أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - صدام حسين.. المثال النموذجي للسقوط التاريخي للبرجوازية الصغيرة العربية















المزيد.....



صدام حسين.. المثال النموذجي للسقوط التاريخي للبرجوازية الصغيرة العربية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1797 - 2007 / 1 / 16 - 12:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


اثارت عملية اعدام الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين موجة كبيرة من ردود الفعل المتباينة.
وصدام حسين هو ثالث "رئيس" عربي تجري تصفيته في السنوات القليلة الماضية. والاثنان الآخران هما: ياسر عرفات، الذي اصبح من المؤكد انه مات مسموما. ورفيق الحريري، الذي اغتيل في عملية تفجير كبرى، لم يجزم التحقيق بعد هل هي ناتجة عن لغم ضخم كان موضوعا مسبقا تحت الطريق، ام عن سيارة ملغومة بطن من المتفجراتتم تفجيرها اما عن بعد او بواسطة انتحاري"اسلامي" مأجور، ام عن صاروخ موجه الكترونيا اطلقته طائرة "مجهولة". وبالرغم من التباين في منشأ، ومواقع، كل من هذه الشخصيات، فمن الملاحظ ان هناك قواسم مشتركة تجمع بينهم، في حياتهم السياسية وفي ما يتعلق بعملية تصفيتهم بالذات، وهي:
1 ـ ان الثلاثة كانوا في مراحل سابقة قبل تصفيتهم "متعاونين" جيدين مع الادارة الاميركية وسياستها الاقليمية، بالنسبة لبلدانهم خاصة، وبالنسبة للمنطقة العربية عامة.
2 ـ ان الثلاثة دخلوا في مرحلة معينة في خلاف مع السياسة الاميركية، ومالوا نحو المواقف الاوروبية، على حساب تلك السياسة.
3 ـ انهم كانوا يعلمون انهم مهددون بالموت، بنتيجة مواقفهم المبتعدة عن تنفيذ الاملاءات الاميركية. وانهم فضلوا الموت "كشهداء"، على الموت "كخونة" على طريقة السادات.
4 ـ انهم حتى وهم يذهبون الى الموت، لم يتخلوا عن خط "التعاون" (بكل "بازاراته") مع الاميركيين والاوروبيين والاسرائيليين، وظلوا حريصين على كتم "اسرار" ذلك "التعاون"، حتى وهم يلفظون انفاسهم الاخيرة.
وتبرز النقطة الاخيرة بشكل صارخ في حالة صدام حسين. فبالرغم من ان الاميركيين قتلوا ولديه عدي وقصي، ثم اخرجوا مسرحية محاكمته مع معاونيه الاقربين، ثم قرروا اعدامه، فإنه ظل صامتا كأبي الهول، ولم يقدم على فضح الاميركيين، وكشف دورهم في ايصال حزب البعث الى السلطة، وخصوصا تيار صدام، وفي الحماية الفعلية للنظام الاردني اثناء مجزرة ايلول الاسود 1970، وفي منع توحيد سوريا والعراق بالرغم من وجود البعث في السلطة في البلدين، وفي دعم النظام اللبناني و"القوات اللبنانية" والطابور الخامس الاسرائيلي اثناء الحرب الاهلية في لبنان، وفي استخدام قدرات العراق لمواجهة الثورة الاسلامية في ايران التي حولت ايران من قاعدة اميركية (وكانت هي الاهم بعد اسرائيل) في عهد الشاه، الى قاعدة معادية للامبريالية الاميركية ولاسرائيل. ودورهم في تحريض النظام الصدامي لـ"تأديب" الاكراد واستخدام السلاح الكيماوي (الذي تزود به من الاميركيين تحديدا) ضدهم، لردعهم عن السير مع ايران الاسلامية ورميهم في أحضان اميركا (كمنقذ!). ودورهم في إغراء العراق بمهاجمة الكويت، من اجل التصدي الوقائي للتيار "الاستقلالي ـ الفيصلي" في السعودية، وإرعاب السعودية ودول الخليج النفطية واعادتها الى "بيت الطاعة" الاميركي. وغير ذلك وغير ذلك.
لماذا ظل صدام حسين صامتا؟؟ ولماذا لا يزال جناحه البعثي الى الان صامتا، على كل هذه الادوار الاميركية، التي شاركت فيها سلطة صدام و"حزبه" الفاشي؟؟
الجواب المنطقي الوحيد هو ان صدام، حين ايقن من انه "مائت" لا محالة، فضل الصمت، حرصا على سمعته "الوطنية" و"التقدمية" و"العروبية" و"الاسلامية"، وان يموت "شهيدا" لا ان يموت "خائنا" و"متعاونا" مع الاميركيين، كما كان فعلا. وقد "تعاون" معه الاميركيون في تحقيق هذه الامنية له. تماما كما فعل الاسرائيليون مع ياسر عرفات، الذي لو لم يقتله شارون ويجعل منه "شهيدا"، لكان الان في وضع حرج لا يختلف في شيء عن وضع محمود عباس ومحمد دحلان واشباههما الذين اصبحوا لا اكثر من وكلاء ـ وفي احسن الحالات: سماسرة ـ لاسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني. ولا يزال "الصداميون" العراقيون صامتين ايضا، لانهم لا يريدون ان يعترفوا بانحرافاتهم التاريخية، التي "ترقى" الى مستوى الخيانة الوطنية والقومية بابشع صورها، خصوصا لان ايديهم ملطخة بدماء مئات الوف وملايين العراقيين، من شيوعيين وتقدميين و"بعثيين معارضين" و"ناصريين" وشيعة واكراد. و"الصداميون" الان منقسمون الى قسمين:
ـ القسم الاول يسعى الى تجديد تاريخ "التعاون" البعثي ـ الاميركي، وهو ما يلقى الرضى لدى اميركا، ولكنه يلقى معارضة شديدة لدى "المتعاونين الجدد" مع اميركا، اي جماعات المعارضة السابقة من "اعداء البعث" العراقيين الذين يريدون الان الاستئثار بـ"خيرات" التعاون مع اميركا واسرائيل.
ـ والقسم الثاني، يريد العودة الى التاريخ النضالي لحزب البعث قبل استلام السلطة والغرق في مخازيها، وتطهير انفسهم من خلال الانخراط في المقاومة الشعبية العسكرية والسياسية ضد الاحتلال الاميركي للعراق. ولكن حتى هذا القسم لا يمتلك الجرأة ليقطع نهائيا مع تاريخه القذر، ويقوم بعملية نقد تاريخية جريئة للماضي، كي يزيح عنه عبء هذا الماضي.
وحتى وهو ذاهب الى الموت المؤكد، كانت عملية الاعدام ذاتها آخر "صفقة تعاون" بين صدام والاميركيين:
ـ فمقابل صمت صدام عن "تفاصيل" علاقاته وتعاونه مع الاميركيين، وفضح الدور الاميركي (والاسرائيلي والاطلسي والسعودي الخ) في كل ما جرى سابقا داخل السلطة الدكتاتورية الصدامية وعلى ايديها، داخل العراق وخارجه، يبدو ان المحتلين الاميركيين وعدوه بـ"موت مشرف"، وان لا يقوموا بتسليمه الى الجماهير الغاضبة المعادية له، سواء كانت شيعية او كردية الخ. تماما مثلما جرى عند قتل عدي وقصي، حيث كان بامكان الاميركيين، بعد تحديد مكانهما ومحاصرتهما، ترك امر تصفيتهما للميليشيات الكردية او الشيعية او غيرها، ولكنهم لم يفعلوا، ومنحوهما فرصة الموت "كشهداء".
ـ ولكن تماما مثلما جرى بعد اجتياح الكويت، واخلال الاميركيين باتفاقاتهم الضمنية مع صدام، فإنهم ـ في عملية الاعدام ـ اخلوا ايضا باتفاقهم معه، وجلبوا له (بطريقة "الخطأ" الاميركية المعهودة) "فرقة اعدام" شيعية، كي يستفيدوا منه في مماته في لعبة تسعير الفتنة الطائفية، مثلما استفادوا منه في حياته في تطبيق سياسة سحق العراق وتمزيق المنطقة للهيمنة عليهما.
XXX
ان بعض الكتاب التقدميين، ومنهم على سبيل المثال المناضل الشيوعي العراقي القديم ارا خجادور، يحاولون ان يستخلصوا او يضفوا مسحة "شهادة وطنية" على اعدام صدام حسين. ويقول ارا خجادور ان الاميركيين اعدموا صدام لانه: رفض ان يقدم تنازلات للاميركيين حول النفط العراقي اثناء الحصار على العراق الذي دام عشر سنوات؛ ولانه دعا الى نقل الارصدة العربية والاسلامية من اميركا الى روسيا واوروبا والدول غير المعادية للعرب؛ ولانه اقدم على تحويل التعاملات المالية الدولية للعراق من الدولار الى اليورو؛ ولانه تجرأ على توجيه الصواريخ الى اسرائيل اثناء حرب الخليج الثانية.
وليس من شك ان الامور التي اشار اليها ارا خجادور لها اهميتها، وقد فعلت فعلها في تحديد المواقف الاميركية من نظام صدام حسين، ومنه شخصيا، وفي تقرير "مصيره". تماما كما ان مواقف ياسر عرفات، الذي رفض السير في عملية التسوية الاوسلوية الى نهايتها "المنطقية" اي التنازل عن القدس وعن قضية اللاجئين، فعلت فعلها في تقرير "مصيره". وكما ان "شراكة(؟؟؟)" الحريري مع شيراك، وعدم تسليمه كل الاوراق لاميركا، فعلت فعلها في تقرير "مصيره" ايضا. وحتى بشير الجميل وانور السادات، حينما اصبح كل منهما "ورقة محروقة" عند اميركا واسرائيل، رفع الغطاء الامني الاسرائيلي والاميركي عنهما، وتركا يواجهان "مصيرهما".
ان الامور التي اشار اليها ارا خجادور هي واقعية، ولكنها لا تدخل بتاتا في اطار التوصيف الوطني والقومي والتحرري لصدام حسين، بل تدخل في اطار "بازارات" "التعاون" مع الادارة الاميركية، او مع اوروبا الرأسمالية، ومصلحة السلطة الدكتاتورية التي كان يمثلها صدام حسين في الحصول على "افضل الشروط" للتعاون مع اميركا، واستبدالها باشكال تعاون اخرى، اذا كانت ممكنة، واذا تعذر تحسين شروط "التعاون" مع اميركا. وفي هذا السياق تدخل العلاقات السابقة لنظام صدام مع الاتحاد السوفياتي السابق، حيث كانت توجد معاهدة "صداقة دائمة" بين العراق والاتحاد السوفياتي السابق، ولكن هذه المعاهدة لم تجعل العراق "اشتراكيا" او "تقدميا" او "وطنيا" او "عروبيا". ومن جهة ثانية، فإن هذه المعاهدة لم تجعل القيادة الغورباتشوفية صديقة للشعوب العربية، ولم تمنع تلك القيادة من ان تكون قيادة خائنة للشيوعية وللاشتراكية وللشعوب السوفياتية، وقد قامت تلك القيادة الخائنة ـ اثناء حرب الخليج الثانية، وما سمي "عاصفة الصحراء" ـ ببيع جلد صدام لحسابها وسلمت الاميركيين كل اسرار السلاح الروسي، والملاجئ المحصنة التي بناها الخبراء السوفيات، وشيفرات الصواريخ المضادة للطيران، وشيفرات الطائرات والمدفعية الالكترونية والدبابات الحديثة، واسرار الرادارات، وهذا ما يفسر الهزائم المنكرة التي تعرض لها الجيش العراقي على يد الاميركيين، والا لكان الاميركيون ذاقوا في الكويت والعراق اضعاف اضعاف ما ذاقته اسرائيل في حربها الاخيرة مع حزب الله. ولو كان صدام حسين "وطنيا" حقيقيا، ويفكر بطريقة زعيم وطني حقيقي لا زعيم عصابة، لكان بامكانه ان يكتشف بسهولة خيانة القيادة الغورباتشوفية، ويغير كل خطط الجيش العراقي اثناء حرب الخليج الثانية وما بعدها. ولكن صدام كان يدخل مع تلك القيادة، كما مع اميركا ومع اوروبا الاطلسية، في علاقات لصوصية بين سلطات امبريالية واحتكارية رأسمالية وبيروقراطية خائنة للاشتراكية، من جهة، ودكتاتورية "عربية" خائنة ومعادية للجماهير العراقية والعربية، من جهة ثانية. وطبعا ان الذي هو نفسه خائن بحق شعبه لن يكتشف خيانة الغير بحق هذا الشعب المظلوم، الذي كان ولا يزال يُطعن من كل حدب وصوب.
ان خطورة اضفاء "مسحة وطنية" على اعدام صدام حسين تكمن:
اولا ـ في تمويه حقيقة الخط السياسي البورجوازي الصغير، الدكتاتوري ـ الفاشي ـ المغامر، و"الحليف" الضمني للامبريالية العالمية، الذي كان صدام حسين يعتبر مثالا نموذجيا له.
ثانيا ـ في تبرير سياسة "التعاون" مع الامبريالية الاميركية التي يتزحلق فيها الان ليس فقط "السلطة الوطنية الشرعية" الجديدة في العراق، بل الكثير من اوساط المعارضة "الشيوعية" و"اليسارية" و"التقدمية" و"الدمقراطية" و"العلمانية" من جهة، و"الاسلامية"، من جهة ثانية، في مختلف الاقطار العربية، التي تتسابق في حلبة "التعاون" مع الاميركيين، الذي سبق وشق الطريق اليه صدام حسين واضرابه من "الوطنيين" السابقين.
واننا نسأل المناضل القديم ارا خجادور وغيره من التقدميين والقوميين العرب: هل ان صدام حسين و"حزبه" ونظامه قد ارتكبوا من الخيانات والجرائم الكبرى ما يُستحق عليها الاعدام عشرات ومئات المرات ام لا؟؟!!
فاذا كان ذلك كذلك، فإن تقاليد الاحترام نحو الموت، قد تلزم الضحية بعدم التمثيل بجثة المجرم، ولكنها لا تلزمه بالعفو عنه. واذا كان الاميركيون وعملاؤهم قد قاموا بـ"تصفية حساب" مع صدام حسين واعوانه (على طريقة عصابات المافيا التي تأكل بعضها بعضا)، فهذا لا يجعل منه ومنهم وطنيين. وما يصح قوله عن اعدام صدام، وتسميم عرفات، على يد الاميركيين والصهاينة وعملائهم انفسهم، انه هذه هي "المكافأة" المنطقية لكل "متعاون" قديم او جديد مع الامبريالية والصهيونية. فالامبريالية والصهيونية لن تكون "وفية" الا لمصالحها ومخططاتها، ومن الطبيعي ان تضحي بكل عميل او متعاون يصبح عقبة في طريقها، لاي سبب كان.
واذا كان النظام الدكتاتوري السابق لصدام حسين قد لعب على الحبال بين اميركا والاتحاد السوفياتي السابق واوروبا، فهذا لا يجعل منه البتة نظاما وطنيا وعروبيا، بل على العكس تماما، انه نظام برجوازي صغير ـ دكتاتوري، كان يستغل الشعارات الوطنية والتقدمية والاشتراكية، ويستغل التناقضات الدولية، من اجل طعن القضية الوطنية وقضايا الجماهير وقواها المناضلة، ومن اجل ترسيخ سلطته الدكتاتورية الفردية المتوحشة، ومن اجل اطلاق يده في التعاون مع اميركا او غير اميركا، بدون حسيب او رقيب.
وان المطلوب من الشيوعيين والتقدميين والوطنيين الحقيقيين، ليس تمويه الدور الخياني في الجوهر، الدكتاتوري او "الدمقراطي" في المظهر، للبورجوازية الصغيرة (والحقيرة) العربية، واستطرادا: الكردية ايضا، ايا كانت الاقنعة "التقدمية" او "القومية" او "الاسلامية" التي تتقنع بها، بل المطلوب هو تحليل وتشريح هذا الدور وفضحه.
XXX
حتى اواسط القرن الماضي، كانت البلدان العربية جميعا لا تزال ترزح، باشكال مختلفة، تحت نير الاستعمار التقليدي. وكانت عملية استكمال تنفيذ "صفقة سايكس ـ بيكو" لتقسيم البلاد العربية، وجوهرها الرئيسي انشاء "الوطن القومي اليهودي ـ اسرائيل"، لا تزال جارية على قدم وساق. وكانت الظروف الموضوعية، في خطوطها العريضة، مؤهلة تماما كي تقف احزاب الطبقة العاملة العربية، اي الاحزاب الشيوعية وحلفاؤها، على رأس النضال الوطني والقومي ضد الاستعمار القديم والجديد (النيوكولونياليزم) والصهيونية واسرائيل.
ولكن الاحزاب الشيوعية تخلفت عن القيام بالدور الطليعي في الحركة الوطنية في البلدان العربية، ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية، لانها ـ اي الاحزاب الشيوعية ـ كانت تواجه "مشكلة داخلية" كبرى هي انحراف القيادة السوفياتية، منذ ستالين وما بعده، التي كانت تمارس نفوذا كبيرا جدا، بل وصاية على الحركة الشيوعية العربية. والان، في هذه الظروف التاريخية الحرجة، التي تعاني فيها الشعوب العربية الامرين بسبب تخلف الاحزاب الشيوعية العربية عن الاضطلاع بدورها الطليعي في قيادة حركة التحرير الوطني العربية، فإنه يتوجب على جميع الشيوعيين الشرفاء، ولا سيما الاجيال المخضرمة التي كانت ضحية مرتين: مرة بمواجهة الاعداء التقليديين، ومرة بسبب انحرافات القيادة السوفياتية، التي قادت في النهاية الى انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي ذاته، ـ نقول: يتوجب عليهم اجراء قراءة نقدية جديدة لتاريخ الحركة الشيوعية العربية، وبالاخص تأثير الانحرافات القيادية السوفياتية عليها.
فالمعلوم ان ستالين عقد مع روزفلت وتشرشل ما يسمى "اتفاقات يالطا ـ بوتسدام"، لتقاسم النفوذ العالمي بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وبموجب هذه الاتفاقات اطلقت يد الاتحاد السوفياتي في بلدان اوروبا الشرقية، التي كان الجيش السوفياتي قد وصل اليها وحررها من الاحتلال الهتلري. وبالمقابل، اطلقت يد الامبريالية الغربية، بزعامة اميركا، في جميع انحاء العالم. واصبحت القيادة السوفياتية ملزمة، بموجب اتفاقات يالطا، بالوقوف ضد اي تحرك ثوري يشارك فيه، وبالاحرى يقوده الشيوعيون، يهدد مصالح ونفوذ الدول الامبريالية.
وبناء على "اتفاقات يالطا ـ بوتسدام" قامت القيادة السوفياتية المنحرفة بارتكاب الكثير من "الاخطاء" ومنها:
1 ـ تسليم جمهورية اذربيجان السوفياتية في ايران سنة 1946.
2 ـ تسليم جمهورية مهاباد الكردية في ايران سنة 1946.
3 ـ الاعتراف بتقسيم فلسطين وانشاء دولة اسرائيل سنة 1947.
4 ـ طعن الثورة اليونانية (1946ـ1949) في الظهر مباشرة، او بسبب نزاع ستالين مع يوغوسلافيا التيتوية.
5 ـ التخلي عن حركة محمد مصدق التي كانت قد اطاحت بحكم الشاه في ايران سنة 1952 وعمدت الى تأميم قطاع النفط. وحينما نظمت المخابرات الاميركية انقلاب الجنرال زاهدي ضد مصدق، وحينما شنت قوات زاهدي هجومها على قوات مصدق، وقف الحزب الشيوعي الايراني (حزب توده)، ذو القيادة الخاضعة للسوفيات، وقف يتفرج على الصراع بحجة سخيفة هو ان الصراع يتم بين تكتلات برجوازية لا شأن للبروليتاريا بها (!!!). وبعد ان فرغ زاهدي من تيار مصدق، استدار نحو الشيوعيين، وارتكب مجزرة حقيقية ضدهم وبالاخص ضد الضباط الشيوعيين في الجيش الايراني حيث اعدم المئات منهم رميا بالرصاص. وحينذاك فقط بدأت "المناحة" على شهداء الحزب الشيوعي الايراني، الذين ذهبوا ضحية الموقف السلبي من ثورة مصدق، وفي الحساب الاول والاخير ضحية "اتفاقات يالطا ـ بوتسدام".
وكانت القيادة السوفياتية تعارض الثورة الشعبية الصينية ضد حكم تشان كاي شك الموالي للاميركيين، وتعارض الثورة الشعبية الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي (خصوصا بوجود حكومة "الجبهة الشعبية" التي كان يشارك فيها الشيوعيون في الحكم في فرنسا) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي، سارتا في خط الثورة، برغم المعارضة السوفياتية، وحققتا النصر.
اما في البلدان العربية، حيث الاحزاب الشيوعية لم تكن تمتلك ذلك العمق الطبقي البروليتاري، كما في الصين وفيتنام، وحيث الكثير من الكوادر القيادية الشيوعية كانت ذات جذور برجوازية صغيرة وانتلجنتسيا زئبقية قد تباع بعلبة كافيار وزجاجة فودكا وفخذين جميلين، فقد استطاعت الاجهزة الخاصة السوفياتية تحقيق "نجاحات"، لجهة حرف الحركة الشيوعية العربية وتطويعها لمنطوق "اتفاقات يالطا ـ بوتسدام" التفاهمية مع الغرب. و"القناة الرئيسية" للعلاقة بين القيادة السوفياتية والاحزاب الشيوعية العربية انما كانت تتمثل في الجهاز الاستخباراتي ـ البوليسي ـ السياسي: الكا جي بي. ولا بد هنا من تقديم الملاحظات التالية:
1 ـ بعد اتجاه القيادة السوفياتية لتأييد تقسيم فلسطين وانشاء "الوطن القومي اليهودي"، عملت على استخدام نفوذها لتسويق هذا الخط في اوساط الحركة الشيوعية في فلسطين ("عصبة التحرر الوطني" والحزب الشيوعي الفلسطيني وغيرهما)، لمصلحة الاعتراف باسرائيل.
2 ـ وفي الاتجاه نفسه تم عزل القائد التاريخي فرج الله الحلو من قيادة الحزب الشيوعي في لبنان، واضطهاده معنويا، واستكتابه رسالة "نقد ذاتي" مشينة هي المعروفة باسم "رسالة سالم". والسبب الحقيقي هو معارضته لقرار تقسيم فلسطين، خلافا لعميل الكا جي بي الرخيص والمتهتك خالد بكداش.
3 ـ ان القائد الشيوعي العراقي التاريخي الشهيد يوسف سلمان يوسف ـ فهد، كان من اشد معارضي الصهيونية. وفي 1945، وبمبادرة من فهد، اسس الحزب الشيوعي العراقي "عصبة مكافحة الصهيونية"، التي اصدرت جريدة "العصبة" التي كان يكتب افتتاحياتها ويشرف على طباعتها وتوزيعها. وقد عارض قرار تقسيم فلسطين، خلافا لمشيئة القيادة السوفياتية المنحرفة. وبعد اعتقال "فهد" والحكم عليه بالاعدام سنة 1947، قامت حملة تضامنية واسعة معه، مما اضطر السلطات العميلة والانكليز لتخفيض حكم الاعدام الى السجن المؤبد. وخلال وجود "فهد" في السجن، وقعت القيادة الحزبية الجديدة، خارج السجن، تحت تأثير الضغوطات السوفياتية، واصدرت "تقريرا" بعنوان "ضوء على القضية الفسطينية"، تؤيد فيه تقسيم فلسطين. ولما ارسل "التقرير" الى السجن عارضه "فهد" بشدة. وقد عمدت السلطات الملكية العميلة الى اعادة محاكمة "فهد"، وصدر عليه الحكم بالاعدام مجددا، واعدم في 14 شباط 1949 مع رفيقيه الشهيدين حسين الشبيبي وزكي بسيم. وحضر السفير البريطاني شخصيا عملية اعدام "فهد". وكان الشيوعيون العراقيون الشرفاء يتداولون فيما بينهم ان فهد، في اللحظات الاخيرة من حياته، وهو ذاهب الى حبل المشنقة، عبر عن معارضته لتقسيم فلسطين وانشاء اسرائيل.
وهناك سؤال منطقي يطرح نفسه: هل جرى تدخل سوفياتي ما، تمت على اثره "صفقة" بريطانية ـ صهيونية ـ سوفياتية، للتخلص من "فهد"، من اجل التخلص من الدور المركزي للشيوعيين في مواجهة اسرائيل والصهيونية، من جهة، ومن اجل تسهيل تطويع قيادة الحزب الشيوعي العراقي للخط السوفياتي المنحرف، من جهة ثانية؟؟
4 ـ ان الامين العام لاحقا للحزب الشيوعي العراقي، الشهيد سلام عادل، كان ايضا من المعارضين لخط الاعتراف باسرائيل والمؤيدين لخط يوسف سلمان يوسف ـ فهد. وهذا ما جعله في غير موضع رضا القيادة السوفياتية المنحرفة. وبعد انتصار ثورة 14 تموز 1958 في العراق برز امران:
الاول ـ خطر تجديد "تجربة مصدق" في العراق، على يد نظام عبدالكريم قاسم. وقد عبر حينذاك البكداشيون السوريون واللبنانيون (على طريقة: صوت سيده) عن "عدم قدرة" الاتحاد السوفياتي على الدخول في مواجهة مع الغرب لاجل النفط العراقي، وبالتالي عن عدم الرغبة في السير بالتجربة العراقية الى حدود السيطرة التامة على النفط العراقي. وفي هذا ما فيه من استياء سوفياتي من عبدالكريم قاسم.
والثاني ـ ان الحزب الشيوعي العراقي، بقيادة سلام عادل، طرح موضوعة المشاركة في السلطة. وربما كان الحزب في وارد ان يصبح هو القوة الرئيسية في السلطة، بالتحالف مع عبدالكريم قاسم. وهذا الموقف من قبل قيادة الحزب الشيوعي العراقي، ازعج جدا القيادة السوفياتية المنحرفة، التي وُضعت على محك اختبار صعب في احتمالات المواجهة مع الغرب، فيما لو شارك الشيوعيون العراقيون في السلطة. والملاحظ انه بعد التصفية الجسدية لسلام عادل ورفاقه بعد انقلاب شباط 1963، سارت القيادة الشيوعية العراقية الجديدة في خط انتهازي تحريفي مماش على المكشوف لخط القيادة السوفياتية الخائنة للاشتراكية والمسايرة للامبريالية العالمية.
والسؤال المنطقي الاخر الذي يطرح نفسه ايضا: هل تم تفاهم بين الاجهزة المخابراتية المعنية السوفياتية والاسرائيلية والغربية للتصفية الجسدية لعبدالكريم قاسم وسلام عادل والقيادة الشيوعية "المغامرة". وقام البعثيون الفاشست بتنفيذ هذه "الصفقة" مقابل الحصول على جائزة السلطة، بموافقة الاميركان واسرائيل والقيادة السوفياتية معا؟؟ (وهو ما يجد بعض التفسير لظاهرة ان علاقة "الصداقة" بين نظام صدام حسين والقيادة السوفياتية كانت تزداد توطدا، بمقدار ما كان نظام صدام حسين يزداد اضطهادا وذبحا للشيوعيين. ومن مآسي ـ مهازل القدر، انه حين كان المناضلون الشيوعيون الشرفاء يخضعون لابشع اشكال التعذيب، فإن العديد من خبراء التعذيب الاجانب الذين كان يستعين بهم نظام صدام كانوا من "الرفاق" السوفيات او الالمان الشرقيين من الكا جي بي والشتازي؟؟).
5 ـ لقد انخرط مئات الالوف من الشباب الجزائريين والمغاربة عامة في صفوف قوات "فرنسا الحرة" وقاتلوا الهتلرية، مقابل الوعد الفرنسي بالحصول على الاستقلال، بعد النصر. ويقول الرئيس الجزائري السابق احمد بن بله، الذي كان احد هؤلاء المقاتلين، ان غالبية شهداء وجرحى جيش "فرنسا الحرة" الذي كان يقاتل الهتلريين في ايطاليا وفرنسا، كان من الجزائريين والمغاربة. وفي 8 ايار 1945 بعد استسلام الهتلرية، احتفل الجزائريون بالنصر باعتباره مرادفا للحصول على الاستقلال. وللدوس على وعودهم السابقة، رد المستعمرون الفرنسيون على ذلك بارتكاب مجزرة بشعة، استخدمت فيها كل انواع الاسلحة البرية والبحرية والجوية ضد المدنيين الجزائريين العزل، الذين قتل منهم حسب مختلف التقديرات ما بين 45000 و70000 مدني. (وهكذا حينما يحتفل العالم كله بعيد النصر على الهتلرية، فإن الجزائريين يحتفلون بذكرى شهدائهم الذين سقطوا على يد جماعة "فرنسا الحرة"). وقد اطلقت هذه المجزرة موجة شعبية عارمة لاجل الكفاح من اجل الاستقلال. وكان الحزب الشيوعي في الجزائر مؤهلا موضوعيا اكثر من غيره لقيادة حركة التحرر الوطني الجزائري، خصوصا وانه كان له امتداد كبير في صفوف المغتربين الجزائريين في فرنسا، كما كان يمتلك تعاطفا شعبيا فرنسيا من خلال الحزب الشيوعي الفرنسي خاصة، واليسار وجماعة "المقاومة الفرنسية ضد الهتلرية" عامة. ولكن تحت تأثير وضغط الاجهزة السوفياتية، فإن الحزب الشيوعي في الجزائر لم يحقق المطلوب منه تاريخيا، وظل يسير على اطروحة ان الجزائر هي جزء من فرنسا، وان تحرير الجزائر سيتم بعد انتصار الثورة الاشتراكية في فرنسا(؟؟!!). وحتى بعد اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، فإن القيادة الانتهازية للحزب الشيوعي الجزائري ظلت تعارض الثورة وتصمها بأنها "اعمال ارهابية" (وذلك في "سبق تاريخي" مدته اكثر من نصف قرن على جورج بوش وحربه العالمية على "الارهاب"!).
وبنتيجة خط الانحراف، الذي فرضته القيادة السوفياتية المنحرفة واجهزتها على الحركة الشيوعية العربية، خسرت الاحزاب الشيوعية العربية دورها الطليعي في قيادة حركة التحرر العربية، وفتحت الطريق واسعة لسيطرة الاحزاب والتيارات البورجوازية الصغيرة، المتقلبة، ذات الوجهين، والطامحة ليس للتحرير الحقيقي، الوطني والاجتماعي، بل للحلول محل الاقطاعية والبرجوازية الكومبرادورية في السلطة، والتفاهم والتعاون وتقاسم المصالح مع الامبريالية والصهيونية.
XXX
في التحليل الماركسي للثورات البرجوازية في اوروبا، ان الجماهير الشعبية كانت تقوم بالثورة والبرجوازية تتسلل الى السلطة.
وبعد سيادة الانحراف والتقصير التاريخي في الحركة الشيوعية العربية، تمكنت البرجوازية الصغيرة من الهيمنة على قيادة حركة التحرر العربية، سواء في النضال ضد الاستعمار التقليدي، او ضد الصهيونية، او ضد الانظمة الرجعية والعميلة. ووصلت البرجوازية الصغيرة العربية الى السلطة، فوق موجة جماهيرية هائلة، في بلدان عربية رئيسية مثل مصر والعراق وسوريا والجزائر، وفتحت الطريق امام اجراء تغييرات جذرية في اوضاع المنطقة برمتها، ومن ثم في التاريخ العالمي باسره، فيما لو ان البرجوازية الصغيرة وهي في السلطة ظلت وفية للشعارات التحررية التي رفعتها ابان النضال التحرري، وقبل الوصول للسلطة. ولكن الرجوازية الصغيرة العربية في السلطة فعلت العكس. فهي، في انحرافها، وغرقها في مستنقع السلطة، وتحويلها الى شكل من "الاستعمار الداخلي" للشعوب العربية المظلومة، اظهرت منتهى الحقارة، بكل المقاييس الوطنية والقومية والانسانية والاخلاقية، وجسدت، و"جددت"، أسوأ ما في التاريخ العربي الطافح بمآسي السلطة الاستبدادية.
فقبل الاستعمار الغربي، منذ الصليبيين وحتى "الحرب الصليبية" لجورج بوش، قدم لنا التاريخ العربي نموذجيين من السلطة:
أ ـ السلطة الفردية الاستبدادية المطلقة، التي كان فيها الحاكم بمثابة "ظل الله" على الارض، مالك الارض والعرض والمال والحلال والرقاب وسيد الحياة والموت. وهو ما اصطلح على تسميته "الاستبداد الشرقي"، طبعا باسم الدين والقيم المقدسة، من ايام الفراعنة الى ايام سلاطين بني عثمان.
ب ـ سلطة المماليك، اي العبيد الذين يصبحون هم الحكام المتحكمين بالبلاد والعباد. (وللفائدة، لا بأس من ان نذكر "مسطرة" من هؤلاء، وهو احمد باشا الجزار والي عكا، الذي هزم نابوليون. كان هذا الجزار فتى بوشناقيا مسيحيا قام باغتصاب زوجة شقيقه، وخوفا من الانتقام، هرب الى مصر واشهر اسلامه وباع نفسه كمملوك لاحد امراء الجيش، وبالتدريج اصبح واليا لعكا، وحكم فلسطين ولبنان بالحديد والنار والخازوق التركي والعصا والكرباج وحبال المشانق، وكان يعتمد على جيش الانكشارية الذي هو جيش مماليك، وكان لديه هواية جمع الحريم، وحينما اكتشف مرة ان حريمه "يخوننه" مع حرسه من الانكشارية، قام باحراقهن بنفسه في وجاق كبير واحدة بعد اخرى وهو يتلذذ بالفرجة عليهن وهن يتلوين في النار).
واذا راجعنا طبيعة و"انجازات" السلطة التي اقامتها البرجوازية الصغيرة العربية، ورزحت بها على صدور الجماهير العربية المظلومة، التي قدمت ملايين الشهداء من اجل التحرر، ومن اجل وصول تلك الشريحة المنحطة الى السلطة، نجد انها لا تختلف بشيء عن سلطة احمد باشا الجزار، بل هي اسوأ، لجهة ان السلاطين الاستبداديين والمماليك والانكشارية، في السابق، كانوا يمثلون اما شريحة طبقية اقلوية واما فئة اجنبية (كالجزار والانكشارية). اما فيما يتعلق بالسلطة البرجوازية الصغيرة (كما كان النظام الناصري، وسلطة "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" وسلطة حزب البعث في العراق وسوريا)، فقد كانت سلطة "وطنية" (وبالتعبير المصري: بلديات!) وقد استفادت الفئة العليا لهذه السلطة من "امتدادها الجماهيري" كشريحة طبقية، لتعميم الفساد كرشوة جماهيرية لـ"جماعتها" من اجل كسب التأييد والدعم لوجودها السلطوي، فحولت "احزابها" وانصارها الى شبكات تجسسية والى جلادين وقتلة ضد شعبهم ذاته. فديست تقاليد المروءة والنخوة وحقوق الجيرة والزمالة وحتى القرابة العائلية. واصبح الجار يخشى جاره والقريب يخشى قريبه وحتى الاخ يخشى اخاه "البعثي"الخ. وبعد ان كانت هذه البلدان قد تحررت من الاستعمار الخارجي، وقعت تحت شكل بشع من "الاستعمار الداخلي"، واصبح كل من هذه البلدان اشبه شيء بسجن كبير ومسلخ تعذيب ومقبرة جماعية للمعارضة، حتى ادنى اشكال المعارضة، و"مزرعة دواجن بشرية" لعامة الشعب. واذا اجرينا مقارنة بسيطة بين الاستبداد الذي كان قائما في العراق ايام الاستعمار البريطاني والحكم الملكي العميل، وبينه في ايام صدام حسين، فإننا حتما سنترحم على ايام الاستعمار البريطاني. وحينما "خرج" النظام البعثي من الحدود العراقية والسورية، الى الكويت ولبنان، فإنه طبق "شعاراته القومية" الكاذبة بطريقة استعمارية ـ استباحية تماما، تكشف عن الطبيعة المنحطة للبرجوازية الصغيرة. والشيء ذاته يمكن ان يقال عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي زحفت على بطنها لاجل الحصول على ما يسمى "السلطة الوطنية" في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والتي بدأ يدب فيها الفساد، وبدأت تقيم شركات الاستثمار المشتركة مع الاسرائيليين (حتى جدار الفصل العنصري يشارك فيه "مقاولون" فلسطينيون)، وبدأت تبني كازينوهات القمار والترفيه، قبل اي تحرير. والشيء ذاته يقال عن عصابات البارزاني والطالباني الذين، اثناء مرحلة "المنطقة الآمنة" الكردية في فترة الحصار، اخذوا يتصارعون على عائدات التهريب ( والمتاجرة بآلام الشعب العراقي اثناء الحصار) وخاصة تهريب النفط، وعلى عائدات "الجمارك" والخوات. ولاجل تحقيق الوصولية السياسية والمصلحية، لم يتورع جلال الطالباني عن مقابلة صدام حسين ومعانقته، ولم يتورع مسعود البارزاني عن الاستنجاد بقوات صدام حسين "عند الحشرة"، في احدى مراحل الصراع بينه وبين الطالباني. وكل الحكام العراقيين الحاليين، والمشاركين في "الشرعية الاحتلالية"، ليسوا اكثر من خونة للشعب العراقي المظلوم و"متعاونين" مع الاميركان ومع اسرائيل ضد بلدهم وشعبهم. ومهما تبجحوا بعدائهم للنظام الدكتاتوري السابق لصدام حسين، فإن "استاذهم الاكبر" في شق طريق "التعاون الوطني" مع الامبريالية عامة والامبريالية الاميركية خاصة يبقى صدام حسين.
لا شك ان حركة التحرر العربية حققت انجازات كبرى في المرحلة السابقة، واصبحت قوة يحسب لها حساب على النطاق العالمي باسره. وها ان الشعب الفلسطيني البطل، بالرغم من كل التضحيات وكل الخيانات وكل اشكال الفساد والتعامل السري والعلني مع العدو، لا يزال يقاوم الاحتلال والغزو الصهيوني منذ اكثر من قرن بعزم وروح تضحية متجددين، وكأن معركة التحرير بدأت الامس فقط. واصبحت المقاومة البطولية لهذا الشعب "الصغير" عقدة مستعصية الحل على كل جبروت وطاغوت الامبريالية والصهيونية العالمية. كما ان المقاومة الوطنية ـ الاسلامية اللبنانية ضد اسرائيل، حققت نجاحات اعادت اسرائيل الى المربع الاول، واعادت الى بساط البحث من جديد طرح موضوع وجود او عدم وجود اسرائيل.
ولكن "بفضل" قيادة البرجوازية الصغيرة لحركة التحرر العربية، فإن جميع الانجازات التحررية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتم "تفريغها" وتشويهها وحرفها. فالتخلف يتفاقم، والتبعية للاستعمار والامبريالية تتعمق: القواعد العسكرية الاميركية اصبحت تنتشر في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن الاحتلال الاميركي ـ الصهيوني المباشر للعراق وفلسطين والجولان؛ سياسة الاساطيل العسكرية الاستعمارية التي استخدمت في القرن التاسع عشر وما قبل، عادت للظهور. والاساطيل الاميركية اصبحت منتشرة بشكل "مقبول" في جميع البحار والمحيطات المحيطة بالارض العربية؛ والغارات الاميركية التي يتم فيها قتل رعاة مساكين كما حدث مؤخرا في الصومال، او قتل ابناء عشيرة يحتفلون بعرس احد اولادهم كما جرى مرة في العراق، اصبحت هذه الغارات "مشروعة" و"مقبولة" بحجة "مكافحة الارهاب"، وكأن الشعب العربي برمته اصبح قطيعا من الماشية الفاقدة لجميع الحقوق الانسانية او زمرة من قطاع الطرق المستباحة دماؤهم "شرعا وقانونا"؛ ونسبة البطالة والفقر في البلدان العربية هي الاعلى في العالم (برغم "نعمة" النفط والغاز)؛ وحقوق الانسان والحريات هي الاسوأ في العالم؛ وتعداد الاميين في البلاد العربية يبلغ 70 مليون نسمة؛ وعدد اطفال الشوارع في مصر وحدها يبلغ 2,5 ـ 3 ملايين طفل. وبالرغم من "علمانية!!!" البرجوازية الصغيرة، فإنها، بسياساتها التمييزية الخرقاء، اوصلت البلدان العربية الى ابشع صور التمزق الاتني والمذهبي والطائفي التي لم يعرفها المجتمع العربي حتى في ادنى مراحل الانحطاط في العهد العثماني ذاته، وهو ما تستفيد منه الامبريالية الاميركية والصهيونية اقصى استفادة في الوقت الحاضر.
ان ادق ما يمكن ان توصف به قيادة البرجوازية الصغيرة لحركة التحرر العربية هو: الافلاس التام والسقوط التاريخي. فحيثما تكون قيادة البرجوازية الصغيرة، تكون الانكسارات والهزائم والفشل والبطالة والتشرد والجوع وقمع الحريات والخيانة الوطنية و"التعاون" والعمالة للامبريالية والصهيونية؛ ويكون الفساد والتهريب والرشوة والقمار والدعارة والمخدرات والقتل والاغتيالات والصراع على السلطة والغنى الفاحش غير المشروع وتهريب اموال الشعب الى الخارج.
ولا شك ان البرجوازية الصغيرة لم تصل الى هذا الوضع الاسود البائس مرة واحدة، بل "تطورت" في هذا الاتجاه. ويمكن، جدلا وتجريديا، افتراض "خط تطور" بياني لانحطاط قيادة البرجوزية الصغيرة بين جمال عبدالناصر حسين وصدام حسين المجيد التكريتي.
هناك شبه اجماع ان جمال عبدالناصر عاش، على المستوى الشخصي هو وعائلته الصغيرة اي زوجته واولاده، عيشة شريفة ومات نظيف الكف. ولكنه على المستوى السياسي كان يقوم بدور الغطاء الشخصي، الاخلاقي والسياسي والامني، للنظام الذي قام في عهده، والذي دشن الدكتاتورية والفساد والانهزام والاستسلام والمساومة و"التعاون" مع الامبريالية ومحاربة المعارضة الشعبية العمالية والشيوعية والاسلامية وغيرها.
اما صدام حسين فقد طور الخط الانحرافي للسلطة البرجوازية الصغيرة الى اقصاه، واصبح هو وعائلته الصغيرة مباشرة: زومبي او فرنكشتاين، او الاصح: احمد باشا الجزار. بل ربما ان احمد باشا الجزار نفسه لم يصل الى ما وصل اليه صدام حسين من الاجرام والاستبداد والتحكم بمصائر الشعب العراقي والامة العربية وكأنهما قطيع من الماشية ورثه عن ابيه او جده، ويستطيع ان يفعل به ما يشاء وساعة يشاء.
اما النظام السوري، مثلا، فهو "منزلة بين منزلتين"، او الاصح "منزلة من منزلتين": منزلة "الناصرية" القائمة على الديماغوجية والدجل والتضليل كغطاء للاجرام والفساد والخيانة، ومنزلة "الصدامية" التي هي اجرام وفساد وخيانة مكشوفة، باسم "الوطنية" و"العروبة" و"التقدمية" الخ.
XXX
في مطلع القرن العشرين، في 1904 او 1905، قال احد النهضويين العرب، اللبناني المنشأ، نجيب العازوري إنه توجد في المنطقة حركتان قوميتان تتصارعان هما: القومية العربية والصهيونية، وان مصير المنطقة والعالم يتوقف على الصراع بين هاتين الحركتين.
وبعد الحرب العالمية الاولى، وبالاصح بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، وفي سعيه الدؤوب الى اصلاح شأن الامة العربية قال الفيلسوف الكبير والمصلح الاجتماعي العروبي امين الريحاني (في كتيب بعنوان "التطرف والاصلاح" ـ اذا لم تخني الذاكرة): "إنها لن تصلح الا بأن تتبلشف" (اي تصبح بلشفية، او شيوعية).
وفي 1959، قال احد ابرز ممثلي الفكر البرجوازي الصغير المتذبذب والمتلاعب والمباع، محمد حسنين هيكل "انتهت المعركة مع الاستعمار، وبدأت المعركة مع الشيوعية". وقد طبق صدام حسين واضرابه بامتياز شعار هيكل، وغاصوا حتى الاعناق في دماء الشيوعيين. فأين اصبحنا؟؟ بل واين اصبحت القيادة البرجوازية الصغيرة ذاتها؟؟ انها تذهب الى القبر غير مأسوف عليها مع صدام حسين وامثاله!!
وليس المطلوب الان لا الانتقام من البرجوازية الصغيرة، الذاهبة الى مصيرها المحتوم، ولا الدفاع عنها وتبييض صفحتها التي لم يعد بامكان جميع صابون العالم ان يعيد تبييضها.
ان المطلوب هو شيء واحد ورئيسي، وهو الجواب عن السؤال التاريخي التالي:
ـ هل يمكن ان "تتبلشف"؟؟
ـ هل يمكن للحركة الشيوعية العربية، بعد ان تحررت من وصاية القيادة السوفياتية المنحرفة، التي لم تتورع حتى عن التآمر لقتل يوسف سلمان ـ فهد وفرج الله الحلو وسلام عادل، والتي ذهبت هي الاخرى الى قبرها، ان تستعيد ـ اي الحركة الشيوعية العربية ـ دورها التاريخي المفقود في قيادة حركة التحرر العربية، ضد الامبريالية الاميركية، والامساك بالحلقة المركزية للصراع في المنطقة (والعالم!) ونعني بها قضية الصراع ضد وجود اسرائيل، كآخر وابشع شكل استعمار استيطاني في العالم، وضد الصهيونية العالمية، كأبشع واحط شكل تمييز عنصري واستغلال احتكاري رأسمالي في العالم؟؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظام الليبي يدخل بامتياز في اللعبة الاميركية
- من ارتكب الجريمة الكبرى ضد الاطفال الليبيين؟ ولماذا؟
- الدور المتنامي لحزب الله ومحاذير الاندماج بالدولة اللبنانية
- مخاطر تجديد الحرب الاهلية في لبنان والمسؤولية التاريخية لحزب ...
- هل ينجح -حزب الله- في اجتياز حقل الالغام الداخلي؟
- دعوة حزب الله لانشاء -دولة قوية، قادرة وعادلة- وجامعة الدول ...
- اي -حكومة وحدة وطنية- يريد السيد حسن نصرالله؟
- السقف المنخفض للوطنية القطرية في مواجهة اسرائيل
- وليد جنبلاط... اعتذار كلامي لا يكفي!
- لبنان اسرائيل: من سيقتلع من؟
- ....والافلاس التاريخي ل-الوطنية النظامية- العربية
- نصر...! وأما بعد...!
- الافلاس التاريخي لستراتيجية الحرب النظامية العربية
- الخطة الاميركية الاسرائيلية لتطويع لبنان... امام المفاجآت!!
- لبنان ليس الجولان ولن يكون ارمينيا
- العدوان لا يستهدف فقط لبنان
- المسيحية: البوتقة الايديولوجية القومية، الاولى والاساسية، ل ...
- ويبقى السؤال: من سلّم الجولان بدون قتال، وهادن الاحتلال، ولم ...
- المسيحية: الديانة القومية الاولى للعرب
- أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية


المزيد.....




- وزير الداخلية الفرنسي يزور المغرب لـ-تعميق التعاون- الأمني ب ...
- قطعها بالمنشار قبل دفنها.. تفاصيل جديدة تُكشف عن رجل قتل زوج ...
- فك شفرة بُن إثيوبي يمني يمهد الطريق لمذاق قهوة جديد
- الشرطة الهولندية: عصابات تفجير ماكينات الصرف انتقلت لألمانيا ...
- بعد موجة الانقلابات.. بقاء -إيكواس- مرهون بإصلاحات هيكلية
- هل يحمل فيتامين (د) سر إبطاء شيخوخة الإنسان حقا؟
- وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في مدينتي أوديسا وتشيرنومورسك ...
- الاحتلال يتحدث عن معارك وجه لوجه وسط غزة ويوسع ممر -نتساريم- ...
- كاتب أميركي: القصة الخفية لعدم شن إسرائيل هجوما كبيرا على إي ...
- روسيا تصد أكبر هجوم بالمسيّرات الأوكرانية منذ اندلاع الحرب


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - صدام حسين.. المثال النموذجي للسقوط التاريخي للبرجوازية الصغيرة العربية