإنساني. كما أن فداحة هذا الوضع -الذي يتفاقم فيه "الإيروس" كأفق غائي للحياة والوجود- تُنصِّبُ الرغبات كطفوح هادر للذات, وتختزل الفرد في مجموع رغباته. وتحكم عليه لهذا السبب بالذات, بتمثل وجوده كتطلع بئيس ومستميت لمعانقة نمط الكائن الذي يراد له أن يَكُونَهُ ويحيا مستلبا فيه ومطمورا في مقاساته. وهو في كل الأحوال, كائن قَطِيعِيٌ متخم بوهم الاكتمال ومفعم كالبالون بخوائه المستعاب. ويرى "برنار ستيغلر", أن ما يبدو طفوحا للحياة واكتمالا للرغبات أو "الإيروس", في المجتمع الحديث, لا يسفر سوى عن توالد الميل القوي للموت la tendance dominante thanatologique. وذلك بالنظر إلى أن "الطاناطوس" thanatos (الموت) هو خضوع النظام للفوضى. وهو الميل لخلق التساوي بين كل شيء: إنه الميل لنفي كل استثناء. حتى لو كان الثمن الفادح لهذا النفي هو نفي الفرق بين حد الموت وحد الحياة. ويبدو ذلك واضحا رمزيا, من خلال قصة "ريشار دورن"Richard Durn, الذي اغتال ثمانية من أعضاء المجلس البلدي لمدينة "نانطير" الفرنسية سنة 2002. وقد كتب في مذكرته الشخصية تعليقا على عمليات الاغتيال هذه: " إني ألحق الضرر بالآخرين, لكي أشعر –ولو مرة واحدة في حياتي على الأقل- بأنني موجود ". وهكذا تتحول الرغبة في الوجود, إلى رغبة في الموت. ويتحول الإيروس Eros إلى"الطاناطوس". ومن هذه الزاوية, يمكن القول إن الإرهاب نفسه, ليس سوى سيرورة عدمية, دموية ومروعة للبحث عن حيز وجود يمنح الذات تموقعا دالا في عالم اللامعنى والحياة الجوفاء. ومن هنا ففعل الإرهاب –في الحقيقة- ليس موجها ضد الآخرين إلا في حدود عَرَضِيَةٍ تنقص أو تزيد بحسب حجم العملية الإرهابية ومدى تأثيرها المادي والرمزي. لأن الإرهاب بالأحرى موجه -في العمق- ضد الذات. هذه الذات التي عجزت عن أن تكون ذَاتَ كينونةٍ دالة وجوديا, فاختارت تدشين انتفائها الوجودي ليصبح موتها المدمر هو قمة التعبير عن حرقة افتتانها بالحياة. ومن ثمة, فتنامي الإرهاب هو أحد تجليات الاستفراغ الدلالي الذي يستزيل المعنى من الحياة نفسها, ليحل الموت كدلالة بديلة مُجَلَّلَةً بالسواد ومُتَوَشِّحَةً بالحداد. فيصبح الموت هو المعنى, والقتل هو الرهان, وتفجير الذات هو قمة الإنجاز وعين العقل. وهكذا فإن الرغبات المجهضة في الحياة, تنقلب –بشكل معتوه وأخرق- إلى رغبة هوسية في الموت. ولا يحضر الدين إلا كسند يراد منه –ضد كل حكمة أو منطق- أن يمنح الدلالة للموت الذي يدشن بوابة الولوج إلى جِنَانِ السماء حيث تتحقق أخيرا, الدلالة المرتجاة: الخلود والنعيم. إن "الانتحار كما هو الأمر بالنسبة للجنون, ليسا سوى نوع من التحايل الحاذق والمراوغ الذي يتغيى تجنب القلق المتولد عن الخواء ".
وإذن, فما يبدو معلنا بغلو وإفراط في الزمن الراهن, هو هذا التشامخ الرهيب لما هو شكلي وافتراضي ومميت. وذلك على حساب التراجع الهادر للقيم الإنسانية التي تكتسي معنى ودلالة. ومن هنا يمكن أن نتساءل, "أليست إحدى أكبر مشاكلنا متمثلة بالضبط في اللامعنى؟ أليس هذا اللامعنى هو قدرنا؟ وإذا كان الرد بالإيجاب, هل هذا القدر حظ أم مأساة؟ هل هو هَوَانَُنا المُرّ, أم أنَّ لنا فيه على العكس من ذلك, حلاوةَ الفَرَجِ, وطراوةَ الخلاص, وشَبَقَ الغزلِ ودافئَ الملاذ ؟". لا شك أن الحديث عن أزمنة اللامعنى, قد يقود إلى رسم ملامح صورة عدمية طافحة بتباشير الخواء المريع حيث يصبح الحضور غيابا, والغياب انتكاسة. لكن ما نشهده من تداعيات متلاحقة, في عالم اليوم, يعطي الانطباع بأن الإنسان كقيمة وجودية, ينحو في سيرورة انتقالاته أو شطحاته التاريخية, نحو إفراغ الأشياء من دلالاتها ليتحول وجوده نفسه إلى مجرد شكل أو صورة بالمعنى البلاغي للكلمة. "إن العقل الإنساني يتشكل اليوم ليس من أجل أن يختار, بل من أجل أن يقبل. وتتحدد ملامحه ليس من أجل أن يقرر ما إذا كان العمل الفني فعلا جميلا, بل من أجل أن يفكر في العمل الفني الجميل. وهكذا –ورغم المواضع المشتركة الساطعة الوضوح- هناك نوع من الحذر في الحكم على الأشياء وفق القناعات النابعة من الذات. وإذن, فالإنسانية هي التي تفكر " وليس الفرد. وقنوات هذا التفكير بالنيابة تتكاثر وتتعولم, ويأتي على رأسها الإعلام والإشهار والبروباغاندا والقنوات الفضائية المؤثثة للمشهد الإنساني اليومي. يبدو عالمنا شيئا فشيئا افتراضيا virtuel مثل صفحة ويب page web. وفي هذا العالم الافتراضي, "تصبح الموارد النادرة, هي الحدس والنقد والتأمل والتركيب والابتكار ".أما الدلالة فلا تتبوأ المشهد إلا مزيَّفة أو مُوَضَّبَةً أو مُفَبْرَكَةً كما ينبغي لها أن تكون, لأنها أضحت حلبة الصراع والمنازلة, بعد أن انحسرت كل القيم التي غذت المرجعيات الأنوارية والنزعات الفلسفية والإنسانية. إن ما نعيشه اليوم, هو "المهزلة الوجودية المفرغة من الدلالة ", حيث يتحول الأفراد –على حد تعبير كاسطورياديس- إلى "كائنات مخوصصة", وحيث يتفاقم "البؤس الثقافي والنفسي" بتواز مع تضخم عملية "الإشباع الاقتصادي" المزيف, من خلال تكاثر الأدوات التقنية وتسهيل عملية اقتنائها, لكي يتكرس الوهم بحالة الطفوح والامتلاء.
والواقع أن هذا الاستفراغ الدلالي, لا يهدد الوجود الإنساني في حد ذاته ومآلاته, بل يلقي عتماته على دلالة هذا الوجود, فتلتبس ترسبات هذه الدلالة في الأذهان والعقول. لقد قال الفيلسوف الفرنسي ألان:"إننا نسير نحو الأشياء مسلحين بعلامات". لكن حين يصبح تقويض كل العلامات, هو النهج الثقافي والسياسي والإعلامي والحزبي العام, نكون آنذاك بصدد اختزال الكائنات الإنسانية العاقلة والمتعلقة, في مجرد كتلة غوغائية بلهاء. وتصبح "السعادة تعني الغياب, أي أن تغيب حتى عن نفسك, وتستسلم أخيرا لكل الأشياء المحيطة بك ", لتكتمل دائرة المسخ وشرنقة اليباب. وإذا "كان خطأ الناقد, هو البحث عن الجوهر وإلغاء الوجود ", فإن سيرورة الاستفراغ الدلالي, لا يمكن أن تحقق انتصارها المعتوه, إلا عبر إرساء صيغة وجودية يلغى فيها تماما كل سلوك نقدي نضالي وأصيل. وفي سياق هذا النوع من المنطق الوجودي الطافح باللامعنى, يصاب المثقفون بدورهم بعدوى المواقف المفرغة من الدلالة والمنفتحة على اللاجدوى والمعادلات المبتسرة والمقلوبة .أمثلة للتأمل:
- "الأخلاق كذب وبهتان "
- "الحقيقة –مثل النور- تصيب بالعَمَى. أما الكذب, فعلى العكس, يمثل الغسق البديع, الذي يجعل كل شيء بارزا بالتمام "
- "الكذب هو أحيانا الشكل المسبق للحقيقة ".
- "اللامبالاة مُقَوِّيَة, لأنها تعين على تحمل الحياة, وتقوي استقلاليتنا ".
- "لقد انتهى بي المطاف إلى حيث يبدو غياب الحدود هو اليقين الوحيد...في غمرة العزلة الفلسفية والمتفلسفة حيث يحصل الوعي بكل شيء...والحقيقة هي أنني أعتقد دوما أكثر فأكثر, أنني كل شيء, لأنني بالضبط لا شيء على الإطلاق ".
إننا لا نريد من خلال استعراض هذه المواقف والرؤى –التي اخترناها عشوائيا- سوى الإشارة إلى أن هذا النوع من التصورات المتنكرة معرفيا وأخلاقيا وفلسفيا, للقيم المؤسسة للمرجعيات الإنسانية, أضحت تيارا قائما بذاته ومُحْيَّنًا كمؤشر على وجود مصادرة حقيقية للدلالات والقيم التي آمن بها الإنسان واتخذ منها سندا وجوديا ونماذج للتعايش والاحتذاء. يبدو هذا التقويض نوعا من الاحتجاج المسرف على وضع وجودي لا تستقيم فيه حيثيات المبادئ والرؤى واليقينيات المُطَمْئِنَة. وحدها حالة "الالتباس والتشويش" –بتعبير طوماس بيرنهارد- ترافق الكائن في سيرورته المتجهة به بإسراف نحو اللايقين. وبذلك تهتز كل المتكآت, ويصبح التردي في جوف اللامعنى, هو المصير الوحيد المتاح. "وشيئا فشيئا يتماهى الإنسان مع شكل مصيره. لأن الإنسان يصبح على المدى البعيد, على شاكلة ظروفه نفسها أو هو عين ظروفه ses propres circonstances ".
وإذن, يصبح الإنسان من هذه الزاوية, موضوع "صناعة" بالمعنى الذي نستعمل به مفهوم "الصناعة السينمائية" مثلا, ويصبح الخواء بدوره صناعة industrie de vide بتعبير كاسطورياديس. لأن الرهان الآن, هو المحاصرة المعولمة لكل شروط تحقق الوعي الحر والحس النقدي والمواقف الأصيلة. الرهان هو مصادرة الدلالة في معاقلها ومراقبة مؤشرات تدفقها وضبط مقاساتها, لكي تتماشى مع ما أُرِيدَ للعالم أن يكون عليه الآن وبعد الآن. دلالات الأشياء تصهرها قنوات الرقابة والضبط, في قوالب جاهزة, مُعَمََّمَة, مُعَلَّبة ومُرَوَّجَة كبضاعة وقيم سوق. "في جوابه عن السؤال: ما هي التلفزة؟ أجاب بييت هاين Piet Hein –ممثل شركة إينديرمول في البرتغال, ومنتج برنامج Loft Story وBig Brother - :التلفزة هي أن تخلق –بين كل وصلة إشهارية- محتوى يتوفر فيه ما يكفي من الإثارة, لجعل الوصلات الإشهارية تحظى بالمتابعة من لدن المشاهدين " . بل إن بعض الأدبيات الإعلامية الأمريكية الراهنة, تدشن استعمال مصطلح جديد هو:» infomercial «the, أي الرسالة التجارية والإشهارية المقدَّمة للمشاهدين بمساحيق المادة الإخبارية. وحتى نوربرت واينر weiner Norbertمؤسس علم السبرنتيقا la cybernetique, وأحد رواد نظرية التواصل في أمريكا, أكد بإلحاح أن الغاية من أنظمة الاتصال الجماهيري في المجتمع الحديث, تتمثل أساسا في "الضبط والمراقبة", عبر التحكم في قنوات صناعة التمثلات والمواقف والأفكار. إن مجتمعاتنا إذن هي "مجتمعات رقابة" بتعبير جيل دولوز Gilles Deleuze. وهذه المجتمعات تطور رأسمالية الثقافة والخدمات, من أجل خلق حياة مُنَمَّطَة, وتغيير الحياة اليومية للناس, لجعلها أداة تخدم مصالح الممسكين بخيوط اللعبة. وهي بالتالي مجتمعات تُنَمِّطُ صيغ الوجود الإنساني, عبر "مقتضيات الماركتينغ" . وحتى الفلسفة الفردانية التي أرست أحد أبرز وأقوى ملامح المجتمعات الحديثة, أضحت تتوارى لتفسح المجال أمام ما سماه جيلبير سيموندون Gilbert Simondon: الصيرورة القَطِيعِيَة le devenir grégaire, التي تؤدي إلى الفقدان المُعَمَّمِ ل"الإحساس بالتفرد" la perte de l’individuation. وهو ما سبق أن تنبأ به فريديريك نيتشه, حين قال إن المجتمع الصناعي يتوجه نحو خلق مجتمع القطيع. والأكيد أن أداة ضبط وقَطْعَنَةِ هذا المجتمع grégariser la société , تتمثل بالضبط –حسب جيل دولوز- في تشييء الإنسان وإرساء منطق "الماركتينغ" كنهج تدبير ينمط الأفكار والمواقف وصيغ الحياة وسلوك العيش والاستهلاك.
ومن هذا المنطلق, يبدو أن "الصناعة –والتلفزة ليست سوى صناعة- تُدَمِّر. ومعها لا تكبر الحضارة, وإنما تكبر وحشية الصورة "de l’image .la barbarie والواقع أن الخوض في الحديث عن الصورة كبديل للدلالة العينية المباشرة, وكتشريط جماهيري لصيغ الوعي وأنماط التفكير وردود الأفعال, هو حديث عن سيرورة الاستفراغ الدلالي. الصورة تحيل المدى المترامي والظاهرة الإنسانية نفسها, إلى مجرد كثافة إعلامية وأشكال افتراضية محاصرة سياقيا وإيديولوجيا, داخل شاشة التلفاز. وهي بالتالي لا تكتسي دلالة إنسانية أو وجودية حقيقية ومباشرة, ولا تمثل في نهاية المطاف سوى أشكال رقمية مقترنة لدى الذات إما بالاستيهام أو اللامبالاة أو المكابدة. "إنها أشكال مغلقة, تحمي وتحتضن الواقع ", لكي لا تتركه مَشَاعًا بين الناس, ولكي تقدمه لهم بصيغ إسقاطية وديماغوجية زائفة, لا تضيء الواقع بقدر ما تتعهد عتماتِه بالاستدامة. إن "المجتمع لا يفكر إطلاقا في التنوير. وفي كل شكل من أشكال الدولة, تكون الحكومات مهتمة بالسهر على أن لا يحصل التنور في المجتمعات التي تقع تحت رعايتها. لأن تنور هذه المجتمعات, سرعان ما يؤدي إلى القضاء على هذه الحكومات ". الأمر إذن, رهان بقاء ومحض منازلة, وسائلهما تتعولم ورهاناتهما تكبر, وضحاياهما يتزايدون يوميا بالآلاف. وفي هذا الوضع, "لن نعرف أبدا اكتمالا آخر, سوى اكتمال الحرمان. ولن نشعر أبدا بطفوح آخر سوى طفوح الخواء ".
وعلى هذا الأساس, فإن ما يبدو انتعاشا إنسانيا وحضاريا, بالنسبة لبعض المجتمعات, قد لا يكون بالضرورة سوى انتكاسة مدوية بالنسبة للمجتمعات الأخرى. فالديمقراطية مثلا, دلالة قائمة ومتحققة بدرجات متفاوتة في الدول الغربية. لكنها ليست في دول عديدة أخرى, سوى شكل وواجهة ومؤسسات مُفْرَغَةٍ تماما من محتواها التمثيلي. وهو نموذج قياسي لغياب الدلالة وحضور الشكل, كأسلوب حياة ونهج تدبير واغتيال للإنسان. لكن "الإطباق على فراشة بدبوس, ليست الطريقة المثلى للتعرف عليها. لأن من يحيل الحي إلى شيء راكد وجثة هامدة –تحت أي ظرف كان- يبين فقط أن معرفته لم تسمح له حتى بأن يصبح إنسانا ". إن اغتيال الدلالة, اغتيال للإنسان ومسخ للحياة, لأن الإنسان إنسان بدلالالته وأشكاله, بها يحيا وبدونها لا يطفو أبدا على السطح ولا يكون. ويبدو من الغرابة أن تصبح ثقافة اللادلالة la culture de l’insignifiance, إغراء حقيقيا حتى للمثقفين أنفسهم. يقول هيرمان هيس:" إن الحياة لا تبلغ أقصى اكتمالها, إلا في اللحظة التي يبدو فيها أن كل الأشياء قد فقدت دلالتها ". إن مثل هذه الأفكار لا تنشأ حتما عن منطق, بل تنبع من حالة يعيشها الإنسان ويدبرها بحكمة أسيانة بحثا عن عزاء أو تلمسا لخلاص.
لقد أكد "دريدا" أن الخطاب الفلسفي, محكوم بهوس ملاحقة دلالات الأشياء والتوصل إلى ضفاف المعنى, لأن في المعنى وحده تترعرع زهرة الحياة. وفي كتابه "أطروحات حول فيورباخ" Thèses sur Feuerbach, قال ماركس:"إن الفلاسفة لم يقوموا سوى بتفسير العالم بشكل مختلف, إلا أن المطلوب اليوم هو تغييره". ولربما يبدو هامش التغيير اليوم, ضيقا إلى أقصى حد بسبب استفحال لامعنى الفعل l’insignifiance de l’action ولا جدوى المبادرة. "إننا نوجد اليوم في مواجهة عالم منظم بطريقة نبدو معها مجردين من كل وسائل الرد ". فزمن اليوتوبيات والإيديولوجيات المغذية لنوابض الاستيهامات الإنسانية واندفاعاتها الحماسية الثائرة والمطالبة بالتغيير, تبدو اليوم فاترة وهامدة مثل بركان خامد. وحدها نمطية السلوك والفعل والقول, المروجة ثقافيا وإعلاميا, تؤثث المشهد وتغذي قيم الميوعة والتسلق والتسطيح والانتهازية وديماغوجية الخطاب وسفاهة الشعارات وسلعنة الإنسان. وكمثال على ذلك, ما أقدمت عليه الحكومة التايلاندية سنة 1987, حين قادت حملة قوية من أجل الترويج للسياحة الجنسية, باستعمال هذا الشعار المفضوح الذي يسلعن نساء البلد : « الفاكهة التايلاندية الوحيدة الأكثر لذة من فاكهة الدوريان [نوع من الفاكهة المحلية], هي نساء التايلاند ».
والملاحظ اليوم أن الخطاب الفلسفي نفسه يتراجع على أكثر من صعيد, وبذلك تتراجع فرص إنتاج الخطابات الدالة, ويتحول الإنسان إلى كائن أعزل منهك بحالات الالتباس واللامعنى. خاصة "بعد حدوث ما أصبح يسمى حاليا بانهيار الخطابات الكبرى:..الفرويدية, الماركسية, البنيوية, والموت المزعوم للفلسفة..التي ننتظر منها إنتاج المعنى, وصياغة أجوبة على الأسئلة الأخلاقية والسياسية, أي الأسئلة الوجودية: كيف نفكر, ونحيا ونعمل بدون معالم متعالية, في عالم خاضع لقوانين السوق وحدها؟ ووفق هذه القوانين, فإن منطق الطلب المُعَمَّمِ, يتيح للرذلاء, والمتاجرين, والمتلاعبين والانتهازيين, بيع وترويج كل أشكال البضائع الفاسدة ". إن أزمة الإيديولوجيات والقيم, أفرزت ما يسميه رئيس تحرير مجلة "Esprit", أوليفيي مونجان Olivier Mongin في كتابه la peur du vide:"حالة الإنهاك", الناتجة عن "الخوف من الخواء", خاصة بعد أن أعلن الخطاب السياسي إفلاسه, نتيجة ارتهانه لمنطق متناقض: ترديد التعزيمات الأخلاقية les incantations morales (حقوق الإنسان) من جهة, والحث على الإنتاجية (تمجيد المقاولة وقيم السوق) من جهة أخرى. مما إدى بالفرد إلى الشعور بفقدان وضعه كمواطن, وتولد لديه الإحساس بأنه ضحية محتملة لكل أشكال التلاعبات الصادرة عن الآخرين, سواء أولئك الذين يتقاسمون معه الانتماء لنفس الوطن, أو الأجانب. لقد أضحى "الإنسان غريبا في العالم الذي أنتجه بنفسه. إنه فَشِلَ في تنظيم هذا العالم وفق مقاسه, لأنه لا يملك معرفة إيجابية بطبيعته الإنسانية نفسها ". والنتيجة كما يصوغها "فرانز كافكا", هي أن الإنسان انخرط في سديم البقع السوداء, حيث لا شيء إلا الالتباس وعتمة الوجهة وضحالة المَلْمَح ومأساة الإبحار. أما المنطوقات الشعاراتية المؤثثة للمشهد اليومي والإعلامي والمجتمعي والحزبي, فليست سوى أسماء لمسميات غائبة أو مغيبة كتحقق, ومُستحضَرَة كأشكال أو قوالب, بمنطق ذر الرماد في العيون وجبر الضرر بالإقبار. إن المجتمع الحديث -كما يقول لويس ديمو- يوحي بنوع من العقلنة التي تمنح الانطباع ظاهريا بأن كل شيء على ما يرام, إلا أنها في العمق ليست سوى عقلنة للممارسة القمعية وآليات القهر الاجتماعي. وبالتالي فالعقلنة هنا ليست عقلنة للدلالات, وليست إنتاجا للمعنى, بل هي مصادرة لكل ما هو دال على وجه الحقيقة وصَائِبِ القياس, واستبداله بحالة وجودية وهمية يتبوأ فيها اللامعنى سََنَامَ الحياة. وبذلك يُختزل مصير الفرد, في "التحول إلى كائن يدير حياته بمنطق بيروقراطي بئيس ". وتصبح كل محاولة من أجل الفهم والمعرفة, هي أسهل سبيل للشك في كل شيء, بتعبير مدام دوشوليي Mme Deshoulier.
لقد توقف عبد القاهر الجرجاني, في القرن الخامس الهجري, عند مطلع قصيدة امرئ القيس:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
وأعاد توزيع بنيته, مبينا أنها لا تنطوي على أي معنى مستفاد على وجه الاكتفاء. إنها مجرد صياغة محتقنة بفائض اللفظ دون نافع المعنى. والأكيد أن الشعر كخطاب, خضع عند العرب إلى منطق "أعذب الشعر أكذبه". إلا أن هذه القاعدة, لم تنحصر مصداقيتها وصيغ اشتغالها الإجرائي في الشعر فقط, بل تجاوزتهما بفداحة إلى إحلال اللامعنى في صلب وجودنا نفسه, وفي متكآت كل تمثلاتنا عن ذواتنا كأفراد وجماعات. نحن نعيش "وضعية كذب باذخ" situation mensongère luxueuse. لافرق عندنا بين لامعنى الشعر وشعرية اللامعنى, كل الحالات والتحولات سواء. ولا يهم أن نهدر الزمن والأمل في المسارب التي تقود إلى حيث لا شيء سوى الصدى ونُوَاحِ الريح وأتربة الانتظار على الأرصفة المهجورة من كل معنى ودلالة. وبالتالي فإن ما أصبح مفهوما أعمى بالنسبة لنا, هو في الواقع "هذه الحياة, التي تتجسد في كائنات إنسانية, تتعالى في الأجواء مثل أسراب طيور, لتعتم كل شيء ". ليس في صباحاتنا المشرقة, ولا في مساءاتنا الذابلة سوى صدى البكائيات الغامرة والفروسيات العنترية الخاوية والادعاءات التي لا تفيد. والواقع أن الحديث عن اللامعنى كَمَيْسَمٍ من مَيَاسِمِ المجتمعات الغربية الحديثة, له في كل الأحوال, سياقه التاريخي ومرجعياته الفلسفية ومآلاته الرمزية الخاصة, التي لا تلغي ما راكمته هذه المجتمعات من إنجازات حضارية وديمقراطية وازنة. أما الحديث عن اللامعنى في سياقنا العربي الواهن, فنابع أساسا من الغياب الكلي والصارخ لأي سند فكري ,ثقافي أو وجودي مقبول كمشروع حضور, أو مُفَعَّلٍ كسيرورة انعتاق حضاري مرتقب, إجرائي ومتاح. وبالتالي, فنحن نقتات يوميا من هذا "التراجع الباهر" الذي تحدث عنه كاسطورياديس. والمتمثل في "اللاتفكير الذي ينتج هذا اللامجتمع, أي هذه العنصرية الاجتماعية". وقد يبدو اقتراح الحلول على الطريقة الإنشائية, أشبه ما يكون –بدوره-باختلاس الكلمات وإفراغها من دلالاتها الحقيقية والمجدية. والحقيقة أن ما يكرس اللامعنى, هو بالضبط لامعنى المواقف, أي حين يتحول الموقف والتموقف إلى واقعة غير دالة, ويستحيل الإنسان إلى كائن غير مَعْنِيٍ سوى "بالتدبير البيروقراطي لحياته البئيسة" بحثا عن فتات المغانم وتهربا من مسغبة الجوع وشظف المعيشة. إن مواجهة اللامعنى, لا تكون بالتردي في صيغة بديلة منطوية بدورها على لامعنى مغاير ومفضوح, كما هو الشأن في المشهد البئيس الذي نتابع حلقاته يوميا في واقعنا الذي تصبح فيه قمة الإنجاز, هي التسابق العَفِن أو التسلق المنبطح نحو المواقع, حتى لو كان الثمن هو الاضطجاع على البطن أو تلميع الأحذية بِلَهَاةِ الحَلْقِ وِطَرَفِ اللسان.
لقد تحدث كاسطورياديس, عن "الجذرية" la radicalité كسبيل لمواجهة اللامعنى في الواقع الفرنسي والعالمي, ويقصد بها "السلوك الثوري المزكي للتغييرات الجذرية". أما عبد السلام بنعبد العالي, فيقترح مفهوما آخر يسميه "الانفصال" من حيث هو فلسفة متوجهة نحو "إحداث الفجوات في ما يبدو متصلا ..ممتلئا..بدهيا..تقليدا..ودوكسا[ويا]", ومنخرطة بالتالي في مناهضة لامعنى الراهن, الشاخص في "سيكولوجيا الاجترار والتكرار, واجتماعيا الرتابة والروتين, وإيديولوجيا الدوكسا وبادئ الرأي, وزمانيا التقليد والماضي الجاثم, وأنطولوجيا التطابق والوحدة ".
إن الوعي باللامعنى المُطْبِق على الواقع والوقائع, ليس بالتأكيد قمة الإنجاز الفكري والتحصيل الثقافي, وهو ليس كذلك مزايدة تنضاف لسوق المزايدات التي يَرتادها "المتلاعبون بالعقول" للتَّبَضَُّعِ بآمال ومصائر الأمم وتاريخ الشعوب. الوعي باللامعنى هو وعي شقي بالانتفاء, من حيث هو مصير ومسار وسبيل, يتقوى بالجهل والتجاهل, ويتعاظم باستراتيجيات الانقياد ويستفحل بالارتكان إلى كل ما كان, وما سيكون, حتى قبل أن يكون. اللامعنى يقود إلى انتفاء الإيمان بكل شيء, بالواقع والحياة والدين والتاريخ ,وحتى بالإنسان نفسه. إن أهمية "الإيمان هي أنه يجبرنا على التحمل الجدي لغموض العالم, بل وتحمل عبثيته ولامعناه كذلك. وإزاء مطالبات أولئك الذين يَدَّعُونَ قيادة العالم, يعلمنا الإيمان أن لا أحد يملك السيطرة على الواقع أو على توجهات التاريخ, سوى الإله ". وقد يكون في ذلك بعض العزاء, لكنه عزاء تسليم ومكابدة. وليست المكابدة في حالتنا هذه, هي أعدل قسمة بين الناس. لأن المصير ليس هو ما ِصْرنَا إليه, بل هو ما لم نَصِرْ بَعْدُ إليه. لأن الإنسان هو في المقام الأول, ذاك الكائن الذي يرتمي نحو المستقبل, وهو كذلك ذاك الكائن الواعي بأنه متوجه بالأساس نحو المستقبل. إن الإنسان أولا, مشروع يعاش بطريقة ذاتية , كما قال جون بول سارتر. لذلك فحدود تجربته الوجودية, ليست قابلة للتنميط أو الاستنفاد. لأن المشروع, لا يكتمل إلا من حيث كونه سيرورة مفتوحة على الاحتمالات, ومتعالية بالتالي عن الارتهان لِقَدَرِيَةِ الفعل أو جَبْرِيَةِ الاختيار.
وإذا كان القصد في العصر الراهن, هو تدشين أزمنة النهايات: نهاية التاريخ, نهاية المعنى, نهاية الفلسفة ونهاية الإنسان أو ما تبقى منه, وإذا كانت أزمنتنا كذلك هي أزمنة النعوش والمآتم والحِدَاد: موت الإله, موت الكاتب, موت الإنسان, فإن منطق الحياة هو الأقوى وهو الأبقى. وهو الانفتاح الذي لا تموت فيه الدلالة ولا تبلى, بل تتجدد وتتوالد وتحضن كلَّ خطوٍ أو مشروعِ مَسِيرْ. وإذن, جميل أن نحدد إلى أين نريد أن نذهب, لكن الأجمل منه هو أن نعطي الدليل على أننا ذاهبون هناك فعلا, كما قال إميل زولا. لأن بداية شوط الألف ميل...معنى.
فَعِمْتُمْ مساءً أيها المقيمون في الأشكال أو المرتحلون الهُوَيْنَى نحو مضاربِ المعاني وقطوف الدلالات السائغة المشتهاة...وتصبحون –كما قال أحدهم- على معنى...والسلام.




#سعيد_أراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميثولوجيا الواقع
- نهر الحياة والموت
- lieu communالمرأة من حيث هي موضع مشترك
- المعرفة أو الشغب المتوج جنونا
- جينيالوجيا الإرهاب المعاصر


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد أراق - اللامعنى وأنظمة الاستفراغ الدلالي