أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...4















المزيد.....

عناصر منفصمة...4


محمد الإحسايني

الحوار المتمدن-العدد: 1801 - 2007 / 1 / 20 - 06:54
المحور: الادب والفن
    


رواية
حفلة الدربالي أوهواجس الطرب الغرناطي
... ويتقرفص الأعمى في جلسته، يحيط به المتفرجون في الدرب. بدا عن كثب محلوق الرأس، مرقع الجلابية، عريض الوجه، أبيض البشرة، متوسط ربع القامة، الكلب عكازه- كما أشاع أهل الدرب- ودليله. الطنبور الذي يحتضنه، مليء بالأسرار، يستنطق أوتاره، فتتكلم.
انتهى من عزف أغنية إسبانية، ضبط أوتار الطنبور من جديد؛ أخذ يقطع عليه تقطيعاً عربياً بالغرناطي،
رفع صوته بالغناء:
أنا وأنتا أسوة الهجر
...... ..........
...... ..........
انهمرت القروش على أرض الحلقة. علت زغاريد النساء، وتنهد الدرب كله:"الله عليك يا دربالي...الله !"
استمر يغني لحوناً تجمع دقائق المقامات، لحوناً لا يعزفها إلا أساطين الطرب على الآلة؛ وكأنما للناس بها ألفة، فارتاحوا إليها.
وما من أحد من المتفرجين، إلا وأكد أنه بالنغم تتلاشى المسافات، مسافات الأزمنة، وتزول الحواجز، حواجز الأمكنة. ومع ذلك؛ فقد شكا فئة من أهل الدرب :"ما أكثر جروحنا: الأوبئة، والجوع، والتموين بالبطاقات، وأشياء أخر ! .."
وضع بأنسه ومرحه، بلسماً على تلك الجروح...
ويجيء يوماً إلى الدرب... يتقرفص وسط الحلقة، لكن أنامله تتداعى على الأوتار...
انتظروا أن يعزف لحناً جديداً، فيطربوا : إن الجوانح تحترق مع صوته. فظن إلى سرائرهم، خنق صوتَه، رنة من بكاء:
- أمازلتم في انتظار ألحاني؟.. وحق أمي، لأنتم أشد عمى من الدربالي !
تساءلوا:
- ماذا جرى؟.. تكلم؛ إن لك علينا حقاً نرعاه !
- زوروا المدينة يا أولاد، تسمعوا الحكايات عن نزول الألمان في الظهر الكبير.
انبرى بعضهم:
- أما سمعتم أنهم قنبلوا الميناء؟
وقال بعضهم:
بلى... لكن، مالنا وللحرب، نحن لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟
استنجد بهم؛ وهو يخشى أن يغمطوا له حقاً:
- وصاحبكم الأعمى؟
أجابوا بصوت واحد:
- أنت تعلم أنك واحد منا.
تكلم حميد على انفراد:
- ببساطة، الدولة الحامية، لا تطلب الحماية: لم ندخل نطاق الحماية، إلا عندما عجزنا عن حماية أنفسنا.
سمع صوتاً من بين المتفرجين:
- حماية أنفسنا؟ ممن؟
إلا أن حميداً واصل محاجته:
- ممن؟ أجل: ماذا تريد منا الدول الأجنبية؟
تجمع انتباه الأعمى متسائلاً ومجيباً في آن:
- من فاه بهذه الحكمة؟
تطلعت الأنظار إلى حميد، تلمسه الأعمى، فعرفه !
- ذروني، مثل هذا القول، لن يصدر إلا عن فتى لبيب، أوتي من الحكمة ورزانة العقل، نصيباً وافراً
أضاف:
- إذا صدق الحدس، فلن يكون ذلكم الفتى، إلا السي حميد !
وفعلاً كان كذلك.
انشغل الدرب بحميد، لأن الكل ينتظر من المجاذيب والمشردين والغجر، تزكية؛ فقيل إن له مستقبلاً باسماً، وسيكون لأمثاله شأن عظيم !
أكثر انشغالاً به، عينان استقرتا عليه في ذهول حالم: توردت وجنتا رابحة حتى استطاع عبدالحميد أن يقرأ في وجهها إعجاباً متزايداً، ويبادلها الابتسام لحظات. ثم تصنع كلاهما عدم المبالاة زمناً فيما كان أهل الدرب يخوضون في السياسة والحرب.
رؤوس التعاليق تشحذ في تنوع:
- ما مصير الوطنيين؟
- الوطني في هذا الزمان غريب مثل الولي الصالح. كثر البطش. اشتغلوا بما يعنيكم.
- لم يبق إلا أن تنظم المقاومة في الجبال مجدداً، بعد أن خبا أوراها.
- سيأتي ذلك اليوم.
- نيران الحلفاء تسحقكم.
في معمعة هذه التعاليق، وجد حميد واربحة، أنهما لا يزالان يتبادلان أنخاب الهيام جهاراً، وبلا شعور.استفاقا من سنة الحب على قول الأعمى:
- إذا كان هتلر عدو اليهود الأول، فإنكم قد نسيتم أنه عدو العرب أيضا، وموسولوني، أليس عدوكم؟
لاحت مدام دجوفاني من بين المناكب، تغالب البكاء:
- صدقت بني !
لم تستطع دجوفاني إتمام عباراتها...
تمر عربات الخيول محملة بالجنود الفرنسيين، في طريقهم لينضموا إلى السينغاليين الآخرين، وإلى المغاربة "الكومباتان".
عندما ينشد الجنود الفرنسيون المارسلييز في حماس، تغلق رابحة دونهم النافذة، كأقصى ما تحمله لغة الاحتجاج عفواً.
(ينشغل الجند عن صاحبتك بحفر الخنادق بين خرائب الدرب، ترقباً لغارات الألمان. ثم لا تلبث أصوات الباعة أن تردد في كل مكان: " ها البابوش"، "صقلة النحاس"... نداءات عديدة متكررة تتميز بينها أصوات اليهود المسنين، مقتني الثياب القديمة، يحرفونها في نبرة غريبة كهنوتية تمجها الأسماع أحيانا، وتستأنس بها أحيانا أخرى."
وتظل الحافلة الكهربائية ذات القرنين تغدو وتروح في شارع ستراسبورغ تجاه المدينة، وإلى كراج علال، ودرب الكبير الفاسي، حيث المنتهى. يزعق بوق الحافلة مبحوحاً يعلن بداهة أن الأشياء غير العادية ستنتهي بشكل أو بآخر.
انفتح مصراعا باب اصطبل بدرب عمر، انسل منه جواد أدهم، يمتطيه سيده في نخوة، ثم شقت عربة مسيو دجوفاني بدورها المسالك المؤدية إلى المدينة بحثاً عن الركاب، ووجود الركاب طبعاً، كان يأتي بحصيلة يومية من النقود، يعوض بها ما قيل إنه فاته من امتيازات وزعت بسخاء على الفرنسيين و "الإترنجيه".
عرج عباس، قبل كل شيء بالأدهم على دكان النعالة، بدا له جعيبة يتهيأ لحمي صفائح الحديد... تأججت نار الكير، تناثرت على وجه الغلام سقطاتها، لكنه ظل منهمكا في تزنيدها بمزيد من النفخ، من التجلد والاحتمال.
شد عباس على عمامته، انطلق به الأدهم، ترتجل حوافره ثنايا الدرب، يحوم في كل مكان، قريباً، بعيداً من حانوت النعالة. خيول، وبغال، وحمير، ترد منهوكة القوى، متهالكة الخطوات، عشرات الحوافر ينتظر الحوذية إزالة ما علق بها من مسامير متلاشية، ثم تنعل من جديد، لتدق الطرقات المسفلتة المنبثة عبر أزقة المدينة وشوارعها.
كل هذا؛ وجعيبة قائم على قدم وساق، يهيئ الأدوات، ويستجمع قوته لمساعدة المعلم عباس، وقت نعل الدواب. فوق ذلك، يرد على أسئلة الحوذية الزبائن:
- هل "هذا حانوت عباس؟"
- "طبعا..."
- "هل يتأخر؟"
- "الرجل نعال، مشهود له بالبراعة"
يسترسل الزبائن في حديثهم:
- "غالبا ما يستخدم العنف فوق كل مهارة حاذقة في كبح جماح أشرس البهائم العصية !"
- " حقاً، البهائم مثل النساء"
- " من ذا يستطيع أن ينكر فضل عباس؟ إن صيته ذاع في الحي، والأحياء المجاورة؛ بل في مدينة الدار البيضاء كلها".
يضحكون ويتفكهون...
ويلوح على صهوة الأدهم، ينزل عنه؛ فيغير الزبائن مجرى الحديث، أو يلوذون بالصمت.
سبق إقامته في الدرب، إشاعة تدور حول سلسلة من أعمال الإجرام نسبت إليه، يرويها سكان الحي أعواماً وأعواما، مؤداها: أن الرجل قد انحدر من الأعراب خارج المدينة في غارات السطو على المتاجر والدور المتطرفة، وأنه كان على رأس عصابة، ثم انقلبت الإشاعة بشكل مغاير إلى الظن، أن له جولات مع السلطات الفرنسية، إلى غير ذلك، مما لا يصدقه عقل سليم.
فوجئ به سكان الدرب تصحبه زوجه طامو وابنهما كبور، نزلوا بإسطبل بدرب عمر، حيث تتوفر بيئة مماثلة لبعض مظاهر العروبية، انكشفت الحقيقة: القائد، ينفيه مع الأسرة من العروبية. لم يكن من دافع، إلا ما أحسه القائد من إهانات الشرف، إذ أثار نشوز عبوش- أخت عباس، وصغرى أزواج القائد- أقاويل في البلد. (أنت لا تسمى ذلك إهانة، بل إخفاقاً).
عبوش غضبانة، "طاح عليها الضيم"...
رأى القائد أن لا حاجز يحول بينه وبين الوصول إلى جسد أنثوي غض، وهو ذو يد طولي، وسلطة مطلقة.
تحققت الأمنية؛ لكن عبوش تمنعت، فعاد القائد من التجربة الفاشلة بكاغد الزواج، صك لا يغنى الجسد ولا الخاطر شيئاً؛ وإنما يفصل بين جسدين: أحدهما متعطش إلى ارتشاف بواكير الملاذ، والثاني، لم يكن له بعد، إلمام بالتجربة، "لو كنت أنت مكانه، لما لجأت إلى الفقهاء، تلتمس فتوى في النشوز. وإلا؛ ماذا تفعل بالكبرياء، وهي تذبل في يدك؟"
يبدأ عباس سلسلة من نشاطات خاصة، عند بدء كل أصيل، ينطلق في جنون، يمزق السكون بجعجعة العربة. من عادته أن يغبق من الخمر حتى الكفاية، فإذا ما صفا له الجو، خرج من الإصطبل، في رحلة لا تنتهي إلا آخر الليل، بحثاً عن اللذة الثانية: المرأة. والمرأة بالنسبة إليه، لغز محير، طالما قض مضجعه، وحطم حياته، رغم امتلاكه قدرة جسمية أهلته لتحمل الأعباء الشاقة، والوقوف بجانب النار والحديد المحمي. ويؤثر عنه- ربما انفلتت منه العبارة- ما فاه به ذات يوم، على مرأى ومسمع من زبائنه: " أن العضلات لا تصنع الرجال"
تجري العربة في طول الدرب وعرضه ثم يسكن كل شيء: يحسب أهل الحي، أن العربدة والجنس، قد انتهيا. يذهب الكثيرون، إلى أن عباساً؛ وهو في ختام تأزمه، قد يكون خلع عنه كل المظاهر التي أخرجته عن إنسانيته، وأنه يسبح في امتدادات لا متناهية، حيث يتخذ له مستقراً؛ بل يخيل إلى بعضهم أنه قد تزيا بالوداعة، وأنه في غيبوبة ونعاس ثقيل، فما بعد لذات الدنيا إلا استقرار مؤقت، ثم يعصف الفناء بالكائنات، فيطول السكون...
عيون السمار توشك أن يخطفها السبات؛ لكن صراخه يعود للمرة ما قبل الأخيرة:"هي .. هيو تشمبا !"
الصوت يمتزج بصراخ أنثوي، يتقطع، ثم يتلاشى في ظلام مدلهم، يغمر الدرب."امتزجي أيتها الذاكرة بالطرب والحرمان، بالعشق والخيانة، بالامتلاء والاستهتار، بالاحتيال والتجسس. مناخ كان ينذر بالحرب والفناء. أي شيء كان يدفعك إلى المكتب، سوى الرغبة؟إنك تتحدى المجتمع والطبيعة...
لن تعيش مهزوما ! وأسدل على رأسه الغطاء".



#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عناصر منفصمة...3
- عناصر منفصمة...2
- عناصر منفصمة
- مفاكه
- إحساس
- الأرامل
- كل واحد وخرافته
- شارل بودلير...العامّة
- فينوس والمجنون
- إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
- ثقافة الحوار والاحتلاف
- فلوبير عشية محاكمته
- إعادة الاعتبار لشارل بودلير
- البنيوية التكوينية وإشكالية تخارج الإبداع- 1
- القارورة...لشارل بودلير
- المغتربون...مجتمع مدني من خلال بيئة قروية
- القط
- وسواس
- البطروس... لشارل بودلير
- الزجّاج الرديئ..... لبودلير


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...4