أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - خالد يونس خالد - البعد الاستراتيجي لفكر الكادر نوشيروان مصطفى 4/4 حال الدنيا وعذابات الناس في انعدام العدالة والمساواة















المزيد.....


البعد الاستراتيجي لفكر الكادر نوشيروان مصطفى 4/4 حال الدنيا وعذابات الناس في انعدام العدالة والمساواة


خالد يونس خالد

الحوار المتمدن-العدد: 1790 - 2007 / 1 / 9 - 12:14
المحور: القضية الكردية
    


البعد الاستراتيجي لفكر الكادر السياسي
نوشيروان مصطفى 4/4
حال الدنيا وعذابات الناس في انعدام العدالة والمساواة
1
أتذكر قصة عميد الأدب العربي الراحل طه حسين في كتابه "المعذبون في الأرض" ، والقصة تلتقي في بعض فصولها بقصة فولتير "حال الدنيا" حيث يتفق كلاهما (طه حسين وفولتير) في حال الدنيا وعذابات الناس من إنعدام العدالة والمساواة. فطه حسين يصف حاله في الدنيا من خلال تصوير الحياة المصرية والمعذبين في مصر. بينما يصف فولتير هذه الحالة عند الذين يفنون أعمارهم في العمل الشاق كمرؤوسين دون أن يصلوا إلى مبتغاهم، فالقضاء بالعدل يُشتَرى بالمال. (كتاب طه حسين، المعذبون في الأرض. أيضا فولتير باللغة السويدية:Varlden som den ar, p.2 ).
وهنا يلتقي المفكر الكردي الراحل مسعود محمد في كتابه "الإنسان وما حوله، ص 114" بالمفكر الفرنسي فولتير والناقد المصري طه حسين بقوله "المصلحة الكردية لاتحتمل في حالها الراهن أن يتقاتل أبناؤها المكافحون ويتذابحوا بسلاح الأجنبي ... الذين يريدون بحجج التحليلات الفلسفية حمل الناس على الإقتناع بوجوب شرعية التذابح الداخلي للمناضلين هم أناس يسكبون السموم من أنياب الأفاعي الكامن في نفوسهم". هنا يتعايش مسعود محمد آلام الكرد عبر بعض القيادات الكردستانية التي لا تفكر إلاّ بالصولجان والمال على حساب فقر وكد وتعب ودم الكادح الكردي الفقير.

2
يقول الناقد المصري محمد مندور "الكُتاب يختلفون في طريقة أدائهم للخدمة الاجتماعية، فمنهم مَن يعتقد أن في مجرد التصوير والوصف يكفي لأداء هذه الرسالة دون حاجة إلى الإفصاح عن مشاعر الكاتب الخاصة أو الدعوة إلى علاج بعينه ... ويرى فريق أخر أنه لابد من الدعوة الصريحة في القصة أو المسرحية إلى المبادئ التي يريد أن يروج لها الكاتب، وهم يستشهدون لذلك بما يلجأ إليه كُتاب كبار من أمثال موليير وشكسبير" (في الأدب والنقد ، ص 36-37).
عبَّر المفكر الكردي الراحل مسعود محمد عن مشاعر الشعراء الكرد الذين يغنون بمآثر أجدادهم، مما يؤكد مدى الإحباط الذي يعيشه الكرد اليوم. فلا تتعجب ولا تستغرب "أن تجد الشاعر الكردي في أواخر العشرينات يلوذ في مفخره بالمزايا الحربية لأجداده من الميديين قبل ألفين وستمائة سنة. فهو كالفقير المعدم الذي يفاخر الشبعانين بأكلة دسمة إلتهمها في عيد الفطر على عهد أبيه ... فنحن معشر الكرد في أقرب صورنا إلى الحقيقة كالمفلس بين الأغنياء، والمقعد بين أبطال الأولمبياد، والأخرس بين الخطباء، والمصفد بالأغلال بين المدججين بالسلاح، يدفعنا طلب الحياة إلى التمسك بكل ما يعنينا على الحياة ". (إعادة التوازن إلى ميزان مختل، ص 58).
ومن هنا يقول مسعود محمد: "لقد أدى هذا الوضع فيما أدى إليه إلى ضعف شعور الكرد بالمصلحة العامة المادية الدنيوية التي من شأنها أن تحركهم وتدفع بهم نحو الذود عنها، وتوحيد الكلمة بشانها. ومن هنا أيضا: "ضاعت على الكردي عبر عشرات القرون فرصة ميلاد القيم القومية الرادعة الدافعة التي تتولد بالضرورة من رحم الكيان السياسي واختفت لديه المقاييس التي يمتحن بها السلوك العام، لإختفاء البوتقة القومية التي تفرغ فيها تلك المقاييس. ولم يتيسر له قط في الزمان الماضي أن يتعرض للوم في تقاعسه عن القيام بواجباته القومية التي لم تكن ولدت، أو أن يكتسب الشهرة بوقوفه مواقف مشهودة في صيانة المصالح والحدود العامة التي لم توجد قط ... فنحن مرعى بلا سياج وحَي بلا ديدبان وضيعة خلت من فزاعة الطيور". (إعادة التوازن، ص54).
الحقيقة المرة والأزمة المزمنة في واقعنا الكردستاني المؤلم تتجسد في كوننا "ولدنا عصر الثروات والثورات بفقر مادي هو تحت حد الإفلاس، وفقر معنوي كان أكبر خواء فيه هو ضياع البعد القومي من موحيات فخرنا ... وقد يزيد من بواعث ألمِنا علمنا بأن المرتقى الوحيد الذي استطاع أن يتسلق عليه بعض أمراء الكرد إلى مطارح السلطان المرموقة كان بتبعيته لذوي السلطان من غير الكرد. فهو في عز قوته مقتدر بغيره. وعلى أوان الشبع منتقم من سماط لايملكه". (إعادة التوازن، ص57) .

3
كم تألمتُ حين جاءني طفلي الصغير وسألني: بابا هل نحن شعب لنا وطن؟ قلتُ نعم. فنظر إليَ صامتاً بحزن وألم، والدمعة تنحدر من مقلتيه وسألني من جديد: ما اسم رئيس وطن الكرد؟ قلت يابني: لاتحزن ولا تفرح فللكرد رؤساء كثيرون. فما أكثر الرؤساء وما أكثر التعساء، وما أكثر الأغنياء، وما أكثر الأحزاب. الثأر العشائري يبقى فينا ولا نهدأ إلاّ أن نثأر حتى لو مضت عشرات السنين. نثأر من أجل العشيرة والرؤساء يتعاونون مع "الشيطان"، ليغسلوا العار العشائري، ويحتفظوا بالسلطة. ونظل نصفق ونهتف للهم ونخضع للعبودية بكل حماقة وسذاجة وغباء. ولا نتساءل هل من أمر أعظم من الإيمان بالله، وهل من شرف أعظم من شرف الأمة ؟ وهل من كرامة أعظم من كرامة الوطن؟
يقول مسعود محمد في وصفه لمأساة الشعب الكردي قائلا : "لقد ندر بين الشعوب أن يوجد كالكرد شعب قذف به التاريخ إلى المعمعان الحديث المسلح بالعلم والقوة والمتعة مجردا من قوة ذاتية موروثة ومفتقرا إلى عون يأتيه من خارج وجوده ومحاطا من حوله بموهنات للعزم تهبط بهمم الأقوياء". (إعادة التوازن، 57-58).
نتساءل: هل كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه على صواب حين قال "إذا كان لك عدو فلا تصافحه"، ولكن بعض القيادات الكردستانية تصافح العدو من أجل الكرسي في أقليم كردستان. والمثل العربي يقول: عدو عاقل خير من صديق جاهل، ولكن ماذا يقول المرء حين يكون العدو والصيق جهلة بحقوق الناس؟ إنها السلطة في بلدنا أيها الناس؟ ((ولقد كَرَّمنا بَني آدم وحَملناهم في البَرِّ والبَحر)).

4
أعتقد أن الأستاذ نوشيروان مصطفى كان مقتنعا فيما يسير إليه أقليم كردستان، فآثر ترك المنصب
القيادي في الإتحاد الوطني الكردستاني لفشل خططه المقترحة في الإصلاح. أنا واثق أنه يؤمن بنضال الإتحاد الوطني الكردستاني وقيادة مام جلال، وقد كان هو نفسه الرجل الثاني في القيادة، ولكن على قدر فهمي المتواضع أن مايجري في الساحة الكردستانية يهدد مستقبل أقليم كردستان، لأن القيادة بكل توجهاتها اليمينية واليسارية والعلمانية والدينية تفتقد لسياسة متوازنة على الأصعدة الكردستانية والعراقية والأقليمية والدولية، وأنها لم تحقق أي تقدم على مستوى الجماهير منذ سقوط نظام الدكتاتور المستبد صدام حسين سوى مجموعة من المسؤوليات لبعض العناصر القريبة، وهي ككراسي الحلاق مأقتة في طريقها إلى الزوال. أقول هذا مع كل تقديري واحترامي للقيادة الكردستانية التي تقف حائرة بين مفترق الطرق المظلمة لحد اليوم. وأشعر أنها رغم غناها وسكناها في القصور تعيش في حالة يُرثى لها.

5
السؤال هنا، هل من حل؟ نعم!! الحل هو أن يتوحد الكرد في إدارة واحدة، حقيقية وليست صورية كما هو اليوم. وقيادة واحدة، حقيقية وليست شكلية كما هي اليوم. وخطاب فكري وسياسي واحد بعيدا عن التهافت والمصالح الذاتية وبناء القصور الذهبية وعبادة الشخصية وكدس الأموال وتهريبها إلى الخارج على حساب الشعب الفقير البائس. الحل أيضا عدم الوقوف على أبواب الظالمين من أجل المسؤوليات. وليقول الشعب الفقير المعدم كلمته وكذلك الكُتاب البؤساء قول حق بوجه السياسات الهوجاء التي تحكم أقليم كردستان بأسم الديمقراطية. ولنتجرأ أن ننقد أنفسنا ما ينبغي أن ننقد، ونسير صفا واحدا، وقلبا واحدا ضد الظلم والإرهاب والاضطهاد والاستغلال، والفساد المالي والإداري في الوطن العزيز الحبيب. نحن نحترم قياداتنا ونقدرها، ونراعي ظروفها، ولكن نعترف أن الخطأ في القيادات قبل الشعب، فالعناصر القيادية لا تصلح الحال بما فيها الكفاية لتعيش في قلوب الجماهير وتقود الشعب إلى الأمام، لا في مجال توفر المادة الزائلة، إنما في المجالات المعنوية من سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية وتعليمية وتربوية وحاجيات أساسية وعقائدية.
وهنا من المفيد تحرير ما قاله التربوي (فرايري) عن الحوار والتعليم الحواري لفهم ما يصبو إليه الإنسان: "ليس الجدل العقيم الذي يمارسه بعض الناس إنما الوعي بالواقع الإنساني، فالإنسان عندما يتبين واقعه يدخل في حوار مع نفسه ومع زملائه وخصومه والعالم الذي يعيش فيه. هذه العلاقة الحوارية هي التي تخدم الوعي وهي التي تؤدي إلى التفاهم والحرية، وبالتالي تغيير العالم - أي أن يحرر الإنسان من نفسه – القيود التي تتحكم فيه. والوعي يجب أن يقترن بالعمل – الوعي والعمل – في مرحلة واحدة وليس في مرحلتين.
أعتقد أن البُعد الإستراتيجي للأستاذ نوشيروان مصطفى كان نابعا من فهمه لعذابات الكرد، فطالَب بالإصلاح، ودفع الفاتورة. ولكن الحقيقة تبقى كما هي ناصعة، فالشعب يريد الحياة، والحرية لا تُمنح إنما تُكتَسب بالعلم والمعرفة والنضال. فهل لنا فكرة عن طريقة اكتساب الكرد للحرية؟
التقط رجل حجرا وقذفه في البحر وقال "رأيتُ شيئا أصابني بالاشمئزاز، لا أدري أكان الحجر أم البحر". فمشكلة الكرد الأساسية تكمن في نسيانهم لكردستان، وتفكيرهم كيف يجيدون الهتافات والتصفيق.
يجب أن يتعلم الكرد أنه لايستطيع القائد أن يبني مجتمعا عُليا من العبيد، والشجاعة تتحقق بانتشار الديمقراطية، والحرية في النهاية شجاعة عقلية. إذا منعك الرئيس في أن تعبر عن رأيك، وتنقد خطأه، فاعلم أنك بحاجة إلى معرفة للنضال من أجل حريتك، وابحث عن المعرفة فالمعرفة لاتبحث عنك.
6
نعيد هنا إلى الذاكرة بعض كلمات المربي الخالد والقائد العظيم والخطيب الجليل مارتن لوثر كنج في خطبته الشهيرة في 3 أبريل/نيسان 1968، وهي خطبة يعتبرها المحللون أنها ترتفع إلى مصاف النبؤة لتحقيق العدالة الاجتماعية: يقول:
"لقد آن أوان تحقيق وعود الديمقراطية، لقد آن أوان الخروج من ظلام ووحشة نفق التفرقة، إلى ضوء طريق العدالة لمختلف العناصر. لقد آن أوان الإرتفاع بشعبنا من وعث الظلم العنصري إلى هضبة الإخاء الصلبة. لقد آن الأوان أن نجعل العدالة حقيقة لكل أبناء البشر".
نجح مارتن لوثر كينج في نضاله من أجل الحقوق المدنية، وحصل على جائزة نوبل للسلام، ودفع فاتورة نضاله العادل من أنه أغتيل في 4 أبريل/نيسان 1968، لكنه أصبح خالدا ودخل التاريخ حتى أن الكونكرس الأمريكي اعتبره واحدا من زعماء التاريخ الأمريكي في مستوى جوج واشنطن وأبراهام لنكولن ووضع تمثاله النصفي مع تماثيل عظماء أمريكا في "روتندا" الكونكرس.

7
قدم مارتن لوثر كنج حياته قربانا لنيل الحقوق المدنية لشعبه في أمريكا، وقدم نوشيروان مصطفى مسؤوليته القيادية قربانا لدعوته الإصلاحية في المجتمع الكردستاني. وقد سبق لكثيرين أن ضحّوا بمناصبهم لمجرد أنهم طالبوا بالأصلاح أو عملوا من أجل الأصلاح، على سبيل المثال وليس الحصر: السيد علي عبد الله نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي ناضل أكثر من أربعين سنة، والسيد جوهر نامق رئيس المكتب السياسي لنفس الحزب، والراحل نوري شاويس والمرحوم سامي عبد الرحمن، والمناضل الشهم الجريء الدكتور محمود عثمان. لقد أنساهم التاريخ، وهم لم ينسوا التاريخ، فهل يحتفظ التاريخ الكردي الذي لايعرف إلاّ التمجيد لأصحاب السلطان قدرا لهذا الكادر السياسي الذي يريد أن يفعم المواطن الكردستاني بالوعي ليفهم تاريخه ويعمل لمستقبله، ويمحو الاستعباد والخضوع لظلم الأيام؟
ستقص لنا الأيام تفسير الأحلام

لماذا استقال الكادر القيادي الكردي نوشيروان مصطفى؟
برر الأستاذ نوشيروان مصطفى أسباب استقالته إلى تفشي الفساد في حكومة أقليم كردستان والأحزاب التي تحكم أقليم كردستان، وطالب بإجراء إصلاحات على كافة الأصعدة الرسمية والحزبية. ويبدو أن المشروع الإصلاحي الذي أراد الموما إليه كان شاملا مما تَخَوف الكثيرين من العناصر المسؤولة التي يمكن أن تقع في شباك المحاسبة أمام القانون. وقد برر بعض المتخوفين من الإصلاح إلى إمكانية كشف الأسرار الخطيرة في حكومة اقليم كوردستان، وهذا يعني أن كثيرا من العناصر في أكثر من حزب كردستاني، ولاسيما أولئك الذين يقفون في قمة القيادة يتعرضون لمساءلة قانونية.
هذا المشروع الإصلاحي يدخل ضمن البعد الإستراتيجي للأستاذ نوشيروان مصطفى بضرورة محاسبة المسؤولين الذين يمارسون الفساد المالي والإداري، إذا أردنا أن ننقذ أقليم كردستان من الشمال إلى الجنوب من هذا الثقب الضيق المظلم المخيف الذي يجر أقليم كردستان والشعب الكردي كله إلى الهاوية، إلى درجة القضاء على الديمقراطية الشكلية تحت مظلة الديمقراطية.
لقد عهد الشعب الكردي هذه الصراحة وهذه الجرأة في شخصية نوشيروان القيادية، وبساطته وحبه للكادحين والفقراء، من أنه لايمكن أن تكون هناك حرية في أجواء العنف، لأن الحرية تعني غياب العنف. والفساد المالي أرضية خصبة للعنف بحق الشعب. مشروع الإصلاح لايشمل مجرد محاسبة المسؤولين المتورطين في الفساد المالي والإداري على أعلى المستويات في التنظيم الذي ينتمي إليه هذا الكادر، إنما يجب أن تشمل التنظيمات الكردستانية الأخرى مما قد تؤدي إلى حرب كردية كردية لأن بعض المسؤولين في بعض التنظيمات الأخرى يجعلون أنفسهم في مصاف الملائكة، وهم متورطون حتى النخاع في سلب قوت الشعب واستغلال إرادته ونهب أمواله. هذا الأمر، طبقا لأسطورة القادة، يخلق مشاكل كبيرة على الأرضية المخلخلة في أقليم كردستان الذي تحول إلى مجموعة من المقاطعات الإقطاعية. ولعل من المفيد أن المشروع الإصلاحي يجب أن يتجاوز المجالات السياسية والاقتصادية والحزبية إلى مجالات التعليم والتربية، والحاجيات الأساسية للمواطنين من ماء وكهرباء، وفرص عمل للمسحوقين والتنكنوقراط، والصحة للمرضى والبؤساء على أساس المعيارية الوطنية والإخلاص والأهلية والكفاءة، وليس على أساس عبادة الشخصية.

لكن الأهم من كل ما تقدم هو دعوة الأستاذ نوشيروان مصطفى ضمنا بإلغاء البطرياركية في أقليم كردستان، سواء على أساس حزبي أو عشائري إذا أراد الشعب الكردي أن يفكر بالاستقلال يوما، وهذا الاستقلال يتطلب تهيئة الظروف الذاتية بضرورة تحول الوضع الحزبي العشائري القائم إلى مرحلة أكثر نضجا ووعيا، وهي مرحلة الدولة. وقد لا تكون هذه المرحلة على أساس الانفصال عن العراق في ظل الظروف الأقليمية والدولية الراهنة، إنما على أساس استقلالية أقليم كردستان من النواحي الثقافية والفكرية والسياسية والتعليمية في إطار الدائرة الكردستانية التي تقع ضمن الدوائر العراقية والتي هي بدورها تقع ضمن الدائرتين الأقليمية والدولية. فأقليم كردستان لا يتحمل أي هزة داخلية في الوضع القائم، لأن أقليم كردستان اليوم ليس أكثر من مجموعة من المقاطعات الإقطاعية المملوكة.

أعتقد أن النقطة الأكثر أهمية وخطرا على مناصب بعض المسؤولين في الأحزاب الكردستانية من كل ما تقدم هي قضية "فضيحة الجواسيس والعملاء الكرد" لنظام الدكتاتور المستبد المقبور صدام حسين". وقد كشف الإعلام الكردستاني أسماء ما يقارب المئة عنصر، كثير منهم يحتلون مناصب قيادية عليا في التنظيمات الكردستانية القابضة على السلطة. وقد كان أمل الأستاذ نوشيروان مصطفى إجراء التحقيقات الضرورية مع هؤلاء المتورطين، وعدم طمس الحقائق بفضيحة الجواسيس.
اعتبر بعض المسؤولين الكرد في الأحزاب الكردستانية أن "فضيحة الجواسيس والعملاء "زوبعة في فنجان قهوة"، وأنها دعاية بعثية أو دعاية معادية لبعض العناصر القيادية الكردستانية المناضلة. ولكن في كل الأحوال، وفي كلتا الحالتين، الإقرار باتهام المتورطين أو تبرأتهم، ينبغي، لا بل يجب إجراء التحقيقات الضرورية لتبيان الحقيقة للجماهير الكردستانية. وأعتقد أن الأستاذ نوشيروان مصطفى له الحق كل الحق في مشروعه الإصلاحي بعدم طمس الحقائق، بل ضرورة إجراء التحقيقات اللازمة، لمعرفة الأبرياء من المذنبين، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته. فلا يجوز وضع البريء والمجرم في نفس الميزان دون تحقيق، ولابد من تبيان الحقائق إذا أراد الشعب الكردي أن يكون له مستقبل.

كان الأستاذ نوشيروان مصطفى أحد القادة الكرد القلائل الذين انضموا إلى جماعة مجددي الفكر بتجديد الحركة التحررية الكردستانية بقيادة مام جلال بعد نكسة آذار 1975 وتوقف ثورة أيلول التي قادها البارزاني مصطفلى رحمه الله. وقد كان الأستاذ نوشيروان أحد عقلاء الفكر التنويري الكردي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والتعليمية على الأقل، مع احتفاظي بعدم اتفاقي معه في بعض المجالات الأخرى. وعلى أي حال نجح الأستاذ نوشيروان مع بعض زملائه بقيادة الزعيم الوطني الكردستاني مام جلال في قيادة سفينة الحركة التحررية الكردستانية إلى الأمام وكسر طوق الاحتكار السياسي لنظام الحزب الواحد. وعمل من أجل بلورة فكر "الكردستانية" وتطوره من المرحلة العشائرية والقومية المتزمتة إلى المرحلة الوطنية والعقلانية بالاعتماد على قوى الشعب بدلا من الفرد والعشيرة. وعليه فإن الأستاذ نوشيروان يعتبر أحد القادة التاريخيين في مسيرة الإتحاد الوطني الكردستاني، بل في مسيرة الحركة التحررية الكردستانية بكل إيجابياتها وسلبياتها، وأن الشعب مدين له في مسيرته الإصلاحية وجرأته في التعبير، وقدرته المتناهية في النقد، وصراحته التي تعتبر سمة من سمات شخصيته البسيطة في البعد الإستراتيجي الذي خطط له وبلوره خلال سنين العمل النضالي. وبفضل كفاءته وممارسته كادرا كرديا أصبح ثاني رجل في قيادة الإتحاد الوطني الكردستاني، ونائبا للسيد مام جلال الأمين العام للإتحاد المذكور. والمعروف عنه أنه انخرط في النضال وهو شاب يساري تقدمي، له أطماع وطنية في أن يكون للشعب الكردي محلا في النظام الدولي. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السَفَنُ. فالتطورات الأقليمية والدولية غيرت الإستراتيجية الكردستانية للقوى اليسارية التقدمية من كردستانية وعربية في العراق. واحتلت القوات الأميركية وطننا العراق وكردستان، وسقط الطاغية صدام حسين، وكان سقوطه نصرا للشعب الكردي والتيار التقدمي مثلما كان بشرى للشعب. وما لبث أن سيطرت القوى اليمينية على العراق، وتحولت القيادة الكلاسيكية الكردستانية نحو اليمين بقوة الصاروخ دون أي حساب للمستقبل. وأصبحت القوى اليسارية التقدمية أضعف وأصغر، وأكثر انعزالا بحكم الأوضاع المتردية التي تحكم المنطقة. وتحول بعض القادة من كرد وعرب إلى تجار حروب. ووجد الأستاذ نوشيروان مصطفى نفسه وهو يقود مجموعة من الكادحين الكرد أضعف من أي وقت مضى. وتقلصت طموحاته الوطنية، وآماله المعرفية وتحمسه الفكري والثقافي. وعمل جاهدا من أجل تحقيق بعض الانجازات الوطنية للشعب الكري عن طريق الإتحاد الوطني الكردستاني من خلال مشروعه الإصلاحي الذي أوجزناه أعلاه. ولكن أصاب بالإحباط في ظل هذه الظروف التي تحكمها الأموال ويقودها الفساد المالي والإداري، وتقودها الولايات المتحدة والطائفية، إضافة إلى الإرهاب البعثي والدولي، ففشل مشروع الكادر نوشيروان، وأصاب بنكسة في الانتخابات الأخيرة للإتحاد الوطني الكردستاني بفعل المطالب التي طرحها، لأنها كانت تشكل خطرا على مسؤوليات الكثيرين، فلم يبق أمام الرجل إلاّ أن يقدم إستقالته من القيادة، وهو في كل الأحوال لم يكن ذلك الشخص الذي استلم مسوليات إدارية أو مالية على مستوى الحكومة العراقية أو حكومة أقليم كردستان، مما يبرهن لنا قوة شخصيته التي رفضت أن يكون مستعبدا على كراسي الوزارة هنا أو هناك، طالما أنه ليس أكثر من مأمور تحت طاولة السلطان.

نعن قدم الرجل إستقالته مكرما، بدلا من أن يكون ذليلا لأحد. قدم إستقالته، لا لكي يعتزل النضال، إنما لكي يختار طريقا أعز وأجمل وأكثر مسؤولية بكرم وتقدير. اختار طريق الثقافة والفكر والمعرفة والأبحاث والدراسات. إختار أن يعمل في الدائرة الإعلامية والفكرية، وقرر أن يتفرغ لها، كادرا مفعما بالكرامة الوطنية لا عبيدا للمال، فطوبى للوطنيين.
أما تداعيات استقالة الكادر نوشيروان مصطفى فستكون سلبية، ذلك أن الرئيس مام جلال قد تجاوز السبعين من العمر، وهو اليوم القائد الرمز، وأحد أعظم القيادات الكردستانية مسؤولية ودورا وشهرة، بل كان مهندس فكر الكوردايتي الجديد بتحرير الفكر الكردستاني من قيد التقليد. لكني في كل ذلك أحتفظ بنقدي للرئيس مام جلال وأحداث بشت آشان لأنها أثرت على القضية الكردية سلبا. على أي حال يحتفظ الرئيس مام جلال بمسؤوليته الحزبية أمينا عاما للإتحاد الوطني الكردستاني إضافة إلى رئاسته للعراق إلاَ أن الوقت قد يكون متأخرا في أن يقوم بمهامه الحزبية الوطنية بنفس القوة لأن العمر لايساعده بعد أن تنتهي ولايته رئيسا للعراق. ولقد كان على الأستاذ نوشيروان أن ينتظر فترة أطول في مشروعه الإصلاحي لكي يتبوأ رئاسة الإتحاد الوطني الكردستاني ديمقراطيا حين يُحال الرئيس مام جلال على التقاعد. وكان عليه أن يشكل لجان حوار ودراسة وتحليل لمشروعه الإصلاحي، والمساءلة القانونية بحق المتورطين في "فضيحة التجسس". وعلى أي حال سبقته الأحداث فكان الضحية، وترك فراغا كبيرا في الساحة. وأنا أعتبرها نكسة للتيار الوطني التقدمي الكردستاني وللرئيس مام جلال، في حين أعتبرها انتصارا للتيار الكلاسيكي التقليدي العشائري الذي لم يفكر بالثقافة والفكر والتوعية.

وأخيرا نقول أنه كان من حق الفيلسوف سقراط في السجن أن يرفض الهروب من أفكاره، حين ذهب إليه بعض تلامذته لينقذوه ويهربون به إلى الحرية سرا. فكّّر الفيلسوف كيف يمكن أن يكون حرا في السر، وهو يفهم أن إنقاذه من الزنزانة لا تُخرجه من أفكاره التي يؤمن بها، فقد سُجن بسبب تلك الأفكار، وأنه لن يتخلى عنها. فقال: "عاقل بين المجانين، أم مجنون بين العقلاء". ثم قال كلمته المشهورة: "أمّا أنا فإلى الموت، وأما أنتم فإلى الحياة، والله أعلم أيهما خير".
والسلام



#خالد_يونس_خالد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البعد الاستراتيجي لفكر الكادر السياسي نوشيروان مصطفى 3/4
- البعد الاستراتيجي لفكر الكادر السياسي نوشيروان مصطفى 2/4
- البعد الاستراتيجي لفكر الكادر السياسي نوشيروان مصطفى 1/4
- قضايا مصيرية في مواجهة الرئيس البارزاني: القضية الثالثة- الك ...
- قضايا مصيرية في مواجهة الرئيس البارزاني: القضية الثانية - خي ...
- قضايا مصيرية في مواجهة الرئيس البارزاني: القضية الأولى: للكر ...
- ماذا عن روح آكل لحوم البشر بعد قرار حكم الاعدام؟
- الديمقراطية والفيدرالية والسلم الأهلي في العراق 2-2
- الديمقراطية والفيدرالية والسلم الأهلي في العراق1-2
- لن يكون أقليم كردستان ديمقراطيا في ظل مشروع دستوره الجديد
- الالتزام وعدم الالتزام في وعي ولا وعي القيادات الكردستانية 4 ...
- الالتزام وعدم الالتزام في وعي ولا وعي القيادات الكردستانية 3 ...
- الالتزام وعدم الالتزام في وعي ولا وعي القيادات الكردستانية 2 ...
- الالتزام وعدم الالتزام في وعي ولا وعي القيادات الكردستانية
- مع قياداتنا نواصل المسيرة بالكلمة النزيهة، القسم الثاني
- مع قياداتنا نواصل المسيرة بالكلمة النزيهة لننظف الأدغال من ا ...
- وعي الكرد بالتاريخ، الحلقة الخامسة
- وعي الكرد بالتاريخ، الحلقة الرابعة
- وعي الكرد بالتاريخ - دراسة منهجية في تحليل سياسة محو الشخصية ...
- وعي الكرد بالتاريخ- دراسة منهجية في تحليل سياسة محو الشخصية ...


المزيد.....




- ماسك يوضح استغلال بايدن للمهاجرين غير الشرعيين في الانتخابات ...
- سفير فرنسا في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء فوري للحرب على غزة
- شكري: مصر تدعم الأونروا بشكل كامل
- تقرير يدق ناقوس الخطر: غزة تعاني نقصا بالأغذية يتخطى المجاعة ...
- الأمم المتحدة تدين اعتقال مراسل الجزيرة والاعتداء عليه في غز ...
- نادي الأسير يحذّر من عمليات تعذيب ممنهجة لقتل قيادات الحركة ...
- الجيش الإسرائيلي: مقتل 20 مسلحا واعتقال 200 آخرين خلال مداهم ...
- وفد إسرائيلي يصل الدوحة لبدء مباحثات تبادل الأسرى
- إسرائيل تمنع مفوض الأونروا من دخول غزة
- برنامج الأغذية العالمي: إذا لم ندخل شمال غزة سيموت آلاف الأط ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - خالد يونس خالد - البعد الاستراتيجي لفكر الكادر نوشيروان مصطفى 4/4 حال الدنيا وعذابات الناس في انعدام العدالة والمساواة