أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة موت كزار حنتوش2 موت الشاعر















المزيد.....

بمناسبة موت كزار حنتوش2 موت الشاعر


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1797 - 2007 / 1 / 16 - 13:03
المحور: سيرة ذاتية
    


قول مبارك:

مقهى حاج سعيد وكزار حنتوش في ظهيرة صيف حار يرتبط بنقطة تحول مهمة جدا في حياتي.. كان ذلك عام 1974. لكن لأقدم لذلك الحدث قليلا لكي يأخذ حجمه في سياق السرد.
أول ما يبدأ به مشروع الكاتب أي كاتب هو محاولات خجولة.. خواطر ويوميات وقصائد فصحى، كنت أمارسها سرا.. لأكتشف لاحقا أن القصة القصيرة قريبة إلى نفسي وقتها شجعني بذلك كاتب كان معنا في المجموعة وصديق "كزار حنتوش" جدا يسكن "الحي الجمهوري" أيضا يدعى "منير ياسين" لا أدري ما حل به، هل مات في الحرب؟! أم لا يزال حياً!. لكن أتذكر أنه اصبح نشيطاً ينشر متابعات نقدية في جريدة "طريق الشعب" العلنية لكنه مع انفراط الجبهة واعتقاله ترك كل شيء ولم أسمع أو أقرأ له شيئا منذ ذلك الحين. الآن تذكرته فقط إذ لم أتذكره لما زرت الديوانية العام المنصرم. المهم كان يكتب قصصا قصيرة وينشر في الصحف وكان يكبرني قليلا.. وكنت وقتها أكتب اليوميات وقصائد وخواطر، فقلت معي نفسي لم لا أجرب كتابة قصة مثلما يفعل "منير" وجربت وجدت صعوبة وعناء. سنة كاملة أجرب إلى أن كتبت ما أعتقده قصة فرحت جدا وهرعت إلى منير فقرأها وشرد بعيدا وقال لم أفهم منها شيئا.. أوصاني بالمحاولة من جديد. فدأبت إلى كتبت قصة أحتفظ بها إلى الآن موضوعها أتذكره عن مراهق تشعله الرغبة ليلا فيتسلل إلى سطح البيت في ليلة مقمرة يعبر سياج الجيران، ومن حافة السطح يطل على باحة يضيئها القمر متلصصا على امرأة رجل عسكري يغيب عن البيت طوال الشهر. تنام جوار أطفالها، ينحسر ثوبها حتى الحوض. فيدب وينزل على السلالم ليزحف إلى جوارها.. ويمارس العادة السرية جنبها مرعوبا من احتمال كشفه. حملت النص فرحا وذهبت إلى صديقي الشاعر الأقرب "علي الشباني" أحبطني بشدة.. وعامل عالمي اليافع بقسوة فجعلني أعيش حزنا غير مفهوم إلا لمن حلم أن يصبح كاتبا وفشل. اعتكفتُ وقتها في البيت أياما.. وكنت في داخلي أشعر أن لدي قدرة على الكتابة ولدي ما أود قوله للناس نصاً.. لكن أقرب صديق إليَّ شاعر ومناضل ومثقف قضى ردحا من شبابه في سجن الحلة" نصحني بلهجة أستاذ أن لا أعاود الكرة وأكتب.
أتذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة. كنت أجلس جوار مكتبتي في غرفتي المعزولة المعتمة أحدق بالجدار، بالسقف، وملامح صديقي الشاعر لحظة النطق حال فراغه من قراءة وريقاتي الثلاث يزحم لحظتي..
وبغتة خطر كزار على بالي.. فهدأت نفسي الفائرة.. لم كزار دون غيره؟!لا أدري وقتها لكنني لما أستعيد ذلك اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاما أستطيع فهم لم فكرت به.. كان كزار بسيطا يتعامل مع الجميع دون تعالٍ ولا يظهر حذلقة بالكلام، فالتف حوله عدد من الكتاب الشباب لا أتذكر منهم الآن أحداً، ثم أنه سألني عدة مرات: هل كتبت شيئا؟!. قفزت من جلستي هاتفا بصوت مسموع: سأذهب إليه هذه اللحظة. حملت أوراقي وهرعت في تلك الظهيرة الحارة إلى سوق التجار فوجدته جالساً في نفس موضعه بالضبط في مقهى "حاج سعيد" لوحده يتصفح الجريدة وإلى جواره كتاب. استقبلني بحفاوة وسألني بخبث عن صاحبي الشاعر الذي كان لا يطيقه ذلك الوقت بسبب عدم نشر رده على مقالة السماوي سعدي كما أسلفت. وكان يتهكم بخبث ويقول:
ـ كله لصاحبك أش لون شاعر وعنده كرش!.
وكنت طبعا لا أنقل مثل هذا الكلام وكزار يعرف أنني لا أفعل ذلك. فصاحبي نعرفه أنا وكزار وسيكتب عنه كزار في نص رسائله مشخصاً تكوينه بعمق.
وكان "عزيز السماوي" يصر على رؤية "كزار" كلما زار المدينة رغم اعتراض "الشباني". فكان يأتي إلى الجلسات منتشيا يرمق "علي" جانبا وكأنه يقول: غصبن عليك!. وكان الأمر يضحكني وقتها.. كرر السؤال عنه بعينين ماكرتين.. لكنني كنت مستعجلا فأخرجت أوراقي قائلا: ما تشوف هذه القصة!.
تبسم معلقا:
ـ كنت أعرف راح تحاول!.
وتناولها مني بأصابعه الناحلة المرتجفة السمراء. قلبها صفحة.. صفحة قبل أن ينهمك بالقراءة. أختفي من رأسي ضجيج المقهى.. صياح الباعة في السوق.. وجمدتْ عروقي وأنا أتتبع عيني كزار الذي كان يقرأ بصمت. يعيد الجمل. . يحرك حاجبيه، يبتسم بطرف فمه.. كان يقرأ بالنص وعيناي تقرأ صفحة وجهه إلى أن أتى على أخر سطرٍ في الصفحة الثالثة.. فقلب الأوراق من جديد.. وحدق أمامه عبر الزجاج إلى حشد المارة وظلال السوق. كنت أغالب رجفتي. أقاوم متحاشياً الجدية في نظراته وانفعال وجهه، متوجساً من خيبة أخرى ، لكنه ألتفت نحوي مبتسما وقال:
ـ شوف سلام عندك ملكة قصصية!.
كدت أثب من الفرح. تمالكت نفسي وسألته:
ـ ماذا أفعل؟!.
رد على الفور:
ـ لا تفكر بالنشر.. عليك بقراءة المزيد من القصص والروايات العالمية ثم العربية ثم العراقية.. ومنذ نشوء القصة والرواية.
صمت قليلا وأضاف:
ـ دع كتب النقد والدراسات جانبا وركزّ على النصوص!.
وكان قولا مباركاً.. جعلني أبحث عن أسماء لم أسمع بها من قبل في ذلك السن.. عبد الملك نوري، ذو النون لأيوب، عبد الحق فاضل، محمود أحمد السيد، فؤاد التكرلي.. وكانت كتبهم غير متوفرة وقتها، مما جعلني أدور بين المكتبات العامة.. وأتذكر الآن تلك الظهيرة الحارة في صيف بغداد حينما دخلت إلى "جامع الخلاني" في شارع الجمهورية للراحة والنوم وقت الظهيرة، فلاحظت مكتبةً صغيرةً في الجانب الآخر من ساحة الجامع. وفيها عثرت على "الوجه الآخر" للتكرلي. فلم أغادر كرسي المكتبة إلا بعد أن أتيت على المجموعة بكاملها، فخرجت من الجامع مخدرا بشخوصها وعوالمها الداخلية وأسرارها.. ومن يومها تمنيت أن أكتب قصصا تشبه هذه القصص، لأكتشف لاحقا أن ما أسرني فيها هو صدقها وبحثها في أسرار الإنسان العراقي المكبوت، ولغتها السلسة العميقة. أخبرت كزار عنها، فتحاورنا في نفس المقهى وسط ضجيج السوق.
في اللجة التي أعقبت الحملة على القوى الديمقراطية العراقية أواخر السبعينات. أصبحت المقهى بالنسبة لنا شيئاً مثل أمنية، فالمقاهي محشودة بالعيون وجواسيس السلطة، وفي كل يوم ترد الأخبار همساً عن اعتقال واحد من الأصدقاء. فتوارى عن الأنظار العديد من الأحبة، وغادر البعض إلى المنفى.. أما من بقى فعاش الرعب مجسدا. وجدنا أن أسلم وسيلة للخلاص من العيون واحتمال الاعتقال هو ملازمة البيوت والتزاور بعد حلول الظلام فيها. أما كزار فهو استثناء.. في تلك الفترة أكثر من كتابة القصائد مدحا للجبهة الوطنية والحزب الشيوعي. وكان يشرب من الصباح حتى المساء متنقلا مع الظهيرة من بار إلى بار ويذهب مع من يدعوه إلى البيوت لينشد أشعاره ويضيعها. في يوم ما من تلك السنوات سأزور ما يشير إليه "كزار" في رسائله باسم "حبيب الأجرب" فيسمعني كاسيت كامل ينشد فبه كزار قصائده التي تكيل المدح للشيوعيين أتذكر منها قصيدة عن "زكي خيري" يقول فيها
رأيت زكي خيري
رأيت عراقاً يمشي في الشارع

ومن نمط الأشعار هذا سمعت ساعة كاملة، سألت حبيب لماذا سجلتها.. أجاب: كل يوم ينسى كزار في مكان دفترا من أشعاره.. سجلتها حتى ما تضيع، لكن الكاسيت ضاع هو الآخر و"حبيب الأجرب" يلتحق إلى الجبل ليخوض تجربة عجيبة أفضت به إلى أن يصبح من أغنى مقاولي الديوانية كما ذكر كزار في رسالته وكما وجدته عند زيارتي العراق العام الفائت وقصة "حبيب" موضعها ليس هنا.
لم يكن كزار معنيا بكل تقلبات الوضع السياسي. كنت ألمحه في المقهى بنفس أمكنته القديمة، ولا يهم من يكون الجليس. المهم المقهى والشاي والكتاب والكلام والفرجة على المارة في السوق.. والبار مع قدوم المساء. كان ينادني لما يلمحني ماراً فأجلس معه دقائق وأستعجل البيت في النهار، مرة قلت له:
ـ سمعت أن هادي تزوج!.
فأطلق ضحكته ذات النغم الخاص قائلا:
ـ هي كانت إليَّ ما أدري أش لون صارت إليه!.
قالها ساخرا من الزواج ومشروع العائلة!. ثم قال متعجبا:
ـ أنتم ليش ما تجون لنادي الموظفين بليل!.
أدركت وقتها أنه في عالم والوضع السياسي في عالم أخر!.
غادرته على عجل!. وبقى اللقاء الخاطف يحدث بين الحين والحين إلى دخلت في اللجة الزواج والسوق إلى الجبهات ثم الهرب إلى الجبل والتسلل سرا، ثم الاختفاء في وحدات الجيش العراقي لمدة تزيد على سنة!.
هل في هذا القول مبالغة؟!.
لا أنا فعلا سلمت نفسي من بيت أختي الكبيرة في تكريت في عفو خاص، وتنقلتُ من موقف تسفير إلى أخر حتى وصلت وحدتي في شرق البصرة.. وجعلت في الإجازة الشهرية أمكث في البيت ولا أخرج إلى شوارع المدينة إلا نادرا وفي الظلام. وفي يومٍ زارني صديق من بغداد كنت مختفيا فترة في بيته وألح يريد اللقاء بـ "كزار" وكنت أعرف أن كزار أصبح يعاقر الخمرة طوال الوقت ويكاد لا يفارق بار "المصايف" الكائن تحت الجسر المعلق ظهراً. تسللت مع ذلك الصديق ووجدته هنالك فعلا.. عانقني بشوق وعاتبني على عدم التواجد في البار وكأنني فارقته البارحة لا سنتين قضيتهما بين الثوار في الجبل والاختفاء وجبهة الحرب في شرق البصرة ، قلت لنفسي: أنه حقا في عالم أخر. ليلتها جاء معنا وبات لدي في الشقة التي كنت أسكنها ـ حي الإسكان ـ وقضينا ليلة حوار وقراءات شعرية بقيت في ذاكرتي زادا حينما بدأت رحلة العذاب والنفي المستمرة حتى هذه اللحظة.
كنت في ساعات الشدة والصعاب وعندما تضيق بي الدنيا، وأحير بروحي، أحسد كزار على عبثية وضعه الإنساني التي جعلت يصادق الجميع، ويعاقر الخمرة والمقهى، ولا يبالي بشي رغم أن رسائله التي سيطلع عليها القارئ تنضح ألماً وتقول الكثير عما جرى في العراق والعراقي وقت كتابتها. قلت أحسد "كزار" لبقائه في أمكنة طفولته وصباه وشبابه حتى خريف العمر. هو يعرف حسدي له ولكل من تمكن من المكوث في البقعة التي ولد فيها حتى الشيخوخة لذا كتب لي وبخبث في إحدى الرسائل ـ فهو يعرف شدة تعلقي بأمكنة طفولتي وصباي ـ عن سكره في بيت أستأجره يطل على ساحة في الحي الذي نشأت فيه "حي العصري". ويحدثني عن موقع بيتي الذي يراه من السطح وهو يحتسي العرق. حسدته من الأعماق.. وأنا أشعر يوما بعد أخر بخواء أيام المنفى وعزلتي التامة في بيت ريفي، لا أنيس ولا قريب، والكل في المنفى مشغول بهمه، يعارك هذا الفصام العميق في الروح بين ماضٍ حميم ساطع رغم مرارته وبين حاضر النفي الرمادي رغم توفر كل مستلزمات الحياة الأساسية.
فالإنسان يعيش مرة واحدة؟!..
العمر خاطف
فما جدوى العيش في منفى بارد في الثلث الأخير منه؟!.
لهذا فقط ألعن كل لحظة من سبب لنا كل هذا العذاب!.
ألعن البعث وصدام وكل من طبل له وثبته!.
طوبى لكل من بقى؟!.
طوبى للرصيف والشاعر الصعلوك والخمرة والمقهى
طوبى للنهر الصغير الجارح جسد المدينة أبدا!
طوبى لروحي الدائرة بين الأزقة والبيوت رغم بعادي
طوبى لكل صعلوك!.
لما زرت العراق في الشهر الثاني من عام 2004 لم أبت ليلة خارج المدينة لا بل خارج بيت طفولتي في الحي العصري متذوقا ما كان كزار يلوّح فيه بكلمات رسالته. وكنت قد جمعت الكثير من الأخبار الصغيرة عنه من الوسط الأدبي في بغداد في الفترة التي كنت فيها غائباً. جمعت أخباره الطريفة من الشاعر "نصيف الناصري" الذي روى لي ظروف زواج كزار بطريقة فكاهية ساخرة.. وقتها أبدت لي عجبي.. فأخر رجل في العالم يصلح للزواج هو صاحبي "كزار" ولما كتب لي عن ذلك كنت أعرف تفاصيل زواجه. وفي الفترة تلك يبدو أنه مد وشائج علاقته بالشاعر خيري عباس الذي أقترن بأختي الصغيرة " سليمة" التي يكنيها كزار في رسائله "بأم روعة". لما عدت أول من سألت عنه ـ كزار ـ ولم يطل الأمر زارني مخمور طبعا في اليوم التالي في بيتي وأشبعني قبلا وعناق. نفس الملامح السمراء التي تبدو وكأنها حمصت للتو بالتنور، نفس الأصابع المرتجفة الناحلة، نفس نبرة الصوت، نفس الهيكل وكأنني غادرته البارحة، في الضجيج ذاك لم نتمكن من الكلام وسط الزوار، لكن في الأيام التالية وجدته على الرصيف جوار الجسر القديم واقفا بانتظاري حيث أذهب عصر كل يوم إلى ذاك المكان الذي قضيت جلّ طفولتي فيه أخدم زبائن عمي "خليل الحلاق" أشهر خالق نكت بالمدينة والذي وجدته هو الآخر تجاوز السبعين يتواجد بنفس موقع دكانه الذي تحول إلى محل حلويات، يجلس صباحا في مقهى صغيرة مجاورة لدكانه القديم في الصباح، وفي مقهى كبيرة على سطح دكانه القديم في المساء.
وجدت كزار هنالك قلقاً أخبرني أنه معتكفا في البيت، لا يخرج إلا بالضرورة، مرتبكا، قلقاً، كنت أدرك لم هو قلقا إلى هذا الحد، سلبه الوضع الجديد أهم مكان من أمكنة عمره البار.. لا بل شكا لي من مسلحي "مقتدى الصدر" التي كانت تجوب المدينة تعتدي على محل تسجيلات، تكسر الأسطوانات وتعبث ما تشاء، تشم الكفرة. أما من تجده قد احتسى الخمرة تقيم عليه الحد.. في مشاهد ذكرتني بميليشات حزب البعث العراقي، الحرس القومي في طفولتي، والجيش الشعبي في شبابي، وبعدي فدائيي صدام. نفس المحنة تتجدد تتكرر بأثواب جديدة والعراقي تحت المطحنة كما يقول صديقي الشاعر جمعة الحلفي:
هذا البحر.. مو بحر
هذا.. دمي المسفوح
وهذي السفن مو سفن
هذي مراكب نوح
دم أهلي هذا البحر
من نينوى.. من أكد
من أور.. من أشور
من أول التاريخ لليوم
دم أهلي مهدور!.
هذا البحر.. مو بحر
هذا البحر جذاب
هذي السفينة جذب
وهذي المراكب جذب
هذا البحر تابوت
دم أهلي هذا البحر
دم أهلي ياقوت
من أور من أشور
من نينوى ومن أكد
من أول التاريخ لليوم
بس العراقي يموت!!.
كنا ننتظر على الرصيف قلقين من عدم مجيء رسول الخمرة المسمى "صباح" الصامت كان يأتي قبيل المساء بقامته الفارعة وجسده الممتلئ ودون كلام يشمل الواقفين من الأدباء والفنانين ومحبيهم بنظرة مستطلعة ويغيب، مع حلول المساء يتسلل إلى زقاق ضيق معتم ليضع كيساً من الخيش عند مدخل الشقة التي نشرب فيها ونتحاور يحتوى على حاجتنا من الويسكي والبيرة والجن والعرق. ولما تأخر ذلك اليوم: أخذت كزار في جولة على أمكنة سرية أخرى تبيع الخمر إلى أن حصلنا على بغيتنا من بيت جوار التجنيد القديم، في طريق عودتنا وقف كزار وحدق بيّ جانبا وقال:
ـ شني هاي سلام ما صار لك أيام بالمدينة واندليت كل هذي الأماكن!.
ـ كزار العركـ يندلني مو أني أندله.
أطلق ضحكة عاصفة.
كنا نحمل خمرتنا بحذر لنتسلل إلى شقة منزوية، أو إلى بيتي بالعصري مخافة من قطيع مسلح لا نعرف من أين أتى. فمرة كنت أنا وكزار عائدين من المقهى ظهراً. كنا نسير جوار سوق السمك فلمحنا حشودا قادمة من جهة ـ الجديدة ـ تهتف ضد الاحتلال. حشود مسلحة، متوترة، ترمق الناس بعداء بيّن.ْ الوجوه غريبة كلها، علق كزار:
ـ هذولة أمنين!.
ـ هو أنت تسأل لو أني الغريب عن المدينة!
ـ والله ما أعرف ولا واحد.. هذولة غربة
وقفنا نحملق بالصراخ الهستيري. ثمة معمم مراهق يجلس جوار السائق في سيارة تيوته بيكب يصرخ بمكبر صوت يدوي ويؤشر نحو حشد الواقفين على الرصيف، ولما صار أمامنا ركز سبابته نحو جسدينا فرأينا بوضوح أصابعه المرتجفة المزينة بمحابس الفضة وملامحه المؤنبة الحاقدة وعينيه اللتين جعلتنا نتذكر هتافي حزب البعث أوائل السبعينات:
ـ أنت الواكف على الرصيف إذا ما تنزل ويانه أنت تأييد الاحتلال!.
وجه مسعور أعادنا إلى أيام البعث الأولى حينما كانوا يسلكون نفس السلوك!.
قلت لكزار:
ـ مسكين أيها العراقي من محنة البعث إلى محنة هؤلاء!.
سيقومون ـ مليشيات مقتدى الصدر ـ في الأيام التالية بالإغارة على إحدى الشقق التي يتجمع فيها عدد من مثقفي المدينة، لم تكن الشقة التي نلتقي فيها، بل شقة أخرى كان يلتقي فيها جمع أخر منهم "علاء رسول النجار" مدير تلفزيون الديوانية وقتها والذي دعاني لجلسة في تلك الشقة ولم تسنح الفرصة كي ألبي دعوته. سيعتقلونهم تلك الليلة، وفي الصباح سيجلدونهم في الساحة قرب جسر المحافظة، فينقلون إلى المستشفى وهم في وضع خطر وبائس، جرى ذلك وسط المدينة وعلى مرأى من الشرطة والسلطة وقتها. تخيلت نفسي أجلد معهم.. وكان ذلك الاحتمال كبيرا لو أن الغارة تصادفت مع تلبية دعوة "علاء".
أيها العراقي
من جلاد إلى أخر
جسدك عار مباح
أيكون قدرك هذا؟!.
خاطبت كزار ونحن نجلس على الرصيف:
ـ إذا تبقون على هذا الوضع راح يجي اليوم اللي تنجلدون بالشارع لأنكم ما تروحون للمسجد وقت الصلاة!.
ـ شنسوي هذا قطيع مسلح ما يسمع!.
ـ ما أدري أطلعوا للشارع!.
في الأيام التالية المتبقية على موعد رجوعي إلى الدانمارك سيقرع كزار باب أهلي في الحي العصري عند العاشرة، لنخرج معا إلى مقهى في سوق المدينة المسقوف وكأننا في السبعينات.. نشتري الصحف، الصباح، المنارة، النهضة، طريق الشعب، بغداد، المؤتمر، و.. و.. نطالعها ونتحاور.. أجد قصائد لزوجته الشاعرة "رسمية محبيس" منشورة بالصفحة الثقافية لطريق الشعب.. فيسألني:
ـ هل رأيتها؟!.
وكنت فعلا قد رأيتها في احتفال يوم الشهيد الشيوعي في قاعة إعدادية الديوانية للبنين، ألقت قصيدة قبل أن أقدم كلمتي عن أخي وأولاد عمتي الذين ضاعوا في مقبرة جماعية لم تزل سرية. امرأة قصيرة، ساكنة الملامح، محجبة، ترتدي العباءة والعصابة. ألقت قصيدة جميلة ومؤثرة. قلت معلقا:
ـ رسمية شيوعية لو شنو!.
هدر بالضحك وقال:
ـ أشمدريني.. محجبة.. تصلي يومية، وصورة الإمام علي بن أبي طالب معلكه بالغرف والصالة، وبرمضان تصوم وتكعد الليل كله تقره أدعية السجاد.. وتكتب قصايد تنشرها بطريق الشعب.. والله ما أدري شنو القضية يا سلام!.
تركت كزار حائرا
بكل ما يدور
وأجد نفسي حائرا
في هذا الركن البارد
بكل ما يدور حولي من سكون
فأتأرجح على حافة الجنون!.




#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء ...
- تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة
- أزقة الروح قصة قصيرة
- قصة قصيرة-جنية الأحلام
- تحجر
- العصفور
- حصار يوسف
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال عندما أدخلني ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- العمة الجميلة*
- النص العراقي والناقد
- أنها الحرب
- اختطاف
- كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
- بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ ...
- قالت لي: أنا عندي حنين


المزيد.....




- -الشيوخ- الأمريكي يوافق على حزمة مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل ...
- مصرية الأصل وأصغر نائبة لرئيس البنك الدولي.. من هي نعمت شفيق ...
- الأسد لا يفقد الأمل في التقارب مع الغرب
- لماذا يقامر الأميركيون بكل ما لديهم في اللعبة الجيوسياسية في ...
- وسائل الإعلام: الصين تحقق تقدما كبيرا في تطوير محركات الليزر ...
- هل يساعد تقييد السعرات الحرارية على العيش عمرا مديدا؟
- Xiaomi تعلن عن تلفاز ذكي بمواصفات مميزة
- ألعاب أميركية صينية حول أوكرانيا
- الشيوخ الأميركي يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان ...
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سلام إبراهيم - بمناسبة موت كزار حنتوش2 موت الشاعر