أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...2















المزيد.....

عناصر منفصمة...2


محمد الإحسايني

الحوار المتمدن-العدد: 1797 - 2007 / 1 / 16 - 10:29
المحور: الادب والفن
    


أحتفاء عباس والأدهم والعربة2
مد جعية البرقية إلى عبد الحميد. فض ختامها، وقرأ: " طنجة1974.11.18. ستيتو مقتول في ظروف غامضة على شاطىء البحر (...). لم يجدوا أوراقه الرسمية. ولا حساباته البنكية. (...). البوليس أقفل المحضر.(...). صديقك بنمنصور. قصر بين البحرين."
في الأسبوع الماضي فقط، كان ستيتو وبنمنصور ينتظران قدومه إلى المكتب؛ وهما يمازحان جعيبة وكان هو، يتجنب أن يطلع جعيبة على أي سر من أسرار المهنة: سر الصفقات. نادى عليه جعيبة:"عجل لنا بشاي منعنع".
طأطأ الرجل الذي جاوز الأربعين رأسه يهبط درج العمارة في طريقه لإحضار الشاي.
أما ثلاثتهم، فقد مكثوا في المكتب، يتحدثون عن الغلاء، والكساد. أمرهما عبد الحميد بالجلوس، فاتخذ كلاهما كرسياً مقابلاً لمنضدة مكتبه. لاحظ بنمنصور:
- ارتفع سعر السبائك الذهبية. التجارة، لا تبشر إلا بالويل.
ثم دفع بأوراق مالية إلى عبد الحميد، من عائدات صور الخلاعة، وتجارة المخدرات:
طأطأ عبد الحميد رأسه:
- بقي عندي خمسة وثلاثون ألف درهم: هل تقبل؟
- موافق !
(متى كان الغلاء، أو الرخاء، القحط، أو نزول المطر، البطالة أو العمل يهمهم؟)
لما أحس أن جعيبة كان يراقبه؛ وهو يعد الأوراق المالية، رغم أنه كان قد وضع صينية الشاي أمامهم، بادره مداعباً:
- إنهما جاءا ليأخذاك معهما إلى الولايات المتحدة، أثناء توزيع الأحذية هناك: ماذا ترى؟
أبدى جعيبة اندهاشه وارتعابه، ولمح بسمة تهكمية على شفتي ستيتو، بينما راح بنمنصور يحدق فيه، كأنه هو السائل الذي ينتظرالجواب. استفسره جعيبة:
- هل يعني ذلك أنني سأمتطىء الطائرة؟ لا ... لن أذهب.
رد بنمنصور:
- تذهب يا أخي عن طريق البحر.
- ولا في الباخرة. إني أخاف الغرق.
وكان عبد الحميد، قد أشاد به ذات يوم أمامهم: " جعيبة، عشر سنوات من الخدمة، والأمانة، والإخلاص !"
لم تجيء تلك التزكية من عفو الخاطر؛ وإنما لتطمين الشريكين.
فبنمنصور، الرجل الخمسيني، كان لا يقبل على خطوة إلا بعد أن يتحرى في أمرها، وكان ذا وجه مخيف، يحمل ندوباً وجروحاً قديمة، أو ربما جاءت بفعل رصاصة طائشة، ولكن العملية الجراحية، ساعدت بالتلحيم، شيئاً ما، لتغطية صفحة وجه مشوهة، في حين كان ستيتو يمتاز بحركة نشيطة وتسامح باطنه خبث متأصل، وحذر تبين عنهما هيئته وقامته المتوسطة ومرحه.
كان جعيبة لايزال واقفاً، وعبد الحميد يعيد تلاوة البرقية. التفت إليه:
- صديقك يا جعيبة، مات !
- من؟
- ستيتو
تساءل ، وهو لا يكاد يصدق:
- كيف؟
تمتم عبد الحميد دون أن يرفع عينيه عن البرقية:
- وجدوه مقتولاً على شاطىء البحر بطنجة.
وتأمل جعيبة في الماضي القريب (صديقي أنا؟ بل صديقه هو. كانوا كلهم يتلاغزون، إذ قال ستيتو، بكل بساطة:
- عرفت سوق الصياغين كساداً مخيفاً؛ رغب الناس عن الزواج، قلدت البنات الغلمان !
وتبعه عبد الحميد:
- قالوا: الناس ضربوا عن الزواج صفحاً إلى لوكاندات، وإن الزواج مسؤولية.
يعقب ستيتو:
- أبناء هذا الزمان لا يقدرون المسؤولية.
ويسأل بنمنصور ستيتو وعبد الحميد:
- ماذا تعنيان؟
يخفض ستيتو صوته إلى درجة الهمس:
- البائرات، والمطرودات من المدارس، وهلم جرا...
يضحك ستيتو:
- يا جيلاً من الحشاشين !
ويعالج عبد الحميد الوضع على طريقته:
- قالوا: يأتي زمان تبور فيه النساء تماما مثل باقي أنواع التجارة...
يردف ستيتو:
- ستباع سبائك الذهب بالأكداس على قارعة الطريق.
لم يكونوا قد تنبهوا إلى أن شخصاً رابعاً كان يتتبع ما دار بينهم من حديث إلا حينما وضع جعيبة صينية الشاي أمامهم. فأبدى بنمنصور و ستيتو ضيقاً بوجوده.
ترك عبد الحميد يده تسقط فوق المكتب ثم قال لجعيبة:
- الأهرام، والعدد الجديد من فرانسس سوار، إني حجزتهما عند كبور، مقدماً.
طأطأ جعيبة رأسه، ثم غادر المكتب. ولكن ظلت مثل هذه الكلمات تدور في ذهنه: الزواج، الكساد، بنات بائرات على قارعة الطريق... ماذا كانوا يريدون قوله بالضبط؟
جعيبة، من السجن إلى الشارع، ليجد ثمانية أعوام من البطالة في انتظاره. كان يتردد على مكتب الشغل: تستقبله لحية الحارس البيضاء كصوف " الهيضورة"، ببذلته القاتمة الزرقاء ذات الأزرار النحاسية: "سر وجيئ غدا"، لا يدري جعيبة مصدر تلك العبارة، أمن فم الحارس، أم من لحيته، عجزوا عن إيجاد شغل له في الحدادة. الحدادون لا يثقون به، فليس لديه أوراق رسمية تثبت هويته، لأنهم كانوا يخافون من مفتش الشغل. وبحث عبثاً في الإدارات العمومية عن وظيفة شاوش، أراهم ذراعه، وآثار التعذيب، لكن أوراق مقاوم لم تكن جاهزة، ولا كاملة.
وعندما عاد عبد الحميد من الجنوب، صادفه في طريق مديونة فعرض عليه أن يلتحق بخدمته في زنقة لامورسيير. أعطاه ألف سنتيم مواسياً: " ليجعل الله السجن مغفرة للذنوب ! .." في الضابطة السرية، كان كبور يتأوه، أخرجوه من مكتب الاستنطاق، مدمى، مكبل اليدين، ساروا به إلى القبو يدفعونه ويتعثر. تناهي إليه صوته ضعيفاً: "أهانوا كرامتي يا جعيبة... لم أعد أحتمل. تجلد ياأخي، لقد جاء دورك ! " أسرعوا به إلى القبو زاجرين، ثم دفعوه بشدة وركلوه.
وكان عبد الحميد يخاصم ميلود القهوجي، عند باب مكتب الاستنطاق؛ " لماذا جعيبة بالضبط؟ ولماذا أبلغت عنه؟" أطرق ميلود، ثم همس إليه: " يتتبع صوت العرب، ثم أضاف بصوت جهوري: " هل أنت معي عبد الحميد أو معهم؟"
وبدأت عملية الاستنطاق بحضور عبد الحميد:" قل لنا من قتل أمين السوق"
قاطع عبد الحميد مستنطقه:
- لقد وُشيَ به كذباً
دار كلام بين الاثنين، ثم واصلوا استنطاقه بمساعدة رجال آخرين: " من زارك آخر مرة؟... أين القنابل؟ ... لا تريد أن تتكلم يا ابن الشيطان، السياط هي التي ستكلمك."
وكان جعيبة يرتجف.
- " وأنت تزاول الحدادة، كما قلت في الاستنطاق: بماذا يذوب الحديد؟"
- " بالنار" يجيب جعيبة بسذاجة.
-" طيب، اكشف عن ذراعك اليمنى لنرى"
ووضعوا عليها بكماشة حديدية قطعة النقود الحامية.صدرت منه صرخة تخرق سقيفة المكتب.
كيف يهرب من أنياب التنين. ثم صرخ صرخة أعلى من الأولى... تعقبتها ضحكاتهم السادية. وبعد ذلك، كان يتجرع العذاب في صمت الأبرياء.
يوقظونه عند الفجر، يخنقونه بالشيفون المطعوم "بالاكرزين" حتى يستحيل عليه التنفس، فيظن أنه لن يعيش بعد ذلك. حملته " الفاركونيت"، إحدى الملرات، إلى غابة لاكاسكاد، ربطه رجال من منظمة الوجود الفرنسي، بجذع شجرة: " قل الحقيقة أيها العربي القذر؟" تفننوا في تعذيبه، ثم أطلقوا عليه كلباً بوليسياً مكمماً، تلت ذلك، طلقات نارية، زمجرت في الهواء، قاب قوسين من رأسه. أي حقيقة كان يملكها؟
لما تعبوا من تعذيبه، أودعوه السجن موقوفاً لأن الملف فارغ.
مرض أياماً بالحمى، كان جسمه يرشح عرقاً إلى حد أنه أخذ بمجامع قلوب السجناء، فتضامنوا، وتنازل له بعضهم عن غطائه. كل تلك السياط، وتلك الركلات، تذكره بمعلمه عباس والد كبور: يركل عباس طامو ، أم كبور، بعنف، فتجحظ عيناه وقد تلبسته حالة لا إنسانية: " تجردي من ثيابك، كي تذوقي سياطاً، وتنالي منها المبتغى !"
اشتياق متبادل، يستيقظ من رغبة في الضرب، وتلقي العقاب، لا مبرر له ! سذاجة كانت تسكن أعماق سيدته طامو: أين كانت تخفي تلك الرغبة قبل العقاب !
ودوت قهقهة في أرجاء الكوخ الخشبي، عمت الاصطبل كله، ثم عقب عباس: " ها هي الفرصة أتت، لا سبيل إلى العدول عنها !"
عبر جعيبة شارع 11 يناير، ملوحاً بيده إلى سائق سيارة يعتذر، ثم توقف أمام مخزن بائع الألعاب: " وجه عباس مثل هذا القناع المعروض" أبى إلا أن يدخل المخزن. تلمس بيده القناع، ثم خرج منه يواصل طريقه.
اصطكت أسنان عباس، وهو يتأمل جسم طامو: " أمراً فاحشاً أتيت، وسابقة لم تكن في الحسبان !" ثم صاح : " ماهي وظيفة جعيبة؟ .. أعمال النساء تفصلها عتبات الأبواب، داخل المنازل، على غرار ما علمتهن أمهاتهن، وعلى أساس تفكيرهن الخاص." وطفق يدمدم: من أنى لهن أن يفعلن أفعال الرجال؟" .
اليوم، تبور النساء، تتكدس في شارع 11 يناير، كما قال ستيتو.
ارتمت تحت قدمي عباس ترتجف، غارت عيناها، كل شيء في هذا العالم في حاجة إلى التماسك، حتى تبدو الأشياء أقرب إلى حقائقها، وأحياناً تحتاج إلى تفكك واندثار. عند الهمس، تصبح جميع الأشياء أكثر تجانساً. كلاّ !
ما أحوج عباساً إلى من يجمع أطرافها الأشياء حتى تلتقي. وإذا التقت، فثمة أيضا وشيجة في الأعماق، لا يمكن إدراكها بسهولة، وبلا تجربة !
همست إليه في استرحام:
- أكان ينبغي أن أعصي لك أمراً أو نهياً؟
لم يعر قولها أي اهتمام.
بإشارة خاصة من عينيه المتقدتين، لما كان جعيبة في دكان النعالة، تقدم نحو معلمه يخطى تنم عن جد، وشعور مبكر بالمسؤولية، همس في أذنه، ليسلمه سلة يجرى بها لتوه، نحو البيت- الإسطبل، أمام أنظار الحوذية. وقيل إنه باشر عمله بعد ذلك: أنعل الدابة الأولى، ولم يكن هناك، ما يعكر مزاجه الصافي، رغم مصاف الدواب التي تنتظر. وقيل غير ذلك، من أن الساعات كانت طويلة، ومملة . وقيل إنه كان مضطرب المزاج، يخاطب ويحاور نفسه.
ولهذا ما ألقى بالاً إلى ما أنقده صاحب الدابة الأولى من أجر. وبالتالي، انتقل إلى الدابة الثانية؛ وهو لا يزال كذلك، يتابع في صفائه تارة، وفي انفعاله تارة أخرى، إنعال بقية الدواب، حينما عاد جعيبة، وهو يلهث:
- سيدتي تطلب مفتاح البيت !
دون أن يجيب، تجاهله. غير أن جعيبة سمعه يتساءل مدمدماً: " أي مفتاح تطلب مني تلك الكلبة الذليلة؟"
ولما أنعل الدابة الأخيرة، وكانت فرساً جامحة، تسلم الثمن من صاحبها على مضض. هرول إلى البيت – الإسطبل؛ وفي يده السوط؛ مواصلاً دمدمته في حنق، علا فمه زبد أبيض: " ألا أروني امرأة سامعة مطيعة، أراهن أمامكم إن وجدت، أن تضربوني بهذا السوط حتى الموت ! " بل قيل : لا أحد سمع ما يدندن به، وقيل: إنه كتم ما في نفسه من غضب.
وطفق جعيبة، لا يحري جواباً ولا يعي كلام معلمه قطعاً !
آه ! لقد نسي: كان قد مسه طرف من السوط، فسارع إلى داخل الدكان، يلوذ بالكير: " يا ما سألقاه بدوري من جلد بالسياط ! يا رب السلامة !"
ترى أمسَّه السوط حقًا، أم خُيل لعقله الصغير ذلك !
تخلى عن عيون الزبائن الملحاحة في الطلب، وخلال ثانية واحدة نسي معلمه وأوامر البهائم العصية، فركض هو الآخر إلى البيت يتبعه.
" هيو تشومبا ! هي ... هيو تشومبا ! "
وضربت حوافر الأدهم الأرض، يستحثه عباس، جرت العربة تخرق مسالك درب بن جدية
كل ليلة يخرج سيده في رحلة أسطورية: يتعقب خطى الغيد، يقتنصهن من زقاق درب بن جدية السادر في الظلام. اندفاع جنوبي.
وبالنهار: " الدق، ددق، الدق ددق".
ويهوي على الصفائح المحمرة بضربات الكتلة الحديدية عاري الصدر، تنز عضلاته عرقاً، وتزداد انتفاخاً، يوزع الأوامر على اللحظات بين إقبال جعيبة وإدباره، يُلقيها إليه على التتالي، وحسب الاحتياج: " اعرف كيف تمسك بالحافر... اقترب من البهيمة... لا تخف ! "
أحيانا يستبد به الحنق، فلا يعرف جعيبة بماذا يدمدم.
- صباح الخير يا معلم !
- صباح جديد هذا ... مالها؟
قال الزبون:
- عرجاء ... انظر !
جدد جعيبة استعداده، وسرعان ما جاءته الأوامر متتالية:
" اللقاط، المطرقة... السفود" ...
تساءل ممسكاً بالسفود:
- ماله؟
- احميه الله يعطيك كية.
ثم : " كراطة... أعرف كيف تمسك بالحافر... من الأفضل إحضار المسمار أولاً... لا تنس أن تزند النار ! "وفيما هو منشغل في تنعيل الفرس، أخذ الزبائن يتواردون: " الدق دَدَق... الدق، دَدَق.."
" خل النار تزند، إياك أن تنسى ! "
كيف ينسى تلك المهمة: وقد فرضت عليه بشكل رتيب، منذ ظهرت فواكه صيف ذلك العام الغابر؟ فقد دأب معلمه أن ينعش جوفه كل يوم ببطيخة حمراء تطفئ لهيب صدر يحترق، يبقى صاحبه مدة أطول بجانب النار والدق على قطع الحديد المحماة لتسويتها؟ البطيخة الحمراء يذوق منها هو أيضاحتى الارتواء، ثم ترمى بقشورها في المزبلة المجاورة.
أحضر الأدوات، أزند النار، ثم وقف قبالة معلمه في خشوع:
- هل أذهب للإتيان بها يا معلم؟
مد إليه بضعة من أنصاف القروش، فجرى بتلهف، يبحث عن باعة البطيخ الأحمر في درب عمر.
بعد حوالي ربع ساعة، جاء يحمل معه البطيخة، وضعها أمامه، فهم بقسمها مقطعة كالعادة، وكان عباس قد أنهى جزءاً من الوقت في نعل الدواب، وكلما أنهى طائفة منها، قدم حوذية جدد من زبائنه بدوابهم.
وبينما كان يدق صفائح الحديد المحماة، يحيط به الزبائن، فوجئ الجميع بشيء غير معتاد: كانت متآزرة متينة البنية، صلبة العود، اخترقت الصف إلى المعلم. فما إن رآها حتى سقطت المطرقة من يده، وسرعان ما امتقع لونه، وظل جلده يرشح عرقاً. أما هي، فتناولت المطرقة- بكل ثقة- من الأرض، فأخذت بخناقه، ثم راحت تهوي بها عليه وهو لا يحري جواباً. كانت تزبد وترعد في هياج:
- لم أر في الرجال أجبن منك
ثم زاد غضبها:
- رعديد، كلب، فاسق...
لم يصدق الزبناء، ولا هو ما حدث أمام أعينهم. حاولوا إصلاح ذات البين، لكن المرأة الغريبة، ازدادت سخطا:
- سترى أيها العنين، أنني امرأة حازمة، لا كجميع النساء اللائي إنك تطاردهن ليلاً في أزقة درب بن جدية.
ما نطق المعلم بنت شفة، ولا نفعه شفاعة الشافعين.
دفعته بعنف، وقد عيل صبرها:
- عليك بالسير أمامي ! سيكون الحساب بيننا طويلاً، طويلاً وعسيراً !..
حنى رأسه، سار أمامها في خذلان المغلوبين. شيعه زبائنه بنظرات الإشفاق، ثم غاب عن الجميع...
فصل جعيبة يوم ذاك فيما استطاع أن يفصل فيه من شؤون الدواب.ولما حل مساء ذاك اليوم، مشى إلى طامو يخبرها بالواقعة. وفي الإسطبل، كان الأدهم والعربة، قد اختفيا !
لم يسعه إلا أن يضع البطيخة المقسومة بين يدي طامو، فصرخت المسكينة في هلع:
- ماذا أفعل بها؟ أين عزيزك؟
لقد علمت هي أيضاً بكل ما حدث؛ فلا فائدة من سرد كل التفاصيل. انصرف، وصوتها يلاحقه : " أين عزيزك... أين عزيزك؟..." ظل الصوت يلاحقه أياماً وأياماً، حتى استولوا على الدكان، فأخرجوه منه بقوة القانون.
وكان يتردد عليها في فترات معينة لأنه لم يستطع أن يغادر بيت عباس، ولا دكانه، إلا بمشقة. وكثيراً ما كانت تستحم وراء الكوخ، فتناديه، ليحك ظهرها بالحجر الأحرش: هل يحس الحجر؟ كان يتردد أمام جسد ممتد، يبدو له كأن لا نهاية له من فرط حيائه، فجسدها؛ وإن اختلفت أطرافه ونتوءاته نسبياً، متكامل في أعماقه الهندسية... ويقف مشدوهاً حتى تزجره بقساوة: " أناملك مثل الزبدة: كيف تمسك صفائح الجياد؟ هيا، حك مفاصلي !"
في أقل من لحظة، يتحول الإسطبل إلى أدغال، حمم البراكين تسري في عروق الأشجار اليابسة، فتندلع النار في هشيم الحطب تذكيها عاصفة هوجاء، تضرب الإسطبل كله. صهيل جياد نافرة تصك الآذان، كل شيء حواليه يحترق حتى الغضب؛ فتفرز العيون ما يزيغها، أما هو، فكان يغالب الاحتراق، ولكنه يخرج مبهور الأنفاس من العملية !
ثم ارتحلت طامو إلى " سانطرا " فخمدت البراكين. اقترب من كشك الجرائد. شيء ما، يجذبه إلى الماضي، زار كبورا لياخذ الجرائد لعبد الحميد. وبدا له وجه كبور متألقا، إذ بادره هذا الأخير كعادته:
- كيف عملك مع معلمك الساقط؟
استعجله جعيبة في الانصراف، فتسلم منه رزمة الجرائد، ومضى في صمت...



#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عناصر منفصمة
- مفاكه
- إحساس
- الأرامل
- كل واحد وخرافته
- شارل بودلير...العامّة
- فينوس والمجنون
- إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
- ثقافة الحوار والاحتلاف
- فلوبير عشية محاكمته
- إعادة الاعتبار لشارل بودلير
- البنيوية التكوينية وإشكالية تخارج الإبداع- 1
- القارورة...لشارل بودلير
- المغتربون...مجتمع مدني من خلال بيئة قروية
- القط
- وسواس
- البطروس... لشارل بودلير
- الزجّاج الرديئ..... لبودلير
- الساعة.....لشارل بود لير
- المهرج العجوز


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...2